الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الحادي عشر
(أثر الأدب العربي في الآداب الإسلامية (1))
أثر الأدب العربي في الأدبين الإفريقيين: الأدب السواحلي، والأدب الهوسوي
في البداية أحب أن أشير إلي أن بعض دارسي الأدب المقارن يقولون عن مدارس الأدب المقارن في الغرب: إنها تنطلق مما يسمونه المركزية الأوربية، تلك المركزية التي لا تري إلا أوربا والغرب، إذ يعتقد الأوربيون أن الشعوب الأفريقية أسيويه، هي شعوب بدائية وطفولية، يمكن استبعاد آدابها وفنونها من مجال الأدب المقارن، دون أن يخامر المرء أدني شعور بالخسارة أو مجافاة شروط البحث العلمي، وأما الثقافات الشفوية التي تشيع في تلك البلاد هي بالتأكيد دون الثقافات الأوربية الغربية المدونة، وهي لذلك لا تصلح إلا للمتاحف والدراسات الأنثروبولوجية والدراسات التاريخية المتصلة بنشوء الإنسان وتطوره وارتقائه، وأن الأجناس الأدبية التي لا تتفق والتصنيفات الأدبية الأوربية يمكن أن تهمل دون شعور كبير بالإثم ما دامت خارجة عن القانون الأدبي الغربي، كما هو الشأن في نظر الأوربيين للمقامة أو الشعر الغنائي في الآداب الشرقية، وأن الأعمال الأدبية العظيمة في نظر الأمم والشعوب التي أنتجتها تقاس بما يسمى روائع الأدب الغربي، وتنال من الدرجات بمقدار قربها أو بعدها من النماذج الغربية، وكانت حصيلة هذه المظاهر العنصرية في جوهرها والعابثة في موقفها أن بعض الآداب كان يسالي أقل من الآداب الأخرى، وبعضها كان فريدًا في امتلاكه أهمية عالمية، وبعضها الآخر يمكن أن يهمل بوصفه بدائيًّا أو عاديًا.
ولذلك وجدنا أن المقارنين الأوربيين في القرن التاسع عشر بكامله قد مضوا في إلحاحهم على أن المقارنة تكون على محور أفقي -أي: بين الأنداد- وإحدى نتائج هذا المنظور أن باحثي الأدب المقارن ومنذ البداية مالوا إلى العمل مع الكتاب الأوربيين فقط.
ولذلك دعا بعض باحثي الأدب المقارن المنصفين إلى ضرورة توسيع دائرة البحث في الأدب المقارن بغرض الوصول إلى نتائج أكثر مصداقية وحقائق أكثر رسوخًا وموضوعية. وهذه الدعوة تضعه على الطرف النقيض للدرس المقارن الغربي القائم على المركزية الغربية، التي ينبغي أن ترفض من المؤمنين بالرسالة السامية للأدب المقارن رفضًا قاطعًا.
.وفي رأيهم أنه إذا كان الأدب في الغرب قد تخلى عن دراسة القضايا الواسعة والآفاق العريضة لتطور الأدب العالمي، واتجه نحو التخصص الضيق، محددًا قطر بحثه داخل الحدود القومية، وفي أحسن الأحوال معتمدًا على الأعمال الأوربية، فإنه ينبغي أن نسلم بضرورة تناول مسائل التطور الأدبي، من خلال الدراسات المقارنية التاريخية الأرحب أفقًا، وضرورة أن نأخذ بعين الاعتبار اشتمال هذه الدراسات على الأعمال الأدبية الغربية والشرقية كلتيهما.
ولا ريب في أن تلك الدعوة الأخيرة هي دعوة أرحب أفقًا، وأكثر إنسانية، وأمعن في العلمية من تلك المركزية الأوربية وما يترتب عليها من تداعيات منهجية وإنسانية خطيرة، وينبغي أن تكون هذه نظرتنا إلى الأدب المقارن نحن العرب والمسلمين؛ إذ الإسلام يعلمنا سعة الأفق، كما ينبهنا إلى ضرورة التعاون والتآلف والتآخي بين المسلمين بعضهم وبعض.
