الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أترى معلقة "امرئ القيس" أو "طرفة" هما من الشعر العالي النغمة؟! أترى قصائد "ابن أبي ربيعة" أو "جميل" أو "قيس" أو "كثير" في حبائبه هو من الشعر العالي النغمة؟!. أترى قصائد "أبي العاتية" هي من الشعر العالي النغمة؟! أترى غزليات "العباس بن الأحنف" الرقيقة المترفة ورسائله الشعرية لحبيبته "فاوس" هي من الشعر العالي النغمة! أترى قصيدة المتنبي في "الحمى" أو ميميته في الانفصال عن "سيف الدولة" هما من الشعر العالي النغمة! أترى أشعار "ابن الرومي" التهكُميّة أو قصيدته في رثاء ابنه محمد، أو قصيدته في توحيد المغنية هي من الشعر عالي النغمة؟!.
أترى أشعار "ديك الجن" في حبيبته التي قتلها غيرة، ثم قضى سائر عمره يندبها ويشعر بالذنب والويل هي من الشعر عالي النغمة؟! أترى أشعار الصوفية كـ"رابعة العدوية" و"الحلاج" و"ابن الفارض" أشعارًا عالية النغمة؟ أترى غزليات "البهائي زهير" وإخوانياته أشعارًا عالية النغمة؟!. إن القوم ليدلسون أبشع التدليس وأشنعه، وهم يعرفون أنهم يدلسون وهم يفعلون ذلك التدليس لغرض في نفس يعقوب.
بناء القصيدة في الشعر العربي
ومن القضايا المهمة التي تتعلق بالشعر العربي أيضًا: "بناء القصيدة" ولعل أوّل من افتتح الكتابة في هذا الموضوع من مؤرخي الأدب ونقاده هو "ابن قتيبة" الذي قال في كتابه (الشعر والشعراء): "سمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مُقَصّد القصيد إنما ابتدأ فيه بذكر الديار والدِّمن والآثار؛ فبكى وشكا وخاطب الربع، واستوقف الرفيق؛ ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الظاعنين عنها، إذ كان نازلة العمد في الحلول والظعن، على خلاف ما عليه نازلة المدر؛ لانتقالهم عن ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ، وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان.
ثم واصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الوجد، وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق؛ ليُميل نحوه القلوب، ويَصْرِفَ إليه الوجوه، وليَسْتَدعي به إصغاء الأسماع إليه؛ لأن التّشبيبَ قريبٌ من النُّفوس لائط بالقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء؛ فليس يكاد أحد يخلوا من أن يكون متعلقًا منه بسبب، وضاربًا فيه بسهم حلال أو حرام.
فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه والاستماع له، عقب بإيجاب الحقوق؛ فرحل إلى شعره وشكا النصب والسهر، وسهر الليل، وحر الهجير وإمضاء الراحلة والبعير.
فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء، ودمامة التأمين، وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح فبعثه على المكافأة، وهزه إلى السماح وفضله على الأشباه، وصغر في قدره الجزيل.
فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب وعدَل بين هذه الأقسام؛ فلم يجعل واحدًا مِنها أغلب على الشعر، ولم يُطل فيمل السامعين، ولم يقطع بالنفوس ظماء إلى المزيد.
وليس لمتأخري الشعراء أن يخرُج على مذهب المتقدمين في هذه الأقسام، فيقفَ على منزل عامر، أو يبكي على مشيد البنيان؛ لأنّ المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر والرسم العافي، أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما لأنّ المُتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذاب الجواري؛ لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي أو يقطع إلى الممدوح منابت من النرجس والآس والورد؛ لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحنوة والعرارة".
وقد قالت طائفة مؤرخي الأدب العربي ونقاده، بناء على ذلك النص: إن هذه هي بنية القصيدة العربية، التي لم تعرف غيرها طوال عصورها منذ الجاهلية إلى العصر الحديث.
وأول ما ينبغي التنبيه إليه: هو أن الملاحظة السابقة ليست من بنيات عقل "ابن قتيبة" على عكس ما هو شائع؛ إذ هو مجرد حاك لها، كما جاء في بداية كلامه، وان كان يفهم من نهاية النص أنّ الرأي الذي يقول بأنه لا يحق للمتأخر من الشعراء، أن يخرج على ما قرره السابقين منهم هو رأيه هو؛ فإن كان الأمر كذلك فمعناه أنه قد وقع دون أن يدري في شيء من التناقض.
فقد قال في مقدمة كتابه ذاك في سياق الحديث عن الشعراء الذين ترجم لهم فيه، والأساس الذي استند إليه في الحكم على مرتبة كل منهم قال: "ولم أسلك فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختار له سبيل من قلد، أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقد بمنهم بعين الجلالة بتقدمه، وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره؛ بل نظرت بعين العدل على الفريقين، وأعطيت كل حظه، ووفرت عليه حقه؛ فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله ويضعه في متخيره، ويرذل الشعر الرصين، ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه، أو أنه رأى قائله.
ولم يقصر الله العلم ولا الشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قومًا دون قوم، بل جعل ذلك مشتركًا مقسومًا بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثًا في عصره، وكُلّ شريف خارجية في أوله؛ فقد كان "جرير" و"الفرزدق" و"الأخطل" وأمثالهم يعدون محدثين، وكان "أبو عمرو بن العلاء" يقول: لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته، ثم صار هؤلاء قدماء عندنا لبعد العهد عنهم.
وكذلك يقول من بعده لمن بعدنا كـ"الخريمي" و"العتابي" و"الحسن بن هانئ" وأشباههم؛ فكل من أتى بحسن من قول أو فعل، ذكرناه له وأثنينا به عليه، ولم يضعه عندنا تأخر قائده أو فاعله، ولا حداثة سنه؛ كما أن الرديء إذا ورد علينا للمتقدم أو الشريف، لم يرفعه عندنا شرف صاحبه ولا تقدمه".
ومعنى هذا: أنه لا فَضل للمتقدمين من الشعراء على التالين لهم؛ فلماذا يُحرم "ابن قتيبة" على هؤلاء إذا أن يخرجوا على ما قرره أولئك ونهجوا سبيله، إذا كانا الفريقين موهوبين كلاهما، ولا يتفاضلان بهذا الاعتبار؟.
كما أنّ الحياة لا تعترف بهذا التضييق الذي يريد بعض الناس أن يلزموا أنفسهم وغيرهم أيضًا به، بل أن تتسع لألوان كثيرة مختلفة من الأذواق والمعايير، وبخاصة في مجال الفنون والآداب، وما دام الله -سبحانه- لم يجعل العقل والذوق والوجدان والإبداع قصرًا على قوم دون قوم، ولا على جيل دون جيل، ولا على أمة دون أمة، فلماذا اشترط "ابن قتيبة" على اللاحقين من الشعراء أن يلغوا شخصياتهم الفنية، ويحطبوا في حبل من تقدموا من نظرائهم؟.
على أن الذي يُهمنا من هذا النص حقًّا: هو ما جاء فيه من أن تلك هي السبيل التي كان ينتهجها دائمًا أصحاب القصائد، وهو ما لا يوافقه الواقع، إذ هناك قصائد جاهلية كثيرة جدًّا، لم يجر فيها ناظموها على هذه الخطة، بل تراهم يدخلون في موضوعهم مباشرة، أو يَسْتَهِلُّون شعرهم بشيء آخر غير الوقوف على الأطلال، كالنسيب مثلًا، أو الحديث عن فراق الحبيبة لانتقالها مع قبيلتها إلى منزل آخر، أو بالحديث عن السهاد ومراعاة النجوم، ومقاساة الأرق والقلق، أو بالرد على عتاب زوجته له لهذا السبب أو ذاك، أو بوصف الخمر أو بالتحسر على أيام الشباب التي انصرمت ولم يعد لها من رجوع، وغير ذلك من
الابتداءات، وإن كان افتتاح القصيدة بالوقوف على الطلل أشهر من غيره من الافتتاحات.
وحتى إذا وقف الشاعر على الأطلال؛ فإن كثير منهم لا يعقبون ذلك بالرحلة لا للممدوح ولا لأي شخص آخر، بل كثيرًا ما لا يكون هناك ممدوح البتة، كما هو الوضع في "معلقة: عنترة" و"الملك الضليل" مثلًا، كذلك فكثير من هذا الشعر لا يزيد عن أن يكون تصويرًا لتجربة ذاتية حقيقية أو متوهمة لا صلة بينها بتاتًا وبين الأغراض الشعرية التقليدية، ولا البناء الفني الذي تحدث عنه "ابن قتيبة" بأي حال.
وواضح إذًا أنّ ما قاله "ابن قتيبة" لا يقتصر على شعر المديح، بل يقع في شعر المديح وفي غيره، وحتى في شعر المديح فهو لا يقع عليه كله بل على بعضه فقط، أي: أن ما يحسبه كثير من الباحثين نظامًا صارمًا يتبعه الجاهليون والقدماء عمومًا في بناء القصيدة؛ لم يكن في الحقيقة كذلك، بل كان يراعى في بعض قصائد المديح لا كلها، وإن لم يقتصر على ذلك النوع من القصائد، بل يشركها في ذلك كثير من الأشعار غير المدحية أيضًا.
وبالمثل إذا كانت هناك قصائد متعدد الأغراض؛ فكذلك قامت إلى جانبها قصائد لا تشتمل إلا على موضوع واحد، مقدارها لا يسعه الإحصاء كثرة كقصائد "عمر ابن أبي ربيعة" مثلًا وأشعار العذريين وشعر "أبي العتاهية الزهدي" وهو معظم شعره وشعر "العباس بن الأحنف" وغير قليل من شعر "بشار" كـ"رائيته المفحشة" مثلًا و"بائية: أبي تمام" في فتح عمورية، وكثير من شعر "المتنبي" و"أبي العلاء المعري" و"ابن الرومي" وكل شعر "ديك الجن" تقريبًا وكل الشعر الصوفي تقريبًا .. إلخ. وبهذا يتبين لنا زيف مقولة أخرى منتشرة بين مؤرخي الأدب العربي.