الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس (الشعر الغنائي ودلالات التأثر والتأثير فيه)
معنى الشعر الغنائي وماهيته
الشعر الغنائي ودلالات التأثر والتأثير فيه:
نبدأ أولًا بتحديد مصطلح الشعر الغنائي، يقول الدكتور "محمد مندور": إن كلمة "غنائي- Lyric " مشتقة من " Lyre " أي: العود، وفي رأيه أن هذا اللون من الشعر كان يتغنى به منذ فجر الإنسانية، سواء عند الأوربيين أو عند العرب، ولست في الواقع أدري الأساس الذي استند إليه الدكتور مندور في الجزم القاطع بأن الشعر الغنائي كان يتغنى به منذ فجر الإنسانية، أي: منذ خلق الله البشر على سطح الأرض، إن ذلك أمر من أمور الغيب التي لا يمكن الحكم عليها إلا على سبيل الظنون والظنون فقطـ.
كذلك يفهم مما قال؛ أن كل شعر من هذا النوع كان يتم التغني به في ذلك الزمن، فهل هذا صحيح؟! إننا الآن نرى بأم أعيننا كيف أن أقصى ما يناله الشاعر المحظوظ في هذا المجال، أن يتحمس له أحد المطربين أو الملحنين، فيغني له بضع قصائد رغم سهولة التلحين والغناء الآن، وازدياد الطلب عليه، واهتمام الناس كلهم تقريبًا به، وإقبالهم عليه، وإنفاقهم الكثير في سبيل التلذذ بمتعته.
فهل يمكن القول بأن الوضع في فجر الإنسانية كان أفضل مما هو الآن، وأن كل قصيدة تنظم في ذلك الحين كان يتغنى بها؟! ثم أن كلمة " Lyre " ليس معناها العود، بل الهارب الصغير، كذلك في الشعر الغنائي لم يكن هو وحده الذي كانت تغنى بعض نصوصه، بل كان يشركه بذلك الأمر الشعر الملحمي، إذ قيل: إن الشاعر الإغريقي كان يتجول في البلاد، ويحمل آلته الموسيقية منشدًا ملحمته عليها، مثلما كان يصنع الراوي الذي يروي سيرة أبي زيد الهلالي وأمثالها حتى وقت قريب.
بل كان الشاعر الملحمي لينشد الملحمة كلها بهذه الطريقة، بخلاف الحال في القصائد التي لا يغني المغني من أي من دواوينها إلا بعض النصوص ليس إلا، إن حدث أن غُني شيء منها أصلًا، وربما يصح الكلام لو قيل إن كلمة " Lyric " كانت تطلق في بلاد الإغريق على الأغنية التي تغنى على القيثارة أو على الهارب الصغير، ثم توسع في استعمال الكلمة للدلالة على الأشعار التي يمكن أن تغنى لا التي تغنى فعلًا فحسب.
وعلى هذا فقد يكون تعريف المصطلح في طبعة سنة 2500 من " Britannica Councile Encyclopaedia" دائرة المعارف البريطانية الموجزة هو التعريف الصحيح، إذ نقرأ أن الشعر الغنائي هو الشعر الذي يمكن غناؤه أو يفترض أنه يمكن غناؤه، على آلة موسيقية كانت في الماضي البعيد -هي الهارب الصغير عادة- أو هو الشعر الذي يعبر عن العواطف الشخصية المكثفة على نحو يوحي بأننا إيذاء أغنية.
ولكي نزيد الأمر إيضَاحًا نورد تعريف ( The Penguin Dictionary of literary terms and literary theories- معجم البينجوين لمصطلحات الأدب ونظرياته) لذات المصطلح لما فيه من توازن ووضوح، وبعد عن الحذلقة والإغراب اللذين نجدهما في بعض التعريفات الأخرى.
فالشعر الغنائي نوع من القصائد يتميز عن شعر الملاحم والمسرحيات، ويتسم بالقصر حتى إن القصيدة منه لا تزيد طولًا عن بضع عشرات من الأبيات، وغالبًا ما تعبر عن مشاعر فرد ما أو أفكاره على نحو شخصي وذاتي، وهذا اللون من الشعر يستغرق معظم الشعر الموجود في أي أدب.
بعد ذلك ينتقل الدكتور مندور إلى قضية أخرى هي: هل الشعر الغنائي محاكاة أو تعبير عن الوجدان؟ ثم هل هو تعبير عن الوجدان الفردي أو عن الوجدان الجماعي؟ وينتهي أخيرًا إلى أنه تعبيرٌ عن الوجدان الفردي والجماعي على السواء، وإن كان قد عاد فقال عن الشعر الجاهلي إنه قد نشأ مطابقًا مُطابقة عجيبة لنظرية "المحاكاة الأرسطوطاليسية"، فهل نَفهم من هذا أنه يقصي هذا الإبداع مملكة الشعر الغنائي أم ماذا؟.
وهذا إن صح أن الشعر الجاهلي كان كله شعر محاكاة، وتصوير حسي للبيئة الطبيعية والبشرية على السواء، وهو شعر لا يكاد يظهر فيه وجدان الشاعر إلا في القليل، بحيث لا نستطيع أن نقول عنه: إنه تعبير عن الوجدان ذاته، فالشعراء قد وصفوا في دقة حسية بالغة الناقة، والحصان، وحمار الوحش، والذئب، كما وصفوا الأطلال والدمنة، والأثافي وبعض الآرام والهضاب والدروب، وأعشاب الصحراء.
