الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ليس عندي إلاّ السلاح ووردٌ
…
قارِح مِن بناتِ ذى العُقَّالِ
تقي دونه المنايا بنفسي
…
وهو دوني يَلقى صدورَ العوالي
والعُقّال رداءٌ يكون في رجلِي الدابّة، فيَعقلها، أي يمنعها عن الحركة. وأُضيفَ إِليه هذا الفرسُ، إِمّا تفاؤلا له بالنشاط، على عادتهم في التفاؤل بالعكس؛ كقولهم للّديغ "سليمٌ" مفازةٌ، وللبرءِ "اندمالٌ". أو مبالغًة في شدّة جريِه ونشاطِه؛ كذلك كقولهم للغراب "أعور" لحدّة بصرِه، أتو دفعًا لعين السوء عنه.
ومنه في حديث الدجّال: "ثمّ يأتي الخضبُ فيُعَقِّل الكرمَ"، أي يخرُج العُقَّيلى (بضمّ العين، ونشديد القاف، مقصورًا) وهو الحصرم. قلتُ: لأنّه يمتنع بحموضته عن أن يؤكَل على صفته غالبَا.
ومن ذلك، العقلُ الذي في الإنسان الذي هو مناط التكليف. سُمِّى بمصدر "عَقلَ يَعْقِل عَقْلًا"، إِذا مَنع؛ لأنّه يمنع العاقلَ مِن فعلِ ما لا يليق. وإِلى هذا المعنى ترجع فروعُ هذه المادّة جميعها.
المسألة الثانية: في حقيقة العقل
وقد اختُلف فيها. فقيل: هو قوّةٌ غريزيّةٌ توجَد في الإِنسان مِن أوّلِ وجوده. ثمّ تتزايد بتزايد بدنه تَزايُدًا تدريجيًّا، حتى يبلغ سنَّ التكليف، فتكون قد بَلَغَت أوّلَ درجات كمالها. ثمّ تنتهي زيادتُها إلى سبعٍ وعشرين سنةً، كما رُوي عن أمير المؤمنين عليِّ رضى اللهُ عنه:" يحتلم الغلامُ لأربع عشة، وينتهي طولُه لإحدى وعشرين، وينتهي عقلُه لسبعٍ وعشرين. إِلاّ التجاريب، فإِنّه لا غاية لها". هذا في العقل الغريزي. أمّا التجربيّ، فلا يزال في زيادة ما دام العاقل حيًّا؛ كما قالى عليٌ.
وعند الحكماء، العقل جوهرٌ بسيطٌ. لأنهم أدخلوه في تقسيم الجهر، حيث قالوا:"الجوهر إمّا محلُّ، وهو الهيولي (يعني المادّة المهيّئة لقبول الصورة؛ ومِن لفظِ "التهيؤ"
اشتُقّ لفظُ "الهيلوي"، فكأنّه أعجميُ معرّبٌ)؛ أو حالٌ في المحلّ، وهو الصورة؛ أو مركّبٌ منهما، وهو الجسم؛ أو لا محلٌ ولا حالٌ ولا مركبٌ منهما، وهو إِمّا أن يتعلّق بالجسم تَعلُّق التدبير، وهو النفس، أو لا ينعلّق بها كذلك، وهو العقل".
وبعض الفلاسفة يزعم أنّ العقل مِن المجادات الغنيّة عن المحلّ والموضوع. فهو لا داخل البدن ولا خارجه، ولا متّصلٌ به ولا منفصلٌ عنه. وأعلم أنّ دعوى تجرُّده ممكنةٌ بناءً على أنّه روحانيُّ. أمّا عدم دخوله وخروجه واتّصاله وانفصاله، فهو غير معقولٍ؛ لأنّ النقيين لا يرتفعان.
وقال الأستاذ أبو إِسحق: "العقل معنًى يُتمكّن به مِن الاستدلال على ما وراء المحسوسات".
وقال قومٌ: "هو ما لا يخلو العاقلُ عنه عند التذكّر، ولا يشارِكه فيه مَن ليس بعاقلٍ".
وحُكي عن المعتزلة أنّه ما يُعرَف به حُسنُ الحَسَنِ وقُبحُ القبيحِ. وعن الجبّائي أنّه الداعي إِلى الحَسَنِ، الصادّ عن القبيح. وهو بناءٌ على أصلهم الذي نحن بصدد إِبطاله. والتعريفان قبله مَدخولان، لإِجمال الأوّل، وتعريف العقل في الثاني بنفسه.
وقال قومٌ: "هو ما يُعرَف به خَيرُ الخيرَين وشرُّ الشرَّين". وهو شديد الإِجمال أيضًا.
وقالت الخوارج: " العاقل مَن عقل عن الله أمرّه ونهيَه". وهو فاسدُ، لتعريفه بنفسه.
والذى وقَع عليه اختيار المحقِّقين أنّ العقل ضربٌ من العلوم الضروريّة. وهو العلم بوجوب الواجبات واستجالة المستحيلات وإمكان الممكنات. لأنّه لو لم يكن من قبيل العلوم، لصحّ انفكاكُ أحدهما عن الآخر وهو باطلٌ، لاستحالة وجود عاقلٍ لا يعلم شيئًا البتّة، أو عالمٍ بجميع الأشياء، فليس علمًا بالمحسوسات؛ لحصوله في البهائم والمجانين؛ وليسوا عقلاء. فهو إِذن مِن العلوم الكّليّة. ثمّ ليس من العلوم النظريّة؛ لأنها مشروطةٌ بالعقل
وتصرفُّه. فلو كانت هي العقل، لكان شرطًا لنفسه؛ وهو محالٌ. فتعيَّن أن يكون عبارةً عن علمٍ كلّى بديهي.
