الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قبحًا في الفعل، وإِن لم يؤثِّر في وجود ذاته. وليس ذلك المرادَ من الآية. إِنما المرادُ الأعيان؛ بدليل ما قبل الآية وبعدها؛ وهو قوله تعالى:{الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} ، إلى قوله:{ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير} . فدلّ على أنّ المراد بالخلق المذكورِ الأعيانُ المحسوسة، وأنّه لا تفاوُت فيها فيما تقتضيه الحكمةُ؛ بل خُلِقُ كلُّ شيء منها طبقَ الحكمةِ التي خُلِق لها.
وأمّا الخامس، فالآيات الواردة بالتخيير بين الفعل والترك، إمِّا محمولةٌ على التعجيز؛ أي "اعملوا ما استطعتم، فلا خروج لكم عن مقتضى إِرادتي وقهرِ قدرتي"، كقوله:{يا معشر الجن .. إن استطعتم أن تنفذوا .. فانفذوا} . أو على التخيير الصوريّ باعتبار التصرُّف التكليفيّ. على أنّ قوله: {من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} ، هو في التهديد؛ نحو:{اعملوا ما شئتم} .
وأمّا السابع، ففائدة الاستعانة الإِعانةُ واللطف لدفعِ الخذلان الموجِب للشقاوة. على أنّ الأمر مفروغٌ منه. فمَن سبقت له السعادة بالإِعانة، وُفق للاستعانة، وخُلِق فيه داعيها؛ ومَن لا، فلا.
وبعد هذا كلّه، فلا تَنْسَ ما قررّناه مِن حُكم الله سبحانه في الخلق بعلمه. فأَحسبُ أنّه سرّ القدرونكتته.
[حجّةٌ على إِثبات نبوّة محمدِ صلى الله عليه وسلم؛ وهي نكتةٌ أجنبيةٌ عن الباب]
وإِذ قد انتهى الكلامُ بنا إِلى ها هنا، فلنردف أي الكتاب بأحاديث السنّة في الباب، بعد ذِكرِ نكتةٍ نورِدها استطرادًا، ليست من الباب في شيءٍ، لكنّها مستفادةٌ مما ذكرنا مِن أي القدرِ بطريق الاستدلال. وهي أنّا قد أَورَدنا الآياتِ المختلفة ظاهرًا فيما يتعلَّق بالقدر. فنقول: وُرود هذه الآيات المتعارِضة ظاهرًا في ذلك حجّةٌ قويّةٌ على إِثبات نبوّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم على منكِريها.
وتقرير الحجّة المذكورة هو أنّه لو لم يكن نبيًا حقًّا ورسولًا صِدقًا، لما جاءت هذه النصوصُ المتعارِضة على لسانه في كتابه. لكنّها وَرَدَت على لسانه؛ فيكون نبيًّا حقًّا.
بيانُ الشرطيّةِ هو أنّه عليه السلام لم يَشك أحدٌ مِن منكرِي نبوّتِه في فضيلته وحِكمته. ولولا ذلك، ما تَقرر له هذا الناموسُ الدائم عندهم. وأيضًا، من أَنصَف ونظر في سيرته، وآدابه، وتأدبه أمّتَه، وأصول شريعته، وفروعها، عَلم قطعًا أنّه كان على غايةٍ مِن الحكمة والسياسة.
