الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد:
ويشتمل على فصلين:
الفصل الأول: تعريفات عامة
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: تعريف الآثار لغة واصطلاحا.
الأثر لغة:
قال ابن فارس: الهمزة، والثاء، والراء، له ثلاثة أصول: تقديم الشيء، وذكر الشيء، ورسم الشيء1.
والأثر: محركة: بقية الشيء جمع آثار، والآثار الأعلام، والمأثرة: البقية من العلم تؤثر. وآثره، أكرمه2.
فمعنى الأثر يدور حول بقية الشيء، ورسمه، وظهوره، وهو في الأصل: العلامة والبقية والرواية3.
أما تعريفه اصطلاحا:
فالأثر عند الفقهاء الخراسانيين هو ما يروى عن الصحابة رضي الله عنهم4.
1 ابن فارس معجم مقاييس اللغة 1/53، ط. دار الجيل بيروت تحقيق عبد السلام هارون ط. الأولى عام 1411هـ.
2 انظر: المعجم الوسيط ص5، والقاموس المحيط ص436، ط. مؤسسة الرسالة.
3 ابن حجر العسقلانى: النكت على ابن الصلاح 1/513، تحقيق فضيلة الشيخ الدكتور ربيع المدخلي. ط الجامعة الإسلامية
ط الأولى عام 1404هـ.
4 المصدر السابق 1/513.
وعند غيرهم أنه لا فرق بين الحديث والأثر، وذهب بعض المتأخرين إلى الفرق بينهما، وهو الصحيح
فالأثر: "هو ما ورد عن الصحابة والتابعين من أقوالهم وأفعالهم"1.
1 انظر: العراقي: التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من مقدمة ابن الصلاح ص67 ط. دار الفكر. وابن كثير: الباعث الحثيث ص43، والسخاوي: فتح المغيث1/124تحقيق وتعليق الشيخ علي حسين ط. إدارة البحوث الإسلامية بالجامعة السلفية ببنارس الهند ط. الأولى عام 1407هـ.
المبحث الثاني: تعريف العقيدة لغة واصطلاحا
العقيدة لغة:
قال ابن فارس: العين، والقاف، والدال، أصل واحد يدل على شدّ وشدّة وثوق، وإليه ترجع فروع الباب كلها1.
وعقد الحبل، والبيع، والعهد، يعقده: شده2.
واعتقد الشيء: اشتد، وصلب، يقال: اعتقد الإخاء بينهما: صدق، وثبت، وعقد فلان الأمر: صدقه، وعقد عليه قلبه، وضميره.
والعقيدة: الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده3.
فمادة "عقد" في اللغة تدور حول الثبوت على الشيء، والالتزام به، والتأكد منه والاستيثاق به.
وأما في الاصطلاح فهي:
"العلم بالأحكام الشرعية المكتسب من الأدلة اليقينية ورد الشبهات وقوادح الأدلة الخلافية 4.
1 ابن فارس: معجم مقاييس اللغة 4/86.
2 الفيروز آبادي: القاموس المحيط ص383 ط. مؤسسة الرسالة.
3 المعجم الوسيط 2/614.
4 البريكان: المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية ص9 ط الثالثة عام 1415هـ دار السنة الخبر.
وكلمة العقيدة من الألفاظ المولدة، فلم ترد هذه اللفظة في الكتاب والسنة، وكانت الأئمة السابقون يستعملون ما يدل على هذه اللفظة: كالسنة والشريعة، والإيمان، وأول من تم الوقوف على ذكره لجمعها "عقائد" هو القشيري [ت:437] ومن بعده الغزالي [ت505] الذي جاء بمفردها عقيدة 1.
1 انظر: الآثار عن أئمة السنة في أبواب الاعتقاد من كتاب سير أعلام النبلاء 1/26للدكتور جمال ابن أحمد بن بشير بادي ط. دار الوطن عام 1416هـ ومعجم المناهي اللفظية ص242 للشيخ الدكتور بكر أبو زيد ط. دار ابن الجوزي ط. الأولى عام 1410هـ.
الفصل الثاني: التعريف بأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز
وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: حياته الشخصية.
المبحث الثاني: سيرته العلمية.
المبحث الثالث: سيرته السياسية.
المبحث الرابع: أخلاقه المكتسبة.
المبحث الخامس: فضائله.
المبحث السادس: وفاته.
المبحث الأول: حياته الشخصية.
ويشتمل على الآتي:
أ- نسبه وولادته.
ب- زوجاته وأولاده.
ج- تربية أبنائه.
أ- نسبه وولادته
نسبه من جهة أبيه:
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس ابن عبد مناف بن قصي بن كلاب الأموي القرشي أمير المؤمنين، كنيته أبو حفص، ويلقب بالأشج1.
أما نسبه من جهة أمه:
فقد روى ابن عبد الحكم في كتابه "سيرة عمر بن عبد العزيز" والآجري في كتابه "أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز وسيرته" أن أمه هي: أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه 2
ولا بأس من إيراد كلمة يسيرة عن جدته لأمه تتبين منها كرم عنصره، وشرف محتده، وأصله الطيب، ذكر ابن عبد الحكم والآجري عن عبد
1 انظر الذهبي: سير أعلام النبلاء 5/114، وابن سعد الطبقات 5/330، وابن حبان البستى: مشاهير علماء الأمصار ص178، عني بتصحيحه م. فلا يشهمر ط. دار الكتب العلمية.
2 انظر: ابن عبد الحكم سيرة عمر بن عبد العزيز على ما رواه الإمام مالك وأصحابه ص23-24، والآجري أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز وسيرته ص47-49.
الله ابن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده أسلم1 قال: بينما أنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يَعُسُّ2 بالمدينة إذ أعيا فاتكأ على جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة تقول لابنتها: يا بنتاه قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء، فقالت لها: يا أمتاه أو ما علمت ما كان من عزمة3 أمير المؤمنين اليوم. قالت: وما كان من عزمته يا بنية؟ قالت: إنه أمر مناديا، فنادى أن لا يشاب اللبن بالماء، فقالت لها: يا بنتاه قومي إلى اللبن، فامذقيه بالماء فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه والله ما كنت لأطيعه في الملإ، وأعصيه في الخلاء. وعمر يسمع كل ذلك، فقال: يا أسلم عَلِّم الباب واعرف الموضع، ثم مضى في عسسه، فلما أصبحا قال: يا أسلم امض إلى الموضع فانظر من القائلة ومَن المقول لها وهل لهم من بعل؟ فأتيت الموضع فنظرت فإذا الجارية أَيِّم لا بعل لها وإذا تيك أمها وإذا ليس لها رجل، فأتيت عمر بن الخطاب فأخبرته، فدعا عمر ولده فجمعهم فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوجه
…
فقال
1 انظر: ابن عبد الحكم سيرة عمر بن عبد العزيز ص23-24، والآجري أخبار أبي حفص 47-49، وعبد الله بن زيد بن أسلم، عن أبيه، ضعفه يحيى وأبو زرعة، ووثقه أحمد وغيره، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال الحافظ: صدوق فيه لين، انظر ميزان الاعتدال 2/ 425 ، والمحتد: الأصل انظر: المصباح المنير ص 214.
2 العس: نفض الليل عن أهل الريبة. انظر: معجم مقاييس اللغة 4/42.
3 معنى عزمه عزما: عقد ضميره على فعله. انظر: المصباح المنير ص115.
عاصم: يا أبتاه لا زوجة لي فزوجني، فبعث إلى الجارية فزوجها من عاصم فولدت لعاصم بنتا وولدت البنت عمر بن عبد العزيز1.
ولادته:
تذكر أكثر المصادر التي اعتنت بترجمة عمر بأنه ولد بالمدينة النبوية، وتوجد مصادر أخرى تذكر أنه ولد بمصر وفي حلوان2. وكما اختلفت المصادر في تعيين مكان ولادته اختلفت في سنة ولادته على عدة أقوال ملخصها ما يلي:
1-
أنه ولد في عام 59هـ3.
2-
أنه ولد في عام 61هـ4.
3-
أنه ولد في عام 62هـ5.
1 الآجري: أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز ص48-49، وابن سعد الطبقات 5/331، وابن عبد الحكم سيرة عمر ص 19-20، وابن الجوزي سيرة عمر ص10.
2 حلوان: قرية من أعمال مصر، بينها وبين الفسطاط فرسخين من جهة الصعيد. انظر معجم البلدان 2/293. ط. دار الفكر، ط. الثانية 1995م. بيروت.
3 خليفة بن خياط التاريخ ص206. ط. مكتبة دار الكتب العلمية، تحقيق د. مصطفى نجيب ود. حكمت فواز.
4 ابن حبان البستي مشاهير علماء الأمصار ص178.
5 ابن جرير الطبري تاريخ الطبري 5/427.
4-
أنه ولد في عام 63هـ 1.
ولعل الراجح في هذه الروايات أنه ولد في عام 61هـ، لأنه قول أكثر المؤرخين، ولأنه يؤيده ما يذكر أنه توفي وعمره أربعون سنة حيث توفي عام 101هـ. وقوله: تمت حجة الله على ابن الأربعين2. قال ابن كثير: ويقال: كان مولده سنة إحدى وستين، وهي التي قتل فيها الحسين ابن علي
…
قاله غير واحد3 من أهل العلم. والله أعلم.
مكان ولادته:
تذكر بعض المصادر أن عمر بن عبد العزيز ولد بمصر ولعل مستندهم أن والده عبد العزيز بن مروان كان واليا على مصر، ولكن بتتبع مصادر التاريخ يتضح أن هذا القول ضعيف، لأن أباه عبد العزيز بن مروان بن الحكم إنما تولى مصر سنة خمس وستين للهجرة، بعد استيلاء مروان بن الحكم عليها من يد عامل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فولّى عليها ابنه عبد العزيز ولم يعرف لعبد العزيز بن مروان إقامة بمصر قبل ذلك، وإنما كانت إقامته وبني مروان في المدينة حتى أخرجوا منها قبيل موقعة الحرّة، ثم عادوا إليها بعد الموقعة، ثم أخرجوا منها مرة أخرى بعد أن
1 ابن سعد الطبقات 5/330.
2 انظر تاريخ خليفة ص206.
3 ابن كثير البداية والنهاية 5/215.
استتب الأمر لابن الزبير، فخرجوا إلى الشام حيث بايع الناس مروان بن الحكم جد عمر بن عبد العزيز1 رحمه الله تعالى.
وقد نشأ عمر في المدينة حسبما جاء في رواية ابن عبد الحكم الذي قال: فلما شب وعقل وهو غلام بعدُ صغير كان يأتي عبد الله بن عمر كثيراً لمكان أمه منه، ثم يرجع إلى أمه فيقول:"يا أمّه أنا أحب أن أكون مثل خالي" - يريد عبد الله بن عمر- فتؤفف به ثم تقول له: اغرب أنت تكون مثل خالك تكرر عليه ذلك غير مرة. فلما كبر سار أبوه عبد العزيز ابن مروان إلى مصر أميراً عليها، ثم كتب إلى زوجته أم عاصم أن تقدم عليه وتقدم بولدها، فأتت عمها عبد الله بن عمر فأعلمته بكتاب زوجها عبد العزيز إليها فقال لها: يا ابنة أخي هو زوجك فالحقي به، فلما أرادت الخروج قال لها: خلفي هذا الغلام عندنا -يريد عمر- فإنه أشبهكم بنا أهل البيت فخلفته عنده ولم تخالفه، فلما قدمت على عبد العزيز اعترض ولده فإذا هو لا يرى عمر، قال لها: وأين عمر؟ فأخبرته خبر عبد الله وما سألها من تخليفه عنده لشبهه بهم فسُرَّ بذلك عبد العزيز، وكتب إلى أخيه
1 انظر تاريخ الطبري 8/35، حوادث سنة 65، وتاريخ ولاة مصر ص44 ط. مؤسسة الكتب الثقافية ط. الأولى عام 1407هـ.
عبد الملك يخبره بذلك، فكتب عبد الملك أن يجري عليه ألف دينار في كل شهر، ثم قدم عمر على أبيه مسلِّماً1.
وهكذا تربى عمر رحمه الله تعالى بين أخواله بالمدينة من أسرة عمر رضي الله عنه، ولا شك أنه تأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة، فقد كان يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله بن مسعود يأخذ عنه العلم2، وقد حفظ القرآن وهو صغير.
قال ابن كثير: وقال نعيم بن حماد: ثنا ضمام بن إسماعيل عن أبي قبيل أن عمر بن عبد العزيز بكى وهو غلام صغير فبلغ أمه، فأرسلت إليه فقالت: ما يبكيك؟ قال: ذكرت الموت، فبكت أمه، وكان قد جمع القرآن وهو صغير3.
وقد كان أبوه يتفقده ويستفسر عن أخباره، فقد تأخر عن صلاة الجماعة يوما فسأله مؤدبه عن سبب التأخير فقال: كانت مرجلتي4 تسكن شعري، فقال له: قدمت ذلك على الصلاة؟! وكتب إلى
1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص24-25.
2 ابن سعد الطبقات 5/398.
3 ابن كثير البداية والنهاية 5/215.
4 رجله: سود شعره وزينه وسرحه المعجم الوسيط ج 1 ص 332
أبيه - وهو على مصر- يعلمه بذلك، فبعث أبوه رسولا فلم يكلمه حتى حلق رأسه1.
ووالده هذا هو عبد العزيز بن مروان، وقبل أن نواصل الحديث عن عمر لا بأس من إيراد نبذة وجيزة عن حياة والده.
فقد ولد بالمدينة ونشأ، وتربى بها2، وكان حريصا على جمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم روى ابن سعد بسنده عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد العزيز بن مروان كتب إلى كثير بن مرة الحضرمي، وكان قد أدرك بحمص سبعين بدريا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
قال: فكتب إليه أن يكتب إليه بما سمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديثهم إلا حديث أبي هريرة فإنه عنده3.
قال ابن سعد وقد روى عبد العزيز عن أبي هريرة، وكان ثقة قليل الحديث4، وكان أبوه مروان قد ولاه مصر فأقره عليها أخوه عبد الملك
1 ابن كثير البداية والنهاية 5/215.
2 المصدر السابق 5/62.
3 ابن سعد: الطبقات 3/448.
وحمص:- بالكسر ثم السكون والصاد مهملة- بلد مشهور قديم، كبير، مسور، وهي بين دمشق وحلب في نصف الطريق. انظر معجم البلدان 2/302.
4 يمكن حمل قول ابن سعد إنه قليل الحديث على أنه لم يرو عنه كثيرا، ولعل ذلك يعود إلى اشتغاله بأمور الرعية. والله أعلم.
ابن مروان. وكان مروان قد عقد لعبد العزيز ولاية العهد بعد عبد الملك، لكن عبد العزيز تنازل عن ولاية العهد في حياته وتوفي قبل عبد الملك. توفي بمصر في جمادى الأولى سنة خمس وثمانين1، وقد اكتسى عمر أخلاق والده وزاد عليه بأمور كثيرة2.
صفاته الخَلْقِيَّة
كان عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى- أسمر، رقيق الوجه، أحسنه، نحيف الجسم، حسن اللحية، غائر العينين، بجبهته أثر نفحة دابة، قد وخطه الشيب.
وقيل في صفته: أنه كان رجلا أبيض دقيق الوجه، جميلا، نحيف الجسم، حسن اللحية، غائر العينين، بجبهته أثر نفحة حافر دابة، فلذلك سمى أشج بني أمية، وكان قد وخطه الشيب3.
1 ابن سعد الطبقات 5/236، وابن كثير البداية والنهاية 5/62.
2 ابن كثير البداية والنهاية 5/63-64.
3 ابن كثير البداية والنهاية 5/63-64، ابن عساكر: تاريخ دمشق 54/133، وانظر أبو حفص الملاء 1/11، وابن الجوزي سيرة عمر ص 179.
ب- زوجاته وأولاده
نشأ عمر بالمدينة وتخلق بأخلاق أهلها، وتأثر بعلمائها وأكب على أخذ العلم من شيوخها وكان "يقعد مع مشايخ قريش ويتجنب شبابهم، وما زال ذلك دأبه حتى اشتهر، فلما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فخلطه بولده، وقدمه على كثير منهم، وزوجه فاطمة بنت عبد الملك"1. وقد أنجبت له ولدين هما: إسحاق، ويعقوب2.
كما كان لعمر زوجات عدة غير فاطمة، منهن:
لميس بنت علي بن الحارث الحارثية، وله منها أبناؤه: عبد الله، وبكر، وأم عمار.
ومن زوجاته: أم عثمان بنت شعيب بن زبان الأصبغ، وله منها ولده: إبراهيم.
وذكر ابن سعد أن له أمة تسرى بها وكان له منها أبناؤه: عبد الملك، والوليد، وعاصم، ويزيد، وعبد الله، وعبد العزيز، وزبان، وآمنة، وأم عبد الله3.
1 ابن كثير البداية والنهاية 5/216، بتصرف يسير، وابن عساكر 13/262.
2 ابن عساكر تاريخ مدينة دمشق (مخطوط) مجلد 19 ورقة 248أ، وابن سعد الطبقات 5/330.
3 ابن سعد الطبقات 5/330.
ج- تربية أبنائه
وردت نصوص من الكتاب والسنة تحث على تربية الأبناء وتنشِئتهم النشأة الصالحة ليكونوا طائعين لله في كل ما أمرهم به، وقد اهتم عمر بن عبد العزيز بتربية أولاده التربية الصحيحة، فلم يرغب عمر أن ينشأ أولاده في ترف ونعيم، فيجرفهم تيار المجون، والدعة عن اكتساب العلوم، فيروي ابن عساكر عن رجاء بن جميل الإيلي أنه قال:"وكان عمر بن عبد العزيز يَبْدى1 ولده عندنا بالمدينة، وكان يأمر قيِّمه عليهم يكسوهم الكرابيس2، والبتوت3، وإذا حملهم من منزلهم إلى منزل حملهم على الحمر الأعرابية"4.
وكان هذا بعد ما أخذوا حظهم من التربية المستقيمة في بيته ثم جعل يتعاهدهم ويكتب إلى مؤدبهم رسائل، ومنها هذه الرسالة الآتية:
"من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى مولاه، أما بعد: فإني اخترتك على علم مني بك لتأديب ولدي، فصرفتهم إليك عن غيرك من موالي، وذي
1 يبدى من البداوة وهو خلاف الحضر. وتبدى أقام بها، وتبادى: تشبه بأهلها. انظر معجم مقاييس اللغة 1/212.
2 الكرباس: بالكسر ثوب من القطن الأبيض والنسبة: كرابيس وهو فارسي معرب. انظر القاموس المحيط ص735.
3 البت: هو الطيلسان من خز ونحوه وبائعه بتى. القاموس المحيط ص188.
4 ابن عساكر: تاريخ دمشق مجلد 13 ص151، أ.
الخاصة بي، فحدثهم بالجفاء فهو أمعن لإقدامهم، وترك الصبحة1 فإن عادتها تكسب الغفلة، وقلة الضحك، فإن الضحك كثرته يميت القلب، وليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم: أن حضور المعازف واستماع الأغاني، واللهج بها ينبت النفاق في القلب، كما ينبت العشب الماء، ولعمري لتوقي ذلك بترك حضور تلك المواطن أيسر على ذي الذهن من الثبوت على النفاق في قلبه. وهو حين يفارقها لا يعتقد بما سمعت أذناه على شيء مما ينتفع به، وليفتتح كل غلام منهم بجزء من القرآن يثبت في قراءته. فإذا فرغ تناول قوسه ونبله وخرج إلى الغرض2، حافيا فرمى سبعة أرشاق3، ثم انصرف إلى القائلة فإن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول: يابني قيلوا4 فإن الشياطين لا تقيل"5.
1 الصبحة: بضم الصاد وفتحها الضحى وتصبَّح نام بالغداة، المصباح المنير ص126
2 الغرض: الهدف الذي يرمى إليه والجمع أغراض. المصباح المنير للفيومي ص169، ط. مكتبة لبنان عام 1990م.
3 الرشق: الرمي والقوم إذا رموا بأجمعهم. المصباح المنير ص87.
4 القيلولة والقائلة: نوم نصف النهار. معجم مقاييس اللغة 5/45.
5 ابن أبي الدنيا: كتاب ذم الملاهي ص50-51، ومن طريقه ابن الجوزي سيرة عمر ص316، وأبو حفص الملَاّء 2/631-632.
فهذه الرسالة تبين المعالم الرئيسة والمبادئ التي يرتكز إليها المؤدب لأولاده وهي بلا شك مستمدة من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح، وقد كتب عمر أيضا إلى أستاذه صالح بن كيسان يأمره بتأديبهم، وكل هذا منه -رحمه الله تعالى- يدل على تمسكه بالكتاب والسنة وتربية أبنائه على حبهما، وحب السلف الصالح، ولم يكن اهتمامه بأولاده مقصورا على ناحية التربية والتعليم وإنما حرص على مراقبة كل تصرف من تصرفاتهم وقاسه بمقياس الإسلام، وقد ذكر ابن الجوزي، وابن عبد الحكم1، أمثلة كثيرة من هذه النوع، وقد أثرت هذه التربية السليمة المبنية على الكتاب والسنة، وآتت ثمارها حيث أصبح ابنه عبد الملك بن عمر مستشاره ومعينه على الحق وعلى اتباع السنة، ذكر ابن الجوزي عن بعض مشيخة أهل الشام أنهم كانوا يرون أن عمر بن عبد العزيز إنما أدخله في العبادة ما رآه من ابنه عبد الملك2، وكان عبد الملك هذا يقول لوالده: يا أبت أقم الحق ولو ساعة من نهار3.
1 انظر ابن عبد الحكم سيرة عمر ص110و129، وكذلك ص101، وابن الجوزي سيرة عمر ص316-339.
2 ابن الجوزي سيرة عمر ص317.
3 ابن الجوزي سيرة عمر ص320، وانظر كذلك ص322.
وقد توفي عبد الملك في حياة والده، وقد ذكر ابن الجوزي بقية أولاد عمر وأخبارهم بما فيه الكفاية، من 316-339، ويمكن لمن يريد الاستزادة الرجوع إليه.
المبحث الثاني: سيرته العلمية.
ويشتمل على:
أ - إمامته ورفعة مكانته في العلم.
ب- نشره العلم في الأمصار والبوادي.
ج- تدوينه العلم وتثبيته خشية اندراسه بموت حملته.
د - تلاميذه وشيوخه.
هـ - مروياته ونماذج من فقهه.
أ- إمامته ورفعة مكانته في العلم:
أما رفعة مكانته في العلم فقد اتفقت كلمة المترجمين له على أنه أحد أئمة زمانه المليء بأئمة التابعين، فقد أطلق عليه كلُّ من الإمامين: مالك، وسفيان بن عيينة - وهما هما- وصف "إمام": وقال فيه مجاهد - وحسبك به -: "أتيناه نُعلِّمه فما برحنا حتى تعلَّمنا منه"1.
وقال ميمون بن مِهْران - وهو ممن خبَر عمر بن عبد العزيز-: "ما كانت العلماء عند عمر إلا تلامذة". وقال فيه أيضاً: "كان عمر بن عبد العزيز معلِّمَ العلماء"2.
وذكر الحافظ ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" حِجاجَ عمر لبعض خوارج الجزيرة، وأخْذَه الغلبة عليهم، ثم قال فيه:"كان أحد الراسخين في العلم رحمه الله"3.
وقال الحافظ الذهبي: "كان إماماً فقيهاً مجتهداً، عارفاً بالسنن، كبيرَ الشأن، ثبتًا، حافظاً، قانتاً لله أوَّاهاً منيبا يُعَدُّ في حسن السيرة والقيام
1 أبو حفص الملاء 2/505-506، وابن عساكر تاريخ دمشق 45/147- 148، وابن حجر: تهذيب التهذيب 7/405.
2 أبو زرعة الدمشقي: تاريخ أبى زرعة ص255، وابن عساكر 45/148.
3 ابن عبد البر جامع بيان العلم وفضله 2/967، تحقيق أبي الأشبال الزهيري الطبعة الأولى عام 1414هـ دار ابن الجوزي الدمام.
بالقسط مع جده لأمه عمر، وفي الزهد مع الحسن البصري، وفي العلم مع الزهري، ولكن موته قرُب من موت شيوخه، فلم ينتشر علمه"1.
وكان طلبُه للعلم في مُقْتبل شبابه على شيوخ المدينة النبوية الزاخرة بالأئمة من عيون التابعين، فنهّل من علمهم وأدبهم. .
وكان الذي تولَّى تأديبه من رجالات المدينة النبوية هو صالحَ بن كيسان أحد الثقات الأجلَّة، فرأى صالحٌ من عمر كل خير، حتى قال فيه:"ما خبرت أحداً اللهُ أعظمُ في صدره من هذا الغلام". ورأى عمر من صالح كلَّ رعاية وتأديب رفيع، فاختاره فيما بعد مؤدّباً لأولاده2.وكان شيوخه في العلم والرواية مشاهيرَ علماء المدينة آنذاك، إلا أنه أكثر التَّردد والأخذَ عن أحد فقهائها السبعة الأعلام، وهو عبيد الله بن عبد الله بن عُتْبة بن مسعود، ولكثرة تردده إليه واستفادته منه، وصفه العجلي بقوله:"وهو معلِّمُ عمرَ بنِ عبد العزيز"3.
1 الذهبي: تذكرة الحفاظ ص118-119.
2 ابن حجر: تهذيب التهذيب 7/403.
3 المصدر السابق 7/22.
ولقد عبَّر عمر بن عبد العزيز عن إعجابه الكبير بمجلس عبيد الله - وكان أعمى- وكثرة فوائده المنثورة فيه فقال: "لمجلسُ من الأعمى: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحبُّ إليّ من ألف دينار"1.
ولمعرفة عمر بما عند عبيد الله من علم ورأي، كان يقول أيام خلافته:"لو كان عبيد الله حيًا ما صدرتُ إلا عن رأيه"2. ومن شيوخه أنس بن مالك وسمع منه، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن جعفر ابن أبي طالب، وعمر بن أبي سلمة المخزومي، والسائب بن يزيد.
وروى عن جماعة من التابعين منهم سعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله بن عمر، وابن شهاب وخلق سواهم3.
وأمدُ إقامة عمر في المدينة النبوية غير معلوم، إلا أنه من الواضح أنه كان أمداً مديداً، يسَّر لعمر بن عبد العزيز - إلى جانب ذكائه وحافظته - الاستفادة العظيمة من الأئمة الذين لقيهم، ولقد وصف حاله التي خرج
1 الإمام أحمد بن حنبل: العلل ومعرفة الرجال 2/126، وابن الجوزي سيرة عمر ص14، وأبو حفص الملاء 1/49.
2 ابن حجر: تهذيب التهذيب 7/23، وابن الجوزى: سيرة عمر ص24.
3 انظر أبو نعيم في الحلية 5/359، والذهبي: سير أعلام النبلاء 5/114-115، وابن حجر: تهذيب التهذيب 7/403.
عليها من المدينة بقوله: "خرجت من المدينة وما من رجل أعلم مني"1، مع أنه ترك فيها سعيد بن المسيب ونظراءه.
وبيّنة هذه الشهادات والأخبار قائمة في كتب العلم، فما من كتاب من كتب السنة، أو الفقه الاستدلالي إلا ويجد القارئ فيها ذكراً لعمر، من حديث، أو رأي، أو أمر، أو قضاء، ونحوها، وليسهل الأمر على المتتبع فلينظر من هذه الكتب الأبواب التي لها صلة بالخليفة والسلطان، كالزكوات، والصدقات، والمعاقل، والديات، والجهاد، والسّير، ونحوها فإنه واجد فيها الكثير الوفير.
بل لو رجعنا إلى الكتب الصغيرة لأئمة العلم الأقدمين لوجدنا فيها ذكر عمر بن عبد العزيز متكرراً، على سبيل الاحتجاج لرأيهم بقوله وفعله.
من ذلك رسالة الإمام الليث بن سعد إلى الإمام مالك بن أنس رضي الله عنهما، وهي رسالة قصيرة لا تتجاوز صفحاتهُا عددَ أصابع اليد، وفيها يحتج الليث - مراراً- لصحة قوله، بقول عمر بن عبد العزيز، على مالك فيما ذهب إليه في بعض مسائله2.
1 ابن كثير البداية والنهاية 5/195.
2 انظر الرسالة الفسوي: في المعرفة والتاريخ 1/687-695، ومنه نقل ابن القيم في إعلام الموقعين 3/94-100.
ويردُ ذِكر عمر بن عبد العزيز في كتب الفقه للمذاهب الأربعة المتبوعة، على سبيل الاحتجاج بمذهبه:
فيستدلُّ الحنفية بصنيعه في كثير من المسائل، حتى لقد جعلوا له وصفاً يتميَّز به عن جدّه لأمه: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأحيانا يُدرجون ذكره معه.
قال الحافظ القرشي رحمه الله في "الجواهر المضية": "فائدة: يقول أصحابنا في كتبهم في مسائل الخلاف: "وهو قول عمر الصغير" يريدون به عمر بن عبد العزيز الإمام الخليفة المشهور".
وقال الحافظ الزيلعي رحمه الله: "يوجد في بعض نسخ"الهداية": "وبذلك قضى العمران" فيحتمل أنه أراد أبا بكر، وعمر، ويؤيده التصريح بهما في النسخة الأخرى، ويحتمل أنه أراد عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، وكثيرا ما يفعل أصحابنا ذلك"1.
1 انظر الجواهر المضية 4/552، ط. مؤسسة الرسالة ط. الأولى عام 1408هـ تحقيق د/ عبد الفتاح محمد الحلو. ونصب الراية 5/969.
ويُكثر الشافعية من ذكره في كتبهم، ولذلك ترجم له الإمام النووي ترجمة حافلة في "تهذيب الأسماء واللغات". وقال في أولها:"تكرر في "المختصر" و"المهذب"
…
"1.
وأما المالكية فيكثرون من ذكره في كتبهم أكثر من غيرهم، ومالك إمام المذهب ذكر عمر بن عبد العزيز في "الموطأ" محتجاً بفتواه وقوله في مواضع عديدة في موطئه2.
وأما الحنابلة فكذلك، يذكرونه كثيراً، وعمر هو الذي قال فيه الإمام أحمد:"لا أدري قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز". وكفاه هذا3.
وكفانا قولُ الإمام أحمد أيضا: "إذا رأيتَ الرجل يحبُّ عمر بن عبد العزيز ويذكر محاسنه وينشرها فاعلم أن من وراء ذلك خيرا إن شاء الله"4.
1 النووي: تهذيب الأسماء واللغات 2/17-24. والمختصر، والمهذب، من كتب الشافعية المشهورة
2 انظر الموطأ الأرقام الآتية: 305، 592، 594، 614، 759، 850، 1107، 1170، 1383، 1429، 1432، 1568، 1578، 1582، 1650، 1665، 1866.
3 ابن كثير البداية والنهاية 5/214.
4 ابن الجوزي: سيرة عمر ص61.
وقبل الانتقال إلى الحديث عن الأمر الثاني، أودّ أن أعرض لإشكال والإجابة عنه.
قد يقول قائل: إذا كان عمر بن عبد العزيز بهذه المثابة في سعة العلم والإمامة فيه، ويُعْدَل بابن شهاب الزهري، فلم لمْ يشتهر بالعلم هذه الشهرة، ولم يُنقل عنه من العلم ما نُقل عن غيره من الأئمة: كالزهري، ومالك، وابن عيينة وأمثالهم؟!
والجواب عنه: أن العلم تحمُّل وأداء: والتحمُّل هو الأخذ والاستماع، والأداء هو التحديث والإسماع.
وقد يسّر الله تعالى لعمر بن عبد العزيز الجانبَ الأول من العلم، وهو تحملُه وتلقّيه له، ولم يتيسر له الجانب الثاني إلا قليلا. فلما بعث به أبوه إلى المدينة، توفّر على استماع العلم وتحمله، إلى أن خرج من المدينة النبوية ولم يترك فيها أحداً أعلم منه كما تقدم. ثم شغل بإمارة المدينة، ثم جُمع إليه معها إمارة مكة المكرمة، ثم ألقيت عليه الخلافة بثقلها وأعبائها، فلم يتفرغ لأداء ما تحمّل إلا قليلا.
وعذره في هذا عذر غيره من أئمة السلف
فأبو بكر الصديق رضي الله عنه: كان أطولَ الصحابة صحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم ملازمة له، ولم ينقل عنه من الرواية إلا القليل1، وعذره تعجُّل وفاته، وانهماكه في حروب الردة، وأمور الخلافة.
وهكذا كان عمر بن عبد العزيز: كثير التحمل قليل الأداء، ولولا ما شُغل به من أمور المسلمين لنُقل عنه من العلم ما نُقل عن أقرانه الأئمة يضاف إليه: انقضاء أجله في الأربعين من عمره. رحمه الله تعالى، والتنصيص على هذا العذر صريح في قول الحافظ الذهبي السابق: "
…
وفي العلم مع الزهري ولكن موته قرب من موت شيوخه، فلم ينتشر علمه".
ب- نشره العلم في الأمصار والبوادي
وأما نشره العلم في الأمصار والبوادي فذلك في إرساله العلماء إليها ليعلّموا أهلها شرع الله ويفقهوهم فيه.
قال الحافظ الذهبي رحمه الله في "تذكرة الحفاظ"، ترجمة نافع مولى ابن عمر: قال عبيد الله بن عمر: بعث عمر بن عبد العزيز نافعا إلى أهل مصر يعلمهم السنن"2.
1 ذكر له السيوطي في تاريخ الخلفاء ص87-94 أربعة أحاديث ومائة حديث، وطبع مسند أبي بكر الصديق للحافظ أبي بكر المروزي، بلغ ترقيم أحاديثه 142 حديثاً، وفيهما من المكرر الكثير.
2 الذهبي: تذكرة الحفاظ 1/100 وأبو زرعة الدمشقي: تاريخ أبي زرعة ص322، وابن حجر: تهذيب التهذيب 1/442.
وقال الحافظ ابن حجر في ترجمة بكر بن سوادة المصري: "أرسله عمر بن عبد العزيز إلى أهل أفريقية ليفقههم"1.
ومن الذين أرسلهم كذلك عبد الرحمن بن رافع التنوخي، قال الدباغ: كان أحد الفقهاء العشرة الذين أرسلهم عمر بن عبد العزيز ليفقهوا أهل أفريقيا2.
ومنهم عبد الله بن يزيد الحبلى، قال الدباغ: بعثه عمر بن عبد العزيز إلى أفريقية ليفقههم فبث فيهم علما كثيرا3.
ومنهم طلق بن جعبان "أوجابان" الفارسي، قال الدباغ: كان أحد النفر الذين بعث بهم عمر ابن عبد العزيز من فقهاء مصر إلى المغرب4.
ومنهم سعد بن مسعود التجيببي ذكره الدباغ وقال: سكن القيروان، وبث فيها علما كثيرا5.
1 ابن حجر: تهذيب التهذيب 6/155.
2 الدباغ: معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان 1/198وهو: عبد الرحمن بن محمد الأنصاري الأسيدي الدباغ. والكتاب من تصحيح وتعليق إبراهيم شبوح الطبعة الثانية عام 1388هـ مطبعة السنة المحمدية مصر.
3 الدباغ: معالم الإيمان ص180.
4 المصدر السابق 1/215.
5 المصدر السابق 1/184.
ومنهم إسماعيل بن عبيد الله الأنصاري ولاءً، سكن القيروان وانتفع به خلق كثير من أهلها وغيرهم1.
ومنهم كذلك إسماعيل بن عبيد الله بن المهاجر المخزومي أسلم عامة البربر على يديه، وكان حريصا على إسلامهم، وكان عمر بن عبد العزيز قد أرسله إليهم ليحكم بينهم ويفقههم في الدين2.
وعبد الله بن المغيرة بن أبي بردة الكناني كان قاضيا لعمر بن عبد العزيز في القيروان3.
ويحتمل أن من هؤلاء العشرة أبا سعيد جعثل بن عاهان بن عمير الرعيني ثم القتباني. قال الدباغ: وهو أحد العشرة التابعين4، وكذلك حبان بن أبي جبلة القرشي مولى بني عبد الدار. قال الدباغ: وهو أحد العشرة التابعين5.
ومن أخبار إرساله العلماء إلى البوادي من أجل نشر العلم وتعليم الناس السنة ما رواه أبو عبيد القاسم بن سلام، وابن عبد الحكم، وابن
1 المصدر السابق 1/192.
2 انظر المصدر السابق 1/203، وابن حجر: تهذيب التهذيب 1/286.
3 انظر الدباغ: معالم الإيمان 1/210.
4 الدباغ: معالم الإيمان 1/202.
5 المصدر السابق 1/209.
الجوزي، أن عمر بن عبد العزيز بعث يزيد بن أبي مالك الدمشقي، والحارث بن "يمجد" وقيل: ابن محمد الأشعري يفقهان الناس في البادية وأجرى عليهما رزقا، فأما يزيد فقبل، وأما الحارث فأبى أن يقبل وقال: ما كنت لآخذ على علم علمنيه الله أجرا، فكتب إلى عمر بن عبد العزيز بذلك، فكتب عمر: إنا لا نعلم بما صنع يزيد بأسا، وأكثر الله فينا مثل الحارث بن يمجد1.
وكان يُردفُ إرساله العلماء بكتب يُرسلها هو إلى الأمصار يعلّمهم فيها السنن والفقه، ويمكن الوقوف على كثير منها في كتابي ابن عبد الحكم، وابن الجوزي في سيرته فلا حاجة إلى الإطالة بذكر بعضها، إنما المفيدُ ذكر كلام الإمام مالك في بيان منهج عمر بن عبد العزيز في هذه الكتب (التعليمية) لعماله ورعيته.
روى ابن عبد البر في "التمهيد" عن ابن وهب قال: "سمعت مالكا يقول: كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يُعلمهم السنن والفقه، ويكتب إلى المدينة يسألهم عما مضى، وأن يعملوا بما عندهم
…
"2.
1 أبو عبيد: الأموال ص275- 276، تحقيق وتعليق محمد خليل الهراس ط. دار الكتب العلمية الطبعة الأولى عام 1416هـ.
وانظر ابن عبد الحكم سيرة عمر ص141، وابن الجوزي سيرة عمر ص74.
2 ابن عبد البر: التمهيد 1/80-81، تحقيق سعيد أعراب 1411هـ.
فكان رحمه الله يستمدُّ علمه - فوق ما اغترفه أول أمره - من معين المدينة النبوية، ويرسل بذلك إلى سائر أمصار الإسلام، فتكون كتبه بمثابة رُسُل توجِّه الرعية.
ومما زاد في نشره العلم أمران:
أ- فرْضُه العطاءَ والمرتبات لمن نصب نفسه للعلم وحبسها عليه، كي لا يهتمُّوا بدنياهم أو يشتغلوا بها عن هذه المهمة.
فروى أبو زرعة الدمشقي عن أبي بكر بن أبي مريم قال: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى والي حمص: "مُرْ لأهل الصلاح من بيت المال بما يُغْنيهم، لئلا يشغلهم شيء عن تلاوة القرآن وما حملوا من الأحاديث"1.
وذكر له ابن الجوزي كتابا آخر إلى والي حمص كذلك، قال له فيه:"انظر إلى القوم الذين نصبوا أنفسهم للفقه، وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا، فأعط كلَّ رجل منهم مائة دينار يستعينون بها على ما هم عليه، من بيت مال المسلمين حين يأتيك كتابي هذا، وإن خيرَ الخير أعجلُه، والسلام عليك"2.
1 تاريخ أبي زرعة ص326.
2 ابن الجوزي سيرة عمر ص95.
ب- حضُّه العلماء على "علنيَّة العلم" وأمره إياهم أن يتخذوا المساجد مراكز لتعليم الناس أمور دينهم، وكتب بذلك:"أما بعد: فأمُرْ أهلَ العلم أن ينشروا العلم في مساجدهم، فإن السنة كانت قد أميتت"1.
ج - تدوينه العلم وتثبيته خشية اندراسه بموت حملته:
أما تدوينه العلم وتثبيته فذلك في إرشاداته وأوامره الخاصة والعامة بتدوين السنة عامة، وروايات بعض الصحابة والتابعين خاصة.
فمن إرشاداته: قوله رحمه الله: "قيّدوا العلم بالكتاب"2، وهذا يدل على ذهابه إلى ما استقر عليه الأمر من جواز كتابة العلم.
ولم يقف الأمر منه عند حدِّ الإرشاد العام، إنما تعداه إلى الأوامر الخاصة والعامة: فروى البخاري في "صحيحه" كتاب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: "انظُر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خِفْتُ دروسَ العلم - أي اندراسه- وذهاب العلماء"3.
1 أسنده الرامهرمزي "المحدث الفاصل" ص603، وهو في ابن الجوزي سيرة عمر ص94.
2 ابن كثير البداية والنهاية 5/209، وأصله في الحلية لأبى نعيم 5/342، "أيها الناس قيدوا النعم بالشكر، وقيدوا العلم بالكتاب".
3 البخاري مع الفتح 1/194.
وروى الخطيب في "تقييد العلم" بسنده قال:"كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم: أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سنة ماضية، أو حديث عمرة بنت عبد الرحمن فاكتُبه، فإني قد خِفْتُ دروس العلم وذهاب أهله"1.
وكذلك وجَّه كتاباً إلى الإمام ابن شهاب الزهري – وغيره - بكتابة السنن.
فروى الحافظ ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" عن ابن شهاب قال: "أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن، فكتبناها دفتراً دفتراً، فبعث إلى كلّ أرض له عليه سلطانٌ دفتراً"2.
وروى الإمام أبو عبيد في "الأموال الشرعية وبيان جهاتها ومصارفها" أن عمر بن عبد العزيز أمر ابن شهاب أن يكتب مصارف الزكاة الثمانية، وكيف يكون تفريقها فيهم، فكتب له كتاباً مطوَّلاً ذكر أبو عبيد جزءا منه في كتابه الأموال3.
1 الخطيب البغدادي: تقييد العلم ص106.
2 ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 1/331.
3 أبو عبيد: الأموال ص573-574.
وروى الخطيب في "تقييد العلم" عن عبد الله بن دينار البَهْراني قال: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل المدينة: أن انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه، فإني قد خِفْتُ دروس العلم وذهاب أهله"1.
وأعم الروايات في هذا الصدد عن عمر بن عبد العزيز: رواية أبي نعيم في "تاريخ أصبهان":عن عبد الله بن دينار أيضا قال: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه واحفظوه، فإني أخاف دروس العلم وذهاب العلماء"2.
قال الحافظ ابن حجر رحمه في شرحه قول عمر بن عبد العزيز لأبي بكر بن حزم "انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه": "يُستفاد منه ابتداء تدوين الحديث النبوي، وكانوا قبل ذلك يعتمدون على الحفظ، فلما خاف عمر بن عبد العزيز - وكان على رأس المائة الأولى- من ذهاب العلم بموت العلماء، رأى أن في تدوينه ضبطاً له وإبقاء"3.
ويلاحظ قول الحافظ: "تدوين الحديث النبوي" و"أول من دوَّن الحديث" فهذا هو تاريخ تدوينه، أما مجرد كتابته فقد حصلت في عهد
1 الخطيب البغدادي تقييد العلم 106
2 أبو نعيم: أخبار أصبهان 1/312.
3 ابن حجر: تهذيب التهذيب 12/34.
النبي صلى الله عليه وسلم فمن بعده، فكان أحدُهم يكتب لنفسه مسموعاته ليُتْقن حفظها، ويرجع إليها عند الحاجة، ولا تتعدّى كتابتُه خاصة مروياته.
ومما تجدُر ملاحظته في تدوين عمر بن عبد العزيز للسنة عدة أمور:
1-
حُسْن اختياره لمن يقوم بهذه المهمة العظيمة، وسمت الروايات منهم الزهريَّ وأبا بكر ابن حزم.
أما الزهري: فإمام زمانه، ومرجع علماء عصره، وأشهر من أن يعرَّف.
وأما أبو بكر بن حزم: فهو الذي شهد له الإمام مالك بقوله: "لم يكن عندنا أحد بالمدينة عنده من علم القضاء ما كان عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم" كما في "التهذيب"1.
2-
أمره بتدوين أحاديث أناس مخصوصين لما امتازوا به وكذلك تدوين أحاديث خاصة لأهميتها.
وتقدم أن بعض المصادر روت أن عمر بن عبد العزيز طلب من ابن حزم تدوين حديث عمر، وحينئذ فيكون قد طلب منه تدوين مرويات عمر بن الخطاب، لما يقصده من تتبعه سيرته وأحواله وأقضيته، وقد روى
1 ابن حجر: تهذيب التهذيب 12/34.
أبو نعيم في الحلية وغيره خبراً طويلاً يطلب فيه عمر بن عبد العزيز من سالم بن عبد الله بن عمر أن يكتب إليه بسيرة جده عمر بن الخطاب رضي الله عنه 1.
3-
تنبيهه من يكتبُ له السنة ويدونها، أن يلتزم الثابت الصحيح منها، كما جاء هذا في رواية الإمام أحمد لهذا الخبر حيث قال: أكتب إلي من الحديث بما ثبت عندك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث عمرة 2، وهذا تنبيه مهم في حد ذاته، ويزداد أهمية حينما تلاحظ أن هذه هي أولى مراحلِ التدوين، فإذا لم يُرسم هذا المنهج، كانت المراحل اللاحقة أشدَّ اضطرابا وخللاً فيما تجمعه من السنة النبوية.
وبهذا يتبين أن عمر بن عبد العزيز انتقى الرجال القائمين بهذا العمل العظيم، فأحسن الانتقاء، ورسم لهم بعض النقاط المهمة جداً، فخصَّ أناساً يتبعون أحاديثهم، وخصَّ أحاديثَ معينة ذات أهمية خاصة بالنسبة له، وأن يكتبوا ما ثبت عندهم من الحديث الشريف فقط، ولا يكون همُّهم الجمع والإكثار.
1 انظر الآجري: أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز 71- 73، وأبو نعيم في الحلية 5/285 مع بعض الاختلاف في اللفظ.
2 أحمد بن حنبل: كتاب العلل ومعرفة الرجال 1/49، ط. المكتبة الإسلامية استانبول تركيا عام 1987م تحقيق الأستاذ الدكتور طلعت قوج، والأستاذ الدكتور إسماعيل أوغلي.
وهذا كله يدلُّ على بُعد نظره، ودقة تفكيره، وحسن توفيقه في العلم رحمه الله تعالى، وجزاه الله عن الإسلام والسنة النبوية عظيم الأجر ووافر الثواب1.
د- تلاميذه:
رأينا فيما سبق جهود عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى في خدمة السّنة ولا شك أنها تحمّل وأداء، وقد سبق أنه ممن تحمل العلم فأكثر ثم أشغل بالخلافة، ولم يتمكن من الأداء كغيره، ومع ذلك فقد كانت له تلامذة كثيرون لأنه رحمه الله تعالى كان جواداً بالخير، ولم يبخل بما عنده من علم اكتسبه على تلاميذه أو حتى على جلسائه وعامة رعيته. فروى عنه عدد كثير، وجم غفير، كما أثبتته المصادر من بينهم عدد من شيوخه في حين كتب إليه البعض يستفتونه فأجابهم2.
أما شيوخه الذين رووا عنه فهم:
1-
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، المدني، الزهري، أحد فقهاء المدينة (ت94هـ)3.
1 انظر مقدمة محمد عوامة في تحقيق مسند عمر بن عبد العزيز للباغندي من ص7- 24 بتصرف يسير.
2 ابن حجر: تهذيب التهذيب 7/403.
3 الذهبي: تذكرة الحفاظ 1/63، وابن حجر: تهذيب التهذيب 7/403.
2-
وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري الخزرجي، أعلم أهل زمانه بالقضاء (ت120هـ)1.
3-
ومحمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري القرشي المدني حافظ زمانه (ت124هـ)2.
-كما روى عنه جم غفير من علماء عصره من بينهم:
4-
أيوب بن أبي تميمة السختياني العنزي مولاهم الثقة الصدوق الثبت الحجة العدل (139هـ)3.
5-
وإبراهيم بن أبي عبلة شمر بن يقظان بن عبد الله المرتحل الشامي المقدسي الثقة الصدوق (ت152هـ) .
6-
وعمير بن هانئ العنسي الدارني الإمام التابعي الثقة (ت 127هـ)4.
7-
ويعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي المدني الثقة العالم الورع أحد علماء السيرة (ت128هـ)5.
1 ابن حجر: تهذيب التهذيب 12/35-36، والذهبي: تذكرة الحفاظ ص118، و108-113.
2 ابن أبى حاتم: الجرح والتعديل 8/71، والذهبي: تذكرة الحفاظ 1/118.
3 ابن حجر: تهذيب التهذيب 1/128-129، والذهبي: سير أعلام النبلاء 6/323- 325، وتذكرة الحفاظ ص118.
4 ابن أبى حاتم: الجرح والتعديل 6/378، وابن حجر: تهذيب التهذيب 8/128.
5 ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل9/211-212،وابن حجر: تهذيب التهذيب11/341.
8-
ومحمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير بن عبد العزى التيمى القرشي، المدني، الإمام، الحافظ، القدوة (ت130هـ)1.
9-
وحميد بن أبي حميد الطويل أبو عبيدة البصري مولى طلحة الطلحات الإمام، الحافظ، الثقة (143هـ)2.
10-
وعمرو بن مهاجر بن أبي مسلم واسمه دينار الأنصاري وهو مولى أسماء بنت زيد (ت139هـ)3.
11-
وعمرو بن ميمون بن مهران الجزري الرقي عامل عمر بن عبد العزيز على خراج الجزيرة كان ثقة صدوقا (145هـ)4.
12-
والنضر بن عربي أبو روح الباهلي مولاهم الجرزي الحراني، الإمام، الثقة، العالم، المحدث (ت168هـ)5.
1 ابن أبى حاتم: الجرح والتعديل 8/97-98، وابن حجر: تهذيب التهذيب 9/407-409.
2 ابن أبى حاتم: الجرح والتعديل 3/221، والذهبي: تذكرة الحفاظ 1/152.
3 ابن حجر: تهذيب التهذيب 8/90.
4 ابن حجر: تهذيب التهذيب 8/90-91.
5 المصدر السابق 10/396.
كما روى عنه أبناؤه الذين تقدم ذكرهم وزوجته فاطمة بنت عبد الملك بن مروان1.
وبما سبق ذكره يظهر جليا أن عمر قد أصبح في زمانه مهوى أفئدة طلاب العلم.
روى الحديث فأكثر ونظر في النصوص فاجتهد واستنبط فأخذ عنه الفقهاء، واعتبروا رأيه حجة.
هـ- مرويات عمر بن عبد العزيز
لعمر بن عبد العزيز رحمه الله مرويات كثيرة في مسائل متعددة فقد ذكر ابن الجوزي عددا من مروياته، وكذلك روى له أصحاب السنن، وأفرد له الحافظ أبو بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي مسندا يحوي واحدا وستين حديثا والكتاب مطبوع ومتداول ولله الحمد2.
ومن مروياته حديث أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة انصت -والإمام يخطب - فقد لغوت" رواه
1 انظر ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق مجلد 19 ورقة 247 ب، والذهبي: تذكرة الحفاظ 1/118، وابن حجر: تهذيب التهذيب 7/403، ط. دار الكتب العلمية ط. الأولى عام 1415هـ.
2 انظر الباغندي: مسند أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز طبعة مكتبة الدعوة الطبعة الأولى في 15/5/1397هـ تحقيق محمد عوامة.
مسلم1، وحديث:"سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} " رواه النسائي2.
وحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يقبلها وهو صائم" رواه مسلم3. وحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وقال: "ألا إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة، ومن أعطى شيئا فلا يأخذه" رواه مسلم4.
نماذج من فقهه وما أفتى به
لعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى فتاوى فقهية بحكم تضلعه من العلم، فقد كانت تعترضه مسائل فقهية يعمل فيها فكره، بالإضافة إلى استشارته العلماء من حوله وتلك المسائل كثيرة ونأخذ منها بعض الأمثلة التي تدل على مدى سعة علمه، فمنها:
1 صحيح مسلم بشرح النووي 2/453 رقم (851) .
2 سنن النسائي 1/161، ط. دار الفكر.
3 صحيح مسلم بشرح النووي 3/177، برقم (1106) .
4 صحيح مسلم بشرح النووي 3/535، رقم (1406) .
1-
نهيه عن الطلاء وهو النبيذ المسكر والمتخذ من غير العنب، قال ابن عون كان ابن سيرين إذا سئل عن الطلاء قال: نهى عنه إمام هدى يعني عمر بن عبد العزيز1.
2-
عظم الميتة نجس، فعن أم ولد عمر بن عبد العزيز قالت:"سألني عمر دهنا فأتيته به وبمشط من عظام الفيل، فرده، وقال: "هذه ميتة" قلت: وما جعله ميتة؟ قال: ويحك! من ذبح الفيل2.
3-
ليس في العسل زكاة، كتب عمر إلى ابن حزم ألا تأخذ من الخيل ولا من العسل صدقة"3.
4-
إسقاط الجزية عن الذمي إذا أسلم قبل استحقاقها، فعن عمر بن مهاجر، عن عمر بن عبد العزيز في الذي يسلم قبل السنة بيوم قال: لا تؤخذ منه الجزية"4.
1 أبو نعيم: الحلية 5/257،وابن الجوزي سيرة عمر ص74.
2 ابن سعد: الطبقات 5/401، وهذه مسألة خلافية قال الزهري في عظام الموتى من الفيل وغيره:"أدركت ناسا من سلف العلماء يمتشطون بها، ويدهنون فيها لا يرون به بأسا" انظر التفصيل في البخاري مع الفتح 1/342-343، وفقه السنة 1/24.
3 أبو عبيد: الأموال ص191.
4 ابن سعد: الطبقات 5/356.
وعن سويد بن حصين، عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب:"إذا أسلم والجزية في كفة الميزان فلا تؤخذ منه"1.
وهذه الأمثلة هي محل خلاف بين العلماء وقد رأينا من يستند فيها منعا وإباحة إلى ما قرره عمر بن عبد العزيز رحمه الله لوثوقهم به وبمعرفته لترجيح الروايات والجمع بين أقوال العلماء وهناك روايات كثيرة لم نذكرها هنا إذ الغرض الإشارة إلى فقه عمر.
1 المصدر السابق 5/356، وأبو عبيد: الأموال ص28.
المبحث الثالث في سيرته السياسية:
ويشتمل على الآتي:
أ- ولايته على خناصرة ثم المدينة
ب- تسلمه الخلافة.
جـ- تسخيره الولاية والخلافة لخدمة السنة والعقيدة الصحيحة.
أ- ولاية عمر بن عبد العزيز على خناصرة1.
من المعلوم أن التدرب على أي عمل من الأعمال مما يؤدي إلى إتقانه، والإلمام بجوانبه، ومعرفة دقائقه، وهذا ما وفق فيه عمر بن عبد العزيز فقد كان عبد الملك ابن مروان يحبه ويؤثره أحياناً على أولاده فبعد وفاة عبد العزيز بن مروان والد عمر ولَاّه2 عبد الملك بن مروان خناصرة تطييبا لخاطره ولما أراد الله له من التدرب على الأعمال القيادية منذ وقت مبكر من عمره. وقد قيل: إن سليمان بن عبد الملك هو الذي ولاه على خناصرة، لكن الراجح هو القول الأول لأن المؤرخين ذكروا أن عمر بن عبد العزيز كان يلازم سليمان بن عبد الملك ملازمة تامة قال سعيد بن عبد العزيز:"كانت خلافة سليمان بن عبد الملك كأنها خلافة عمر بن عبد العزيز كان إذا أراد شيئاً قال له ما تقول يا أبا حفص؟ " 3 ولم تشر المصادر التي اعتنت بترجمته وذكر أحواله تاريخ ولايته على خناصرة، ولا المدة التي مكث فيها ولعلها مدة قصيرة، حيث لم تحظ بعناية الذين أرخوا لعمر بن عبد العزيز وأرخوا لذلك العهد من صدر الدولة الأموية.
1 خناصرة: بليدة من أعمال حلب تحاذي قِنِّسرين نحو البادية. انظر معجم البلدان لياقوت الحموي 2/390، ط. ارصاد - ط. الثانية عام 1995م.
2 أبو نعيم الحلية 5/299، ط. دار الكتاب العربي ط. الرابعة عام 1405هـ.
3 المصدر السابق 5/301، وتاريخ أبي زرعة ص45.
ولايته على المدينة النبوية
لا يخفى أن كل وال من الولاة يحب أن يضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وهذا ما فعله الوليد بن عبد الملك حين ولى عمر بن عبد العزيز على المدينة النبوية، وولاية عمر بن عبد العزيز على المدينة من أهم أعماله قبل أن يلي الخلافة العظمى، ولأهمية الموقع الذي تمتاز به المدينة النبوية حيث كانت عاصمة الدولة الإسلامية أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الخلافة الراشدة فقد حرص عمر بن عبد العزيز أن يؤدي للمدينة ما تستحقه من قدسية وما يستحقها أهلها من معاملة طيبة وإيثار، وما يستحقه من أساء إلى أهلها من تأديب وهجران، وقد وُفِّق في ذلك، وسجل له أعمال فيها تذكر على مر الدهور والأزمان.
ذكر ابن سعد أن عمر بن عبد العزيز قدم واليا على المدينة في شهر ربيع الأول سنة سبع وثمانين للهجرة، وهو ابن خمس وعشرين سنة
…
1. ودخل دار جده مروان، ثم بعد ما صلى الظهر دعا عشرة من الفقهاء وهم كما روى ابن سعد في الطبقات قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: "لما قدم عمر بن عبد العزيز المدينة واليا عليها كتب حاجبه الناس، ثم دخلوا فسلموا عليه، فلما صلى الظهر دعا عشرة نفر من فقهاء البلد: عروة بن الزبير، وعبيد الله بن
1 ابن سعد: الطبقات 5/331.
عبد الله بن عتبة، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وأبا بكر بن سليمان بن أبي حيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وعبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه وتكونون فيه أعوانا على الحق، ما أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدا يتعدى أو بلغكم عن عامل لي ظلامة فأحرج بالله على أحد بلغه ذلك إلا بلغني. فجزوه خيرا، وافترقوا1.
وكان حريصا على تتبع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته وفي خطبه في المواسم. روى ابن سعد بسنده أن عمر بن عبد العزيز سأل أنس بن مالك رضي الله عنه عن خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال أنس: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل يوم التروية بيوم، وخطب بعرفة يوم عرفة، وخطب بمنى الغد من يوم النحر والغد من يوم النفر2. وكان عمر في صلاته حينما كان على المدينة يصلي الظهر فيطيل الأوليين منها ويخفف الآخرتين، ويخفف العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بوسط المفصل ويقرأ في الصبح بطوال المفصل حتى قال أنس بن مالك رضي الله عنه ما صليت وراء أحد أشبه
1 المصدر السابق 5/334.
2 المصدر نفسه 5/331- 332.
صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى -يعني عمر بن عبد العزيز-1. وكان عابداً تقياً يصوم الاثنين والخميس2،وكان أهم أعماله بالمدينة توسيع المسجد النبوي، وإدخال حجرة عائشة رضي الله عنها في المسجد بأمر الوليد بن عبد الملك، وقد حرص عمر رحمه الله تعالى أن يمنع العوام من اتخاذ قبر الرسول صلى الله عليه وسلم قبلة لهم في صلاتهم، فبنى الحجرة الشريفة بناء هندسيا محكما.
قال ابن أبي زيد القيرواني: "وعمر بن عبد العزيز هو الذي جعل مؤخر القبر محددا بركن، لئلا يستقبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي إليه، جعل ذلك حين انهدم جدار البيت فصار للبيت خمسة أركان"3.
وقال الحافظ ابن حجر: "
…
لما وسع المسجد جعلت حجرتها - يعني عائشة رضي الله عنها مثلثة الشكل محددة حتى لا يتأتى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر مع استقبال القبلة"4.
1 ابن سعد الطبقات 5/332.
2 المصدر نفسه 5/333.
3 ابن أبي زيد القيرواني: كتاب الجامع ص141، تحقيق محمد أبو الأجفان، وعثمان بطيخ ط. مؤسسة الرسالة ط. الثالثة عام 1406هـ.
4 البخاري مع الفتح 3/200، وانظر التعريف بما أنست الهجرة من معالم دار الهجرة لجمال الدين المطري ص87، تحقيق سعيد عبد الفتاح ط. الأولى عام 1417هـ الناشر نزار مصطفى الباز مكة المكرمة.
واتفق المؤرخون على أن نهاية مدة ولايته على المدينة كانت عام ثلاثة وتسعين1، وقد ذكروا لعزله عن المدينة روايتين.
أحدهما: أن الوليد بن عبد الملك كتب إلى عمر بأن يضرب خبيب بن عبد الله بن الزبير، ومن المهم إيراد نبذة يسيرة عن خبيب هذا، فهو خبيب بن عبد الله بن الزبير بن العوام، القرشي، الأسدي، المدني2، روى عن أبيه وكعب الأحبار، وعائشة أم المؤمنين، وروى عنه ابنه الزبير بن خبيب، وسليمان بن عطاء، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وكان من أهل العلم والنسك. قال الزبير بن بكار: كان خبيب قد لقي كعب الأحبار ولقي العلماء وقرأ الكتب وكان من النساك3.
قال الزبير: وأدركت من أصحابنا وغيرهم يذكرون أنه كان يعلم علما كثيراً لا يعرفون وجهه ولا مذهبه فيه، يشبه ما يدعى الناس من علم النجوم.
قال عمي مصعب بن عبد الله: وحدثت عن مولى لخالته أم هاشم بنت منظور يقال له: يعلى بن عقيبة. قال: كنت أمشي معه وهو يحدث نفسه إذ وقف، ثم قال: سأل قليلا فأعطي كثيرا وسأل كثيرا فأعطي قليلا،
1 الذهبي: سير أعلام النبلاء 5/117، وتاريخ خليفة بن خياط ص198.
2 المزي: تهذيب الكمال 8/223.
3 المصدر السابق 8/224.
فطعنه فأذراه فقتله ثم أقبل عليَّ فقال: قتل عمرو بن سعيد الساعة ثم مضى، فوجد ذلك اليوم الذي قتل فيه عمرو بن سعيد. وله أشباه هذا يذكرونها فالله أعلم ما هي. وكان مع ذلك عالما بقريش، وكان طويل الصلاة قليل الكلام1، قال ابن سعد في الطبقات: وكان خبيب عالما. فبلغ الوليد بن عبد الملك عنه أحاديث كرهها فكتب إلى عامله بالمدينة أن يضربه مائة سوط فضربه مائة سوط وصب عليه قربة من ماء بارد بيتت بالليل، فمكث أياما ثم مات2، والأحاديث التي كرهها الخليفة منها ما رواه خبيب، من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثون رجلا اتخذوا عباد الله خولا، ومال الله دولا"3.
ولا شك أنه حديث ضعيف، فبعد هذه الوقعة استعفى عمر من ولاية المدينة وامتنع من الولاية.
1 المصدر السابق 8/224.
2 ابن سعد: الطبقات الكبرى القسم المتمم لتابعي أهل المدينة تحقيق زياد محمد منصور ص107.
3 الحديث رواه البيهقي في دلائل النبوة 6/507، عن أبي سعيد، وأبي هريرة قال ابن كثير رحمه الله تعالى بعد ذكر طرق أخرى ورد بها هذا الحديث "وهذه الطرق كلها ضعيفة. انظر ابن كثير البداية والنهاية 4/279.
أما الرواية الثانية فهي تذكر أن عمر بن عبد العزيز كان يكره أعمال الحجاج، ويؤوي من يهرب إليه منه، فكتب الحجاج إلى الوليد يخبره بما يلقاه المخالفون له الذين يلجئون إلى عمر من إيوائه لهم، وعدم تمكين الحجاج من عقابهم، ومن هنا نجد أن الوليد بدأ يأمر عمر بأوامر يشدد عليه فيها، بقصد تجربته وطاعته، وحزمه في تنفيذ الأوامر فطلب إليه أولا أن يرسل بعثا من المدينة للجهاد فنفذ عمر هذا الطلب، ثم طلب إليه مرة أخرى أن يضرب خبيب بن عبد الله لروايته المتقدمة، ونفذ أيضا هذا الأمر ولكن يبدو أن الحجاج كان يتابع الأمر بدقة وإصرار على إزالة عمر عن المدينة فما كان من الوليد إلا أن طلبه أخيرا ليأتي إلى الشام فذهب عمر إلى الشام1.
وقد ندم عمر على ما صدر منه من ضرب خبيب، وأعتق ثلاثين عبداً، وتصدق بصدقة كثيرة، وفرق في آل خبيب مالا عظيما، وأسف على موت خبيب أسفاً منعه من العيش سبعين ليلة حتى أشفى 2 على التلف3.
1 انظر تاريخ الطبري 5/256، وابن الجوزي سيرة عمر ص44.
2 أشفى على الشيء اقترب منه انظر المعجم الوسيط ص488
3 انظر أبو حفص الملاء 1/102-103، وابن الجوز ي سيرة عمر ص44.
ب- توليه الخلافة
كان لتولية عمر بن عبد العزيز على بعض الأماكن في الشام مثل الولاية على خناصرة ثم الولاية على المدينة ومكة بمثابة مقدمات نافعة له لما يريده الله له من حمل الخلافة فقد جعلته هذه المقدمات السابقة متمرسا لحمل الخلافة العظمى، وحتى بعد تركه للولايات لم يكن بعيدا عنها حيث كان مع سليمان بن عبد الملك كالوزير1، فكان لا يصدر إلا عن رأيه ووجد عند سليمان بن عبد الملك ميل إلى العدل وحين حضره الوفاة أشار عليه رجاء بن حيوة2، بأن يستخلف عمر بعده فقبل ذلك لكنه رأى أنه لابد أن يجعل بعد عمر يزيد بن عبد الملك حتى لا تقع فتنة3.
1 انظر تاريخ أبي زرعة ص45.
2 رجاء بن حيوة الإمام أبو المقدام، وأبو نصر الكندي الشامي، شيخ أهل الشام وكبير الدولة الأموية كان رجلا فاضلا كثير العلم، وهو الذي أشار على سليمان ابن عبد الملك باستخلاف عمر بن عبد العزيز. مات سنة اثنتي عشرة ومائة وقد شاخ. انظر تذكرة الحفاظ للذهبي 1/118.
3 انظر ابن عبد الحكم سيرة عمر ص35، وابن الجوزي سيرة عمر ص64، وابن سعد في الطبقات 5/334- 335.
وقد تمت بيعة عمر يوم موت سليمان سنة 99هـ قيل في العاشر من شهر صفر وقيل في العشرين منه1. وقد خطب بعد ذلك وخير الناس في بيعته فكلهم2 عبروا عن فرحهم بذلك.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ويقال: إنه خطب الناس، فقال في خطبته: أيها الناس إن لي نفسا تواقة، لا تعطي شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أعلى منه، وإني لما أعطيت الخلافة تاقت نفسي إلى ما هو أعلى منها وهي الجنة فأعينوني عليها يرحمكم الله3.
وقد استبشر الناس بخلافته حتى إن بعض فرق الخوارج قالوا: ما ينبغي لنا أن نخرج على هذا الرجل المستقيم4.
وقد توسع ابن عبد الحكم وابن الجوزي وغيرهما في تفصيل كيفية تولي عمر الخلافة بإسهاب لا داعي هنا لذكره لأن الغرض هو بيان استخلافه وليس ذكر تفاصليها، وملابساتها5.
1 انظر ابن كثير البداية والنهاية 5/206.
2 انظر: الآجري: أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز وسيرته ص56.
3 ابن كثير البداية والنهاية 5/206.
4 ابن الجوزي سيرة عمر ص67.
5 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص33-35، وابن الجوزي سيرة عمر ص62-72، وابن سعد الطبقات 5/335- 340، وابن كثير البدابة والنهاية 5/203-205.
منزلة عمر بن عبد العزيز في خلافته
أجمع أهل السنة والجماعة سلفا وخلفا على أن الخلفاء الأربعة أبا بكر وعمر، وعثمان، وعليا رضي الله عنهم أجمعين هم الخلفاء الراشدون الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي
…
"1. وقوله صلى الله عليه وسلم: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة"2.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ستكون خلافة نبوة ورحمة ثم يكون ملك ورحمة، ثم يكون ملك وجبرية
…
"3.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "اعتمد الإمام أحمد وغيره في تقرير خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة على هذه الأدلة، واستدل بها كذلك على من توقف في خلافة علي من أجل افتراق الناس عليه، واشتد إنكاره على من توقف، حتى قال: من لم يربع بعلي في الخلافة فهو أضل من حمار
1 الحديث رواه أحمد في المسند 4/126، وأبو داود رقم 4635، 4/208. وقد صححه الألباني انظر ظلال الجنة في تخريج السنة ص29.
2 أحمد في المسند 5/220-221، والترمذي وقال:هذا حديث حسن، 5/436، وأبوداود4 /211
3 أحمد في المسند 3 /103 وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 5/188 – 189وقال رجاله ثقات وصححه الألباني في السنة لابن أبى عاصم ص 520
أهله، ونهى عن مناكحته، وهذا المروي عن الإمام أحمد متفق عليه بين الفقهاء، وعلماء السنة، وأهل المعرفة
…
" وهو مذهب العامة1.
وقال ابن عبد البر: الخلفاء الراشدون المهديون: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي وهم أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم 2.
وهذه النصوص المتقدمة تحصر الخلافة الراشدة في الأربعة الخلفاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن نجد أن بعض علماء السلف وغيرهم قد أطلقوا على عمر ابن عبد العزيز "الخليفة الراشد" أو خامس الخلفاء الراشدين، فروي عن سفيان الثوري أنه قال: الأئمة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز، وما سوى ذلك فهم منتزون"3.
وعن مجاهد قال: المهادي سبعة: مضى خمسة وبقي اثنان: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم 4.
وقال الشافعي: "الخلفاء خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم5.
1 انظر مجموع الفتاوى 35/18-19.
2 جامع بيان العلم 2/1168.
3 جامع بيان العلم وفضله 2/1173، وابن الجوزي سيرة عمر ص 74. ومنتزون: قال ابن فارس: نزو النون والزاي والحرف المعتل أصل صحيح يرجع إلى معنى واحد هو الوثبان والارتفاع والسمو معجم مقاييس اللغة ج 5 ص 418
4 ابن الجوزي سيرة عمر ص77.
5 آداب الشافعي ومناقبه لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ص189، ط. الثانية عام 1413هـ تحقيق عبد الغني عبد الخالق الناشر مكتبة الخانجي بالقاهرة.
وقال ابن كثير: وأجمع العلماء قاطبة على أنه من أئمة العدل، وأحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، وذكره غير واحد في الأئمة الاثني عشر الذين جاء فيهم الحديث الصحيح:"لا يزال أمر هذه الأمة مستقيما حتى يكون فيهم اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش"1، 2.
هذا بعض كلامهم والواقع أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إمام هدى، ولا يمكن أن يقارن بالصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لما تقدم من الأحاديث، ولعل منهج حكمه شبيه بمنهج الخلفاء الراشدين، ومن هذا الجانب أطلق الأئمة من السلف تشبيهه بالخلفاء الراشدين.
روي عن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه سئل عن عمر بن عبد العزيز هل هو من أهل الجنة فتوقف، وقال: عمر بن عبد العزيز إمام هدى، أو قال: رجل صالح3.
1 الحديث رواه مسلم 4/520- 522، برقم (1821) .
2 ابن كثير البداية والنهاية 5/224.
3 ابن رشد الجد: البيان والتحصيل 1/479.
وسئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن قول سفيان الثوري أئمة العدل خمسة، أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز فقال: هذا باطل - يعني ما ادعي على سفيان - ثم قال: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاربهم أحد1.
وقال الذهبي: كان عمر بن عبد العزيز إماما، فقيها، مجتهدا، عارفا بالسنن
…
يعد في حسن السيرة، والقيام بالقسط مع جده لأمه عمر
…
"2،
وقد يكون مستند من عدَّه مع الخلفاء الراشدين ما ذكره البيهقي في دلائل النبوة بسنده عن حبيب بن سالم3، عن النعمان بن بشير أن أبا ثعلبة سأله عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء، وكان حذيفة بن اليمان قاعدا معهم، فقال حذيفة أنا أحفظ خطبته، فجلس أبو ثعلبة، فقال حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنكم في النبوة تكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء، ثم تكون جبرية تكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. قال: فقدم عمر - يعني
1 الخلال: في السنة 2/436.
2 انظر: الذهبي تذكرة الحفاظ 1/118-119.
3 حبيب بن سالم مولى النعمان بن بشير وكاتبه لا بأس به. تقريب التهذيب ص151.
عمر بن عبد العزيز - ومعه يزيد بن النعمان فكتبت إليه أذكره الحديث، وكتبت إليه: إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين بعد الجبرية، قال: فأخذ يزيد الكتاب فأدخله على عمر فسُرَّ به وأعجبه1.
أو لعل العلماء الذين عدوه مع الخلفاء الراشدين إنما يقصدون أنه خليفة راشد في حسن السيرة والقيام بالعدل، كما ذكر ذلك الذهبي في كلامه المتقدم. ومن المعلوم أن الصحابة لا يمكن أن يقاربهم أحد، من غيرهم فضلا عن أن يعَدَّ منهم.
روى أبو بكر الخلال بسنده إلى الإمام أحمد أنه سئل: من أفضل، معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ قال: من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خير الناس قرني"2،3.
1 دلائل النبوة وأحوال صاحب الشريعة لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي 6/491، تحقيق عبد المعطي قلعجي ط. دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط. الأولى عام 1405هـ.
2 البخاري مع الفتح 7/3، حديث رقم 3649.
3 الخلال: في السنة 1/434-435 تحقيق الدكتور عطية الزهراني ط. دار الراية ط. الثانية عام 1994م 1415هـ.
وروى بسنده أن الأعمش ذُكِرَ له عمر بن عبد العزيز وعدله فقال الأعمش: فكيف لو أدركتم معاوية؟! قالوا: يا أبا محمد يعني في حلمه؟ قال: لا والله، بل في عدله1.
ولا شك أن الخلفاء الراشدين هم أفضل الصحابة ولا يمكن أن يلحق شأوهم في العدل في الحكم والإصابة فيه من جاء بعدهم، مهما بلغ من العدل، فالصحيح أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى "قد جاء إلى أمر مظلم فأناره، وإلى سنن قد أميتت فأحياها، ولم يخف في الله لومة لائم، ولا خاف في الله أحدا، فأحيا سننا قد أميتت وشرع شرائع قد درست رحمه الله تعالى"2.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في عمر بن عبد العزيز إنه: "قد أحيا السنة وأمات البدعة، ونشر العدل، وقمع الظلمة من أهل بيته وغيرهم، ورد المظالم التي كان الحجاج بن يوسف وغيره ظلموها للمسلمين، وقمع أهل البدع كالذين كانوا يسبون عليا، وكالخوارج الذين كانوا يكفرون عليا، وعثمان، ومن والاهما،
1 المصدر السابق 1/437.
2 انظر المصدر السابق 1/88.
وكالقدرية مثل غيلان القدري وغيره، وكالشيعة الذين كانوا يثيرون الفتنة بعلمه ودينه وعدله"1.
ج- تسخيره الولاية والخلافة لخدمة السنة والعقيدة الصحيحة
قد سبق أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى تولى إمارة المدينة عدة سنوات ثم أتته الخلافة، وقد وظف هذه الولاية والخلافة لخدمة السنة أحسن توظيف، ففي اليوم الأول من ولايته على المدينة كوَّن عشرة من العلماء الأبرار يحيطون به، وحدد لهم مهام مجلسهم قائلا "ما أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم" 2، أما حين تولى الخلافة فقد كتب إلى عماله رسائل طويلة تتجلى فيها روح الدعوة إلى العقيدة الصحيحة، والتمسك بالسنة في أسلوب الترغيب والترهيب، كما بين بغيته في الخلافة ومنهجه فيها فقال:
"سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله، ليس لأحدٍ تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصربها فهو منصور،
1 سؤال في يزيد بن معاوية ص14، لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد.
2 ابن سعد الطبقات 5/334.
ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولَاّه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا" 1.
فعمر كما اتضح من هذا الأثر سيأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها وسنن خلفائه الراشدين المهديين من بعده، ويوضح كيفية اتباع السنة في خطبه، فيخطب قائلا: "أيها الناس إنه ليس بعد نبيكم نبي وليس بعد الكتاب الذي أنزل عليكم كتاب، فما أحل الله على لسان نبيه فهو حلال إلى يوم القيامة، وما حرم على لسان نبيه فهو حرام إلى يوم القيامة، ألا وإني لست بقاض، وإنما أنا منفذ لله، ولست بمبتدع ولكني متبع
…
"2.
فهو متبع حريص على الاتباع، ولكن سنة من؟ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده، وهذا هو الميزان الحقيقي لاتباع الكتاب والسنة.
ولا شك أن المقصود بالولاية والخلافة إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم3، ولذا بين في خطبه أنه متبع وليس مبتدعا، متبع للكتاب المنزل المحكم على الرسول صلى الله عليه وسلم الذي نسخت شريعته كل الشرائع، فما أحل الله في هذه الشريعة فهو
1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص40.
2 المصدر السابق ص40.
3 انظر مجموع الفتاوى 28/262.
حلال إلى يوم القيامة، وما حرم في هذه الشريعة فهو حرام إلى يوم الدين، ولم يكتف عمر بهذه الخطب البليغة وإنما عقّب ذلك برسائل جامعة يبين فيها تمسكه بالسنة، وحث عماله عليها.
قال ابن عبد الحكم: ولما ولى عمر بن عبد العزيز كتب: أما بعد: "فإني أوصيكم بتقوى لله ولزوم كتابه والاقتداء بسنة نبيه وهديه، فإن الله قد بين ما تأتون، وما تتقون، وأعذر إليكم في الوصية، وأخذ عليكم الحجة حين أنزل عليكم كتابه الحفيظ الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 1، قال:{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} 2، وقال:{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 3، فأقيموا فرائضه، واتبعوا سننه، واعملوا بمحكمه، واصبروا أنفسكم عليه، وآمنوا بمتشابهه، فإن الله علمكم ما علمكم، وأولكم يومئذ أقل الناس شوكة، وأوهنه قوة، وأشده فرقة، وأحقره عند من سواهم من الناس مَحْقِرةً، ليس لهم من الله حظ في الهدى
1 الآية 42، من سورة فصلت.
2 الآية 105 من سورة الإسراء.
3 الآية 52 من سورة الأعراف.
يرجعون به إليه، مع أن الدنيا ومواضع أموالها وعددها وجماعتها ونكايتها في غيرهم، حتى أراد الله إكرامهم بكتابه ونبيه بعث إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله بالحق بشيراً، يبشر بالخير الذي لا خير مثله، وينذر الشر الذي لا شر مثله وأخَّره الله لذلك في القرون وسماه على لسان من شاء من أنبيائه الذين سبقوا، وأخذ عليهم ميثاق جماعتهم قال:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 1، فأخر الله ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم حين بعثه رحمة للعالمين {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} 2، وأحكم الله في كتابه ما رضي من الأمور، فما جعل من ذلك حلالاً فهو حلال إلى يوم القيامة وما جعل من ذلك حراماً فهو حرامٌ إلى يوم القيامة. وعلمه سنته ففهمها وعمل بها بين ظَهْرَي أمته، فصلى الصلوات لوقتها كما أمره الله، وعلم مواقيتها التي وقتها الله له فإنه قال: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ
1 الآية 81، من سورة آل عمران.
2 الآية 46 من سورة الأحزاب.
اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} 1، ودلوك الشمس ميلها بعد نصف النهار، فلما نعت الله في هذه الآية وقت صلاة الظهر والعصر، والمغرب، ثم قال في آية أخرى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} 2، وصلاة العشاء صلاة العتمة، فهذه الصلوات قد جمعها القرآن وبينها محمد صلى الله عليه وسلم، ثم فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة على أمر الله في العين والحرث، والماشية وبين مواضع ذلك فقال:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 3، حتى استقامت سنتها في الأخذ حين تؤخذ، وفي القسمة حين تقسم، فعمل بها المسلمون في جزيرة العرب، حتى علموها أو كلّ ذي عقل منهم.
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه غير مرة، وأغزى الجيوش والسرايا، يقسم إذا كان حاضراً، ويأمر من تولىَّ أمر جيوشه وسراياه بالذي أمر الله به من
1 الآية 78 من سورة الإسراء.
2 الآية 58 من سورة النور.
3 الآية 60 من سورة التوبة.
قسم ما أفاء الله عليه وعليهم، فإن الله تبارك وتعالى قال:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1، ثم أمره الله في الحج بما أمره فقال:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 2، ثم أفاء الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أموال قرى لم يوجَف عليها خيل ولا ركاب، فقال فيها لتكون سنة فيما يفتح الله من القرى بعدها:{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3، وقال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى
1 الآية 41 من سورة الأنفال.
2 الآيات 27-28- 29 من سورة الحج.
3 الآية 6 من سورة الحشر.
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 1، ثم سمى في هؤلاء الآيات الذي للمسلمين فليس لأحد منهم قسم إلا وهو في هذه الآيات فقال:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 2، وأهل هذه الآية من خرج من بلاده مهاجرا إلى المدينة وليس فيهم الأنصار ثم قال:{وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 3، وأهل هذه الآية من كان بالمدينة من الأنصار، فإن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت إليهم ثم قال في الآية الثالثة وهي التي جمعت حظ
1 الآية رقم 7 من سورة الحشر.
2 الآية رقم 8 من سورة الحشر.
3 الآية 7و8 من سورة الحشر.
من بقي من المسلمين بعد هذين الصنفين الأوَّلين في الإسلام وقسم المال {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1، فهم جماعة من بقي من أهل الإسلام ومن هو داخل فيه بعد الهجرة الأولى حتى تنقضي الدنيا، ففي الذي علمكم الله من كتابه، والذي سن رسول الله صلى الله عليه وسلم من السنن التي لم تدع شيئاً من دينكم ولا دنياكم نعمة عظيمة وحق واجب في شكر الله، كما هداكم وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون. فليس لأحدٍ في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ولا رأي إلا إنفاذه، والمجاهدة عليه. وأما ما حدث من الأمور التي تبتلى الأئمة بها مما لم يحكمه القرآن ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإن والي أمر المسلمين وإمام عامتهم، لا يُقَّدم فيها بين يديه، ولا يُقضى فيها دونه، وعلى من دونه رفعُ ذلك إليه، والتسليم لما قضى.
وقد أحببت في كتابي هذا أن تعرفوا الحال التي كنتم عليها قبل نزول كتاب الله وسنة نبيه من الضلالة، والعمى، وضَنك المعيشة، والذي أبدلكم الله من الكرامة والنصر والعافية، والجماعة، وسلب لكم مما كان في يد غيركم مما لم تكونوا لتسلبوه بقوتكم لو وكلكم إلى أنفسكم، كان
1 الآية 9و 10 من سورة الحشر.
قد شرط ذلك للمؤمنين، وأعطاهم إياه إذ شرط عليهم شرطه، فقد وفاكم الله ما شرط لكم وهو آخذكم بما اشترط عليكم. قال:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 1، فقد أنجز الله لكم وعده فأنجزوا دين الله في رقابكم أن يكفر كافر بنعمة الله، أو ينسى بلاءه، فيجده على الله هيناً ويطول خلوده فيما لا طاقة له به.
ثم إني أحببت أن يعلم من كان جاهلاً من أمري والذي أنا عليه مما لم أكن أريد به المنطق في يومي هذا، حتى رأيت أن المنطق ببعضه هو أقرب إلى الصلاح في عاجل الأمر وآجله للذي قد أفضى إلي من هذا الأمر وأنا أعلم من كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما سلف عليه أمر الأئمة بين يدي علما من الله علَّمنيه من لم يكن له شغل عنه، وقد كان شغلي والذي كتب الله أن ابتلى به عاملا منه بما عملت، أو قاصرا منه على ما قصرت، فما كان من خير عَلِمْته فبتعليم الله ودلالته، وإلى الله أرغب في بركته، وما كان عندي من غير ذلك من داء الذنوب، فأسأل الله العظيم تجاوزه
1 الآية 55 من سورة النور.
عني بمغفرته. فلعمري ما ازددت علماً بالولاية إلا ازددت لها مخافة، ومنها وجلاً، ولها إعظاما حتى قدر الله لي منها وقدر عليَّ ما قدر، فأنا أشد ما كنت لها استثقالا. ثم أحسن الله حميد أعواني، وعاقبتي، وعاقبة من ولاني أمره، فأصلح أمرهم، وجمع كلمتهم، وبسط علي من نعمه وعليهم ما لم يكن دعائي ولا دعاؤهم ليبلغه، عند الله به ثوابي، وعنده به جزائي من صلاح عامتهم، وأداء حقوقهم إليهم، والعفو عن ذي الذنب منهم.
وقد أعطاني من ذلك وله الحمد في عاجل الدنيا، وجماعة من الشمل وصلاح ذات البين، وسعةٍ في الرزق، ونصر على الأعداء، وكفاية حسنة، حتى أغنى لأهل كل ذي جانب من المسلمين جانبهم، ووسَّع عليهم الرزق. ولا يرى أهل كل ناحية إلا أنهم أفضل قسماً مما بسط الله لهم من رزقه ونعمه من أهل الناحية الأخرى. فإن تعرفوا نعمة الله عليكم، وتشكروا فضله فأحرص بي على ذلك. وأحبب به إلي. قد يعلم الله كيف دعائي بذلك وكيف حرصي عليه، علانية، وإن يجهل ذلك جاهل أو يقصر عنه رأيه، فإن الذي حرصت عليه أن أحملكم عليه من كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم هو حجتي في الدنيا، وبغيتي فيما بعد الموت، ولا تلبسوا ذلك بغيره. وإياكم أن يتشبه في أنفسكم ما حملتكم عليه من كتاب الله وسنة نبيه. وأما ما سوى ذلك من الأمور التي من رأي الناس فإني - لعمري - لولا أن أعمل فيكم ما وليت أمركم، وإن تعملوا به ما نفست الذي أنا فيه من الدنيا علي، أبغض الناس إلي رجل واحد إذا
حجزه الله على ديني أن يفتنني1،ولا كنت أرى المنزل الذي أتى به لمن عسى أن يعمل بغير كتاب الله وسنة نبيه غبطة ولا كرامة، ولا رفعة، ولا الدنيا وما فيها، فمن كان سائلاً عن الذي في نفسي، وعن بغيتي في أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الذي في نفسي وبغيتي منه والحمد لله رب العالمين أن تتبعوا كتاب الله وسنة نبيه، وأن تجتنبوا ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيد، ومن عمل بغيرهما فلا كرامة ولا رفعة له في الدنيا والأخرى، وليعلم من عسى أن يُذكر له ذلك أن لعمري أن تموت نفسي أول نفس أحبُّ إلي من أن أحملهم على غير اتباع كتاب ربهم وسنة نبيهم التي عاش عليهما من عاش، وتوفاه الله عليها حين توفاه، إلا أن يأتي علي من ذلك أمر وأنا حريص على اتباعه، وإن أهون الناس علي تلفاً وحزناً لمن عسى أن يريد خلاف شيء من تلك السنة، وذلك الأمر الذي رفعنا ونحن بمنزلة الوضيعة، وأكرمنا ونحن بمنزلة الهوان، وأعزنا ونحن بمنزلة الذل، معاذ الله من أن نستبدل بذلك غيره، ومعاذ الله من أن نتقي أحداً، فإذا تكلمتم في مجالسكم، أو ناجى الرجل أخاه، فليذكر هذا الأمر الذي حضضتكم عليه من إحياء كتاب الله وسنة نبيه، وترك ما خالف ذلك، فإنه ليس بعد الحق إلا الباطل، ولا بعد البصر إلا العمى، وليحذر قوم الضلالة بعد الهدى،
1 قال محقق كتاب سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم لما جاء ذكر هذه العبارة: "هذه الجملة والتي قبلها مضطربتان في النسختين، وما اهتديت إلى وجه الصواب فيهما، وربما كان بعض الكلمات قد سقط من الأصل". ص84 حاشية رقم 8.
والعمى بعد البصر، فإنه قال لقوم صالح:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 1، اتبعوا ما تؤمرون به، واجتنبوا ما تنهون عنه، ولا يعرِّض أحدكم بنفسه، فإنه ليس لي في دنياكم والحمد لله رغبة، لا في ما في يديَّ منها، ولا ما في أيديكم، وليس عندي مع ذلك صبر على انتقاص شيء من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا استبقاء لمن خالف، والحمد لله ولا نعمة عين، ولعمري إن من يعمل ذلك منكم لحقيق أن يظن بامرئ لا حاجة له في دنياكم، ولا صبر له على زيغكم عن دينكم، ولجاجتِكم فيما لا خير لكم فيه أنه جرأ على هراقة دم من انتقص كتاب الله، أو زاغ عن دينه، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا نحو من الذي قبلي، قد بينته لكم، ولعمري لتخلصن جماعتكم أيها الجند وخياركم مما يكره من الأمور، ولتتبعن أحسن ما توعظون به إن شاء الله. أسأل الله برحمته وسعة فضله، أن يزيد المهتدي هدى، وأن يراجع بالمسيء التوبة في عافية منه، وأن يحكم على من أراد خلاف كتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام بحكم يغلب به في خاصته، ويعجله له، فإنه على ذلك
1 الآية 17 من سورة فصلت.
قادر، وأنا إليه فيه راغب، ويحسن عاقبة العامة، ولا يعذبنا بذنب المسيء، والسلام عليكم ورحمة الله"1.
هذا فيما يخص رعيته يبين لهم شدة تمسكه بالسنة وحضه إياهم على التمسك بها وحملهم على اتباع ما فيها، ونهيهم عن اتباع ما خالفها، وهذه الرسالة من عمر إلى العمال بعد توليه الخلافة تعتبر بمثابة خطة يرسمها لعماله مبينا لهم المعالم الرئيسة التي تحدد علاقته بهم وهي اتباع الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح، وقد بين في هذه الرسالة تمسكه بالعقيدة الصحيحة الصافية، حيث أوصى رعيته بلزوم الكتاب والاقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، وقد حدد لهم ما في نفسه وبغيته وهو أن يتبعوا كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأن يجتنبوا ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيد.
وقد وضع نصب عينيه كتاب الله - وهو الخليفة العالم - فأحل حلاله وحرم حرامه، ونفذ أوامره، واجتنب نواهيه، وزواجره، واتخذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم منار هداية ونور إرشاد إلى بيان آيات الكتاب.
وقد كان يكتب إلى عماله ويأمرهم بالأخذ بالسنة في الأحكام، ويقول:"إن لم تصلحهم السنة فلا أصلحهم الله"2، فروى أبو الحسن محمد
1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص65-72، وأبو حفص الملَاّء 1/284- 290 باختلاف ألفاظ.
2 ابن كثير البداية والنهاية 5/232.
ابن الفيض الغساني قال: حدثنا إبراهيم، قال: حدثني أبي، عن جدي قال: لما ولَاّني عمر بن عبد العزيز الموصل، قدمتها، فوجدتها من أكثر البلاد سرقا ونقبا، فكتبت إلى عمر أعلمه حال البلاد، وأسأله أن آخذ الناس بالظنة وأضربهم على التهمة، أم آخذهم بالبينة وما جرت عليه السنة؟ فكتب إلىَّ أن آخذ الناس بالبينة، وما جرت عليه السنة، فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله.
قال يحيى: ففعلت ذلك، فما خرجت من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد، وأقلها سرقا ونقبا1.
وكان - رحمه الله تعالى - يرجح التحقيق العادل المبني على السنة على التحقيق الصارم الذي ابتدعه الولاة عند تغير الناس. فقد كتب إليه عامله عدي بن أرطأة يستأذنه في تعذيب من اقتطعوا من مال الله، فقال:"من عدي بن أرطأة أما بعد: أصلح الله أمير المؤمنين، فإن قبلي أناسا من العمال قد اقتطعوا من مال الله عز وجل مالا عظيما، لست أرجو استخراجه من أيديهم إلا أن أمسهم بشيء من العذاب، فإن رأى أمير المؤمنين- أصلحه الله - أن يأذن لي في ذلك أفعل".
1 كتاب: أخبار وحكايات لأبي الفيض الغساني ص31، تحقيق إبراهيم صالح ط. دار البشائر ط. الأولى عام 1994م، وابن الجوزي سيرة عمر بن عبد العزيز ص121-122.
قال: فأجابه:
"أما بعد: فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب بشر كأني لك جنة من عذاب الله، وكان رضائي عنك ينجيك من سخط الله عز وجل.
فانظر من قامت عليه بينة عدول، فخذه بما قامت عليه به البينة، ومن أقر لك بشيء فخذه بما أقر به. وأيم الله لأن يلقوا الله عز وجل بخياناتهم أحب إلي من أن ألقى الله بدمائهم والسلام"1.
وكان رحمه الله تعالى يستشير أهل السنة في شؤون الدين والدنيا ويأمر عماله أن ينشروا العلم فكتب إليهم: "أما بعد: فأمر أهل العلم أن ينشروه في مساجدهم، فإن السنة كانت قد أميت2.
وأحب أن يكون عماله من أهل الصلاح والقرآن فكتب إلى عماله:
"إياكم أن تستعملوا على شيء من أعمالنا إلا أهل القرآن. فكتبوا إليه يا أمير المؤمنين، إنا استعملنا أهل القرآن فوجدناهم خونة، فكتب لهم: إياكم أن يبلغني عنكم أنكم استعملتم على شيء من أعمالنا إلا أهل
1 ابن الجوزي سيرة عمر ص105- 106، وابن عبد الحكم سيرة عمر ص73.
2 المصدر السابق ص117.
القرآن، فإنه إن لم يكن عند أهل القرآن خير فغيرهم أحرى بأن لا يكون عندهم خير1.
وكان يتجنب الإصلاح بالظلم، فروى ابن عبد الحكم أن عمر قال:"من لم يصلحه إلا الغشم فلا يصلح، والله لا أصلح الناس لهلاك ديني"2.
وكان يستشير الحسن البصري في كل ما يشكل عليه فروى أبو عبيد القاسم بن سلام أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الحسن يسأله: ما بال من مضى من الأئمة قبلنا أقروا المجوس على نكاح الأمهات والبنات؟ - وذكر أشياء من أمرهم قد سماها - قال: فكتب إليه الحسن: "أما بعد: فإنما أنت متبع ولست بمبتدع. والسلام"3.
وقد كتب إلى الحسن يسأله عن صفات الإمام العادل فأجابه الحسن ببيان صفات الإمام العادل في رسالة بليغة4.
كما كان يستشير الزهري في أموره كلها ومنها أمره للزهري بتدوين السنة كما تقدم، وأمره أن يكتب له مواضع الصدقة5.
1 المصدر السابق ص124 يعني ابن الجوزي.
2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص124.
3 الأموال لأبي عبيد ص41.
4 انظر الرسالة في العقد الفريد لابن عبد ربه 1/50-52، ط. دار الكتاب العربي تحقيق أحمد أمين وإبراهيم الأبياري وعبد السلام هارون.
5 أبو عبيد: الأموال ص573.
ومن الجدير ذكره أنه قد كتب إلى عامله بالمدينة أن اكتب إليَّ بما ثبت عندك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث عمرة1.
وكتب إلى سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب يطلب منه أن يكتب إليه بسيرة عمر بن الخطاب، وقضائه في أهل القبلة وأهل العهد2.
وكان عمر رحمه الله تعالى ينتقى من يأخذ عنه السنة فروى الفسوي قال: حدثنا بندار عن عبد الرحمن "ابن مهدي" عن شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن، قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: اكتب لي حديث عمرة، وكان عمر بن عبد العزيز يسألها3. وذلك لاختصاص عمرة بأحاديث عائشة رضي الله عنها واختصاص عائشة رضي الله عنها بمعرفة أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن اجتهاده رحمه الله تعالى لرفع السنة وأهلها، وقمع البدع، ومن يروجها مناظراته مع غيلان الدمشقي4الضال الذي كان ينكر القدر ويقول بأن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد إلا بعد عملهم إياها، وقد اهتم
1 أحمد بن حنبل: العلل 1/78.وعمرة هي عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية أكثرت عن عائشة رضى الله عنها ثقة ماتت قبل المائة وقيل بعدها انظر تقريب التهذيب ص750.
2 الآجري: أخبار أبي حفص ص70.
3 الفسوي: المعرفة والتاريخ 2/108، ومحمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة.
4 انظر ترجمة غيلان في مبحث الرد على القدرية من هذا البحث.
ببيان أمر القدر وبيان أركانه، كما بين لعماله أهمية اتباع السنة في هذا الباب، ورد على الذين كتبوا إليه برد علم الله السابق برسالة بليغة وستأتي في الآثار، وكان يستشير العلماء في أمر القدرية ويكتب إلى عماله بحبسهم وضربهم، وقطع ألسنتهم، وقد تبع السنة في معاملة الخوارج حيث كتب إليهم كما كان يفعل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم ناظرهم وحاربهم، وحين غلب عليهم لم يغنم أموالهم، ولم يقتل جريحهم، وأسيرهم، ومن استعماله الولاية والخلافة في خدمة السنة ما كتبه إلى عماله في النهى عن المنكر والأمر بالمعروف، وكتابه إليهم في اتباع أوامر القرآن وطاعة الله ودعوة الناس إلى الإسلام وبيان مواضع الخمس، والصدقات، والنهي عن الطلاء، وتوحيد المكاييل والموازين، وبيان حكم العشور، والخراج، والجزية، وتحريم المكس، كما كتب إليهم مبينا لهم كيفية العدالة في الحكم، وكيفية تأديب الجاهل، وأمرهم بأن لا يتأثروا بمن حولهم من السفهاء إذا طبقوا السنة، فكان عمر رحمه الله تعالى القدوة في كل ما أمر به. لأنه كان عالما برعيته، عادلاً في قضيته، عاريا من الكبر، متحريا للصواب، رفيقا بالضعيف، غير محاب للقريب ولا جاف للغريب.
قال ابن عبد الحكم: كتب عمر بن عبد العزيز إلى العمال: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العمال: أما بعد: فإن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 1. وإن دين الله الذي بعث به محمدا صلى الله عليه وسلم كتابه الذي أنزل عليه أن يطاع الله فيه، ويتبع أمره ويجتنب ما نهى عنه، وتقام حدوده، ويعمل بفرائضه. ويحل حلاله ويحرم حرامه، ويعترف بحقه ويحكم بما أنزل فيه، فمن اتبع هدى الله اهتدى ومن صد عنه {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} 2.
وإن من طاعة الله التي أنزل في كتابه: أن يدعو الناس إلى الإسلام كافة، وأن يفتح لأهل الإسلام باب الهجرة، وأن توضع الصدقات والأخماس على قضاء الله وفرائضه، وأن يبتغي الناس بأموالهم في البر والبحر لا يمنعون ولا يحبسون.
وأما الإسلام فإن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} 3. وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ
1 التوبة الآية 33.
2 سورة المائدة 12، والممتحنة الآية 1.
3 سبأ الآية 28.
إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 1. وقال تبارك وتعالى فيما يأمر به المؤمنين من شأن المشركين: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّين} 2. فهذا قضاؤه وحكمه، فاتباعه لله طاعة، وتركه معصية لله، فادع إلى الإسلام وأمر به فإن الله تعالى قال:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 3. فمن أسلم من نصراني أو يهودي، أو مجوسي من أهل الجزية فخالط عمَّ المسلمين وفارق داره التي كان بها فإن له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، وعليهم أن يخالطوه وأن يواسوه غير أن أرضه وداره إنما هي من فيء الله على المسلمين عامة، ولو كانوا أسلموا عليها قبل أن يفتح الله للمسلمين كانت لهم ولكنها فيء الله على المسلمين عامة.
وأما من كان محاربا فليُدْعَ إلى الإسلام قبل أن يقاتل فإن أسلم فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وله ما أسلم عليه من أهل أو مال.
وإن كان من أهل الكتاب فأعطى الجزية وأمسك بيديه فإنا نقبل ذلك منه.
1 الأعراف الآية 158.
2 التوبة الآية 11.
3 فصلت الآية 33.
وأما الهجرة فإنا نفتحها لمن هاجر من أعرابي فباع ماشيته في الهجرة، وانتقل من دار أعرابيته إلى دار الهجرة، وإلى قتال عدونا، فمن فعل ذلك فله أسوة المهاجرين فيما أفاء الله عليهم، وإن الله نعت المؤمنين عند ذكر الفيء فجعله للفقراء والمهاجرين {الَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِم} 1. والذين جاءوا من بعدهم ثم قال:{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِم} 2، وقد كان المهاجرون يجاهدون على غير عطاء ولا رزق يجرى عليهم فيوسع الله عليهم، ويعظم الفتح لهم ولمن تأسى بهم، وعمل بصالح سنتهم ممن يحبون من إخوانهم ليوجبن الله له الأجر في الآخرة، وليعظمن له الفتح في الدنيا.
وأما الصدقات فإن الله تبارك وتعالى فرضها وسمى أهلها حين طعن فيها أناس وبلغوا فيها تهمة نبيهم فقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} 3، فقال الله تبارك وتعالى عند ذلك: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ
1 الحشر الآية 9.
2 الجمعة الآية 3.
3 التوبة الآية 58.
قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 1، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الأموال: الحرث، والمواشي، والذهب، والورق، فتؤخذ الصدقات كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرض، لا يظلمون ولا يتعدى عليهم ولا يحابي بها قريب ولا يمنعها أهلها، ثم تجعل إلى مرضيين من أهل الإسلام فيجعلونها حيث أمرهم الله، يحملهم الإمام من ذلك على ما حمل وينزه نفسه من ذلك من أمر قد أكثر فيها على الأئمة.
وأما الخمس فإن من مضى من الأئمة اختلفوا في موضعه، فطعن في ذلك طاعن من الناس وأكثر فيه، ووضع مواضع شتى فنظرنا فإذا هو على سهام الفيء في كتاب الله لم تخالف واحدة من الاثنتين الأخرى، فإذا عمر ابن الخطاب رحمه الله قد قضى في الفيء قضاء قد رضي به المسلمون، فرض للناس أعطية وأرزاقا جارية لهم، ورأى أن لن يبلغ بتلك الأبواب ما جمع من ذلك، ورأى أن فيه لليتيم والمسكين وابن السبيل، فرأى أن يلحق الخمس بالفيء وأن يوضع مواضعه التي سمى الله وفرض، ولم يفعل ذلك إلا ليتنزه منه وخيفة التوهم فيه، فاقتدوا بإمام عادل فإن الآيتين
1 التوبة الآية 60.
متفقتان، آية الفيء وآية الخمس، فإن الله قال:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 1.
وكذلك فرض الله الخمس، فنرى أن يجمعا فيجعلا فيئا للمسلمين، ولا يستأثر عليهم ولا يكون {دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُم} 2.
ونرى أن الحمى يباح للمسلمين عامة، وقد كانت تحمى فتجعل فيها نِعَمُ الصدقات. فيكون في ذلك قوة ونفع لأهل فرائض الصدقات، وأدخل فيها وطعن فيها طاعن من الناس فنرى في ترك حماها والتنزه عنها خيرا إذا كان ذلك من أمرها، وإنما الإمام فيها كرجل من المسلمين، إنما هو الغيث ينزله الله لعباده فهم فيه سواء.
ثم إن الطلاء لا خير فيه للمسلمين، إنما هو الخمر يكنى باسم الطلاء قد جعل الله عنه مندوحة وأشربة كثيرة طيبة، وقد علمت أن ناسا يقولون: قد أحله عمر رضي الله عنه وشربه ناس ممن مضى من خيارنا، وإن عمر إنما أتي منه بشراب طبخ حتى خثر، فقال حين أتى به: أطلاء هذا؟ يعني به طلاء الإبل، فلما ذاقه قال: لا بأس بهذا فأدخل الناس فيه بعد عمر. أما من شربه من صالحيكم فإنهم شربوه قبل أن يتخذ مسكراً وقد قال رسول
1 الحشر الآية 7.
2 الحشر الآية 7.
الله صلى الله عليه وسلم: "حرامٌ كل مسكر على كل مؤمن" 1، فلا أرى أن يتخذ الفاجر البارَّ دلسة، ونرى أن يتنزه المسلمون عنه عامة، وأن يحرموه فإنه من أجمع الأبواب للخطايا وأخوفها عندي أن تصيب المسلمين منه جائحة تعمهم.
وأما البحر فإنا نرى سبيله سبيل البر، قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} 2، فأذن فيه أن يتجر فيه من شاء، وأرى أن لا نحول بين أحد من الناس وبينه، فإن البر والبحر لله جميعا سخرهما لعباده يبتغون فيهما من فضله فكيف نحول بين عباد الله وبين معايشهم؟
ثم إن المكيال والميزان نرى فيهما أمورا علم من يأتيها أنها ظلم إنه ليس في المكيال زيغ إلا من تطفيف ولا في الميزان فضل إلا من بخس، فنرى أن تمام مكيال الأرض وميزانها أن يكون واحدا في جميع الأرض كلها.
وأما العشور فنرى أن توضع إلا عن أهل الحرث، فإن أهل الحرث يؤخذون بذلك وإنما أهل الجزية ثلاثة نفر: صاحب أرض يعطي جزيته
1 أخرجه ابن ماجة في سننه (2/1142/رقم3389) من حديث معاوية رضي الله عنه وضعفه الألباني بهذا اللفظ في ضعيف سنن ابن ماجة ص274.
2 الجاثية الآية 11.
منها، وصانع يخرج جزيته من كسبه، وتاجر يتصرف بماله يعطي جزيته من ذلك وإنما سنتهم واحدة.
فأما المسلمون فإنما عليهم صدقات أموالهم، إذا أدوها في بيت المال كتبت لهم بها البراءة فليس عليهم في عامهم ذلك في أموالهم تباعة.
وأما المكس فإنه البخس الذي نهى الله عنه فقال: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} 1، غير أنهم كنوه باسم آخر.
ونرى أن لا يتجر إمام، ولا يحل لعامل تجارة في سلطانه الذي هو عليه فإن الأمير متى يتجر يستأثر، ويصيب أمورا فيها عنت وإن حرص على أن لا يفعل.
ونرى أن لا يباع عمارة الأرض، فإنما يشترى المشتري لنفسه ويقطع لنفسه، فإنما يصيب من ذلك خراب الأرض وظلم أهلها، وأما من كان من عرب أهل الأرض في غير أرضه وجزيته جارية عليه في أرضه، فليس عليه إلا ذلك وعامل أرضه أولى بتبعته.
ونرى أن توضع السخر عن أهل الأرض فإن غايتها أمور يدخل فيها الظلم. ونرى أن ترد المزارع لما جعلت له، فإنما جعلت لأرزاق المسلمين عامة، فإن أمر العامة هو أفضل للنفع وأعظم للبركة.
1 سورة هود الآية 85، والشعراء الآية 183.
ثم إن مواريث أهل الأرض إنما هي لأوليائهم أو لأهل أرضهم الذين يخرجون الخراج فنرى أن لا يؤخذ منهم شيء إلا أن يكون عاملا فيبعثه الإمام في عمله بالذي يرى عليه من الحق. والسلام عليك1.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أمراء الأجناد ينصحهم ويبين لهم كيفية تأديب الجهال والعدالة في العقوبة، وعدم التأثر بمن حولهم وأمرهم بالإخلاص لله وحده فقال:
من عبد الله عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين إلى أمراء الأجناد، أما بعد:
"فإنه من بُلي بالسلطان تحضره مكاره كثيرة، وبلايا عظام، إن أغبته يوما فهي حرية أن تحضره في اليوم الآخر، وإنه ليس أحد بأشغل عن نفسه ولا أكثر تعرضا لزيغ من ولي السلطان إلا ما عافى الله ورحم، فاتق الله ما استطعت واذكر منزلك الذي أنت به والذي حملت، فقاتل هواك كما تقاتل عدوك، واصبر نفسك2 عندما كرهت ابتغاء ما عند الله من حسن ثوابه الذي وعد المتقون فيما بعد الموت،والذي وعدكم على التقوى والصبر من النجاة في عاجل الأمر وآجله.
1 ابن عبد الحكم سيرة عمر 78-83، وأبو حفص الملاء 1/272-277 باختلاف ألفاظ.
2 لم يتبين لي المعنى ولعل فيه سقطا.
فإذا حضرك الخصم الجاهل الخرق ممن قدر الله أن يوليك أمره، وأن تبتلى به فرأيت منه سوء رعة1، وسوء سيرة في الحق عليه، والحظ له فسدده ما استطعت وبصره وارفق به وعلمه، فإن اهتدى وأبصر وعلم، كانت نعمة من الله وفضلا، وإن هو لم يبصر ولم يعلم كانت حجة اتخذت بها عليه، فإن رأيت أنه أتى ذنبا استحل فيه عقوبة فلا تعاقبه بغضب من نفسك عليه، ولكن عاقبه وأنت تتحرى الحق في قدر ذنبه بالغا ما بلغ، وإن لم يبلغ ذلك إلا قدر جلدة واحدة تجلده إياها، وإن كان ذنبه فوق ذلك ورأيت عليه من العقوبة في ذلك قتلا فما دونه فأرجعه إلى السجن، ولا يسرعن بك إلى عقوبته حضور من يحضرك، فإنه - لعمري - ربما عاقب الإمام لمحضر جلسائه ولتأديب أهل بلده ولتغامزهم به، وما من إمام له جلساء إلا سيكون ذلك فيهم وما من قوم يسمعون بقضاء إمام إلا سيختلفون فيه على أهوائهم، إلا من رحم الله فإن من رحم الله لا يختلفون في قضاء فإنه قال:{وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 2.
1 سوء رعة: الرعاع السفلة من الناس. انظر المصباح المنير ص88.
2 سورة هود الآية 119.
وإن استجهلت فتثبت، وإذا نظر إليك ممن حولك ما أنت فاعل بسفيه من رعيتك إن سفه، وأخطأ حظه فاعمد في ذلك للذي ترى أنه أبرّ وأتقى وخير لك غدا فيما بعد الموت، ولا يطربك نظرهم إليك ولا حديثهم، فإنه لا يبقى في أنفسهم حديث أحبوه ولا كرهوه إلا قليلا إلا أبدوه.
فاغتنم كل يوم أخرجك الله فيه سالما، وكل ليلة مضت عليك وأنت فيها كذلك، وأكثر دعاء الله بالعافية لنفسك ولمن ولاك الله أمره، فإن لك في صلاحهم ما ليس لأحد منهم، ولا تبتغ منهم جزاء خير أحسنته إليهم ولا بتسديد سددتهم، ولا تطلب بعمل صالح عملته فيهم جزاء ولا ثوابا ولا مدحة، ولا حظوة، وليكن ذلك لمن لا يعطي الخير ولا يصرف السوء غيره - يعني الله عز وجل ثم تعاهد صاحب بابك وصاحب حرسك، وعاملك المقيم عندك، والذي تبعث، فلا يعملون في شيء مما تحت يديك بغشم ولا بظلم، وأكثر المسألة عنهم، فمن كان منهم محسنا نفعه ذلك ومن كان منهم مسيئا استبدلت به من هو خير منه.
نسأل الله ربنا برحمته وقدرته على خلقه أن يغفر لنا ذنوبنا وأن ييسر لنا أمورنا، وأن يشرح لنا صدورنا بالبر والتقوى، والعمل فيما يحب ويرضى، وأن يعصمنا من المكاره كلها، وأن يجعلنا من الذين لا يريدون
علوا في الأرض ولا فسادا، ومن المتقين الذين لهم العاقبة والسلام عليكم ورحمة الله1.
وكتب إلى بعض عماله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان سبب عدم القيام بهما، فقال:
"أما بعد: فإنه لم يظهر المنكر في قوم قط ثم لم ينههم أهل الصلاح منهم إلا أصابهم الله بعذاب من عنده أو بأيدي من يشاء من عباده.
ولا يزال الناس معصومين من العقوبات والنقمات ما قمع فيهم أهل الباطل واستخفي فيهم بالمحارم فلم يظهر من أحد محرّم إلا انتقموا ممن فعله، فإذا ظهرت فيهم المحارم فلم ينههم أهل الصلاح نزلت العقوبات من السماء إلى الأرض (على أهل المعاصي وعلى المداهنين لهم) ولعل أهل الإدهان أن يهلكوا معهم وإن كانوا مخالفين لهم، فإني لم أسمع الله تبارك وتعالى فيما نزل من كتابه عند مُثلة أهلك بها أحدا نجى أحدا من أولئك إلا أن يكونوا الناهين عن المنكر، ويسلط الله على أهل تلك المحارم إن هو لم يصبهم بعذاب من عنده أو بأيدي من يشاء من عباده من الخوف والذل، والنقم، فإنه ربما انتقم بالفاجر من الفاجر، وبالظلم من الظالم، ثم صار كلا الفريقين بأعمالهم إلى النار، فنعوذ بالله أن يجعلنا ظالمين أو يجعلنا
1 ابن عبد الحكم سيرة عمر 68- 70، وأبو حفص الملاء 1/268-270 باختلاف ألفاظ وجزء منه لابن الجوزي سيرة عمر ص118 باختلاف كذلك.
مداهنين للظالمين. وإنه قد بلغني أنه قد كثر الفجور فيكم، وأمن الفساق في مدائنكم، وجاهروا من المحارم بأمر لا يحب الله من فعله ولا يرضى المداهنة عليه، كان لا يظهر مثله في علانية قوم يرجون لله وقارا، ويخافون منه غِيرًا وهم الأعزون الأكثرون من أهل الفجور، وليس بذلك مضى أمر سلفكم ولا بذلك تمت نعمة الله عليهم، بل كانوا {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّار} 1 {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} 2، ولعمري إن من الجهاد في سبيل الله الغلظة على أهل محارم الله بالأيدي والألسن والمجاهدة لهم فيه، وإن كانوا الآباء، والأبناء، والعشائر وإنما سبيل الله طاعته.
وقد بلغني أنه بطَّأ بكثير من الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اتقاء التلاوم أن يقال: فلان حسن الخلق قليل التكلف، مقبل على نفسه، وما يجعل الله أولئك أحاسنكم أخلاقا بل أولئك أسوأكم أخلاقا.
وما أقبل على نفسه من كان كذلك بل أدبر عنها ولا سلم من الكلفة لها بل وقع فيها: إذ رضي لنفسه من الحال غير ما أمره الله أن يكون عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
1 سورة الفتح، الآية 29.
2 سورة المائدة، الآية 54.
وقد ذلت ألسنة كثير من الناس بآية وضعوها في غير موضعها وتأولوا فيها قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} 1. وصدق الله تبارك وتعالى، ولا يضرنا ضلالة من ضل إذا اهتدينا ولا ينفعنا هدى من اهتدى إذا ضللنا {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 2. وإن ما على أنفسنا وأنفس أولئك مما أمر الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يظهروا محرما إلا انتقموا ممن فعله منهم من كنتم ومن كانوا.
وقول من قال: إن لنا في أنفسنا شغلا، ولسنا من الناس في شيء. ولو أن أهل طاعة الله رجع رأيهم إلى ذلك ما عمل لله بطاعة، ولا تناهوا له عن معصية، ولقهر المبطلون المحقين. فصار الناس كالأنعم أو أضل سبيلا. فتسطلوا على الفساق من كنتم ومن كانوا فادفعوا بحقكم باطلهم وببصركم عماهم، فإن الله جعل للأبرار على الفجار سلطاناً مبينا، وإن لم يكونوا ولاة ولا أئمة.
1 سورة المائدة، الآية 105.
2 سورة الأنعام الآية 164، والإسراء الآية 15، وفاطر الآية 18، والزمر الآية 7.
ومن ضعف عن ذلك باليد أو اللسان فليرفعه إلى إمامه، فإن ذلك من التعاون على البر والتقوى، قال الله لأهل المعاصي:{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} 1. ولينتهين الفجار أو ليهيننهم الله بما قال: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَاّ قَلِيلاً} 2،3.
فهذه كتبه المتتابعة التي كتبها إلى عماله يظهر عند كل واحدة منها لونا من كتابات هذا الخليفة العظيم.
فالأول كتاب يظهر فيه صفة الحاكم المنفذ للشرع، والخليفة العادل.
والثاني كتاب يظهر فيه صفة الحاكم الموجه، والمؤدب لعماله، والناصح لهم في أعمالهم وما يجابهون من مشاكل الحكم وتحمل التبعة، وكيف تخدم السنة.
1 سورة النحل، الآيتان 45، 46.
2 سورة الأحزاب، الآية 60.
3 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص137- 140، وأبو حفص الملاء 1/294-297. وانظر قدوة الحكام والمصلحين عمر بن عبد العزيز لمحمد صدقي البورنو ص 585-587.
وأما الكتاب الثالث فهو يبين الخليفة المعلم الداعي إلى الخير والآمر بالمعروف، والقائم بالحجة، الذي له خبرة بأحوال الناس ودوافعهم، وبعلمه يبطل حججهم وبورعه يحذرهم، وينذرهم، وبسلطانه يتوعدهم ويهددهم1. مسخرا الولاية والخلافة لخدمة السنة وأهلها. وقد كان رحمه الله تعالى في ولايته على المدينة النبوية يؤدب أهل الفسق والمجون.
فروى ابن عبد البر عن أسامة بن زيد الليثي أن عمر بن عبد العزيز كان إذا انصرف من الجمعة أقام على باب المسجد حرساً يجزون كل شين الهيئة في شعره لم يفرقه2.
وكان رحمه الله شديدا في حكمه، فكان يؤدب كل من يظهر بمظاهر لا تليق بالإسلام فإذا وجد رجلا يصفف جمته جلده وحلقه3.
ولم يكن عمر بن عبد العزيز يعجب بالغناء فلذا أمر حين تولى الخلافة بنفي الأحوص إلى دهلك4، واستمر هناك طوال خلافة عمر.
1 انظر قدوة الحكام والمصلحين عمر بن عبد العزيز لمحمد صدقي البورنو ص297.
2 ابن عبد البر: التمهيد 6/17.
3 الأغاني 14/165
4 الأحوص هو عبد الله بن محمد شاعر من الأوس ولد حوالي سنة 40 وتوفى حوالي 105 الأغاني ج4 ص 224 ودهلك جزيرة في بحر القلزم بينها وبين بر اليمن نحو ثلاثين ميلا. انظر معجم البلدان 2/492.
ومن خدمته للسنة وتوظيفه الخلافة لخدمتها ما كتبه إلى عماله من النهي عن الحلف، والعصبية القبلية البغيضة، قال ابن عبد الحكم:"كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله حين سمع بأن بعض رعيته يتداعون إلى الحلف فقال: "أما بعد، فإن الله جعل الإسلام الذي رضي به لنفسه ومن كرم عليه من خلقه، لا يقبل الله دينا غيره، كرَّمه بما أنزل من كتابه الذي فرق به بين الإسلام وبين ما سواه، فقال:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1، وقال:{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} 2، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم حين بعثه، وأنزل عليه الكتاب حين أنزله، وأنتم معشر العرب فيما قد علمتم من الضلالة والجهالة والجهد، وضنك العيش وتفرُّق الدار، والفتن بينكم عامة، والناس لكم حاقرون مستأثرون عليكم بالدين، وليس من ضلالتهم من شيء إلا وأنتم على مثله، من عاش منكم عاش فيما ذكرت من الجهل والضلالة، ومن مات منكم مات إلى النار. حتى أخذ الله بنواصيكم عما
1 سورة المائدة الآيتان 15و16.
2 سورة الإسراء الآية 105.
كنتم فيه من عبادة الأوثان والتقاطع والتدابر وسوء ذات البين، فأنكر منكركم، وكذَّب مكذبكم، ونبي الله عليه الصلاة والسلام يدعو إلى كتاب الله وإلى الإسلام، ثم أسلم معه قليل مستضعفون في الأرض، يخافون أن يتخطفهم الناس فآواهم وأيدهم بنصره، وزرقهم الله من أذن له بالإسلام، والدنيا مقبوضة عنه، والله منجزٌ لرسوله موعوده الذي ليس له خلف، فيراه من يراه بعيدا إلا قليلا من المؤمنين فقال:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 1، وقال في بعض ما يعده والمسلمين أن قال:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} 2، فأنجز الله لنبيه عليه والصلاة والسلام وأهل الإسلام موعودهم الذي وعدهم، فلم يعطكم الله يا أهل الإسلام ما أعطاكم من ذلك إلا بهذا الذي تفلجون به على خصمكم، وبه تقومون شهداء يوم القيامة، ليس لكم نجاة غيره، ولا حجة ولا حرزٌ ولا منعة في الدنيا والآخرة، فإذا أعطاكم الله منه أحسن يوم وعدتموه فارجوا ثواب الله فيما بعد الموت، فإن الله قال: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا
1 سورة التوبة الآية 33، والصف الآية 9.
2 سورة النور الآية 55.
لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} 1، وإني أحذركم هذا القرآن وتباعته فإن تباعته وشروطه قد أصابكم منها أيتها الأمة وقائع من هراقة دماء وخراب ديار، وتفرق جماعات، فانظروا ما زجركم الله عنه في كتابه فازدجروا عنه، فإن أحق ما خيف وعيد الله بقول أو بعمل أو غير ذلك، فإن كان بقول في أمر الله فنعما له، وإن كان بقول في غير ذلك فإنما يُفضي إلى سبيل هلكة، ثم إن ما هاجني على كتابي هذا أمر ذكر لي عن رجال من أهل البادية، ورجال أمروا حديثا، ظاهر جفاؤهم، قليل علمهم بأمر الله اغتروا فيه بالله غرة عظيمة، ونسوا فيه بلاءه نسيانا عظيماً، وغيَّروا فيه نعمه تغييراً لم يكن يصلُح لهم أن يبلغوه، وذُكر لي أن رجالاً من أولئك يتحاربون إلى مضر وإلى اليمن، يزعمون أنهم ولاية على من سواهم، وسبحان الله وبحمده ما أبعدهم من شكر نعمة الله، وأقربهم من كل مهلكة مذلة وصُغُر، قاتلهم الله أيةَ منزلةٍ نزلوا، ومن أي أمان خرجوا، أو بأي أمر لصقوا، ولكن قد عرفت أن الشقي بنيته يشقى، وأن النار لم تخلق باطلا، أولم يسمعوا إلى قول الله في كتابه:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 2، وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
1 سورة القصص الآية 83.
2 سورة الحجرات الآية 10.
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} 1، وقد ذكر لي مع ذلك أن رجالا يتداعون إلى الحلف، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلف وقال:"لا حِلف في الإسلام". قال: "وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة"2.
فكان يرجوا أحدا من الفريقين حفظ حلفه الفاجر الآثم الذي فيه معصية الله ومعصية رسوله، وقد ترك الإسلام حين انخلع منه وأنا أحذر كل من سمع كتابي هذا، ومن بلغه أن يتخذ غير الإسلام حصناً، أو دون الله ودون رسوله ودون المؤمنين وليجة، تحذيراً بعد تحذير، وأذكرهم تذكيراً بعد تذكير، وأشهد عليهم الذي هو آخذ بناصية كل دابة، والذي هو أقرب إلى كل عبد من حبل الوريد، وإني لم آلُكم بالذي كتبت به إليكم نصحاً، مع أني لو أعلم أن أحداً من الناس يحرّك شيئا ليؤخذ له به، أو ليدفع عنه، أحرص - والله المستعان - على مذلته من كان: رجلاً أو عشيرة أو قبيلة أو أكثر من ذلك، فادع إلى نصيحتي وما تقدمت إليكم به، فإنه هو الرشد ليس له خفاء، ثم ليكون أهل البر وأهل الإيمان عوناً
1 سورة المائدة الآية 3.
2 الحديث رواه مسلم برقم 2530 ج 6ص 65
بألسنتهم، وإن كثيراً من الناس لا يعلمون. نسأل الله أن يخلف فيما بيننا بخير خلافة في ديننا وأُلفتنا وذات بيننا والسلام1.
ولما سمع بأن نساءً من أهل السفه يقمن بالنياحة على موتاهن، وتحقق في هذا الأمر، كتب إلى عامله في تلك الجهة ما يأتي:
أما بعد فإنه ذُكر لي أن نساءً من أهل السفة، والجفاء يخرجن (إلى الأسواق) عند موت الميت، ناشراتٍ رؤوسهن يَنُحن نياحة أهل الجاهلية، ولعمري ما رُخِّص للنساء في وضع خُمْرِهِنّ مذ أُمرن أن يضربن بهن على جيوبهن، فانْه عن هذه النياحة نهيا شديداً، وتقدم إلى صاحب شرطكم فلا يقِرُّ نوحا في دار ولا طريق فإن الله قد أمر المؤمنين عند مصائبهم بخير الأمرين في الدنيا والآخرة، فقال:{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} 2 3.
1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص93، وأبو حفص الملاء 1/280-283 باختلاف ألفاظ.
2 الآيتان 156-157 من سورة البقرة.
3 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص93-94. وابن سعد في الطبقات 5/393، وأبو حفص الملاء 1/183
المبحث الرابع: أخلاقه رحمه الله تعالى
أ- الزهد:
إن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى رجل توَّاق لا ينال شيئاً إلا تاق إلى ما هو أشرف وأعلى مما ناله، فلما وصل إلى الخلافة وهي أعلى منصب دنيوي على الإطلاق تاقت نفسه إلى الآخرة، والعمل بالعدل، فوظَّف الخلافة لنيل سعادة الآخرة، ولا شك أن سلعة الله تبارك وتعالى سلعة غالية لا تنال بالتمني وإنما تنال بالأعمال الصالحة الموافقة لما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فالتزم أخلاقا فاضلة منها: الزهد، والورع، والتواضع.
والزهد في الدنيا هي الصفة التي اشتهر بها نظرا للمحيط الذي كان يعيش فيه، والأشخاص الذين عاصرهم، ولا شك أن الزهد المبني على الكتاب والسنة زهد مشروع مرغب فيه، وهو ترك ما لا ينفع في الآخرة1، ومن المعلوم أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قد بذل ما بوسعه لترك كل أمر لا ينفعه في آخرته فلم يفرح بموجود وهي الخلافة، ولم يحزن على مفقود كما في وفاة ابنه البار عبد الملك أحب الناس إليه، وهذا هو تطبيق نص الآية الكريمة قال تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ
1 الفوائد لابن القيم 118، ومدارج السالكين 2/12.
وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} 1، ولقد شهد له غيره بالزهد في الدنيا، لأن خير الزهد المشروع أن يترك الإنسان ما هو قادر على تحصيله من متاع الدنيا انشغالا بما هو خير في الآخرة ورغبة فيما عند الله عز وجل.
قال مالك بن دينار: "الناس يقولون: مالك بن دينار زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها"2.
ولقد وصف أحد الذين كتبوا عن عمر في العصر الحديث حاله تلك فقال: "إن عمر بن عبد العزيز قد عفّ عن مال المسلمين مع قدرته على استغلاله وإنفاقه كما يشاء، ولم يكن هناك من يستطيع أن يقول له: لم فعلت ذلك؟ وقد منع نفسه عن التمتع بلذائذ الحياة من عيشة هنية رضية، ومتاع دنيوي، وشهوات مباحة، أو غير مباحة لو أرادها لسعت إليه دون أن يسعى لها، ولأكل أطيب الطعام، ولشرب أفضل الشراب، وللبس ألين وأثمن الثياب، ولركب أفره الدواب، ولتزوج وتسرى أجمل وأحلى، وأشرف النساء والجواري، وكل ذلك تحت يديه ورهن إشارته لو أراد3، وقد كان قبل خلافته يأخذ حظه من متاع الدنيا المباح، ولكن لما تولى
1 سورة الحديد الآية 23.
2 انظر: حلية الأولياء 5/257، وابن الجوزي سيرة عمر ص155.
3 انظر: قدوة الحكام والمصلحين عمر بن عبد العزيز ص145، د: محمد صدقي البورنوط مكتبة المعارف الرياض ط. الأولى عام 1413هـ.
الخلافة كتب إلى عماله أما بعد: فإن هذا الأمر الذي ولاني الله لو كنت إنما أصبحت ورغبتي فيه مطعم، أو ملبس، أو مركب، أو اتخاذ أزواج، أو اعتقاد أموال لكنت قد بلغ الله بي من ذلك قبل ما ولاني من أفضل ما بلغ بعباده. ولكن أصبحت له خائفا، أعلم أن فيه أمرا عظيما وحسابا شديدا، ومسألة لطيفة عند مجاهدة الخصوم بين يدي الله إلا ما عافى الله ورحم ودفع
…
"1.
قال ابن عبد الحكم: "ولما ولي عمر بن عبد العزيز زهد في الدنيا، ورفض ما كان فيه وترك ألوان الطعام فكان إذا صنع له طعام هيئ على شيء، وغطي، حتى إذا دخل اجتذبه فأكل"2.
فإذا لا يهمه من الأكل إلا أنه يسد جوعه ويقيم صلبه، ولكن كم كانت نفقته وعياله في اليوم؟ قال سلم بن زياد:"كان عمر ينفق على أهله في غدائه وعشائه كل يوم درهمين"3.
1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص81-82، وأبو حفص الملَاّء 1/142، وابن سعد الطبقات 5/380، والطبري في التاريخ 5/319، وأبو نعيم الحلية 5/312.
2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص43.
3 المصدر السابق ص38.
فلعله رحمه الله تعالى كان يتأول ما ورد عن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها أنها كانت تقول: "ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام البُرّ ثلاث ليال تباعا"1.
والواقع أن الزهد الشرعي لا يذم صاحبه، وهذا بخلاف الزهد الذي ابتدعه غلاة الصوفية وغيرهم بحيث لم يلتزموا بحدود الزهد المرغب فيه وهو التوسط في تناول المباحات التي أحلها الله، وأما ما يصل إلى حد الإسراف فهذا منهي عنه، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} 2، فمن أسرف في تناول كل ما يحلو له فقد جانب الزهد المرغب فيه، ومن بالغ في تقتيره على نفسه بحيث امتنع عن تناول الطيبات، والمباحات بقصد الزهد فقد جانب الصواب أيضا، فإن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال في رده على الثلاثة الذين سألوا عن عمله فتقالوها، فأوجب كل واحد منهم على نفسه تحريم شيء من المباحات، فلما علم صلى الله عليه وسلم بقولهم غضب، وأخبر بأنه يتزوج النساء، ويصوم ويفطر، ويأكل اللحم. ونصوص أخرى كلها تدل على أن الشخص ينبغي عليه أن يكون معتدلا وسطا في مطعمه وملبسه، وكل شئونه، وما روى عن عمر رحمه الله
1 رواه البخاري برقم5416 ومسلم برقم2972.
2 الآية 67 من سورة الفرقان.
تعالى من الزهد فإنه يحمل على الزهد المرغب فيه الذي لا إفراط ولا تفريط فيه. فلم يزد في مأكله ما يكفيه لقوته فكان غداؤه وعشاؤه صفحة غليظة فيها خبز قد كسر وصب عليه ماء وملح وزيت، هذا في وقت الصباح. أما في العشاء فنفس القصعة فيها ثريد عدس وبصل، وقد اعتذر خادم عمر من خشونة هذا الطعام، فقال:"لو كان لعمر عشاء غيره لعشاكم منه وما فطره إلا على مثل هذا"1.
وكما زهد عمر في طعامه فكذلك زهد في لباسه فاقتصر على ما يدفع الحر والبرد، ويستر العورة، ولم يكن لباسه لباس شهرة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يلبس الخشن من الثياب وقد روى عن أبي بردة، قال: أخرجت إلينا عائشة رضي الله عنها كساء ملبد أو إزاراً غليظا وقالت: "قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين"2.
وقد ذُكر أن عمر بن عبد العزيز - بعد خلافته - كان لا يلبس إلا الخشن من الثياب، يحكى رياح بن عبيدة - وكان تاجرا - قال: كنت أتَّجِر فقال لي عمر بن عبد العزيز: "يا رياح اتخذ لي كساءين خزا أتخذ أحدهما محبسا، والآخر شعارا". قال: ففعلت فصنعتهما بالبصرة فلم آل ثم قدمت بهما، فأمر بقبضهما فلما أصبح غدوت عليه فقال لي: "يارياح ما
1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص135.
2 مسلم 5/247-248 برقم 2080. الملبد الذي ثخن وسطه.
أجود ثوبيك لولا خشونة فيهما". وكان هذا قبل أن يلي الخلافة، فلما وُلّي قال لي: "يا رياح اتخذ لي من هذه الجباب الهروية عامل قطن فيهن صفر. قال: فاشتريت له ثلاث شقق فقطعت من الثلاث جبتين خشنتين ثم أتيت بهما إليه فقبضهما، فقال لي:"يا رياح ما أجود ثوبيك لولا لين فيهما". فقال رياح: فذكرت قوله الأول وقوله الآخر1.
ويُحكى كذلك أنه أخّر الجمعة يوما عن وقتها الذي كان يصلى فيه فيقال له: أخرت الجمعة اليوم عن وقتها؟ فيقول: "إن الغلام ذهب بالثوب يغسلها فحبس بها". فعرفنا أنه ليس له غيرها.
ويحكى أيضا أنه لم يعد يلبس من الثياب إلا المرقوع حسب ما يرويه سعيد بن سويد: أن عمر بن عبد العزيز صلى بهم الجمعة، وعليه قميص مرقوع الجيب، من بين يديه ومن خلفه فلما فرغ جلس وجلسنا معه، قال: فقال له رجل من القوم، يا أمير المؤمنين إن الله قد أعطاك فلو لبست وصنعت. فنكس مليا حتى عرفنا أن ذلك قد ساءه ثم رفع رأسه فقال: إن أفضل القصد عند الجدة، وأفضل العفو عند المقدرة2.
1 انظر أبو نعيم في الحلية 5/325، وابن عبد ربه العقد الفريد4/434، وابن الجوزي سيرة عمر ص148.
2 ابن سعد الطبقات 5/42.
وسعيد بن سويد قال البخاري: لا يتابع في حديثه. ميزان الاعتدال 2/145.
فعمر رحمه الله تعالى كان زاهدا عن الدنيا حسب الروايات التي سبقت، رغبة فيما عند الله واستهانة بأمر الدنيا لأنها زائلة، وربما يريد من وراء ذلك حثَّ غيره من أهل بيته وعماله على الرغبة عن الدنيا، لأن الرغبة الشديدة فيها قد تؤدي إلى قسوة القلوب، وتبعدها عن تذكر الفقراء والمحتاجين، ولا حرج على المسلم أن يلبس أيّ لباس شاء مما يتناسب معه وهو ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله، فعن أبي الأحوص عن أبيه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني سيء الهيئة فقال: "هل لك من شيء" قال: "نعم من كلٍّ قد آتاني الله". فقال: "إذا كان لك مال فليُرَ عليك"1.
وكان عليه الصلاة والسلام يلبس الحلة الجميلة، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "ما رأيت أحدا من الناس أحسن في حلة حمراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
"2.
ولم يسكن رحمه الله تعالى القصور الشاهقة المفروشة بأنواع المفارش الوثيرة، وإنما كان قدوته وقائده سيد الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يضع
1 سنن النسائي 4/196. وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي 3/1072، ط. المكتب الإسلامي.
2 الشمائل المحمدية للترمذي ص36، تعليق وإشراف عزت عبيد الدعاس ط. دار الحديث بيروت. الطبعة الثالثة عام 1408هـ.
لبنة على لبنة حتى خرج من الدنيا، وهكذا كان عمر في خلافته رحمه الله تعالى، فقد كانت لعمر مرقاتان يرقى من صحن داره إلى مقر بيته عليهما، فانقلعت إحدى المرقاتين، فأتاها رجل من أهل بيته فأصلحها كراهية أن يشق على عمر، فلما جاء عمر ونظر إليها قال:"من صنع هذا؟ قالوا: فلان. قال: علي به. فلما جاء قال: "ويحك يا فلان أنفست على عمر أن يخرج من الدنيا ولم يضع لبنة على لبنة؟ والله لولا أن يكون فساد بعد إصلاح لغيرتها إلى ما كانت عليه"1.
وحتى هذه الدار المذكورة إنما ورثها عن والده عبد العزيز بن مروان، وهي الملاصقة للجامع الأموي، ويبدو أنها كانت دارا متواضعة بدليل أن المصادر لم تذكر وصفا لها لكونها كباقي بيوت العامة في ذلك الوقت، ولو أنها كانت أكثر من ذلك لحظيت بوصف المؤرخين لها.
1 ابن عبد الحكم سيرة عمر 136، وانظر عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم ص59، وذكر أبو حفص الملاء أن لعمر بيتا متواضعا يسكن فيه في دير سمعان انظر: أبو حفص الملاء 1/394.
وقد ظل عمر في منزله هذا بعد أن أفضت الخلافة إليه إلا أنه بدلا من زيادة طنافسه وستوره، ورياشه جرده من كل ما فيه منها وحتى ثيابه وعطره باعها، ووضع ثمنها في بيت المال1.
ومن زهده رحمه الله تعالى ترك مظاهر البذْخ والإسراف التي سادت قبله، فكان أول ما أنكره الناس منه أنه لما غُسل سليمان بن عبد الملك وكُفن، وصلي عليه ودُفن، أتي بمراكب الخلافة وهي البراذين، والخيل، وكان لكل دابة سائس فقال عمر: ما هذه؟ فقالوا له: مراكب الخلافة لم تركب من قبل، يركبها الخليفة عند ما يلي، فقال عمر:"ما لي ولها نَحُّوها عني، بغلتي أوفق لي". فأتوه بدابته فركبها، وقفل راجعا بعد ما أمر مزاحما مولاه بضم تلك المراكب والسرادقات والحجر التي لم يجلس فيها أحد قط، والتي جرت العادة أن تضرب للخليفة - أول ما يولَّى- إلى بيت المال2.
1 انظر تهذيب الاسماء واللغات 1/307، وابن عبد الحكم ص124، وابن عساكر مجلد 10 ورقة 194/أ، وانظر عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم ص58، وابن كثير البداية والنهاية 5/62.
2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص33، وابن كثير البداية والنهاية 5/198.
ثم أمر بستور دار الخلافة فهتكت وبالبسط فرفعت وأمر ببيعها وأدخل أثمانها في بيت مال المسلمين1، وهكذا فعل بالجواري والعبيد حيث رد الجواري إلى أصحابهن إن كن من اللاتي أخذن بغير حق، ووزع العبيد على العميان وذوي العاهات، وحارب كل مظاهر الترف والبذخ، والإسراف.
ولم يكن عمر رحمه الله يسعى هذا السعي الحثيث طلبا للجاه والمنزلة والشهرة وإنما كان يطلب من وراء ذلك كله مرضاة الله عز وجل فقد زهد في الخلافة، فحينما بويع قام على الناس2 خطيبا فقال:
"أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم3.
1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص124، وأبو حفص الملاء 1/142-143، وابن سعد الطبقات 5/341-342.
2 سبق أن ذكرنا أن عمر كان يقول: إن لي نفسا تواقة ومن ضمنها رغبته في الخلافة وهذه الرغبة يظهر أنها كانت موجودة لديه قبل أن تتحقق له الوصول إلى الخلافة فلما رأى الجد في توليها أحسّ بثقل وعبء القيام بحملها فخير الناس.
3 الآجري: أخبار أبي حفص ص56.
فصاح الناس صيحة واحدة، قد اخترناك يا أمير المؤمنين فَلِ أمرنا باليمن والبركة1.
وأما ما قيل عن زهده بالنسبة للنكاح2 فقد روى ابن عبد الحكم فقال: "وقالت فاطمة زوجته ما اغتسل من جنابة منذ ولي حتى لقي الله غير ثلاث مرات، ويقال: ما اغتسل من جنابة حتى مات"3. فعلى فرض صحة هذه الرواية عن فاطمة زوجته فإنها تتحدث عما حدث لها معه بعد الخلافة وقد كان لعمر زوجات ثلاث غيرها ذكرناهن فيما سبق، فتَوُجَّهُ هذه الرواية على ما علمته فاطمة عنه رحمه الله، ولاشك أن الزواج مرغب فيه فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حث القادرين على الزواج بالتزوج فقال: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة"4، وقال: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج
…
" 5، وعاب صلى الله عليه وسلم الذين يتركون النكاح وهم قادرون عليه وبين أن ذلك من الرهبانية المذمومة
1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص50، وابن الجوزي سيرة عمر ص58، وابن كثير ابن كثير البداية والنهاية 5/202.
2 قد يطلق النكاح ويراد به الجماع فلعله زهد عنه لانشغاله بأمور الخلافة والله أعلم.
3 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص50.
4 سنن النسائي 3/66، ط. دار الفكر عام 1930م وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/386، وقال حسن صحيح.
5 البخاري مع الفتح 9/106رقم (5165) .
التي نهينا عنها1، وعلاوة على هذا فإنه قد ورد عن فاطمة نفسها رواية أخرى ذكرها الفسوي بسنده عن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع القرشي: أنه دخل على فاطمة بنت عبد الملك وقال لها: ألا تخبريني عن عمر؟ فقالت: ما أعلم أنه اغتسل من جنابة، ولا من احتلام منذ استخلفه الله حتى قبضه2، فصرحت في هذه الرواية على ما علمته منه، فقط ولا يمنعه من أن يتمتع بغيرها من نسائه البواقي، بل قد صرحت بأنه قد اغتسل ثلاث مرات حسب علمها، ومن المعلوم أن عمر بن عبد العزيز من أشد الناس حبا للسنة وتطبيقا لها، والزواج من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيستبعد منه رحمه الله أن يترك السنة ويمنع نفسه من المباح الذي أحله الله له، ولا داعي في رأيي لما قام به بعض الباحثين3 من دفاع عن عمر فيما يخص الرواية السابقة، فإن ترك الزواج وتحريم ذلك لا علاقة له بالزهد الإسلامي الذي جاء به رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو دخيل على المجتمع المسلم، وهو مما تفتخر به بعض الفرق المنحرفة عن الإسلام وتدعي أنه من الزهد الإسلامي، ولهم في ذلك حكايات لا يشك من تأملها أنها لا تمت إلى الإسلام بصلة، فمن ذلك أن
1 انظر البخاري مع الفتح 9/104رقم (5163) .
2 الفسوي المعرفة والتاريخ 1/584.
3 انظر قدوة الحكام المصلحين عمر بن عبد العزيز ص138.
أحدهم تزوج امرأة فبقيت عنده على الزهد ثلاثين سنة وهي بكر1، كما أن آخر منهم تزوج أربعمائة امرأة ولم يجامع واحدة منهن2، وآخر تزوج ابنة شيخه فمكثت عنده ثماني عشرة سنة لا يقربها حياءً من والدها، ومات عنها وهي بكر3.
ولهم في ذلك وصايا عجيبة، وتوجيهات غريبة، فمن أقوالهم:
- من ترك النساء والطعام فلا بد له من ظهور كرامة.
- من تزوج فقد أدخل الدنيا بيته
…
فاحذروا من التزويج.
- لا يبلغ الرجل إلى منازل الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة، وأولاده كأنهم أيتام، ويأوي إلى منازل الكلاب.
- من تعود أفخاذ النساء لا يفلح.
- من تزوج فقد ركن إلى الدنيا 4.
إلى غير ذلك كثير.
وهذا المفهوم أيضا يخالف الإسلام ومثله باعتباره دين توسط واعتدال، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن أراد التبتل وترك الزواج: "فمن رغب عن
1 انظر اللمع ص264 لأبي نصر السراج. ط. دار الكتب الحديثة القاهرة عام1960م.
2 انظر تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار ص241.
3 انظر الأخلاق المتبولية للشعراني 3/979.
4 انظر الطبقات للشعراني 1 / 34
سنتي فليس مني" 1. وجملة القول أن هذا الزهد الذي تحدث عنه هذه الفرقة المنحرفة بعيد كل البعد عن الزهد الذي عرفه السلف الصالح ومن سار على نهجهم.
ب - الورع:
ومن أخلاق أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أيضا "الورع"، والورع هو الإمساك عما قد يضر، فتدخل المحرمات، والشبهات لأنها قد تضر، فإنه من اتقى الشبهات استبرأ لعرضه، ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه2.
فالورع المشروع من نوع التقوى الشرعية، وهو اتقاء ما يكون سببا للذم والعذاب، وهو فعل الواجب وترك المحرم، وما اشتبه تحريمه أمن المحرم أم ليس منه3؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الأصل في الورع المشتبه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن ترك الشبهات استبرأ عرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات
1 البخاري مع الفتح 9/104.
2 انظر مجموع الفتاوى 10/615.
3 انظر المصدر السابق 20/137- 138.
وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه" 1، وقوله صلى الله عليه وسلم: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" 2، وقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم في رواية: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وإن أفتاك الناس" 3، وأنه صلى الله عليه وسلم رأى على فراشه تمرة فقال: "لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها" 4.
وهذه الأدلة كلها تدل على أن على المسلم أن يتورع عن الشبهات قدر استطاعته، وهذا ما فعله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله
1 البخاري مع الفتح4/290،برقم (2051) ، ومسلم 4/207-208،برقم (1599) ولفظه هناك قريب من اللفظ هنا.
2 ذكره البخاري تعليقا بصيغة الجزم 4/291 باب تفسير المشبهات، وقال حسان بن أبي سنان: ما رأيت شيئا أهون من الورع، دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. ورواه الترمذي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. انظر سنن الترمذي 4/576-577، وقال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح.
3 مسلم بشرح النووي 6/86-87، رقم (2553)، ولفظه:"البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس"، وليس فيه لفظ:"وإن أفتاك الناس" وإنما ورد ذلك عند الإمام أحمد في مسنده (رقم17540، 17545) والدارمي في سننه (رقم 2533) .
4 البخاري مع الفتح 4/293، رقم (2055) .
تعالى لا سيما بعد تسلمه الخلافة لأنه رأى أن هذه المشتبهات تشبه الحرام، فقد تكون سببا للوقوع في المحذور المقتضي للعذاب الأليم في الآخرة فتورع عنها.
ومن أمثلة ذلك: أنه رحمه الله تعالى ما كان يقبل أي هدية من عماله أو من أهل الذمة خوفا من أن يكون ذلك من باب الرشوة، فروى ابن الجوزي عن عمرو بن مهاجر قال: اشتهى عمر بن عبد العزيز تفاحا فقال: لو كانت لنا - أو عندنا - شيء من التفاح، فإنه طيب الريح طيب الطعم. فقام رجل من أهل بيته فأهدى إليه تفاحا.
فلما جاء به الرسول، قال عمر: ما أطيب ريحه وأحسنه، ارفعه يا غلام، فأقرئ فلانا السلام وقل له: إن هديتك قد وقعت منا بموقع بحيث تحب. فقلت يا أمير المؤمنين، ابن عمك ورجل من أهل بيتك وقد بلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. قال: ويحك؟ إن الهدية كانت للنبي صلى الله عليه وسلم هدية وهي لنا اليوم رشوة1.
وعن ميمون بن مهران قال: أهدي إلى عمر بن عبد العزيز تفاحا وفاكهة فردها وقال: لا أعلم أنكم بعثتم إلى أحد من أهل عملى شيئا"
1 ابن الجوزي سيرة عمر ص197.
قيل له: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية؟ قال: بلى، ولكنها لنا ولمن بعدنا رشوة1.
وعن فرات بن مسلم قال: اشتهى عمر بن عبد العزيز تفاحا فطلب له فلم يوجد فركب وركبنا معه، فتلقاه غلمان من الديارنة2 بأطباق منها تفاح فوقف على طبق منها فتناول منه تفاحة فشمها ثم أعادها في الطبق، ثم قال: ادخلوا ديركم، لا أعلم أنكم بعثتم إلى أحد من أصحابي بشيء. قال: فحركت بغلتي فلحقته، فقلت: يا أمير المؤمنين: اشتهيت التفاح، وطلب لك فلم يوجد، ثم أهدي إليك فرددته، ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر رضي الله عنهما يقبلون الهدية؟ قال: إنها كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما هدية، وللعمال بعدهم رشوة3.
ويبلغ بعمر الورع أنه لا يرى لنفسه أن تشم رائحة مسك أتته من أموال المسلمين، فروى ابن الجوزي قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن رياح بن عبيدة، وأبي سنان، عن عمر بن عبد العزيز أنه
1 نفس المصدر ص197.
2 لعل المقصود بالديارنة: سكان الدير.
3 ابن الجوزي سيرة عمر ص198.
وضعت بين يديه مِسْكة عظمية فأخذ بأنفه، فقيل يا أمير المؤمنين إنما هو ريح قال: وهل ينتفع منها إلا بريحها1.
وكما تورع في طعامه وشهوته وحتى حواسه التي لا يقدر على دفع ما يدخل فيها إلا بشق الأنفس، تورع أن يرى لنفسه حقا في دواب المسلمين التابعة لبيت مالهم أن يستعملها وإن استعملها أهله بدون معرفة منه دفع الثمن إلى بيت المال، فروى ابن الجوزي، عن رياح بن عبيدة كان عمر بن عبد العزيز يعجبه أن يتأدم بالعسل، فطلب من أهله يوما عسلا، فلم يكن عندهم، فأتوه بعد ذلك بعسل فأكل منه فأعجبه فقال لأهله: من أين لكم هذا؟ قالت امرأته بعثت مولاي بدينارين على بغل البريد فاشتراه لي فقال: أقسمت عليك لما أتيتني به فأتته بعُكَّة2 فيها عسل، فباعها بثمن يزيد ورد عليها رأس المال وألقى بقيته في بيت مال المسلمين، وقال: أنصبتِ دواب المسلمين في شهوة عمر؟ 3.
وللمسلم أن يأخذ بالرخص التي أباحها الشرع للحاجة والضرورة، ولكن عمر رحمه الله لا يأخذ على نفسه إلا بالعزائم، ففي الشتاء البارد
1 ابن الجوزي سيرة عمر ص200، وابن أبي الدنيا كتاب الورع ص 74 وقال محقق الكتاب إسناد الأثر حسن.
2 الْعُكَّة: بالضم: آنية السمن، أصغر من القربة. القاموس المحيط ص1225.
3 ابن الجوزي سيرة عمر ص196، وانظر ابن أبي الدنيا كتاب الورع ص124.
والبرد القارس، احتاج عمر إلى من يسخن له الماء ليوم الجمعة قيل له ياأمير المؤمنين ما عندنا عود حطب. قال: فذهبوا بالقمقم1 إلى مطبخ المسلمين. قال: ثم جاءوا بالقمقم فقالوا هذا القمقم يا أمير المؤمنين وهو يفور فقال: ألم تخبروني أنه ليس عندكم حطب؟ لعلكم ذهبتم به إلى مطبخ المسلمين؟ قالوا: نعم. قال ادعوا لي صاحب المطبخ. فلما جاء قال له: قيل لك هذا قمقم أمير المؤمنين فأوقدت تحته؟ قال لا والله يا أمير المؤمنين ما أوقدت تحته عودا واحدا، وإن هو إلا جمر لو تركته لخمد حتى يصير رمادا. قال بكم أخذت الحطب: قال: بكذا. قال: أدوا إليه ثمنه2.
واحترز عن استعمال أموال المسلمين العامة فكان يسرج السراج من بيت المال إذا كان في حاجة المسلمين، فإذا فرغ من حوائجهم أطفأها ثم أسرج عليه سراجه الخاص به من ماله الخاص3.
ويحترز عمر ويتورع عن كل شيء مهما قل إذا كان من حق غيره، يتبين لنا ذلك في القصة التالية، فروى الفسوي عن فرات بن مسلم قال:
1 القمقم إناء من نحاس أو فخار يستقى به ويستعمل للوضوء وغيره انظر لسان العرب 12/495.
2 ابن الجوزي سيرة عمر ص199، وانظر ابن أبي الدنيا كتاب الورع ص124، وقال محقق الكتاب إسناد الأثر حسن.
3 انظر الفسوى: المعرفة والتاريخ ص579
كنت أعرض على عمر بن عبد العزيز كتبي في كل جمعة، فعرضتها عليه فأخذ منها قرطاسا قدر شبر أو أربع أصابع بقي، فكتب فيه حاجة له. فقلت غفل أمير المؤمنين. فلما كان من الغد بعث إلي أن تعال وجئ بكتبك، فجئته بها، فبعثني في حاجة، فلما جئت قال: ما آن لنا أن ننظر كتبك بعد. قلت: لا، إنما نظرت فيها أمس. قال خذها حتى أبعث إليك. فلما فتحت كتبي وجدت قرطاسا قدر قرطاسي الذي أخذ1.
واشتهى يوما اللحم فأرسل غلامه بقطعة يشويها ليأكل فيقيم بذلك أوده، فرجع الغلام بها سريعا، فقال له عمر: "أسرعت بها؟ قال شويتها في نار المطبخ وكان للمسلمين مطبخ يغديهم فيه ويعشيهم. فقال لغلامه: كلها يا بني فإنك زرقتها ولم أرزقها2. فتورع عن أكلها لأنها شويت في مطبخ المسلمين، وتركها لغلامه ليأكلها، وهو واحد من الرعية، له حق في مطبخ العامة رحمه الله.
وهناك أمثلة أخرى يذكرها المؤرخون لورع عمر بن عبد العزيز رحمه الله كلها تدل على مدى اتصاف هذا الخليفة الراشد بصفة الورع، وحبه له، أملاً فيما عند الله حيث اعتبر أن البعد عن أموال المسلمين حتى
1 ابن سعد الطبقات 5/377.
2 ابن الجوزي سيرة عمر ص199-200.
في الأشياء اليسيرة القليلة هو من باب الابتعاد عن الشبهة، فكان بعيدا عن الشبهات احتياطا لدينه. وذلك أن الأمور ثلاثة كما قال هو بنفسه:
1-
أمر استبان رشده فاتبعه.
2-
وأمر تبين خطؤه فاجتنبه.
3-
وأمر أشكل عليك فتوقف عنه1.
ومن المهم الإشارة إلى أن شيخ الإسلام قد بين أن الغلط يقع في الورع من ثلاث جهات:
1-
أحدها: اعتقاد كثير من الناس أن الورع من باب الترك، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام، لا في أداء الواجب، وهذا يبتلي به كثير من المتدينة المتورعة، ترى أحدهم يتورع عن الدرهم فيه شبهة: لكونه من مال ظالم أو معاملة فاسدة، ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين، وذوي الفجور في الدنيا، ومع هذا يترك أمورا واجبة عليه إما عينا وإما كفاية وقد تعينت عليه من صلة رحم، وحق جار، ومسكين، وصاحب، ويتيم، وابن سبيل، وحق مسلم وذي سلطان، وذي علم، وعن أمر بمعروف ونهي عن منكر، وعن الجهاد في سبيل الله، إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه، أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى بل جهة التكليف ونحو ذلك.
1 ابن عبد ربه العقد الفريد 4/397.
وهذا الورع قد يوقع صاحبه في البدع الكبار، فإن ورع الخوارج، والروافض والمعتزلة 1، ونحوهم من هذا الجنس، تورعوا عن الظلم، وعن ما اعتقدوه ظلما من مخالطة الظلمة في زعمهم، حتى تركوا الواجبات الكبار من الجمعة والجماعة، والحج والجهاد، ونصيحة المسلمين، والرحمة لهم، وأهل هذا الورع ممن أنكر عليهم الأئمة، كالأئمة الأربعة، وصار حالهم يذكر في اعتقاد أهل السنة والجماعة.
2-
الجهة الثانية من الاعتقاد الفاسد أنه إذا فعل الواجب، والمشتبه، وترك المحرم، والمشتبه فينبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة، وبالعلم، لا بالهوى، وإلا فكثير من الناس تنفر نفسه عن أشياء لعادة ونحوها، فيكون ذلك مما يقوى تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهم في أوهام وظنون كاذبة، فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد، فيكون صاحبه ممن قال الله تعالى فيه:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى} 2 وهذا حال أهل الوسوسة في النجاسات: فإنهم من أهل الورع الفاسد المركب من نوع دين، وضعف عقل وعلم، وكذلك ورع قوم يعدون غالب أموال الناس محرمة أو مشتبهة أو كلها، وآل الأمر
1 مجموع الفتاوى 20/140.
2 الآية 23 من سورة النجم.
ببعضهم إلى إحلالها لذي سلطان، لأنه مستحق لها، وإلى أنه لا يقطع بها يد السارق ولا يحكم فيها بالأموال المغصوبة.
وقد أنكر حال هؤلاء الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره، وذم المتنطعين في الورع1، روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هلك المتنطعون قالها ثلاثا 2.
وورع أهل البدع كثير منه من هذا الباب:
…
فيحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة، والفقه في الدين، وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه، كما فعله أهل البدع من الخوارج والروافض، وغيرهم.
3-
الجهة الثالثة: جهة المعارض الراجح:
هذا من الذي قبله، فإن الشيء قد يكون جهة فساده يقتضي تركه فيلحظه المتورع، ولا يلحظ ما يعارضه من الصلاح الراجح، وبالعكس. فهذا هذا وقد تبين أن من جعل الورع الترك فقط، وأدخل في هذا الورع أفعال قوم ذوي مقاصد صالحة بلا بصيرة من دينهم، وأعرض عما فوّتوه
1 مجموع الفتاوى 20/ 140-141.
2 مسلم بشرح النووي 6/168، برقم (2670) .
بورعهم من الحسنات الراجحة، فإن الذي فاته من دين الإسلام أعظم مما أدركه فإنه قد يعيب أقواما هم إلى النجاة والسعادة أقرب1.
وقد نقلنا بيان هذه الجهات الثلاث بطولها لأهميتها، ولكون أكثر المتورعين الذين عندهم قلة علم، وفقه بالكتاب والسنة، يقعون فيها كلها، أو في بعضها بدون قصد أحيانا، أو سوء فهم أو غير ذلك من المعوقات.
ج - تواضعه
من صفات أمير المؤمنين عمر رحمه الله عند تولِّيه الخلافة خلق "التواضع"، ولا شك أن التواضع صفة حميدة، تحبب المرء الذي يتخلق بها إلى الناس، وتعظمه في نفوسهم، وتجعل منه ملء العيون والقلوب، والناس يعشقون قرب المتواضع ويتمنون لقاءه، ويستأنسون بحديثه، ويتفانون في خدمته، ولذا كان أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز محببا إلى النفوس، وقد حث القرآن الكريم والسنة على التواضع فقال تعالى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً} 2
1 انظر مجموع الفتاوى 20/141-142.
2 الآية 63 من سورة الفرقان.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "أي يمشون بسكينة ووقار متواضعين
…
" 1.
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أوحى إليَّ: أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد"2.
وكان السلف الصالح متواضعين لله تعالى أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، وقد كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى متخلقا بخلق التواضع، ولين الجانب، حسب الروايات التي نقلت هذه الخصلة الحميدة عنه فمنها:
1-
ما رواه ابن سعد بسنده: أن عمر بن عبد العزيز كان إذا سمر في أمر العامة أسرج من بيت مال المسلمين وإذا سمر في أمر نفسه أسرج من مال نفسه. قال فبينما هو ذات ليلة إذ نعس السراج فقام إليه ليصلحه فقيل له: يا أمير المؤمنين إنا نكفيك. فقال: "أنا عمر حين قمت وأنا عمر حين جلست"3.
1 مدارج السالكين 2/340، طبعة دار الكتب العلمية بيروت عام 1408هـ. الطبعة الثانية.
2 صحيح مسلم بشرح النووي 6/323، برقم (2865)[64] .
3 ابن سعد الطبقات 5/399، والفسوى المعرفة والتاريخ 1/577-578، وابن عبد الحكم سيرة عمر ص44.
ومنها ما رواه الفسوي: قال حدثني حرملة، أخبرني وهب، قال: حدثني الليث أن أبا النضر حدثه. قال: دسست إلى عمر بن عبد العزيز بعض أهله، أن قل له، إن فيك كبرًا، وأنه يتكبر. فقيل ذلك، فقال عمر: قل له لبئست ما ظننت إن كنت تراني أتوقى الدينار والدرهم مراقبة الله فأنطلق إلى أعظم الذنوب فأركبه، الكبرياء إنما هو رداء الرحمن، فأنازعه إياه
…
؟! "1.
ومن تواضعه أنه يخدم نفسه، بل يخدم جميع المسلمين عبيدهم وإمائهم، بل يصل تواضعه إلى أن يخدم جاريته، روى ابن الجوزي قال: حدثنا النضر بن سهيل، عن أبيه، قال: قال عمر بن عبد العزيز لجارية له: ياجارية روِّحيني، فأقبلت تروِّحه، فغلبتها عيناها فنامت، فأخذ المروحة وأقبل يروِّحها، فانتبهت فصاحت، فقال لها عمر: إنما أنت بشر مثلي أصابك من الحرِّ ما أصابني، وأحببت أن أروحك مثل الذي روَّحتني2.
وكان عمر إذا دخل بيته يخدم أهله كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، جاءت امرأة من العراق فدخلت على زوجته فاطمة، فجاء عمر فأقبل حتى دخل الدار، فمال إلى بئر في ناحية الدار، فانتزع منها دلاء صبَّها على طين، كان بحضرة البيت، وكان يكثر النظر إلى فاطمة فقالت لها
1 الفسوى المعرفة والتاريخ 1/581-582.
2 ابن الجوزي سيرة عمر ص213.
المرأة استتري من هذا الطيان فإني أراه يديم النظر إليك فقالت: ليس هو بطيان هو أمير المؤمنين
…
"1.
ولم يكن -رحمه الله تعالى- يحب مظاهر التكبر والاحترام الزائد، والغلو في الأمور، وإنما كان أموره كلها متوسطة، لا إفراط فيها ولا تفريط. ولذلك كان ينهى حراسه أن يقوموا إجلالاً له وأن يبدأوه بالسلام، فروى ابن عبد الحكم قال: وكان عمر ابن عبد العزيز يتقدم إلى الحرس إذا خرج عليهم أن لا يقوموا إليه ويقول لهم: لا تبتدأوني بالسلام إنما السلام علينا لكم2. كما أذن عمر في إباحة دخول المظلومين عليه بغير إذن3، ولا طلب، وإنما يكفي المظلوم أن يقوم بالدخول متى وجد فرصة ليتظلم، وليأخذ حقه فالضَّعيف عنده قوي حتى يأخذ حقه، والقوي ضعيف حتى يؤخذ الحق منه.
ولتواضعه لم يكن يستنكف أن يجلس إليه أحد من عبيده، ولا يريد من أحد منهم أن يتهيَّب في الجلوس إليه، يجلس على الأرض، ويأبى أن يتميز على الناس بمركب أو مأكل أو مشرب، أو ملبس، وكان ينكر
1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص149.
2 المصدر السابق ص40.
3 المصدر السابق ص41.
ذاته، دخل عليه رجل فقال له يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك كانت الخلافة لهم زينا وأنت زين الخلافة وإنما مثلك كما قال الشاعر:
وإذا الدر زان حسن وجوه ** كان للدر حسن وجهك زينا.
فأعرض عنه عمر1.
وقال له رجل: جزاك الله عن الإسلام خيراً فقال: لا بل جزى الله الإسلام عني خيرا.
ودخل عليه رجل وهو في ملإ من الناس، فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال: عم بسلامك.2
1 أبو نعيم في الحلية 5/329.
2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص106.
المبحث الخامس: فضائله رحمه الله تعالى
الخليفة عمر بن عبد العزيز صاحب فضائل مأثورة ومناقب جمة، ولا شك أنه من فضلاء التابعين الذين نص الحديث الصحيح بأنهم خير القرون بعد الصحابة حيث قال عليه الصلاة والسلام: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم1
…
" الحديث، علاوة على هذا فقد انفرد بفضائل من أهمها ما يلي:
1-
كونه من الخلفاء العدول، والعدل أساس الملك، وقد مدحه الله في عدة آيات منها ما يأتي:
قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 2.
وقال عز وجل: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} 3.
وقال عليه الصلاة والسلام: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل
…
" 4.
1 البخاري مع الفتح 7/3، رقم (3651) .
2 الآية 8 من سورة الممتحنة.
3 الآية 29 من سورة الأعراف.
4 البخاري 2/143،رقم (660) ، ومسلم 3/99، رقم (1031) .
فهذه النصوص تبين لنا أهمية العدل، وبعضها نصت على فضيلة الإمام العادل وقد كان عمر بن عبد العزيز متصفا بالعدل في الرعية حتى مع أهل الملل الأخرى، كما حدث له مع نصارى دمشق بشأن الجامع الأموي1، ولم يقتصر عدله بين رعيته من الناس. فقد كان رحيما محبا للعدل حتى مع الدواب، فقد روى أبو نعيم أنه كان لعمر بن عبد العزيز غلام يعمل على بغلة له، وكان يأتيه كل يوم بدرهم، فجاءه يوما بدرهم ونصف، فقال: من أين لك هذا؟ قال الغلام: نفقت السوق قال لا، ولكنك أتعبت البغل أرحه ثلاثة أيام2.
ولحرصه على العدل وتطبيق نصوص الكتاب والسنة، والاقتداء بالصحابة رضوان الله عليهم بدأ بنفسه وبأهله فأخرج كل ما بيده من الأموال، وردها إلى بيت المال. وكذلك فعل مع قرابته من بني أمية، ثم رد
1 انظر البداية والنهاية 5/169، وذلك أن النصارى في أيام عمر بن عبد العزيز طلبوا منه أن يعقد لهم مجلسا في شأن مكان أخذه منهم الوليد بن عبد الملك، وكان عمر عادلا فأراد أن يرد عليهم ما كان أخذه منهم الوليد فأدخله في الجامع ثم حقق عمر القضية. ثم نظر فإذا الكنائس التي هي خارج البلد لم تدخل في الصلح الذي كتبه لهم الصحابة فخيرهم عمر بين رد ما سألوه وتخريب هذه الكنائس كلها أو تبقى تلك الكنائس ويطيبوا نفسا للمسلمين بهذه البقعة فاتفقوا بعد ثلاثة أيام على بقاء الكنائس فكتب لهم أمان بها. البداية والنهاية لابن كثير 5/170.
2 أبو نعيم في الحلية 5/260، وابن الجوزي سيرة عمر ص101.
المظالم التي كانت قد أخذت، حتى إنه كان يرد المظلمة بدون شهود إذا تأكد من وجودها، كما تنازل عن فدك لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وخرج عن كل الإقطاعات والصفايا وردها إلى بيت المال، وكان يتدرج في هذه الأمور كلها فقد سأله ابنه البار "عبد الملك": لماذا لا يمضى لما يريد من العدل؟ فأجابه عمر: يا بني إنما أُروِّض الناس رياضة الصعب، إني لأريد أن أحيي الأمور من العدل، فأوخر ذلك حتى أخرج معه طمعا من طمع الدنيا، فينفروا لهذه ويسكنوا لهذه.
وكان يؤلف الناس بالعطايا حتى يقبلوا الحق الذي يريده منهم، فعن هشام بن عبد الملك قال: قال عمر بن عبد العزيز: ما طاوعني الناس على ما أردت من الحق حتى بسطت لهم من الدنيا شيئاً1.
والتدرج في الأمور من سنن الله تعالى ثم إنه من سنن رسله عليهم الصلاة والسلام واستعماله هذا التدرج يُعَدُّ من عمق فقهه لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه وإخلاصه رحمه الله.
2-
ومن فضائله رحمه الله تعالى ما ذكره بعض أهل العلم من أنه هو المجدد للقرن الأول، وهو المقصود بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها"2.
1 ابن الجوزي سيرة عمر ص136- 137.
2 سنن أبي داود 4/480، والحاكم في المستدرك 4/522-523 وصححه ووافقه الذهبي، وصحح الحديث الشيخ ناصر الدين الألباني. انظر صحيح سنن أبي داود 3/809.
ولا شك أن عمر بن عبد العزيز خليق بأن يحمل عليه هذا الحديث، فقد كان عالما عاملا، همه كله وعزمه، وهمته، آناء الليل والنهار إحياء السنن، ونصر صاحبها، وإماتة البدع، ومحدثات الأمور ومحوها، وكسر أهلها باللسان، والسنان، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: ولم يسلم بتوفر جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يدعى ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير، وتقدمه فيها، ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعي، وإن كان متصفا بالصفات الجميلة إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد، والحكم بالعدل
…
1.
3-
ومن فضائله رحمه الله تعالى ما ذكره ابن عبد الحكم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رؤيا ثم استيقظ وقال: "إن من ولدي رجلا بوجهه أثر يملأ الأرض عدلا"2.
ولا شك عمر بن الخطاب قد خص بالذكر في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر
…
" 3.
1 البخاري مع الفتح 13/295.
2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص20.
3 البخاري مع الفتح 7/42، برقم (3689) .
قال الحافظ ابن حجر: والسبب في تخصيص عمر بالذكر لكثرة ما وقع له في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من الموافقات التي نزل القرآن مطابقا لها ووقع له بعد النبي صلى الله عليه وسلم عدة إصابات"1.
ولعل هذه الرؤيا مما وقع له من إصابات بعد النبي صلى الله عليه وسلم وقد وردت هذه الرؤيا عند ابن سعد في الطبقات، فروى بسنده قال: أخبرنا عبيد الله بن محمد بن عائشة التيمي ثم القرشي2، حدثنا محمد بن عمر بن أبي شميلة3 عن جويرية بن أسماء4، عن نافع5، قال: قال عمر بن الخطاب: ليت شعري من ذو الشين من ولدي الذي يملؤها عدلا كما ملئت جورا6.
1 البخاري مع الفتح 7/51.
2 ثقة جواد رمى بالقدر ولم يثبت. التقريب ص374.
3 محمد بن عمر بن أبي شميلة لم أجده.
4 جويرية بن أسماء بن عبيد بن مخارق الضبعي صدوق التقريب ص143، وانظر الجرح والتعديل 2/531.
5 نافع أبو عبد الله مولى ابن عمر ثقة فقيه مشهور. التقريب ص559. هذا الإسناد فيه محمد بن عمر بن أبي شميلة لم أقف له على ترجمة
…
وفيه انقطاع أيضا بين نافع وعمر رضي الله عنه.
6 ابن سعد الطبقات 5/330.
وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يحدث بهذا كثيرا، ولعله مما حفظه عن أبيه عمر فقال ابن سعد: أخبرنا سليمان بن حرب1، قال: حدثنا المبارك بن فضالة2، عن عبيد الله بن عمر3، عن نافع، عن ابن عمر: قال: كنت أسمع ابن عمر كثيرا يقول: ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر في وجهه علامة يملأ الأرض عدلا4.
وقال: أخبرنا يزيد بن هارون عن الماجشون عن عبد الله بن دينار5، قال: قال ابن عمر: إنا كنا نتحدث أن هذا الأمر لا ينقضي حتى يلي هذه
1 سليمان بن حرب الأزدي الواشحي بمعجمة ثم مهملة البصري قاضي مكة ثقة إمام حافظ. التقريب ص250.
2 المبارك بن فضالة بفتح الفاء وتخفيف المعجمة أبو فضالة البصري صدوق يدلس ويسوى. التقريب ص519.
3 عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري، المدني، أبو عثمان ثقة ثبت قدمه أحمد بن صالح على مالك في نافع. التقريب ص373، قلت: إسناده ضعيف لعنعنة مبارك وهو مدلس من المرتبة الثالثة.
4 ابن سعد الطبقات 5/331.
5 يزيد بن هارون بن زازان السلمي مولاهم أبو خالد الواسطي ثقة متقن عابد. تقريب ص 606. والماجشون هو عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون بكسر الجيم بعدها معجمة مضمونة المدني نزيل بغداد مولى آل الهدير ثقة فقيه مصنف. التقريب ص 357، وعبد الله بن دينار العدوي مولاهم أبو عبد الرحمن = المدني مولى ابن عمر ثقة من الرابعة. التقريب ص302. رجاله ثقات، وصححه النووي في تهذيب الأسماء واللغات 2/19.
الأمة رجل من ولد عمر يسير بسيرة عمر فيها بوجهه شامة قال: فكنا نقول هو بلال بن عبد الله بن عمر، وكانت بوجهه شامة. قال: حتى جاء الله بعمر بن عبد العزيز وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب1.
فيستأنس بما سبق من الآثار أنه رحمه الله تعالى كان مجددا لما توفر فيه من صفات تجعله خليقا بهذا الوصف.
وتوجد نصوص وآثار عن عدة من فضلاء التابعين تجعل عمر بن عبد العزيز هو المهدي المنتظر، فروى ابن سعد قال: أخبرنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي2، قال: أخبرنا عبد الجبار بن أبي معن3، قال: سمعت سعيد ابن المسيب4، وسأله رجل فقال: يا أبا محمد من المهدي؟ فقال له سعيد: أدخلت دار مروان؟ قال: لا. قال: فادخل دار مروان تر المهدي! قال: فأذن عمر بن عبد العزيز للناس، فانطلق الرجل حتى دخل دار مروان
1 ابن سعد الطبقات 5/331.
2 عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي أبو علي البصري صدوق لم يثبت أن يحيى بن معين ضعفه من التاسعة. مات سنة 209. التقريب ص373.
3 عبد الجبار بن أبي معن لم أجده.
4 سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار. التقريب ص241.
فرأى الأمير، والناس مجتمعين، ثم رجع إلى سعيد بن المسيب فقال: يا أبا محمد دخلت دار مروان فلم أر أحدا أقول هذا المهدي. فقال له سعيد بن المسيب - وأنا أسمع-: هل رأيت الأشج عمر بن عبد العزيز القاعد على السرير؟ قال: نعم. قال: فهو المهدي1.
قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: حدثني مسلمة أبو سعيد، قال: سمعت العزرمي يقول: سمعت محمد بن علي يقول: النبي منا، والمهدي من بني عبد شمس، ولا نعلمه إلا عمر بن عبد العزيز، قال: وهذا في خلافة عمر بن عبد العزيز2.
قال: أخبرنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثني أبو بكر بن الفضل بن المؤتمر العتكي، قال: حدثني أبو يعفور، عن مولى لهند بنت أسماء قال: قلت لمحمد بن علي: إن الناس يزعمون أن فيكم مهديا فقال: إن ذاك كذاك، ولكنه من بنى عبد شمس. قال: كأنه عني عمر بن عبد العزيز3.
1 ابن سعد الطبقات 5/333، فالأثر ضعيف لوجود هذا المجهول عبد الجبار بن أبي معن ومتنه لا يستقيم لأن المهدي المنتظر يكون في آخر الزمان ثم إن المسألة توقيفية لا رأي لأحد فيها.
2 ابن سعد الطبقات 5/333.
وأحمدبن عبد الله بن يونس بن عبد الله بن قيس التميمي اليربوعي الكوفي ثقة حافظ. تقريب ص81.
ومسلمة أبو سعيد هو مسلمة بن عُلَيِّ الخشني بضم الخاء وفتح الشين المعجمة ثم نون أبو سعيد الدمشقي البلاطي، متروك من الثامنة. والتقريب ص531.
والعزرمي هو محمد بن عبيد الله بن أبي سليمان بن ميسرة العزرمي صدوق له أوهام. التقريب ص494، ويمكن أن يكون هو عبد الملك بن أبي سليمان بن يسرة العزرمي صدوق له أوهام. التقريب ص363.
ومحمد بن علي بن الحسين الباقر ثقة فاضل. التقريب ص497. فالأثر ساقط لوجود المتروك ومتنه يحتاج إلى نص عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
3 ابن سعد الطبقات 5/333، ومسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي، أبو عمرو البصري ثقة مأمون مكثر. التقريب ص529.
وأبو بكر بن الفضل العتكي قال عنه أبوحاتم: شيخ. انظر الجرح والتعديل9/341-342.
وأبو يعفور الثقفي الكوفي لا بأس به. انظر الجرح والتعديل 9/460، ومولى هند بنت أسماء مبهم. فالأثر ضعيف، ويحتاج متنه إلى توقيف.
فلو صحت هذه الآثار عن هؤلاء الفضلاء لأمكن حملها على أن مقصودهم بذلك أن عمر بن عبد العزيز من ضمن الأئمة المهديين الذين جاء الحديث الصحيح بذكرهم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يزال هذا الأمر قائما حتى يلي أمر هذه الأمة اثنا عشر خليفة كلهم من قريش"1.
أما أن يكون المقصود بها أن عمر بن عبد العزيز هو المهدي المنتظر الذي يأتي في آخر الزمان، فهذا مردود، لأن المهدي المنتظر يكون خروجه قريبا مع نزول عيسى عليه السلام، وهو من ذرية الرسول صلى الله عليه وسلم ويكون اسمه موافقا لاسم الرسول صلى الله عليه وسلم واسم أبيه، وكذلك أنه يأتي في
1 صحيح مسلم 4/520- 521.
وقت، والمسلمون بدون حاكم إلى آخر صفاته التي لا تنطبق على عمر بن عبد العزيز اللهم إلا إذا أريد بالمهدي بمعنى المجدد، فهذا لا حرج فيه. والله أعلم.
4-
ومن فضائله رحمه الله تعالى أنه كان مستجاب الدعاء، فروى ابن عبد الحكم أن ابن الريان كان سيافا للوليد بن عبد الملك، فلما ولي عمر الخلافة قال: إني أذكر بأوه1، وتيهه، ثم قال: اللهم إني قد وضعته لك فلا ترفعه" فما رئي شريف قد خمد ذكره مثله حتى لا يذكر2.
وعمر رحمه الله تعالى لم يدع عليه هنا لأمر شخصي أو خلافي كان قد نشأ بينهما فيما سبق وإنما دعا عليه لتيهه، وتكبره على الخلق، وظلمه، وغشمه، واعتدائه على الناس، وعمر العادل تكره نفسه مثل هذه النفوس فأجاب الله دعاءه. وقد دعا عمر رحمه الله تعالى حين حج فأخبر قبل دخوله إلى مكة بقلة الماء فيها، فدعا عند ذلك فأجاب الله دعاءه. فسقوا وهذا حين كان أميرا على المدينة3، كما دعا على غيلان القدري حين
1 بأْوَه: قال ابن فارس: والهمزة والواو كلمة واحدة: وهو العجب. انظر معجم مقاييس اللغة 1/328.
2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص30.
3 ابن كثير البداية والنهاية 5/83.
ناظره فقال: اللهم إن كان عبدك غيلان صادقا، وإلا فاصلبه، فصلب بعد في خلافة هشام بن عبد الملك1.
5-
ومن فضائله رحمه الله ما روي عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم في النبوة ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء، ثم يكون خلافة على منهاج النبوة تكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء، ثم تكون جبرية تكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة".
قال: فقدم عمر يعني ابن عبد العزيز ومعه يزيد بن النعمان فكتبت إليه أذكره الحديث وكتبت إليه - الكاتب هو حبيب بن سالم أو داود الواسطي - إني أرجوا أن يكون أمير المؤمنين بعد الجبرية قال: فأخذ يزيد الكتاب فأدخله على عمر فسُرَّ به وأعجبه2.
وكذلك من فضائله كثرة الخيرات في خلافته فكانت مدة ولايته ثلاثين شهرا تقريبا وما مات حتى جعل الرجل يأتي بالمال العظيم فيقول:
1 انظر الآجرى الشريعة 1/438.
2 البيهقى دلائل النبوة 6/ 492.والحديث أخرجه الطيالسي ج 1 ص 350 وقال محقق الكتاب: إسناده حسن انظر مسند الطيالسي تحقيق الدكتور محمد بن عبد المحسن التركي ط هجر.
اجعلوا هذا المال حيث ترون في الفقراء فما يبرح حتى يرجع بماله يتذكر من يضعه فيهم فلا يجده، فيرجع بماله وقد أغنى عمر الناس1.
وهناك فضائل ذكرها العلماء لعمر بن عبد العزيز وهي مبالغ فيها جدا فلا فائدة في ذكرها لظهور ضعفها وكون أكثرها من الإسرائيليات والمنامات.
وعمر بن عبد العزيز رحمه الله كما ظهر مما سبق من المشهود لهم بالفضل والخير وقد ورد في الحديث "إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانا فأحبه قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض.."2.
وقد روى الإمام مسلم بسنده عن سهيل بن أبي صالح أنه كان في عرفة مع أبيه فمر عمر بن عبد العزيز وهو على الموسم، فقام الناس ينظرون إليه. قال: فقلت لأبي: يا أبت إني أرى الله يحب عمر بن عبد العزيز قال: وما ذاك؟ قلت: لما له من الحب في قلوب الناس، فقال: بأبيك أنت سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الحديث المتقدم3.
1 البيهقي دلائل النبوة 6/492، وانظر أبو عبيد الأموال ص552.
2 مسلم بشرح النووي 6/140 رقم 2637.
3 مسلم بشرح النووي 6/141.]
وقوله عليه الصلاة والسلام: "
…
أنتم شهداء الله في الأرض
…
" 1، فمن هذين النصين وغيرهما من النصوص نرجو إن شاء الله أن يكون عمر ابن عبد العزيز ممن سبقت لهم الحسنى والله أعلم.
المبحث السادس: وفاته رحمه الله تعالى
1 البخاري مع الفتح 3/228-229، ومسلم برقم 949.
يذكر غالب المؤرخين وغيرهم في سبب وفاة عمر بن عبد العزيز بأنه مات مسموما1، بينما ذهب آخرون إلى أن ذلك كان بسبب عزوفه عن مأكل طيب، ومشرب هني، يعوض بنيته ما تفقده من طاقة هائلة في العمل الذي لا يهدأ ليلا ونهارا، فلما أمسكت به علة -لم يحدد المؤرخون 2 طبيعتها ولا فصلوا القول فيها - تشبثت بجسمه المنهك الضعيف عشرين يوما حتى كانت الوفاة3.
وتوجد رواية عند أبي حفص الملاء مفادها أن أهل عمرلم يزالوا يراودونه على أخذ بوله ليعتبره الطبيب فيأبى ذلك، حتى أخذوه يوما في طست، وقلبوه في قارورة ونفذوه إلى الطبيب من حيث لا يشعر لمن هو. فأخذ الناس يعرضون عليه قواريرهم ويصف لهم ما يصف، حتى جيء
1 انظر ابن كثير البداية والنهاية 5/234، والذهبي سير أعلام النبلاء 5/140، والطبري تاريخ الطبري 5/556، وابن عبد ربه العقد الفريد 4/432، وابن الجوزي ص340، وأبو حفص الملاء 2/637.
2 حددها ابن كثير بأنها "السل". انظر البداية والنهاية 5/234، وابن عساكر 45/274.
3 انظر عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم ص254، تأليف ماجدة فيصل زكريا ط. مكتبة الطالب الجامعي مكة المكرمة عام 1407هـ.
بقارورة عمر، فلما نظر فيها قال: إني لأرى في هذا الماء عجبا. قال: وما هو العجب؟ قال: إن هذا بول رجل فتت الحزن كبده1.
وتوجد رواية عند ابن سعد وغيره تبين سلامة بوله، فعن عبد المجيد بن سهل قال: لقيت الطبيب وقد خرج من عند عمر بن عبد العزيز فقلت له: رأيت اليوم بوله؟ فقال: ما ببوله بأس إلا الهم بأمر الناس2، ولما سئلت زوجته عن بدء مرضه قالت: أرى كل ذلك أو جله الخوف3.
ويبدو أنه لا معارضة بين هذه الأسباب المذكورة فلعلها كلها قد اجتمعت عليه فقد ألزم نفسه حسب الروايات التي وصلت إلينا بأعمال شاقة عليه، وعزف عن المأكل الطيب الذي كان قد تعوده قبل خلافته، ثم شدد على أقربائه من أمراء البيت الأموي، ولم يكن يتحرز كثيرا في مأكله ومشربه، فأصبحت الفرصة سانحة لسقيه السم، وقد فصل بعض المؤرخين كيفية سقيه السم، حيث ذكروا بأن خادمه وضع السم في ظفر إبهامه فلما استقى عمر غمس إبهامه في الماء، ثم سقاه، فمرض عمر مرضه الذي مات فيه4.
1 أبو حفص الملاء 2/639.
2 ابن سعد الطبقات 5/404.
3 المصدر السابق 5/404.
4 العقد الفريد 4/432، والبداية والنهاية 5/234.
ولعله حين علم بسقيه السم وتيقن بذلك دعا على نفسه بالموت كما سيأتي فروى أبو زرعة الدمشقي أن عمر قال: اللهم إني قد مللتهم، وملوني، فأرحني منهم وأرحهم مني1. كما روى ابن عبد الحكم أن عمر دعا ابن أبي زكريا، وطلب منه أن يدعو له بالموت فدعا له2.
وهكذا مات في أخريات رجب لسنة إحدى ومائة ولخمس، أو ست، أو عشر بقين من الشهر، وكان موته يوم الجمعة عن أربعين سنة في أصح الأقوال3.
وكانت مدة خلافته سنتين وخمسة أشهر أو ستة أشهر وعليهن أيام كما كانت خلافة الصديق رضي الله عنه 4.
ولا شك أن موته كانت خسارة فادحة في حق المسلمين، يظهر ذلك من مواقف الناس حين سمعوا بموته، ومن الرثاء له، واتفاقهم على الحزن عليه والتأسف لفقده. فقد روى أن مسلمة بن عبد الملك نظر إلى عمر بن
1 تاريخ أبي زرعة الدمشقي ص46.
2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص99-101.
3 ابن سعد الطبقات 5/407-408.
4 انظر البداية والنهاية 5/214، وابن سعد الطبقات 5/408.
عبد العزيز وهو مسجى فقال له: يرحمك الله يا عمر لقد لينت لنا قلوبا قاسية، وأبقيت لنا في الصالحين ذكرا.
ولما بلغ الحسن البصري موت عمر قال: إنا لله وإنا إليه راجعون يا صاحب كل خير1.
وقال عبد الملك بن عمير: رحمك الله يا عمر، إن كنت لغضيض الطرف، أمين الفرج، جواداً بالحق، بخيلا بالباطل، تغضب في حين الغضب، وترضى في حين الرضى، وما كنت مزاحا، ولا عَيابًا، ولا مرتابا، ولا بهاتا2.
وروي أن جماعة من الفقهاء جاءوا إلى فاطمة زوجته فقالوا لها: اعلمي أن الرزية بأمير المؤمنين عمر عامة، والمصيبة به شاملة3.
وكان رسول عمر بن عبد العزيز إذا وصل إلى البصرة تلقاه الناس بالرحب والسعة، فإنه كان لا يأتي إلا بزيادة عطاء، أو بإنفاذ مال يتفقد أحوال الفقراء، فلما وصل الرسول بموته هرع الناس إليه جريا على
1 ابن الجوزي سيرة عمر ص353، وأبو حفص الملاء 2/674.
2 ابن الجوزي سيرة عمر ص354، وأبو حفص الملاء 2/674.
3 ابن سعد الطبقات 5/270، وأبو نعيم فى الحلية 5/260، وابن الجوزي سيرة عمر ص353، وأبو حفص الملاء 2/676.
عادتهم، فلما أخبر بموته ضج الناس بالبكاء والعويل، وغم ذلك أهل البصرة بأسرهم، وعمت مصيبته1.
وقد رثاه عدة من الشعراء - مع كونه قد أقصاهم وأدّب بعضهم - بقصائد نختار اثنتين منها وهي كما يلي:
فقال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز:
تنعى النعاة أمير المؤمنين لنا
…
ياخير من حج بيت الله واعتمرا.
حملت أمرا عظيما فاصطبرت له
…
وقمت فيه بأمر الله يا عمرا.
فالشمس كاسفة ليست بطالعة
…
تبكي عليك، نجوم الليل والقمرا2
وقال كثير عزة يرثي عمر:
لقد كنت للمظلوم عزا وناصرا
…
إذا ما تعيا في الأمور حصونها.
كما كان حصنا لا يرام ممنعا
…
بأشبال أسْد لا يرام عرينها
وليت فما شانتك فينا ولاية
…
ولا أنت فيها كنت ممن يشينها
إلى أن يقول:
سقى ربنا من دير سمعان حفرة
…
بها عمر الخيرات رهنا دفينها
صوابح من مزن ثقال غواديا
…
دوالح دهما ماخضات دجونها3
1 أبو حفص الملاء 2/475.
2 ديوان جرير ص235 ط. دار صادر بيروت.
3 ديوان كثير ص235-236، شرح وتحقيق الدكتور رحاب عكاوي ط. دار الفكر العربي بيروت ط. الأولى 1996م.
قال ابن كثير: وكانت وفاته بدير سمعان من أرض حمص، وصلى عليه ابن عمه مسلمة بن عبد الملك، وقيل صلى عليه يزيد بن عبد الملك. وقد ذكر المؤرخون أخباراً مبالغا فيها في كراماته عند وفاته، وقد قال ابن كثير في بعض هذه الأخبار: وفيها غرابة شديدة كما سبق ذكره والله أعلم1.
1 ابن كثير: البداية والنهاية 5/ 178، و179.