وأُورِد على هذا الاستدلال أنّ التغاير لا يقتضي جوازَ الانفكاك؛ بدليل [أنّ] الجوهر والعرَض، والعلّة والمعلول، متلازمان ولا ينفكّان. ولئن سُلِّم أنّ التغاير يقتضي الانفكاكَ، لكنّ العقل قد ينفكُّ عن العلم. كالنائم واليقظان الذي لا يَستحضر شيئًا من وجوب الواجبات واستحالة المستحيلات؛ فِإنّ العقل فيهما موجودٌ، والعلم مفقودٌ.
فدلّ ذلك على أنّ العقل غريزةٌ تلزمها هذه العلومُ عند سلامة الحواسّ. كما قال المحاسبيّ: "إِنّه غريرزةٌ طبيعيةٌ يتوصّل بها إلى المعرفة، لا أنّه نفس تلك العلوم".
قلتُ: وهذا سؤالٌ قويٌ لا جواب عنه. وممّا يؤكِّده أنّ العقل إِذا فسد، تَسبَّب الأطبّاءُ إِلى إِصلاحه بالعلاج. فمن ذلك دليلان. أحدهما أنّ موضوع علم الطب إِنما هو الأجسام الطبيعيّة وما اشتملَت عليه من الطبيعيات؛ والعلوم ليست منها. وربما قوّى هذا قولُ الفلاسفة، "إنّه جوهرٌ"؛ لأنّ سلطان الطب على الجواهر أغلبُ منه على الأعراض. الثاني أنّ فساد العلوم إِنم هو بسيانها وذهابها عن القوّة الحافظة، بحيث يتعذّر على العالم استحضارُها. والأطبّاء لا سلطان لهم على تذكير علمٍ منسي، أو ردّ علمٍ ذاهب. وإِنما سلطانهم على القُوى والغرائز، بالتسبّب إِلى إِصلاحها إِذا فسدت فدلّ على أنّ العقل غريزةٌ يحصل بها العلم؛ لا نفس العلم، بل لازمٌ له.
فإِن قال: اللازم يصحّ وجوُده بدون المازوم. فلو كان العقل غريزةً، لازمًا للعلم، لا نفس العلم، لصحّ وجود العقل بدون علمٍ، فكان يوجد عاقلُ لا يعلم شيئًا أصلًا. وهو باطلٌ؛ لأنّ عاقلًا لا يخلو من علمٍ ضروريِّ.
فالجواب بالتزام ذلك. فإِنّ المجنونَ عقلُه قائمٌ به لم يفارقه. وإِنما عليه ما عَرَضَ له من العلّة، فاختفى أثرُه، وهو باقٍ لم يفارِق. إِذ لو فارق، لم يَعُد. وهذا كما يَبطُل تأثيرُ المغناطيش إِذا لُطخ بالثوم، وقوّته الجاذبة باقيةٌ؛ لكن بطل تأثيرُها لغلبةِ المانع والمعارِض.
وكما يَبطُل تأثيرُ الروحِ بالسُكات العارض، والروح باقٍ في البدن لم يفارِق. ولهذا
بعض الناس يظنّ أنّه مات، فيأخذ في جهازه إلى القبر. وإِنما يكون مسكَتًا. فربما زال سكاتُه، فتحرُك في اللحد قبل أن يُطَمّ، فيُرَدّ إلى أهله حيًا. وربما طُمّ بالتراب، فيموت خنقًا وغمًّا. ولهذا ذكَر الفقهاءُ أنّ ميتًا لو نُبش، فوُجِد قد مَزّق أكفانه وهو ميّتٌ، وجبت ديتُه على دافنيه. لأنّه، بتمزق أكفانِه، علِمنا أنّه دُفن حيًّا وأنّه كان مُسكَتًا. فكان موته بعد ذلك خطأً من دافنيه. قال بن عقيلٍ في الفصول، فيما أظنُّ بَعدَ طولِ عهدٍ:"هذه الواقعة وقعت في عصرنا، فتفتيتُ فيها بذلك". ولهذا قالوا أيضًا: يُتيقّن موتُه، إِن شٌكّ فيه، بانخساف صدغيه وميل أنفه وانفصال كفّيه واسترخاء رجليه؛ لأنّ الروح تَربط بعض الأعضاء ببعض، فبانفصالها يٌعلم زوالُه.
وأيضًا، فإِنّ مادّة ج- ن- ن ترجع إِلى معنى السِّتر، لا إِلى معنى الزوال والمفارَقة. عُلِم ذلك باستقراء موارِدها. فالجنون استتارُ لعقل، لا زوال العقل. فاعلم ذلك.
وقد سلك القاضي أبو بكرٍ وإِمام الحرمين في بيان أنّ العقل علمٌ ضروريٌ طريقًا آخر نحوًا من الأوّل. وهو أنّ العقل موجودٌ؛ إذ لا أثر للمعدوم. فهو إِمّا قديمٌ- وهو باطلٌ؛ إذ القديم لا يَحلّ المحدَثَ- أو حادثٌ. وهو إمّا جوهرٌ، أو عرضٌ. والأوّل باطلٌ؛ لأنّ الجوهر لا يقوم بالجوهر. والعرضُ ليس بكون ولا كونٍ؛ لأنّ العقل يوجد بدونها، وينتفى معها. فهو من قبيل العلوم. وليس نظريًا، لما سبق؛ ولا كلَّ ضروري، لأنّ بعض الضروريّات تحصل للمجانين. لكنّ إمام الحرمين يقول:"العقل والعلم جميعًا يُعلَمان بالتقسيم هكذا، لا بالتحديد، لقصور العبارة عن الوفاء بماهيّتهما". وقد خولف في ذلك. 1