وهناك الآن كتب في الأدب المقارن تهتم بالأدب الإسلامي المقارن بالذات، وإذا كانت غاية المسلمين الوحدة الإسلامية فالسبيل إليها هو معرفة بعضنا بعضًا، وهذا لا يتم إلا إذا درسنا كل ما يتعلق بالأمم الإسلامية الأخرى، لأن من العيب الخطير أن نعرف عن أوربا وأمريكا التي استعمرتنا -وما زالت تثير لنا المشكلات وتضع في طريقنا العوائق وتعمل على احتلال بلادنا وتقسيمها
واستعبادنا وإلحاقنا بقاطرة الغرب- أكثر مما نعرف عن إخواننا في البلاد الإسلامية المختلفة.
ومن المهم أن نتنبه إلى حقيقة تغيب عن أذهاننا كثيرًا، هذه الحقيقة هي أن تلك البلاد ذوات حضارات عريقة، وكانت متقدمة أيام أن كانت أوربا لا تزال بلادًا متخلفة، وإذا كانت أوربا تتعامل معنا بمنطق السيد، فينبغي أن نتعامل مع بعضنا البعض بروح الأخوة والمساواة والاحترام المتبادل، وإذا كنت قد أشرت إلى أن السبيل إلى الوحدة الإسلامية هو أن يعرف بعضنا بعضًا، ففي مجال الأدب المقارن ينبغي أن ندرس آداب الأمم الإسلامية الأخرى، وأن نقارن بينها وبين الأدب العربي، لنعرف مواطن التقارب ومواطن التباعد، وإذا كان هناك تأثير من طرف على آخر أبرزناه، وهذا كله من شأنه أن يعضد معرفتنا بعضنا ببعض، وأن يساعد على تمهيد الطريق نحو الأخوة الإسلامية، تلك التي ينبغي ألا تقوم على الشعارات والعواطف الهوجاء، بل على الدراسات العلمية الدقيقة.
وينبغي في هذا المجال أن نتعلم من أوربا وأمريكا إتباعهما للمنهج العلمي، فهما تقيمان حياتهما على العلم ومناهج العلم وعلى الإحصاءات والدراسات الدقيقة، ولا تدخلان أي ميدان من ميادين الحياة إلا وقد درسته ومحصته وتحققت كل شيء فيه على قدر ما تستطيع، ومن هنا كان نجاح الأوربيين والأمريكان في أمور كثيرة، وفشلنا في هذه الأمور؛ لأننا للأسف كثيرًا ما نهمل المنهج العلمي، ونظن أن العواطف المشتعلة كافية في تبليغنا ما نريد، مع أن الإسلام يحضنا على العلم، ويريد منا أن ندقق كل شيء نعمله، وألا نقدم على شيء إلا وقد عرفنا أين نضع أقدامنا، بحيث لا نسير أي خطوة في الظلام، ولا نسير أي خطوة دون أن نعرف إلى أين نحن ماضون، ودون أن نلم بالنتائج التي نتغياها، ودون أن تكون في أيدينا الوسائل الكفيلة ببلوغنا هذه الغاية.
لو فعلنا ذلك فإن هذا سوف يكون -بمشيئة الله- خطوة صحيحة على الدرب، وسوف يقربنا هذا من الغرض المنشود، ألا وهو أن يعرف المسلمون بعضهم بعضًا معرفة علمية دقيقة ممحصة، وأن تقوم بينهم الوحدة.
وسنبدأ أولًا بأثر الأدب العربي في الأدبين الإفريقيين: الأدب السواحلي، والأدب الهوسوي:
والمقصود بالأدب السواحيلي: ذلك الأدب المسجل باللغة السواحيلية، وهي اللغة المنتشرة في شرق إفريقيا، في تنزانيا وكينيا وأوغندا وجنوب الصومال وشرق زئير وشمال الموزمبيق وشمال زامبيا وشمال المالاوي وجزر القمر، حيث ينتشر الإسلام انتشارًا واسعًا، حتى ليشكل الدين الرئيسي في معظم تلك المناطق، وكانت هذه الدول تخضع للاحتلال الأوربي منذ أواخر القرن الخامس عشر، من قبل البرتغاليين أولًا، إلى أن أخرجه منها العمانيون، تلبية لدعوة أهل البلاد، وحكموها منذ أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر.
ثم من قبل الأوربيين مرة أخرى منذ أواخر القرن التاسع عشر، إذ أخذ الإنجليز زنجبار وكينيا وأوغندا، والإيطاليون جنوب الصومال، والألمان تنجانيقة وما حولها وهي الآن جزء من تنزانيا، ثم البلجيك حوض الكونغو، الذي يتمثل الآن في شرق زئير، ثم حصلت تلك الدول على استقلالها في بداية ستينات القرن المنصرم.
