الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في الإيمان باليوم الآخر وما يقع فيه من أمور
المبحث الأول: الآثار عن عمر في عذاب القبر ونعيمه
…
تمهيد:
إن الإيمان باليوم الآخر وما يقع فيه من أمور قد كثر ذكره والتذكير به في الكتاب. قال تعالى في وصف المؤمنين: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} 1. وقال عز وجل في وصف الكفار: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} 2.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور أهمية الإيمان باليوم الآخر حيث جعله صلى الله عليه وسلم أحد أركان الإيمان، فقال في تعريفه للإيمان: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر
…
"3.
والحديث عن الإيمان باليوم الآخر يشتمل على أمور كثيرة. فكل ما أخبر به الله ورسوله مما يكون بعد الموت، من عذاب القبر ونعيمه، وما يكون من البعث والنشور، وما يكون في يوم القيامة من ثواب وعقاب وجنة ونار. ويلحق العلماء ما يكون قبل ذلك من علامات وأشراط، كل ذلك داخل في الإيمان باليوم الآخر. هذا ولما كان الموت والقبر وعذابه أو نعيمه أول منازل الآخرة فيجدر تقديم ما أثر عن عمر رحمه الله في هذه
1 سورة النمل، الآية 13.
2 سورة هود، الآية 19.
3 أخرجه مسلم 1/131.
المسألة على المسائل الأخرى لتكتمل الصورة ولتعم الفائدة ثم يعقب بعدها بالمسائل التي أثرت عنه في الإيمان بهذا اليوم العظيم.
المبحث الأول: الآثار عن عمر بن عبد العزيز في الإيمان بعذاب القبر ونعيمه.
134/1- ابن عبد الحكم قال: قال عمر بن عبد العزيز لرجل: يا فلان قرأت البارحة سورة فيها زيارة {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} 1، فكم عسى الزائر يلبث عند المزور حتى ينكفئ إما إلى جنة وإما إلى نار2.
135/2 - ابن عبد الحكم قال: خطب عمر بن عبد العزيز الناس فقال: "
…
أيها الناس ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين وفي بيوت الميتين وفي دور الظاعنين جيرانا كانوا معكم بالأمس أصبحوا في دور خامدين، بين آمن روحه إلى يوم القيامة وبين معذب روحه إلى يوم القيامة
…
"3.
1 الآيتان 1و2 من سورة التكاثر.
2 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص121، وأخرج الأثر ابن أبي الدنيا في الرقة والبكاء ص357، وابن الجوزي سيرة عمر 230، وأبو نعيم في الحلية 5/317، وأبو حفص الملاء 1/336.
3 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص117، وأبو حفص الملاء 2/450، وأبو نعيم في الحلية 5/266، وابن الجوزي سيرة عمر ص259- 260 بعضه ببعض اختلاف في اللفظ.
136/3 - ابن عبد الحكم قال: خطب عمر بن عبد العزيز بخناصرة فقال: "
…
في كل يوم تشيعون غاديا إلى الله ورائحا قد قضى نحبه وانقضى أجله ثم تغيبونه في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد فارق الأحباب وخلع الأسلاب وواجه الحساب وسكن التراب مرتهنا بعمله غنيا عما ترك فقيرا إلى ما قدم
…
"1.
التعليق:
إن ما أثر عن عمر بن عبد العزيز في الآثار السابقة يدل على إثبات عذاب القبر ونعيمه وإثبات عذاب القبر ونعيمه هو معتقد أهل السنة والجماعة، ولا شك أن الإيمان بذلك واجب، والتصديق به لازم، حسب ما أخبر به الصادق وهو أن الله تعالى يُحْيي العبد المكلف في قبره برد الحياة إليه، ويجعله من العقل في مثل الوصف الذي عاش عليه ليعقل ما يسأل عنه وما يجيب به ويفهم ما أتاه من ربه وما أعد له في قبره من كرامة أو هوان2. وبهذا دلت النصوص من الكتاب والسنة، قال تعالى:
1 ابن عبد الحكم سيرة عمر ص420 43، وابن الجوزي سيرة عمر ص259- 260، وأبو نعيم في الحلية 5/294، وأبو حفص الملاء 2/450.
2 انظر التذكرة للقرطبي ص137. ط. دار الكتب العلمية بيروت ط. الثانية عام 1407هـ.
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة} 1، فقد ثبت في الصحيح أنها نزلت في عذاب القبر2.
وقال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} 3.
