الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويغيِّر الأوضاعَ؛ فيكون قتلًا بغير محّدٍ. وفيه خلافٌ مشهورٌ بنيهما وبين العمل وغيره. فأين خلاف الإجماع؟
[إِنكارهم الجنَّ والشياطينَ]
ومنها إِنكارهم الجنَّ والشياطينَ، مع تصريح النصوص بهم، وإِجماع الأمّة على ثبوتهم، بناءً على أصلين. أحدهما فلسفىِّ، وهو أنّ عنصر النار وحده لا يمكن أن يوجَد منه جسمٌ؛ لأنّه بسيطٌ؛ فلا يوجَد منه بمفرده مركَّبٌ.
والجواب له: يجوز أن يخلق اللهُ الحياة والإِدراكَ في البسائط؛ فلا ضرورة إِلى التركيب. على أنّا نقول: ما تعنون بالبسيط؟ إِن عنيتم ما استوت أجزاؤه في الحدّ والحقيقة، فقد نمنعه، وندَّعي تركُّبَ الشيطان من النار وعناصرَ أخَر يعلَمُها الله. لكن لغلبة الناريّةِ عليه، قيل:"خُلِق من نارٍ"، واقتُصر على عنصرِها في مادّته.
الأصل الثاني أنّ عندهم، مع صجّةِ الحاسمّة، ومقابلةِ المرئيِّ، وارتفاعِ الحجُب والموانع، وحصولِ الشرائط، يستحيل تخلُّفُ الرؤية. فلو كان للجنّ أو الشيطان حقيقةٌ، لكان إِذا حضر عندنا، رأيناه. وبهذا احتّجوا على عدم جواز رؤية الله سبحانه؛ وإِلاّ لرأيناه الآن، إِذ هو سبحانه لا يحجُبه شيءٌ. وبالغوا في التشنيع؛ حتى قالوا:"لو جاز تخلُّفُ الرؤية مع ما ذكرناه، لجاز أن يكون بحضرتنا فيَلةٌ وجواميس، بل جبالٌ، ونحن لا نراها. والعقل يأبى ذلك، ويُقبح دعواه".
وذلك منهم فاسدٌ. أمّا أوّلًا، فلقوله تعالى:{فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون} . فأثبت أنّ في الموجودات ما لا يّرى، كالهواء؛ فجاز أنّ الشيطانَ مثله. وقد ذكر العلماء أنّه في الملائكة. وإِن وصلنا معهم إِلى هذا، ناظرناهم في إِثبات النبوّة، بل في أصل التوحيد؛ لأنّ ما ذكروه قادحٌ فيهما. فإنّ الأمّة أجمعت، روايةً وقبولًا، على أنّه عليه السلام أخبر أنّ شيطانًا تَفَلَّتَ عليه ليقطع صلاته، وأنّه لولا دعوة
سليمان، {رب هب لى ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى} ، لربطته إِلى بعض سواري المسجد، حتى يصبح ولدان المدينة يلعبون به. وإِنّه عليه السلام اجتمع بجنّ نصيبين، وآمنوا به، وقرأ عليهم القرآن، ثمّ ولّوا إِلى قومهم منذِرين. ولهم سورةٌ مستقلّةٌ في القرآن.
فإِذن، الأمر دائرٌ بين صِدق الرسول، أو صِدق المعتزلة. فيكون الرسولُ قد وضَع القرآنَ وأخبر بما لا كان. وذلك عين الزندقة والكفران. نعوذ بالله من الخذلان.
وقد ذكر ابن حزمٍ الظاهريّ، في كتاب تقريب المنطق، أنّ الهواء ونحوه مّما لا يُرى لم يَحمل العرّضَ، فلذلك لم يُرَ. وعدمُ حملِ العرضِ لا يَستلزِم نفيَ التركيبِ.
وأمّا ثانيًا، فلأنهم إِنما أحالوا تخلُّف الرؤيةِ عن حصول شرائطها وارتفاع موانعها؛ فمن أين لهم ذلك في رؤية الشيطان؟ فلعلّه تخلَّف شرطٌ، أو وُجِد مانعٌ، ككونه في غاية اللطافة، أو غير حاملٍ للعَرض، أو غير ذلك؛ بخلاف ما يشنِّعون به من الفيلة ونحوها.
قلتُ: هذا هو المشهور عن المعتزلة في كتب الأصوليّين الناقلين عنهم. أمّا القاضي عبد الجبار، في طبقات المعتزلة، فإِنّه أثبت الشيطانَ ووسوسته؛ ووجَّهها بأنّه، للطافته ولطف بُنيِته، يتمكّن مّما لا يتمكن منه بعضنا من بعضٍ. وفرّق بين شياطين الإِنس والجنّ، بأنّ شياطين الجنّ لا يمكنهم الدعاءُ إِلى المعصية جهرًا، بل خفيةً بالوسوسة، بخلاف الآخرين. فلعلّ النافيَ للشياطين بعضُ المعتزلة. فيصحّ الثقلان.