وهناك كلمات وعبارات كثيرة جدًّا جدًّا، استعارتها اللغة السواحيلية من لغة الضاد، ومنها: "بعد ذلك، سلام، عم، أب، بحر، عالم، يغير، عيب، يؤمن، بين، ضحية، أمانة، بطة، يشقى، دفتر، دقيقة، بندقية، إبليس، جمعة، إن شاء الله، فتك، حاج، هيبة، حق، يتجسس، جوهرة، يواجه،
مغرب، نصيب، يصدق، صنف، رمضان، تفضل، عصيان، نظافة، متوسط، صحة، يتشوق
…
إلى آخره".
ولا بد من لفت النظر إلى أن تلك الكلمات لم تبقَ على حالها الأصلي، بل اعترتها التحويرات والتشويهات، طبقًا لقواعد اللغة المستعيرة وأوضاعها، على ما يحدث في مثل تلك الحالة في كل اللغات.
وفي الأدب السواحيلي أمثال كثيرة تتفق إلى حد بعيد والأمثال العربية، من ذلك مثلًا قولهم: الأسد الذي يزأر لا يقتل فريسة، فهو يشبه قولنا: الكلاب النباحة قليلًا ما تعض، وقولهم: علامة الصوت تزول وآثار الشتائم لا تزول، الذي يذكرنا بالمثل العربي الشعري:
جراحات السنان لها التئام
…
ولا يلتئم ما جرح اللسان
وكذلك قولهم: لا تصلح سور جارك قبل أن تصلح سورك، فهو قريب من المثل العامي، الذي يقول: الذي يحتاجه البيت يحرم على الجامع، وقولهم: بالمال يكسب الرجل النساء، الذي يستدعي إلى الذاكرة، قولنا: لا يعيب الرجل إلا جيبه، وقولهم: نصف رغيف أفضل من لا شيء، فهو مثل المثل الشعبي الذي يقول: نصف العمى ولا العمى كله، وقولهم: الغياب يجعل القلب ينسى، فعندنا نحن أيضًا البعيد عن العين بعيد عن القلب، وكذلك قولهم: اتبع العادات أو اهجر البلدة، فهو كقول العرب: إذا كنت في قوم فاحلب في إنائهم، والإصبع الواحدة لا تستطيع أن تقتل ولو نملة، الذي يذكرنا بقولنا اليد الواحدة لا تصفق.
بل إنّ هناك آيات وأحاديث نُقلت كما هي إلى اللغة السواحيلية واستعملت حكمًا، مثل:{إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (الشرح: 6)، {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 46)، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (الأنبياء: 35)، ((من حسن
إسلام المرء تركه ما لا يعنيه))، ((من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه عرضه))، ((اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد))
وفي ميدان الفن القصصي، نجد قصصًا سواحيلية مستقاة من كتاب عبد الله بن المقفع "كليلة ودمنة" كقصة"حمار الرسام" وقصة "المعلم جرسوه" وقصة "الصقور والغربان" كما نجد قصصا أخرى مأخوذة من ألف ليلة وليلة كحكاية "محمد الكسلان" وحكاية "حاسب كريم" مع تنوينات محلية بطبيعة الحال، فضلًا عن أنهم يختمون الحكاية بعبارة وعظية مباشرة في بعض الأحيان.
وإلى جانب هذا نجد قصصًا دينيًّا إسلاميًّا مستلهمًا من منابع عربية، كقصة سيدنا إبراهيم وزوجتيه وابنه إسماعيل، كذلك فكلمتا قصة وحكاية، قد أخذتا كما هما من العربية إلى السواحيلية، وإلى جانب هذا هناك عناوين قصصية غير قليلة تتضمن كل منها على الأقل كلمة عربية، بل قد يكون العنوان كله عربيًّا، كذلك نراهم يبدءون حكاياتهم بعبارة تشبه قولنا في الحكايات الشعبية:"كان يا ما كان".
وفي مجال المقال لا يصح أن ننسى مثلًا مقالات الشيخ الأمين بن علي المزروعي، الذي تأثر في كتاباته بالدعوات الإسلامية الإصلاحية في العصر الحديث، كدعوة محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر الميلادي، إلى نبذ الخرافات والبدع، وكذلك دعوة الأفغاني ومحمد عبده إلى أهمية وحدة الأمة الإسلامية، وكان الرجل يؤمن أنه لا يمكن فهم الإسلام إلا من خلال إتقان اللغة العربية، فهي لغة القران والنبي عليه السلام.