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم، فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله تعالى به مقعدا من الجنة فيراهما جميعا. وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين"4. وهذا الذي دل عليه الحديث هو ما فهمه الصحابة والتابعون الذين نزل القرآن بلغتهم كما سبق بيان ما نقل عن عمر بن عبد العزيز، وهو أن
1 الآية 27 من سورة إبراهيم.
2 انظر الروح لابن القيم ص144.
3 الآية 45 سورة غافر.
4 البخاري مع الفتح 3/232، برقم (1374) .
الإيمان بعذاب القبر ونعيمه من الغيب الذي أمرنا بالإيمان به، وأن العبد يرد إليه روحه ويسأله الملائكة وينعم ويعذب في قبره حسب أعماله التي قدمها في الدنيا، ومما يجدر تنبيهه هنا أن ما أثر عن عمر في ذكر أمن الروح وتعذيبه لا يحمل على أنه يرى أن العذاب في القبر إنما هو على الروح فقط دون الجسد لأنه يحتمل أنه أراد بهذا تفسير الحديث "إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة"1، ومن المعلوم أن أحكام البرزخ تقع على الأرواح، والأبدان تبع لها، بخلاف ما في الدنيا فإن الأحكام على الأبدان والأرواح تبع لها، ولهذا فقد صح عن السلف الصالح أن العذاب في القبر على الروح والجسد تبع له. وقد تنعم الروح وتعذب وهي منفردة عن البدن أحيانا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"العذاب والنعيم في القبر" على النفس والبدن جميعا باتفاق أهل السنة والجماعة تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن وتنعم وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين كما يكون على الروح منفردة عن البدن.
1 الحديث رواه أحمد في المسند 6/386، وابن ماجة 2/142.
أما قول من يقول إن النعيم والعذاب على الروح فقط، وأن البدن لا ينعم ولا يعذب فهو قول شاذ ليس من أقوال أهل السنة والجماعة، وإنما تقوله الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين1.
وقال الحافظ ابن حجر: قال الجمهور: تعاد الروح إلى الجسد أو بعضه كما ثبت في الحديث، ولو كان على الروح فقط لم يكن للبدن بذلك اختصاص، ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تتفرق أجزاؤه، لأن الله قادر أن يعيد الحياة إلى جزء من الجسد ويقع عليه السؤال كما هو قادر على أن يجمع أجزاءه. والحامل للقائلين بأن السؤال يقع على الروح فقط أن الميت قد يشاهد في قبره حال المسألة لا أثر فيه من إقعاد وغيره، ولا ضيق في قبره ولا سعة، وكذلك غير المقبور كالمصلوب، وجوابهم أن ذلك غير ممتنع في القدرة، بل له نظير في العادة وهو النائم فإنه يجد لذة وألما لا يدركه جليسه، بل اليقظان قد يدرك ألما أو لذة لما يسمعه أو يفكر فيه ولا يدرك ذلك جليسه، وإنما أتى الغلط من قياس الغائب على الشاهد وأحوال ما بعد الموت على ما قبله، والظاهر أن الله صرف أبصار العباد وأسماعهم عن مشاهدة ذلك وستره عنهم إبقاء عليهم ليتدافنوا، وليست للجوارح الدنيوية قدرة على إدراك أمور الملكوت إلا من شاء الله. وقد
1 مجموع الفتاوى 4/282-284ونقل ذلك عنه السفاريني في لوامع الأنوار البهية 3/24.
ثبتت الأحاديث بما ذهب إليه الجمهور كقوله: "إنه ليسمع خفق نعالهم" وقوله: "يضرب بين أذنيه" وقوله: "تختلف أضلاعه" وقوله: "يسمع صوته إذا ضربه بالمطراق" وقوله: "فيقعدانه" وكل ذلك من صفات الأجساد
…
"1.
فظهر مما تقدم نقله أن العذاب في القبر على الروح والجسد معا، وقد بين عمر في الأثر الثالث أن الميت إنما ينفعه في قبره أو يضره فيه عمله وهو الحق، فيضره معاصي القلب والعين والأذن والفم واللسان والبطن والفرج واليد والرجل والبدن كله، كما ينفعه اجتناب الأسباب الموجبة لعذاب القبر2.
1 البخاري مع الفتح 3/235، وانظر الحديث الذي أشار إليه الحافظ في البخاري مع الفتح 3/232-233 برقم (1374) .
2 انظر كتاب الروح لابن القيم ص134- 141، ط دار الكتاب العربي تحقيق ودراسة الدكتور السيد الجميلي. الطبعة الثالثة عام 1408هـ.