وبالمثل وصفوا المرأة وصفًا حسيًا دقيقًا، وانحصر غزلهم فيها في هذا الوصف، ولم يعرفوا الغزل العاطفي، ولواعج الغرام إلا بعد ظهور الإسلام، وفي بيئة الحجاز المترفة في العصر الأموي، حيث ظهر الغزل العذري عند المجنون، وقيس بن ذريح، وجميل بن معمر، وابن قيس وسيد عزة حسب كلامه نصًّا.
والواقع أنّ الشعر الغنائي يمكن أن يكون شعرًا تعبيريًّا أو شعر محاكاة أو مزيج من هذا وذاك، ويُمكن أن يكون شعرًا واضحًا أو شعرًا رمزيًّا يبرز فيه دور الموسيقى والإيحاء لا التعبير المباشر، ويُمكِنُ أن يكونَ شعرًا فرديًّا أو شعرًا يُعَبّر فيه صاحبه عن مشاعر الجماعة وآمالها وآلامها وقيمها، ومخاوفها ومفاخرها، ويمكن أن يكون وجدانيًّا أو واقعيًّا، ويمكن أن يكون واقعيًّا متشائمًا أو واقعيًّا متفائلًا،
ويمكن أن يكون هامسًا أو مجلل النبرة، ويمكن أن يكون تأمليًا أو وصفيًا، ويمكن أن يكون سلطانيًّا أو قصصيًّا، ويمكن أن يكون موضوعيًّا أو ذاتيًّا.
ولا تناقض في شيء من هذا الكلام، فالحياة لا تعرف هذه الحواجز المصطنعة، التي تقول: إما هذا وإما ذاك، ولقد رأينا الكاتب نفسه يقرر أن الشعر الجاهلي كان مطابقًا مطابقة عجيبة لنظرية "المحاكاة الأرسطو طاليسية" وهذا شيء مخالف لما قرره قبلًا من أن الشعر الغنائي هو شعر الوجدان.
ومع هذا فإننا لا نوافقه على القول بأن شعرنا الجاهلي كان كله أو معظمه شعر محاكاة، إذ فيه وجدان كثير، وهذا الوجدان ليس وجدانًا غراميًّا فحسب؛ لأن الكلام عن الحروب وصف الحال مثلًا يدخل فيه الوجدان كما يدخل في النسيب للمرأة، ذلك أن العواطف والانفعالات الإنسانية ليست مقصورة على ميدان الحب وحده، بل هي أوسع من ذلك مدىً وأكثر تنوعًا.
وإن تتابع المدارس الشعرية المختلفة الاتجاهات، والميول والاهتمامات على مدى تاريخ هذا الفن، لهو دليلٌ لا يُصَدّ ولا يرد على صحة ما نذهب إليه، ذلك أن هذه الاتجاهات، لا تكره الشعر على غير طبيعته بل تستعمل إمكاناته الموجودة فيه على سبيل الفعل، أو على سبيل القوة، معتدلة في ذلك أحيانًا ومتطرفة أحيانًا أخرى، ولهذا نرى النقاد والشعراء يختلفون في تعريف هذا الفن تبعًا لتركيزهم على هذه الناحية أو تلك منه.
وهذا يفسر لنا تعدد التعريفات التي نجدها مثلًا في ( Encyclopedia of literature and criticism - موسوعة الأدب والنقد) حيث تورد لنا مادة " Lyric" خمسًا من تلك التعريفات عازية كل منها إلى صاحبه أو صاحبته، ويذكر كاتب مادة " Lyric" في (معجم "بينجوين" لمصطلحات الأدب ونظرياته"
أن الشعر الغنائي في مصر القديمة هو أقدم شعر في العالم، إذ يعود إلى نحو2600 قبل الميلاد، ثم يأتي الشعر العبري والإغريقي بعده، وأن هذه الأشعار جميعًا قد نشأت في أحضان الاحتفالات الدينية.
وأنا وإن كان الجزء الأول من هذا الكلام يدغدغ مشاعري الوطنية، أرى أنه لا يصح إلا على أساس أن هذا الشعر المصري هـ وأقدم ما وصلنا فعلًا من شعر، أما أن يكون أول شعر غنائي في العالم على الإطلاق؛ فلا أظن أنه يمكن البرهنة عليه، فنحن نعرف أن عمر الجنس الإنساني على وجه الأرض أقدم من ذلك كثيرًا جدًّا، ومن المستحيل أن يبقى البشر قبل التاريخ المذكور صامتين لا يتغنون بما يجيش في قلوبهم، وعقولهم من أفكار وأحاسيس، ولا بما تعرضه أمور الطبيعة على أعينهم آذانهم من صنوف الجمال والمتعة. لهذا فإننا نقبل كلام كاتب المادة عن أقدمية الشعر الغنائي المصري في الحدود التي عيناها.
أما أن يكون فن الشعر قد نشأ ضربة لازب في ظلال الاحتفالات الدينية؛ فمن الصعب الموافقة عليه، ذلك أن الدين إنما يمثل جانبًا من جوانب الحياة، مهما تكن ضخامة هذا الجانب، وإلا فهناك أيضًا لذة الحب ومرارة الحزن، وآلام المرض، ونشوة الخمر، وعواصف الحرب وفورة النصر، وانكسارة الهزيمة، والانتشاء بالجمال المبثوث في أرجاء الكون، ومشاعر الحِقْد، والقهر والغيظ، وهلم جرة.
وكل واحد من هذه الملابسات أو المشاعر هو في الواقع باعث قوي لنظم الشعر بغض النظر عن تدين الشخص أو عدمه، بل بغض النظر عن إيمانه أو أكفره أصلًا، ولا يعقل أن الإنسان القديم لم يكن يحث بدافع لقول الشعر إلا في أزمان الاحتفالات الدينية فحسب.