وفي فن الشعر، نرى السواحيلية قد أخذت لفظ الشعر العربي، واستعملته بنفس المعنى الذي نستعمله له، وكذلك لفظ التخميسة بمعنى المخمس، وهو الوحدة الشعرية المكونة من خمسة أبيات، يقاس عليها كل الوحدات الخماسية الأخرى
في القصيدة، كذلك فموضوعات الشعر في اللغة السواحيلية، هي ذاتها الموضوعات التقليدية في الشعر العربي، من مديح وهجاء وفخر ونسيب ورثاء ومدائح نبوية، ومن أشهر القصائد الدينية عندهم "قصيدة الوعظ"، وقصيدة "صلاة الاستسقاء"، وقصيدة "الدر المنظوم"، و"طيب الأسماء" في أسماء الله الحسنى، وقصيدة "تبارك"، وقصيدة "تقوى الله"، وقصيدة "القيامة"، وقصيدة "النشور"، وقصيدة "موعظة رمضان"، وقصيدة "الشفقة" التي تشتمل على نحو أربعمائة بيت، وفيها نرى جبريل وميكال عليهما السلام، يقومان بتجربة يختبران بها البشر، ليرايا هل ما زال عند الناس تراحم وشفقة أو لا، فكانت النتيجة إيجابية.
وهناك كذلك قصائد خالصة للغزوات الإسلامية في عصر الرسول، إلى جانب شعر السيرة المحمدية، والقصائد التي تستلهم حياة عظماء الإسلام، كقصيدة "عائشة" وقصيدة "فاطمة" وقصيدة "سيدنا علي ومضر" وقصائد المدائح النبوية، تلك التي تتخذ من قصيدة "البصير" الشهيرة مثالًا أعلى.
وكثير من القصائد الشعرية السواحيلية تبدأ بالبسملة والتحميد والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، تعبيرًا عن الإيمان والرغبة في التبرك باسم المصطفى، ومن القصائد السواحيلية التي تلفت نظر الباحث المقارن، القصيدة التي نظمتها "موانا كوبونا" عام ألف وثماني مائة وثماني وخمسين ميلادية في باتي إحدى مدن كينيا حاليًا، وهي عبارة عن نصيحة توجهها أم إلى ابنتها التي توشك أن تتزوج وتنتقل إلى بيت زوجها، والقصيدة تستوحي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ونصوص الأدب العربي النثري، وبخاصة تلك الوصية الشهيرة التي وصت بها قبل الإسلام أم جاهلية ابنتها، قبيل انتقالها إلى عش الزوجية، والتي تقول لها فيها:
"أي: بنية إنك فارقتي بيتك الذي منه خرجتي، وعشك الذي فيه درجتي، إلى رجل لم تعرفيه وقرين لم تألفيه، فكوني له أمة يكن لك عبدًا، واحفظي له خصالًا عشرة، يكن لك زخرًا، أما الأولى والثانية فالخشوع له بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة، وأما الثالثة والرابعة، فالتفقد لموضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح، وأما الخامسة والسادسة، فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن تواتر الجوع ملهبة، وتمخيص النوم مغضبة، وأما السابعة والثامنة فالاحتراس لماله، والإرعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير، وأما التاسعة والعاشرة، فلا تعصين له أمرًا ولا تفشين له سرًّا، فانك إن خالفت أمره أوغرتي صدره، وإن أفشيتي سره لم تأمني غدره، ثم إياك والفرح بين يديه إذا كان مغتمًّا، والكآبة بين يديه إذا كان فرحًا".
ويقول الدكتور الأمين أبومنقة محمد من مقال له عنوانه "التراث العربي الإسلامي في شرق إفريقيا وفي غربها دراسة مقارنة": تعتبر اللغة السواحيلية أكثر اللغات تأثرًا باللغة العربية، حتى ذهب البعض إلى الاعتقاد بأنها نشأت من اللغة العربية، بينما ظن آخرون أنها نسيج من اللغتين العربية والبنتوية.
وهناك الآن إدراك واسع أن اللغة السواحيلية لغة بنتوية، تحتوي على قدر كبير من المؤثرات العربية، تكثر هذه المؤثرات لدى سكان الساحل وتقل تدريجيًّا كلما توغلنا إلى داخل القارة.
وفي تقديرنا: أنّ ما حدث في زنجبار وغيرها من جزر وسواحل شرق أفريقيا، هو أن العرب هم الذين بدءوا التحدث باللغة البنتوية البسيطة، وكانوا يكملون ما يعوزهم من ألفاظها أو ما يفتقد إليه قاموسها بألفاظ من لغتهم الأم أي: العربية.
فأغلب المؤثرات العربية من أصوات وكلمات وعبارات وحكم وأمثال أدخلها العرب أنفسهم في اللغة البنتوية، من خلال سعيهم للتواصل مع السكان المحليين، ثم تلقاها منهم السكان المحليون بهيئتها الجديدة هذه.
وإذا كان هناك اقتراض في الاتجاه المعاكس، فلا بد أنه قد حدث في وقت متأخر، يصعب تقدير نسبة الألفاظ العربية في اللغة السواحيلية، لأن هذا التأثير كما أسلفنا متفاوت بين الساحل والداخل، إلا أنه قد شمل جُل أوجه الحياة لاسيما الممارسات الإسلامية والتجارة والإدارة وبعض العادات والتقاليد.
أما في ما يختص بالثقافة السواحيلية، فقد أشار سيد حامد حريز إلى أن ملامح الثقافة العربية للمجتمع السواحلي تختلف من مكان لآخر داخل المنطقة السواحيلية في قوتها وكثافتها، وبالطبع بحسب موقع المكان قربًا أو بعدًا من الساحل والجزر كما أسلفنا، وفي بعض الأماكن تقتصر هذه الثقافة فقط على اللغة والملبس، بينما تنعكس في أماكن أخرى في اللغة والعادات والمعتقدات والأزياء والمسكن والفنون
…
إلى آخره.
إن من أهم الآثار الإسلامية على الشعوب التي حظيت بنعمة الإسلام في أسيا وأفريقيا، تطور أو نشأة أدب مكتوب بلغات هذه الشعوب يستمد جذوره من الأدب العربي الإسلامي، ونذكر على سبيل المثال في أسيا الأدب الفارسي الحديث والأدب التركي والأدب الأردي، وفي أفريقيا الأدب السواحيلي والأدب الهاوسي والأدب الفولاني، ولكن ما حدث في أسيا كان عبارة عن تطور، لأن لتلك الشعوب أدبا مكتوبًا بأبجديات غير عربية، كان موجودًا قبل تأثرهم بالثقافة العربية الإسلامية، بينما نجد أن الشعوب الإفريقية المذكورة أعلاه لم تعرف أدبًا مكتوبًا قبل دخول الإسلام. وأن آدابها المكتوبة نشأت منذ البداية متفرعة من الأدب العربي الإسلامي ومكتوبة بالحرف العربي.
لقد لاحظ الباحثون المهتمون بآداب الشعوب الإسلامية في إفريقيا، أن النشاط الفكري وسط هذه الشعوب يبدأ دائمًا باللغة العربية نفسها، ثم ينشأ على أثره الأدب المعبر عنه باللغات المحلية، لذلك فإن أقدم المخطوطات التي عُثر عليها في سواحل شرق إفريقيا، كانت مخطوطتي "كلوا" و"باتي" وكلتهما كانت مكتوبة باللغة العربية، كما وجدت عبارات باللغة العربية مكتوبة على شواهد بعض القبور ترجع إلى القرن الثامن الميلادي.
ولا يستبعد الباحثون وجود تراث أدبي مكتوب بالخط العربي قبل هذا التاريخ، لم يتم اكتشافه بعد.
على أية حال لا شك في أن كل هذه الآثار ترجع للعرب أنفسهم، وليس هناك ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن للسكان المحليين يدًا فيها.
لكن الأسئلة الأهم في هذا السياق: متى ظهر التراث الأدبي السواحيلي المكتوب بالحرف العربي؟ وكيف نشأ؟ ومن هم رواده؟ أهم العرب السواحليون أم السكان المحليون؟.
إنّ بداية تأليف اللغة السواحيلية كان بالنظم، والنقد بالنصوص التي تم العثور عليها في هذا الفن، أربع قصائد مطولة ترجع إلى القرن الثامن عشر وكلها قصائد تعليمية، ولعل أهمها وأقدمها كانت قصيدة "الهمزية" للشيخ عيدروس بن عثمان بن علي، وهي عبارة عن ترجمة لقصيدة باللغة العربية لشرف الدين البوصيري، كما وجدت بعض المقتطفات من قصائد المولد مترجمة من القصائد العربية.
ولكن لا يستبعد "كنبرت" الباحث الإنجليزي المتخصص في الأدب السواحلي، وجود قصائد ألفت أصلًا باللغة السواحلية، ويحتوي الشعر السواحلي أيضًا
على قصائد مطولة ذات طابع ملحمي ولكن بما أن الملاحم غير معروفة في الشعر العربي، فيرجح "كنبرت" أن السواحيليين قد استلهموا هذا الفن من نماذج من الشعر الفارسي أو الأردي.
نشأ الشعر السواحيلي إسلاميًّا وظل هكذا إلى يومنا هذا، وحتى هذا الشعر الذي نظم بعد الاستعمار رغم أن موضوعاته قد لا تكون إسلامية، إلا انه إسلامي الروح والقالب، وقد استخدم الشعر السواحلي عددًا من الأوزان الشعرية العربية، وأهمها حسب "كنبرت اوتنزي شعري، اوكوافي، كسارمبي"، وقد لوحظ أن الوزنين الأولين يستخدمان لنظم الشعر ذو الأغراض الدنيوية، بينما نجد أن معظم مفعل الوزنين الأخيرين كان للأغراض الدينية، ويبدو أن وزن "أوكوافي" كان أقدم هذه الأوزان، إذ عليه نظمت القصيدة الهمزية، ولعل أهم ما آلف على وزن "الكسارمبي" كانت قصيدة الانكشاف للشيخ عبد الله بن علي بن ناصر، وقوام هذا الوزن مقاطع من أربع شطرات تحمل الشطرات الثلاث الأولى قافية مستقلة، وتمثل قافية الشطر الرابع القافية الرئيسية للقصيدة، وقد نظمت هذه الأبيات في وصف الموت وعذاب القبر وأهوال يوم القيامة.
وقبل أن نختم هذا الجزء المتصل بنشأة الأدب السواحلي المكتوب نشير إلى أن للنثر أيضًا موقعًا معتبرًا في هذا الأدب، حيث يتمثل الأدب العربي الإسلامي في المقام الأول في السيرة النبوية وقصص الأنبياء وأدبيات العصر العباسي وقصص الألف ليلة وليلة، لم يشر كنبرت 1971 إلى أي عمل باللغة العربية نظمًا كان أو نثرًا، يرجع إلى القرون الماضية أنجزه مؤلف سواحلي حتى من ذوي الجذور العربية، دعك من السكان المحليين.
وقد أكد سيد حامد حريز إلى أن الشعراء في شرق إفريقيا قد نظموا باللغة العربية في أغراض مختلفة ولكن دون الإشارة إلى شاعر بعينه، مما قد يوحي بمحدودية هذا الجانب من النشاط، وقد رأينا أن أولى القصائد السواحيلية التي تم العثور عليها في إقليم شرق إفريقيا، كانت من نظم شعراء ذوو أصول عربية أو فارسية، أما في النثر اللغة العربية فلم يرد السيد حامد حريز في كتابه الجامع حول المؤثرات العربية في الثقافة السواحيلية أي عمل في هذا السياق.
وقد أورد عبد الرحمن أحمد عثمان في ثروة المصادر والمراجع لكتابه "المؤثرات الإسلامية والمسيحية على الثقافة السواحيلية" أربعة كتب وخمس مخطوطات لمؤلفين من داخل المنطقة قيد الدراسة أو ما جاورها، والمؤلفون هم: سعيد بن علي المغيري، والشيخ محي الدين الكلوي، وسلمة بنت سعيد بن سلطان، والشيخ الليثي بن محمد القادري وبرهان بن مكلة القمري، وعبد الله محمد باكثير الكندي، وعبد الله بن زين الوهط الثقاف، بالإضافة إلى راشد البراوي الذي كتب عن الصومال الجديد.
ويلاحظ من خلال هذه الأسماء أن غالبية هؤلاء المؤلفين ينحدرون من أصول غير محلية، كما يلاحظ غياب الأعمال الفكرية المتعمقة في العلوم الإسلامية كالتوحيد والفقه والتفسير وعلم الكلام، أو أعمال في اللغة العربية، على شاكلة مؤلفات الشيخ عبد الله بن فودي المذكورة أعلاه.
ومن المعروف أن أسرتي النبهاني والمزروعي، قد أسهمتا كثيرًا في دفع عجلة الحركة الفكرية في إقليم شرق أفريقيا، وآلف بعض أفرادها كثيرًا باللغة السواحيلية، وكنا نتوقع أن نقف على أعمال لهم باللغة العربية.