الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرع؛ لأنّ إنّه التصديق مسبوقٌ بالتصوّر.
والجواب إِنّه إِلزامٌُ لنا على أصلهم في أنّ ماهيّة الحُشن وَرَد مؤكدًا لحكم العقلِ في ذلك. وقد سبق منعُه. ونحن إِنما نستفيد الحكم بحُسن الشيء وقبحه من أمرِ الشرعِ ونهيه. وقبل الشرع، لا يستحيل منّا تصورُ ماهيتهما بهذا المعنى، بأن نقول: لو جاء شرعٌ، أو قدّرنا ورود شرعن لكان الحَسَن والقبيح ما أمَر به ونهى عنه.
الوجه السادس: لو لم يكونا عقليّين، لم يجُز إِسنادُ الأحكام إِلى المصالح. وحينئذٍ، ينسدّ بابُ القياس في الشرع بتحسينها، وكذا المفاسدُ.
والنزاع معكم إِنما هو فيما سبق. وهو كونُ العقل بذاته أدرك المصالحَ والمفاسدَ، ثمّ جَزَم وأوجَب في حُكم الله سبحانه رّبْط الجزاءِ بها ثوابًا وعقابًا وذلك غير ما نحن فيه.
الوجه السابع: لو كان حُسن الأفعال لورودِ الأمر بها، لم تكن أفعالُ الله سبحانه حَسنةً، لاستحالة توجُّه الأمر إِليه من غيره. ولو كان قبحُ الفعل للنهي عنه، لاقتضى نهيُ التنزيه قبحَ المنهيّ عنه.
والجواب أنّ الحَسّن عندنا ما عَلِمَ فاعلُه أنّه غير ممنوعٍ منه. فيتناول أفعالَ الله سبحانه؛ إِذ لا مانع. والمقتضي للقبح هو نهيٌ مخصوصٌ، وهو نهي التحريم، لا مطلق النهي. وأمّا قولنا في بعض المواضع، "الحَسَن ما أذن فيه الشرعُ، والقبيح ما مَنَع منه"، فإِنما نريد بذلك الحَسَنَ من أفعالنا؛ وهو حَسَنٌ خاص. أمّا إِذا أردنا به ما يعم الحَسَنَ منّا ومن الله سبحانه، عرفناه بما ذكرنا. والله أعلم.
[إبطال التحسين والتقبيح]
والمعتمد في إِبطال التحسين والتقبيح أنّ رعاية مصالح الخلق غير واجبةٍ على الله. ويلزم من ذلك بطلانُ التحسينوالتقبيح.
أمّا الأوّل، فلأنّ خلق اللهِ سبحانه للعالم في وقته الذي خلَقه فيه، دون ما قبله وعده، إِمّا مصلحةٌ لهم، أو مفسدةٌ، أو مصلحةٌ لبعضهم دون بعضٍ. فإن كان مصلحةً، فقد فوّتها فيما قبل خلْقِ العالمِ بدهورٍ وأزمنةٍ لا تتناهى. وإن كان مفسدةً،
فقد أَوجدها، مع قدرته على الاستمرار على نفيها. وإن كان الثالث، فالكلام في كلّ واحدٍ من القسمين كالكلام على الجميع؛ إِذ قد كان يمكنه أن لا يوجد مِن العالم إِلاّ مَن له في الوجود مصلحةٌ.
فإّن قيل: "لعلّه علم أنّه ليس في وجوده قبل وقته المعيّن مصلحةٌ، فأَخَّره إِلى ذلك الوقت نَظَرًا لهم في ذلك مصلحةً، فلم يُرِد إِيصالَها إِليهم لكونه لا يراعي مصالحهم التزامًا". فإِن قيل "لا يليق ذلك بكرَمه"، قلنا:"هذا رجوعٌ إِلى التحسين والتقبيح؛ ونزاعنا فيه".
ثمّ نقول: هب أنّه أّخَّر خلقَ العالم إِلى وقته المعيّن لمصلحتهم. فبَعد خلقِه، اشتمل العالمُ على مفاسد، أم لا؟ إِن اشتمل على مفاسد، فإِمّا أن يكون سبحانه عالمًا بها قبل خلقها؛ فقد كان يجب على قاعدتكم أن لا يخلقها رعايةً للمصلحة. أو لا يكون عالمًا بها؛ لكنّه ليس مذهبًا لكم. لأنّا اتّفقنا على أنّه عالمٌ بالأشياء في الأزل؛ وإِنما اختلفنا في أنّه عالمٌ لذاته، أو بمعنًى زائدٍ هو علمٌ؛ وهو أمرٌ وراء ما نحن فيه. وهذا معنى قول الشافعي رضي الله عنه:"إِذا سَلَّم القدريّة العلمَ، خُصِموا في جميع هذه المسائل". وبتقدير أنّه إِنما يعلم الأشياء بعد وقوعها، على رأي بعضهم، وإِن كان فاسدًا، لكنّه قادرٌ على رفعها بعد وجودها وقطعِ استدامتها؛ ولم يفعل.
وأيضًا، فمن مصلحة الكفّار والعصاة أن كان يعصمهم مِن أسباب العذاب. إِذ هو قادرٌ على ذلك. وحيث لم يعصمهم، فهلاّ عفا عنهم! إِذ العفو أصلح لهم. وحيث عاقبهم، فلِمَ خلَّدهم في النار؟ وإخراجهم منها، ولو بعد حينٍ، أصلح لهم. وقد اضطرّ التزامُ رعاية الأصلح بعضَ المعتزلة حتى التزموا أنّ خلودَ الكفّار في النار أصلحُ لهم.
