الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مع المعتزلة إِنما هو في الثانية، دون الأّولى.
ومنها: أنّ البارئ سبحانه مُريدٌ لجميع الكائنات، عندنا. وعندهم المعاصي ليست مُرادةً له. أمّا أنّه سبحانه خالقٌ لها، بدليل قوله:{خالق كل شئ} . وخالق الشيء مُريدٌ لوجوده؛ إِذ الخلق بدون الإِدارة محالٌ؛ لأنّ التخصيص بالأزمان والمقادير من لوازم الخلق؛ والتخصيص إِنما يكون بالإِدارة. والخصم يَمنع أنّ الله خالقٌ للمعاصي؛ ويخُص الآيةَ بما سوى المعاصي، كما سيأتي الكلامُ عليها، إِن شاء الله. وأيضًا، لو لم يكن مريدًا لها، ثمّ وقعَت بإِرادة غيره، لكان ذلك الغيرُ أقدرَ وأكملَ إِدارةً منه؛ فيكون أولى بالإِلهيّة؛ وهو محالٌ.
احتجّوا بوجوهٍ. أحدها: أنّه أَمَرَ الكافر بالإِيمان؛ والأمر يدلّ على الإِدارة. الثاني: الطاعةُ موافَقَةُ الإِدارةِ؛ فلو أرادَ اللهُ كُفرَ الكافرِ ومعصيةَ العاصي، لكان مطيعًا لله بذلك. الثالث: أنّ الرضا بقضائه تعالى واجبٌ؛ والكفر والمعصية لا يجوز الرضا بهما؛ فلا يكونان بقضا الله سبحانه.
والجواب عن الأوّل أنّه مبنيّ على أنّ الإِدارة شرطٌ في الأمر؛ وهو ممنوعٌ. بل لا تَلازمُ بين الأمر والإِدارة؛ فيَتَفاكّان. فيصحُّ أن يُريد ما لا يَأمر به، وأن يَأمر بما لا يُريد. وعن الثاني، بأنّ الطاعة موافَقَة الأمرِ، لا الإِدارة، لغةً وعقلًا وشرعًا. إِذ لو قال السيّدُ لعبده:"افعل! " وهو لا يريده أن يَفعل، فلَم يَفعَل، لجاز له لومُه وعقابُه، وإِن كان وافَقَ إِرادتَه. وعن الثالب، أنّ الواجب الرضا بالقضاء؛ والكفر والمعصية مَقتضِيّان؛ فهما أَثَران للقضاء، لا نفس القضاء.
فهذه جملةٌ من مقدّمات المسألة ومَبانيها، فيها النزاعُ.
[الكلام الساذج التقريبيّ في المسألة]
والكلام الساذج التقريبيّ في المسألة هو أنّ النزاع إِنما نشأ فيها لِمَا بيّنّا غيرَ موضعٍ، من أنّ غالب مسائل الخلاف إِنما وَقَعَ الخلافُ فيها من حيث كانت واسطةً بين الطرَفين؛ وكلّ واسطةٍ بين طرفين يتَّجِه النزاعُ فيها لضربها بالنسبة إِلى كلِّ من الطرفين. وهذه المسألة من ذلك.
وبيانه أنّ الأفعال إِمّا اختياريّةٌ محضةٌ، وهي الأفعال المضافة إِلى الله سبحانه؛ أو قسريّةٌ محضةٌ، وهي الأفعال المضافة إِلى الجمادات، كحركة الحجرِ الذي يُدَحرَج على الأرض، أو يُدَهدَه من رأسِ الجبل، وكحركات الأفلاك بكواكبها عندنا، ونحو ذلك فهذان طرفان.
والأفعال المضافة إِلى الآدميّ ونحوه تُشبه القسمَ الأوّل في الاختيار المحضر من جهة المشاهَدةِ والحسِّ. فإِنّا نشاهدِ الإِنسانَ يمشي ويأكل ويَضرب ويفعل أفعالَه دائرةً مع اختياره وجودًا وعدمًا.
وتُشبِه القسمَ الثاني في القسرِ والجبرِ من جهة الدليل العقليّ. وتلخيصُه أنّا نَرى الإَنسانَ يَفعل أفعالَا هي جائزة الوجودِ وكلّ جائزٍ، فلا يوجَد إِلاّ لمرجِّحٍ. وذلك المرجَِح إِن كان من العبد، فهو جائزٌ أيضًا، يحتاج إِلى مرجِّحٍ. فإِن توقَّف المرجّحُ الثاني على المرجِّح الأوّل، لَزم الدورُ. وإِن لم يتوقَّف عليه، فإِن استَلزَم مرجِّحاتٍ لا تَتناهى، لزم التسلسلُ. وهما محالان. وإِن وَقَف عند مرجِّحٍ لا يَتَوقَّف على غيره، فهو من الله تعالى، ولابدّ. وعند وجودِ ذلك المرجِّح، إِمّا أن لا يجب الفعلُ، فَيبقى على جاوزه؛ ويَلزَم منه محالان. أحدهما: أنّ وجود المرجَِح الأوّل كععدمه. الثاني: توقُّف هذا الجائز على مرجَِحٍ، ويعود الكلامُ، فيَتَسلسل. أو يجب الفعلُ عقيب المرجَِحِ؛ فيكون الفعلُ مضافًا إِلى الله سبحانه بواسطة المرجِّح. ولا فرق في صحّة إِضافة الفعل إِلى الفاعل بين أن يكون بواسطةٍ، أو بغير واسطةٍ.
