الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ثالثًا: فروع التحسين والتقبيح في أصول الفقه]
وأمّا فروعه في أصول الفقه،
[عندهم أنّ شكر المنعم واجبٌ عقلًا]
فمنها أنّ شُكر المنعم لا يجب عقلًا، عندنا. وعندهم، يجب. أمّا وجوبه شرعًا، فمتّفَقٌ عليه.
[حكم الأفعال الاختياريّة قبل ورود الشرع]
ومنها أنّ أفعال العقلاء لا حُكم لها قبل ورود الشرع، عندنا. وعندهم، الأفعال الاختياريّة، إِمّا حَسَنٌ بالعقل، أو قبيحٌ، أو ما لم يَنصّ فيه العقلُ بحُسنٍ ولا بقبحٍ.
والأوّل واجبٌ، أو مندوبٌ، أو مباحٌ. والثانى حرامٌ، أو مكروهٌ. والثالث، هل هو واجبٌ، أو مباحٌ، أو على الوقف؟ هم فيه ثلاث فِرَقٍ. أمّا الأفعال الاضطراريّة، كالتنفّس ونحوه، فحَسَنةٌ، قولًا واحدًا.
[تكليف ما لا يُطاق]
ومنها مسألة تكليف ما لا يُطاق. وبعضهم يترجمها بالتكليف بالمحال؛ وله يُستعمَل، لأنّه أخصّ. ويُحتاج إِلى تحقيق الكلام فيها، لأنّ لها فروعًا متعدّدةً؛ فهي أصلٌ لها. وإِن كانت فرعًا للتحسين والتقبيح، فهي أصلٌ وَسَطٌ، كالأفرُع المتوسّطة، كالحيوان بين الجسم النامى والإِنسان.
فنقول: اعلم أنّ المعلوم إِما ممكنٌ، أو واجبٌ، أو ممتنعٌ. فالممكن ما استوت نسبتهُ إِلى الوجود والعدم؛ فيَحتاج في وجوده إِلى مرجِّحٍ ومخصِّصٍ. والواجب ما ترجَّح وجودُه على عدمه. والممتنع ما ترجَّح عدمُه على وجوده. ثمّ كلّ واحدٍ من الواجب والممتنع، إِمّا أن يكون وجوبُه أو امتناعُه لذاته، أو لغيره. فالواجب لذاته ما لم يقف وجودُه على سببٍ خارجٍ عن ذاته؛ كسائر الموجودات حالً وجودها. والممتنع لذاته، كالجمع بين الضدّين. والممتنع لغير نحوُ كلِّ ما عَلِم اللهُ سبحانه أنّه لا يوجَد؛ كإِيمان مَن عَلم أنّه يموت كافرًا، وهو المثال المشهور في هذا الباب.
فإِذا، المحال ضربان: محالٌ لذاته، ولغيره. وقد اختُلِف فيهما. فأجاز التكليفَ بهما
قومٌ، ومنَعه آخرون. وأجاز قومٌ التكليفَ بالثاني دون الأوّل. وحُكي عن أبي إِسحق أنّ التكليف نوعان: تكليف طلَبٍ واقتضاءٍ، وهو فيما لا يُطاق محالٌ وخروجٌ عن الحكمة؛ وتكليف تسخيرٍ وتعجيزٍ، يعني نحو قوله:{كونوا قردة} ، {كونوا حجارة أو حديدا}؛ فهو جائزٌ عقلًا. قلتُ: وقوله داخلٌ في الأقوال المذكورة؛ وإِنما حكيناه لما فيه من التفصيل.
وذكر [أبو الحَسن] الأشعريّ وأكثرُ أصحابه على جواز تكليف المحال وجوهًا. أحدها أنّ أفعال العباد مخلوقةٌ لله، كما سيأتى مذهبُه فيه. وهم مكلَّفون بإيقاعها، كالصلاة وسائر العبادات؛ وذلك تحصيلُ الحاصل؛ وهو محالٌ.
الثاني أنّ القدرةَ الحادثةَ مع المقدور؛ وهو مكلَّلفٌ به قبلَ إِيقاعه؛ ولا معنى لتكليف المحال إِلاّ التكليف بما لا قدرة للمكلَّلف عليه. قلتُ: المعتزلة يمنعون المقدّمتين الأوُليين من هاتين الحجّتين.
الثالث: عند معتزلة بغداد أنّ الختم والطبع مانعان من الإِيمان، مع أنّ المطبوع على قلبِه مأمورٌ به. وهو تكليفٌ مع عدم القدرة. قلتُ: إِن صحّ هذا عن معتزلة بغداد، فجمهور المعتزلة على أنّ الطبع والختم تسميةُ العبدِ مطبوعًا ومختومًا على قلبه؛ وهو لا يمنع الإِيمانَ عندهم. ومن أدلّة السمع، قولُه تعالى:{ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} . ولولا جوازه، لما استعاذوا منه؛ إِذ الاستعاذة من المحال محالٌ. والخصم يتأوّل الآية على ما فيه كلفةٌ ومشقّةٌ. ثمّ هي معارَضةٌ بقوله تعالى في صدر هذه الآية بعينها، وفي غير موضعٍ من القرآن:{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} .
قلتُ: هذه حججٌ ذكرناها ليعرفها الناظرُ وما يتوجّه عليها. ونحن نذكر المختارَ في تقرير المسألة ومآخذِها، ونذكُر دليلَ القولين الأوّلين من الأقوال الثلاثة، فبها يُعلم دليلُ القول الثالث، لأنّه داخلٌ فيهما، مركَّبٌ منهما.
فنقول: احتجّ مَن مَنَع التكليفَ بالمحال لذاته، بأنّ التكليفَ طلبٌ؛ والطلب يستدعي تصوُّرَ المطلوبِ في نفس الطالب؛ لكنّ المحال لذاته لا تصور له في النفس؛ فلا يكون مطلوبًا؛ فلا يكون مكلَّفًا به. وأُورد عليه أنّ المحال لذاته، لو لم يصحّ تصوُّره في النفس، لما صحَّ الحكمُ عليه بالاستحالة في قولنا مثلًا، طالجمع بين الضدّين مستحيلٌ"؛ لأنّ الحكم عليه تصديقٌ؛ والتصديق فرع التطوُّر لطرفيه، الحكم والمحكوم عليه.
والجواب أنّ الحكم يكون تارةً بالإِيجاب، وتارةً بالسلب. والحكم الممتنع على المحال إِنما هو الأوّل، وهو الحكم بوجوبه، أو وجوده، أو إِمكانه، أو ما يستلزم شيئًا من ذلك؛ كقولنا، "الجمع بين الضدّين واجبٌ، أو موجودٌ، أو ممكنٌ، أو غير ممتنعٍ". أمّا الثاني، وهو الحكم السلبيّ، فليس ممتنعًا عليه؛ كقولنا، "الجمع بين الضدّين غير موجودٍ، أو غير ممكنٍ، أو هو محالٌ"؛ لأنّه في تقدير السلب. وقولنا، "المحال لا تصور له، أو غير متصوَّرٍ في النفس"، من هذا الباب. فإِنّ ماهيّةَ الجمعِ المطلقةَ متصوَّرةٌ ممكنةً؛ وسلبُها عن المحال لا يقتضي وجودَه ولا تصوُّرَه، ولا يستلزم محالًا.
واحتَجّ مَن أجاز التكليفَ بالمحال لذاته أيضًا بما سبق مِن حُجَج الأشعريّ عقلًا وسمعًا -وقد عُرِف ما عليها- وبما سبق أيضًا من قوله تعالى: {أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} ، ونحوه. فإنهم كُلِّفوا بتصديق الرسل في أنهم لا يؤمنون؛ وهو تكليفٌ بالجمع بين الضدّين.
والخصم مَنع ذلك، وقال "إِنما كُلِّفوا بالإِيمان بما أَخبر به الرسلُ من الإِيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. أمّا أنهم كُلِّفوا بالإِيمان بأنهم لا يؤمنون، فلا".
وفي هذا المنع نظرٌ؛ لأنهّ أمّةَ كلِّ نبيِّ مكلَّفةٌ بالإِيمان بكلّ ما جاء به نبيُّها. حتى إِنّ
التكذيب بحرفٍ منه كالتكذيب بجميعه. ومّما جاء به الرسولُ أنهم لا يؤمنون؛ وهم مأمورون بالإِيمان به. هذا تقرير الدليل التفصيليّ من الطرفين.
أمّا المأخذ الإِجماليّ المختصَر، فهو أنّ الغرَض من التكليف تحصيلُ الفعلِ المكلَّف به، أو جَعلُ عدمِه أمارةً على العقاب، ووجوده أمارةً على الثواب. فمَن قال بالأوّل، مَنَع التكليفَ بالمحال لذاته؛ لأنّ تحصيلَه ملزومٌ لتصوُّر وجودِه. وإِذا انتفى اللازمُ، استحال وجودُ الملزومِ، وقَبُحَ طلبُه؛ لأنّ السيّد لو قال لعبده:"اجمَعْ بين الحركة والسكون! " أو "بين قيامِك وقعودِك في وقتٍ واحدٍ! " لكان له أن يقول "كلَّفني ما أقدِرُ عليه، حتى أُطيعك. أمّا هذا، فليس داخلًا تحت مقدوري"
ومَن قال بالثاني، أجاز التكليفَ بالمحال. إِذ لا يمتنع من الله سبحانه أن يجعل عدمَه أمارةً على ذمِّ المكلَّف ةعقابه، كما جعل وجودَ التكاليف الممكنة أمارةً على مدحه وثوابه، وإِن كانت عندنا واجبةَ الوقوع بفعل الله تعالى. وأكثر ما يقال على هذا:"إنّه جوَّز على المكلَّف أن يعاقَب من غير عصيانٍ". لكنّ هذا يندفِع بأنّ لله سبحانه أن يًحكُم بعلمه في خلقه. فيَجُوز أن يَجعل ذلك أمارةً على عقابِ مَن عَلِمَ منه أنّه يَستحِقُّ العقابَ، لسوءِ اعتقادٍ، أو نِيّةٍ، أو خُبث سريرةٍ وطويةٍ، أو مجرّد إِرادةٍ لذلك. وقد دلّ على هذا قولُه عليه السلام في أطفال الكفار، "الله أعلم بما كانوا عاملين". فإنّه تصريحٌ بالحُكم عليهم بسابقِ العلم فيهم. فكذا ها هنا، وأَولى.
قلتُ: تقرير هذا المأخذ ينبني على أصلين. أحدهما أنّ الغرض من التكليف تحصيلُ الفعلِ، ليترتّب العقابُ على تركه، أو جعله أمارةً على الجزاء؟ الثانى أنّ الأعمال أماراتٌ على الجزاءِ معرفاتٌ، أو عللٌ موجِباتٌ؟ والأصلان مختلَفٌ فيهما بيننا وبين المعتزلة. فكل بَنى فرعَه على أصله.
أمّا النزاع في جواز التكليف بالمحال لغيره، فمأخذه أنّ ما عَلِمَ اللهُ تعالى أنّه لا يكون، هل هو مقدورٌ له، أم لا؟ ذهب عبّاد بن سليمان إِلى أنّه غير مقدورٍ. وخالَفَه