وأمّا الثاني، وهو أنّ بطلان رعاية المصالح يلزم منه بطلانُ التحسين والتقبيح، فلأنّا قد بيّنّا أنّ معنى التحسين والتقبيح هو جزم العقل بوجوب ارتباط الأحكام بالمصالح والمفاسد. وحيث بطلت رعايةُ الأصلح أو المصالح، لم يجب في العقل أن يربط اللهُ أحكامَه بالمصالح والمفاسد. بل يجوز ذلك ونقيضه؛ وهو المطلوب. وحيث كثُر من الله
سبحانه رعايةُ مصالح خلقه، فإِنما كان ذلك تفضُلًا منه، لا وجوبًا عليه. وممّا يحقّق ذلك أنّه سبحانه امتَّن عليهم بأنّه راعى مصالحهم؛ كقوله:{ألم نجعل الارض مهادا} ، إِلى قوله، {وجنات ألفافا} ، وقوله {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} ، {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه} ؛ ونحوه كثيرٌ في القرآن. ولو كان واجبًا عليه، لما صحّ امتنانُه به؛ كما لا يصحّ أن يمتنّ أحدنُا على غريمه بأداء دَينٍ عليه، أو بأداء العبادات الواجبة بالنذر، وبأصل الشرع.
ومما يُبطِل قاعدةَ الأصلح الصورةُ التي فرضها الأشعري، وسأل عنها الجبّائيَّ، حيث قال له:"ما تقول في ثلاثة أخوة، أحدهم برٌ تقيٌ، والآخر فاجرٌ شقيٌ، والآخر مات قبل التكليف؟ "فقال الجبائيّ: " الأوّل في الدرجات، والثاني في الدركات، والآخر من أهل السلامة". قال له الأشعريّ: "فلو قال الصبي: "ياربّ، ارفعني إِلى درجات أخي التقيّ! " ما يكون جوابه؟ " قال:"يقال له: " إِنّك لم تعمل كعمله، فلم تصل إِلى محلّه". قال:"فإن قال: " يارب، إِنّك لم تبقني إِلى وقت التكليف؛ ولو أبقيتني، عملتُ". قال الجبّائيُّ:"يقال له: " لو أبقيتك، لكنتَ كأخيك الفاجر؛ فراعيتُ مصلحتَك بموتك قبل ذلك". قال الأشعريُّ:"فإِن قال الفاجر: "ياربَ، فهلاّ راعيتُ مصلحتي كما راعيت مصلحةَ أخي الصغير، فأمتّني صغيرًا، وسلّمتني من هذا العذاب! " فانقطع الجبّائيّ عن الجواب.
وقد ذكر العلماءُ مناظرةً جرت لإِبليس مع الله سبحانه في هذا الباب. وهو أنّه لَمّا عصى، فأَبلَس، قال: "يارب، إِني أُقرّ وأعترف أنّك ربى، لك الأمرُ والحكمُ. لكن في نفسي شيء أسأل عنه. فإنّك، يارب، علمتَ أنّ غاية وجودي إِلى اللعنة والإِبلاس. فلِمَ أوجدتني، وقد كان استمرارُ عدمي أصلحَ لي؟ وحيث أوجدتني، فلمَ ابتليتني، وقد كانت العافية، أصلحَ لى؟ وحيث ابتليتني، فهلاّ ابتَليتني، فهلاّ ابتَليتني بدون ما ابتُلِيتُ به من
الطرد والإِبلاس، كما ابتَليت آدم، ثمّ تداركتَه؟ وكيف أمرتني بالسجود، مع علمك أني لا أسجد؟ وتركُ الأمر كان أصلحَ لي. وحيث أمرتني، فعصيتُ، كيف سلطتَني على آدم؟ ولو عصمته مني، كان أصلحَ له ولي. وحيث سّلطتّني عليه، فكيف أنظَرتَني وسلطتَني على عقبه؟ وقد كان إِلاكي قبل ذلك أصلحَ لهم ولي. وحيث أنظرتَني وسلّطتّني عليهم، فكيف جعلتني أراهم ولا يروني، ولا لقبيلي من الشياطين؟ ولو جعلتَهم يرونا، كان أصلحَ لهم؛ لأنّه كان أجدرَ أن يحترزوا منّا.
وكان ذلك من إِبليس بمشهد الملائكة. فلم يُحيروا عن ذلك جوابًا. فأجابه الله سبحانه عن سؤاله، وقال:"إِنّ كلامك ينقض آخرُه أوله؛ لأنّك أولًا سَلَّمت أني ربّك، لي الأمر والحكم. ثمّ تسألني سؤالَ مجادلٍ. أنا لا أُسأل عمّا أفعلُ وهم يُسألون". وسنورد، إِن شاء الله سبحانه، نصوصَ الكتاب والسنّة في مسألة القدَر، ونبيّن وجهَ دلالاتها، وجوابَ ما يرِد عليها من الإِشكال، آخرَ هذا التصنيف، ولها وضعناه، إِن شاء الله تعالى.
وحيث انتهى الكلامُ على التحسين والتقبيح، وهو الأصل الصعب الفاسد الذي تفرّع عنه كثيرٌ من الضلالات من أوّل العالم إِلى آخره، كما ذكرناه في الخطبة، فلنردفه بذكر جملةٍ من فروعه في أصول الدين والفقه وفروعه. وإِنما نذكر منها ما تيسّر وحضر. إِذ لو التزمنا الحصَر، لزمنا الحصرُ.