وقد سَّم أبو الحسين البصريّ أنّ فِعل العبدِ متوقفٌ على الداعي من الله سبحانه، وأنّ الفعل عقيب خلقِ الداعي واجبٌ. وهذا تسليمٌ للمدَّعي، وتركُ الاعتزالِ بالكلّيّة. ولهذا، أتُّهِم أنّه في نُصرتِه للاعتزال، بعد تسليم هاتين المقدّمتين، على تَقيةٍ من المعتزلة.
ومّما يَازم جميع المعتزلة أنّا قد بيّنّا أنّ ما تَعلَّق علمُ الله بأنّه لا يوجَد يَخرُج عن المقدوريّة. وإِيمان مَن مات كافرًا كذلك؛ مع أنّه مكلفٌ به؛ فهو تكليفُ محالٍ. وإِذا كان تكليفُ المحالِ في جانب ما عُلِم امنناعُ وجودِه، جاز في طرَف ما عُلِم وجوبُ وجوده، وهي المعصية التي يخلقها، ويَنهى عنها. وأيضًا، الفعل إِمّا أن يَتعلَّق علمُ الله بوجوده، فيجب؛ أو بعدمه، فيَمتنِع. والتكليف بهما محالٌ؛ ويعود الكلامُ.
وحاصل الأمرِ أنّ أفعال الله سبحانه كذاته وصفاته. فكما أنّ لا تُشبِه الذوات، وصفاته لا تُشبِه الصفات، فإِذا قال قائلٌ:"ذاته جسمٌ، أو عِلمُه عَرَضٌ؛ لأنّا ما وَجَدنا ذاتًا ولا صفةً إِلاّ كذلك"، قلنا له: أخطأتَ! ذاتُ الله لا تُقاس بالذوات، وصفاته ولا تُقاس بالصفات، فكذلك إِذا قال:"أفعال الله علاجيّةٌ، أو مباشرةٌ، أو معلَّلةٌ، أو من الواجب أنّه إِذا فَعلَل شيئًا، لا يلوم عليه، أو إِذا خَلَق في عبدِ فعلًا، لا يَنسِب ذم ذلك الفعل إِليه". نقول له: أخطأت! أفعال الله لا تُقاس بالأفعال.
فإن قال: "يَلزَم من مخالَفة أفعالِه أفعالَ غيره في ذلك التجويرُ"، قلنا: فلَيلزم من إِثبات ذاتِه مخالِفةً لذواتنا، وإِن لم نَعلم حقيقتَها وكُنهَها، كذلك نُثِبتُ عدلَه مخالفًا للعدل فيما بيننا، وإِن لم نَعلم وجهًه. ألا تَرى أنّ الخِضر عبدٌ من عباد الله، اختُصَّ على موسى بمسائل من مكنون غيب الله، طاش لها موسى، ولم يَصبر لها، حتى كان منه ما قصَّه علينا القرآنُ، ثمّ، لَمَّا ظهرَت له حكمةُ ذلك، خَضَع لعلمِ اللهِ، وبكى على مفارَقة الخضر؛ إِذ لم يَزدَد من عِلمِه. فإِذا كان مخلوقٌ تخفَى عنه حكمةُ مخلوقٍ، حتى يَظنَها ظلمًا وجورًا وعبثًا، فما الظنُّ بالمخلوق بالإضافة إِلى حكمة الله! فمن الجائز أنّ الناس إِذا صاروا إِلى الله، بيَّن لهم بالضرورة أنّ حُكمَه في مسألة القدَر، على رأي أهل السنّة، حِكمةٌ وعدلٌ؛ ويبدو للقدريّة من الله ما لم يكونوا يحتسبون، ويتبيًّن لهم أنّ عقولهم كانت عن دِركِ الحكمةِ في ذلك معقولةً، وألبابهم في ساحةِ حضرةِ العلمِ إِلى خارج الباب منقولةٌ. وسيأتي تقريرُ ذلك وبيانَه على وجهٍ جليِّ.
فهذا القدر من التوجيه الساذج يكفي مَن نَوَّرَ اللهُ بصيرتَه واستَمسَك بعُصُمِ الكتاب والسنّ الآتي ذِكرُ نصوصهم، إِن شاء الله، ورَغِب بدينه وعقلِه عن تكلُّف سماعِ الشُّبَهِ الشيطانيّة وأجوبتها. أمّا من أحبّ الوقوفَ على ذلك وكيفيّةِ إِبطال شُبَه الخصوم، فيَظهر له ذلك بإِيراد شُبَه المعتزلة وأجوبتها مناقَضةً وإِلزامًا. وأنا أذكرها معقِّبًا كلَّ شُبهةٍ بجوانبها؛ لأنّه أسهل على الناظر، كما فَعلتُ في شُبَههم في التحسين والتقبيح وأجوبتها. فأقول، وبالله التوفيق: