الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في التبرك
.
تمهيد:
أصل البركة في اللغة العربية: "الثبوت واللزوم" فكل شيء ثبت وأقام فقد برك1 وتطلق البركة على النماء والزيادة، والتبريك هو الدعاء للإنسان بالبركة، والتبرك بالشيء طلب البركة بواسطته، والبركة في القرآن والسنة هو ثبوت الخير ودوامه أو كثرة الخير وزيادته أو اجتماعهما معا2.
والبركة في الاصطلاح هو "ثبوت الخير الإلهي في الشيء"3، والتبرك هو: طلب حصول الخير بمقاربة ذلك الشيء وملابسته4.
ولا شك أن التبرك بالشيء له تعلق بالشرع فينقسم إلى قسمين:
أ- تبرك مشروع وهو الذي أذن به الشرع أو أمر به.
ب- وتبرك ممنوع وهو عكس الأول.
وفيما يلي الآثار المروية عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله في التبرك:
1 انظر معجم مقاييس اللغة 1/227- 228، ولسان العرب 1/396.
2 انظر التبرك أنواعه وأحكامه ص39.
3 المفردات ص44 للراغب الأصفهاني.
4 انظر التبرك أنواعه وأحكامه ص39.
38/1- روى البخاري عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم
…
حتى جلس في سقيفة بني ساعدة وأصحابه ثم قال: "اسقنا ياسهل". فأخرجت لهم هذا القدح فأسقيتهم فيه. قال: فأخرج لنا سهل ذلك القدح فشربنا منه، قال: ثم استوهبه عمر بن عبد العزيز فوهبه له"1.
39/2- الذهبي قال: قال مروان بن محمد، حدثنا محمد بن مهاجر، حدثني أخي عمرو أن عمر بن عبد العزيز كان يلبس برد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأخذ قضيبه في يده يوم العيد2.
40/3- ابن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: أخبرنا محمد بن مسلم بن جماز عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله قال: أوصى عمر بن عبد العزيز عند الموت فدعا بشعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم وأظفار من أظفاره وقال: إذا مت فخذوا الشعر والأظفار ثم اجعلوه في كفني ففعلوا ذلك3.
41/4- عبد الله بن الإمام أحمد قال: حدثني أبي، حدثنا هشام بن سعيد، حدثنا محمد بن مهاجر، حدثني أخي عمرو بن مهاجر، قال: كان لعمر بن عبد العزيز بيت يخلو فيه، في ذلك البيت ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم
1 البخاري مع الفتح 10/98- 99، رقم 5637.
2 سير أعلام النبلاء 5/135.
3 ابن سعد الطبقات 5/406، فالأثر ضعيف لوجود محمد بن عمر لكن ورد عن أنس بن مالك مثل فعل عمر. انظر البخاري مع الفتح 11/70.
فإذا سرير مرمول1 بشريط وقعب2 يشرب فيه الماء، وجرة3 مكسورة الرأس يجعل فيها الشيء، ووسادة من أدم محشوة ليف وقطيفة غبراء كأنها من هذه القطف الجرمقانية فيها من وسخ شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقول:"يا قريش هذا تراث من أكرمكم الله عز وجل به وأعزكم يخرج من الدنيا على ما ترون"4.
1 مرمول: منسوج: والمراد أنه سرير قد نسج وجهة بالصوف ولم يكن عليه وطاء سوى الحصير. انظر النهاية 2/265.
2 القدح الضحم الذي يروى الرجل. انظر القاموس المحيط ص162.
3 الجرة: إناء من خزف
…
المعجم الوسيط ص116.
4 الإمام أحمد بن حنبل الزهد مع زوائد ابنه عبد الله ص19، وهشام بن سعيد هو: أبو أحمد الطالقاني، روى عن محمد بن مهاجر الأنصاري، روى عنه أحمد بن حنبل، ثقة. انظر الجرح والتعديل 9/62- 63.
ومحمد بن مهاجر الأنصاري الشامي أخو عمرو، ثقة من السابعة. مات سنة سبعين. بخ م14. انظر تقريب التهذيب ص509.
وعمرو بن المهاجر بن أبي مسلم الأنصاري أبو عبيد الدمشقي ثقة، من الخامسة مات سنة تسع وثلاثين وله أربع - أو خمس- وسبعون سنة. ي د ق. انظر تقريب التهذيب ص427.
وقد خرج الأثر أبو نعيم في الحلية 5/326- 327، وأبو حفص الملاء 2/459- 460.