وإِذا ثبت ذلك، فنقول: صدور هذا التعارُض العظيم مِن مِثل ذلك الحكيم، إِن لم يكن من عند الله سبحانه، تَلَقَّاه تَلَقيًا وأَخَذَه عنه توقيفًا، محالٌ في العادة. وذلك لأنّا رأينا الحكماءَ الذين لم يُقرروا مِثلَ شريعةِ محمّدٍ ولا مِثلَ ناموسِه، كبقراط وآرسطو وجالينوس وأضرابهم، يُصنِّف أحدُهم الكتبَ العظيمة الحج، التي أصغرها حجمًا أكبر مِن حجمِ المصحف الكريم، فيَحتَرِز مِن التعارُض فيها؛ فلا يأتي منه بموضعٍ واحدٍ. بل هذه أجلافُ العرب يُنشِئ أحدُهم الخطبةَ، أو الرسالة، أو القصيدة الطويلة، فيُنقِّحها حتى لا تَناقُض فيها في موضع واحد. فما الظنّ بحكيمٍ يؤسس شريعةً وناموسًا يَبقى على مرور الأيّام، يأتى بكتابٍ لطيف الحجم، فيه هذا التعارص العظيم ظاهرًا؛ مع أنّه عند خصومع صنّفه في مدّة عمرِه ستين سنةً! فإِنّ العادةُ تُحِيل، مع حكمة المصنف ولُطِف التصنيف وطولِ زمنه وعِظم المقصودِ منه، أن يَترك فيه مِثل هذا التعارُضَ، أو يخفى عنه مكانُه، لظهوره، وحينئذٍ، يَدل بضرورة العادة أنّه إِنما جاء به من عند الله، وفوَّض أمرَه إِلى الله.
وهذه حجَةٌ قويةٌ مستندها العلمُ الضروريّ العاديّ. ولا أعَلَم يَردُ عليها إِلاّ سؤالٌ واحدٌ؛ وهو أن يقال: "لعلّه وَضَع هذا التعارضَ في كتابه، ليُحتج له به، كما قررتموه، ويوهمَ الناسَ أنّ هذا لو كان مِن عندي، لما كان فيه هذا المتشابِه والمختِلف. فيُنبِّههم ذلك على أنّه مِن عند الله، وإِن لم يكن كذلك؛ كما يوهم الساحرُ بسحره أنّه معجِزٌ؛ وليس كذلك".
والجواب أنّ ما ذكرتموه، وإِن كان لقائلٍ أن يقوله في مقام المدافَعةِ والعناد، إِلاّ إِنّه باطلٌ في مستقَرّ العادات. وذلك لأنّ مِن القضايا الضروريّة عند العقلاء ترجيحُ أعظمِ المصلحتين، ودفعُ أعظمِ المفسدتين؛ حتى قال القائل:
إِنّ اللبيبَ إِذا أَلمَّ بجسمِهِ .. مَرَضَان مختلِفان دَاوَى الأَخطرا
ومَن حَصّل مصلحةً مرجوحةً، مع تفويت مصلحةٍ راجحةٍ جدًا، أو دَفَعَ مفسدةٍ يسيرةً، والتَزَم أشد منها، عُد عند العقلاء سفيهًا، يحكمون عليه بذلك بديهةً. ونحن قد بيّنّا حكمةَ محمدٍ عليه السلام ومعرفته بأحكام السياسة. ووافق الخصمُ على ذلك وحينئذٍ، لو تَعَمّد هذا التعارضَ والاختلافَ في كتابه، لكان مفوّتًا لمصلحةٍ راجحةٍ مقطوعةٍ، لأجل مصلحةٍ مرجوحةٍ مظنونةٍ، وملتزمًا لمفسدةٍ راجحةٍ مقطوعةٍ، لدفعِ مفسدةٍ مرجوحةٍ مظنونةٍ. وحينئذٍ، يكون مِن قبيلِ السفهاء؛ وقد فرضناه مِن أفضل الحكماء؛ هذا خلفٌ.
وبيان ذلك أنّ هذا التعارُض، مع ظهوره، ومبادرة الأذهان إِليه، مُنفرٌ لمن حوله عنه، موجِبٌ لسوء الظنّ به. وذلك مِما يَعكس مقصودَه، ويُفرّق عنه جنودَه. فلو تعمّده لأجل تنُّههم على الحجّة المذكورة، لكان عادلًا عن الراجح إِلى المرجوح، كما ذكرنا. لأنّ الحجّة المذكورة إِنما يتنبّه لها أذكياءُ الناس وفضلاؤهم؛ والتعارضَ المذكور يَنفُر عنه جميعُهم، أوأكثرُهم. فقد تبين بما ذكرناه ضعفُ السؤال وقوّةُ ما ذكرناه من الاستدلال.