التعليق:
إن الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى- في هذا المبحث أثار تبين تبركه رحمه الله بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم الباقية في عهده. والتبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم مما اتفق عليه أهل العلم قاطبة لأنه صلى الله عليه وسلم مبارك الأعيان والصفات، وبعد التحاقه بالرفيق الأعلى بقيت بعض الأشياء التي كان يستعملها، كبعض لباسه، ومقتنياته الشخصية، وبقية أظفاره وشعره، والقدح الذي شرب منه، وغير ذلك، فحرص عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- على اقتناء بعض هذه الأشياء تبركا بها، وهذا تبرك مشروع، مع العلم بأننا الآن لا يمكن أن نثبت على وجه الجزم واليقين وجود هذه المقتنيات الخاصة به صلى الله عليه وسلم، وقد تبرك عمر بن عبد العزيز بالقدح الذي شرب منه النبي صلى الله عليه وسلم وهو تبرك مشروع، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يشربون من القدح الذي شرب منه النبي صلى الله عليه وسلم، فأخرج البخاري في صحيحه عن عاصم الأحول قال: رأيت قدح النبي صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك رضي الله عنه وكان قد انصدع فسلسله بفضة قال أنس: "لقد سقيت في هذا القدح أكثر من كذا وكذا"1.
1 البخاري مع الفتح 6/252.
والمقصود أن الصحابة كانوا يتبركون بالشرب في القدح الذي شرب منه النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك اقتناء عمر - رحمه الله تعالى- البردة والقضيب وتبركه بهما من التبرك المشروع لما ورد في الصحيح عن أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة رضي الله عنها كساء ملبدا1 وقالت "في هذا نزع روح النبي صلى الله عليه وسلم 2".
وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أنها أخرجت جبة طيالسة وقالت: هذه كانت عند عائشة حتى قبضت، فلما قبضت قبضتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها فنحن نغسلها للمرضى يستشفي بها3.
فهذه الأحاديث الصحيحة وغيرها كثير تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاته وما انفصل من جسده من شعر وعرق، ولباس، وما استعمله من
1 ملبدا: أي مرقعا، وقيل: الملبد الذي ثخن وسطه وصفق حتى صار يشبه اللبدة. انظر النهاية 4/224.
2 صحيح مسلم 5/245- 246،رقم (2080) ، والبخاري مع الفتح 6/212، (3108) .
3 صحيح مسلم بشرح النووي5/237/برقم2069.
الأواني وغيرها قد جعل الله فيه من البركة ما يستشفي به ويرجى بسببه الفائدة في الدنيا والآخرة1.
ووصية عمر - رحمه الله تعالى - بأن يجعل في كفنه بعض أشعار رسول الله صلى الله عليه وسلم له في ذلك سلف صدق من الصحابة، ففي صحيح البخاري أنه لما حضر بأنس بن مالك الوفاة أوصى بأن يجعل في حنوطة سك2 كان فيه شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت أم سليم قد جمعته وفيه عرقه وشعره صلى الله عليه وسلم3.
ومن المهم الإشارة إلى أنه قد ذهب بعض الخلف4 إلى جواز قياس غير النبي صلى الله عليه وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فيستحب التبرك بآثار الصالحين مثل التمسح بهم أو بثيابهم، وحمل المولود إلى أحد منهم ليحنكه بتمرة حتى يكون أول ما يدخل جوفه ريق الصالحين، والتبرك بعرقهم ونحو ذلك، وهذا خطأ صريح لأن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك مع غيره صلى الله عليه وسلم لا في حياته ولا
1 انظر التبرك المشروع والتبرك الممنوع ص29 لعلي نفيع العلياني.
2 السك: طيب مركب يضاف إلى غيره. انظر الفتح 11/72.
3 انظر البخاري مع الفتح 11/70، وسير أعلام النبلاء 2/307
4 انظر: البخاري مع الفتح 3/130، ومسلم بشرح النووي 5/303، فقد ذهب الإمامان ابن حجر، والنووي إلى جواز التبرك بآثار الصالحين ولا شك أن ذلك زلة منهما يغفر الله لهما والقاعدة عند أهل السنة (أن كل واحد منا يؤخذ من قوله ويرد إلا الرسول صلى الله عليه ويسلم) .
بعد وفاته ولو كان خيرا لسبقوا إليه
…
فدل على أن ذلك مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم1.
ومما يؤكد اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بهذا التبرك أن التابعين رحمهم الله تعالى ومنهم كما سبق عمر بن عبد العزيز قد ساروا على نهج الصحابة رضوان الله عليهم في هذا الباب فلم ينقل عنهم وقوع التبرك بالصحابة وغيرهم ولا فعله التابعون مع فضلائهم وقادتهم في العلم والدين2 بل إنهم منعوا ذلك سدا للذريعة كما يرى الشاطبي رحمه الله فقد قال في بيان هذه العلة "إن العامة لا تقتصر في ذلك على حد بل تتجاوز فيه الحدود وتبالغ بجهلها في التماس البركة، حتى يداخلها للمتبرك به تعظيم يخرج به عن الحد فربما اعتقد في المتبرك به ما ليس فيه
…
"3.
فالاقتصار على ما جاء به النص هو سبيل المؤمنين الذين أنعم الله عليهم من الصديقين والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
1 انظر تيسير العزيز الحميد ص186.
2 انظر فتح المجيد ص106 وكتاب الدين الخالص لمحمد صديق حسن 2/250.
3 الاعتصام للشاطبي ص77 ط. دار الكتب العلمية ط. الثانية 1411هـ بيروت.