الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السابع عشر
(المذهب الرومانسي والمذهب الواقعي في ميدان الأدب)
المذهب الرومانسي في الأدب؛ نشأته وتطوره
المذهب الرومانسي والمذهب الواقعي في ميدان الأدب:
والرومانسية: اتجاه في الفنون الجميلة والأدب، يركز على العاطفة أكثر من العقل، وعلى الخيال والبديهة أكثر من المنطق، ويَميلُ الرومانسيون إلى حرية التعبير عن المشاعر والتصرف الحُر التلقائي أكثر من التحفظ والترتيب، ونشأت الرومانسية غالبًا باعتبارها ثروة ضد الكلاسيكية، وأظهر الفنانون الكتاب على مر العصور اتجاهات رومانسية، غير أن تعبير الحركة الرومانسية يشير عادة إلى الفترة التي بدأت من أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، إلى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي.
وتُلح الرُّومانسية على حُرّية الفَرد ولا تُؤيد الأعْراف الاجتماعية المقيدة ولا الحكم السياسي المستبد الظالم، وفي مجال الأدب يكون البطل الرومانسي عادة رجلًا سائرًا أو خارجًا عن القانون، مثل شخصية "مان فريد" للشاعر البريطاني لورد بايرون، ومِثلَما يَكُون البطل الرومانسي عادة رجلًا ثائرًا على التقاليد الاجتماعية يكون الفنان الرومانسي ثائرًا على الأفكار الزائفة ذات المظهر الجميل. وفي المسرح على سبيل المثال يرفض الكتاب الرومانسيون الوحدة الكلاسيكية للزمان والمكان.
وإبان الحَركة الرُّومانسية لم يكن أغلب الكتاب راضين عن عالمهم؛ حيث كان يبدو عالمًا تجاريًّا جامدًا وغير إنساني، وللهُروب من الحياة الحديثة؛ حوّل الرومانسيون اهتمامهم إلى أماكن بعيدة وخيالية، فاتجهوا نحو القرون الوسطى وإلى الفنون الشعبية والأساطير، وإلى الطبيعة وعامة الناس.
وتُوجد كثيرٌ من الخصائص الرومانسية في الرواية القوطية، وهي نوع من القصص الرعب المليئة بالعنف والأحداث الغامضة، التي تقع في قصور العصور الوسطى القوطية الكئيبة، وتأثر بالرواية القوطية الكاتبان الأمريكيان "ناثنيل هوثون" و"إدجر ألنبو" وتعد حكاية الجن التي جمعها الأخوان الألمانيان "جريم" تحت عنوان "حكايات جريم الخُرافية" مِثالًا جيدًا على اهتمام الرومانسي بالأساطير والفنون الشعبية.
ويظهر في أعمال الشاعر الإنجليزي "ويليم ويرس ورث" كثير من السمات الرومانيسة البحتة؛ فكان "ويرز ورث" يفضل الذهن الخالي المستغرق في التأمل، على البحث الدءوب عن المعرفة العلمية، وكان يرى أن الإنسان يتعلم من اندماجه مع الطبيعة أو من حديثه مع أهل الريف، أكثر مما يتعلم من قراءة الكتب، وكان يَرى أيضًا أن الانسجام مع الطبيعة مظهر الفضيلة والحقيقة.
ولتوضيح الأمور مزيدًا من التوضيح نقول: إن الرومانسية هي ذلك المذهب الأدبي الذي أخذ يظهر في أوربا بعد قرن ونصف من ظهور الكلاسيكية، وهي كما رصدها النقاد ومؤرخو الأدب ثورة على العقل وسلطانه، وعلى الأصول والقواعد السائدة في الكلاسيكية، تلك القواعد التي كان مرجعها سيطرة الآداب الإغريقية والرومانية، والاجتهاد في تقليديها ومحاكاتها، والتي شرع الشعراء يتلفتون منها حين أخذت بلادهم تستقل في اللغة والأدب والفكر.
وعرفت الرومانسية بالابتداعات أو الإبداعية؛ بسبب أنها تعد ابتداعًا في المذهب الكلاسيكي، وتقويضًا لمبادئه وأركانه، وفي الواقع لم تكن الرومانسية ثورة على الآداب الإغريقية واللاتينية والكلاسيكية فحسب؛ بل كانت كذلك ثورة على جميع القيود الفنية المتوارثة، التي حدت من تطور الأدب وحيويته، ومن ثَمّ كانت تعبيرًا عن طابع العصر وثقافة الأمة وتاريخها.
لقد غَلبت على الرّومانسيين نزعة التمرد على هذه القيود التي التزمها الكلاسيكيون؛ فدعوا إلى التخلص من كل ما يكبل الملكات، ويقيد الفن والأدب، ويجعلهما محاكاة جامدة لما اتخذه اليونان واللاتين من أصول، كانت الرومانسية ترمي إلى التخلص من كل الأصول والقيود التي أثقلت الأدب الكلاسيكي؛ لتنطلق العبقرية البشرية على سجيتها، دون ضابط لها سوى هدي السليقة وإحساس الطبع.
لقد كان الأدب الكلاسيكي هو أدب العقل والصنعة الماهرة، وجمال الشكل، والمواضيع الإنسانية العامة، واتباع الأصول الفنية القديمة؛ فجاءت الرومانسية؛ لتشيد بأدب العاطفة والحزن والألم، والخيال والتمرد الوجداني والفرار من الواقع، والتخلص من استعباد الأصول التقليدية للأدب.
وكانت البلاد الفرنسية المهد الأول للرومانسية وللكلاسيكية ولجميع المذاهب الأدبية والمناحي الفكرية، أما الظروف التي نشأت فيها الرومانسية بفرنسا فهي ما اعترى تلك البلاد من أحوال سياسية واجتماعية واقتصادية، كان من أثرها تلك الحالة النفسية التي ميزت التمزق الداخلي، والتغني بالآم الفردية.
ولعل من عوامل نشوء الرومانسية في فرنسا ما كان من هجرة بعد كبار كتابها إلى إنجلترا وألمانيا، إثر قيام الثروة الفرنسية سنة ألف وسبعمائة وتسع وثمانين ميلادية، وتأثرهم بآداب تلك البلاد، ومعطياتها الفكرية والثقافية، مما جعلهم يصدرون عن وحيها بكل حماسة وإعجاب، كتلك الحماسة التي أظهرها "شاتوبرايان" عندما عاد من مهجره إنجلترا وتسنى له أن يترجم إلى الفرنسية "الفردوس المفقود" لـ"جون ميلتون" وكذلك الإعجاب الذي أبدته مدام "تستايل" حينما عادت من منافاها ألمانيا بهذا الأسلوب الجديد الساري في أدب الشمال؛ إذ قالت: شعر أهل الشمال يناسب تفكير الأمم الحرة أكثر مما ينسابها شعر الإغريق.
وكتبت "دستايل" عن ألمانيا كتابًا فريدًا أشادت فيه بالروح الألمانية، وعرفت فيه الفرنسيين بروائع الأدب الألماني الغارق في الرومانسية، وتعتبر "دستايل" من الرواد الأوائل لنشوء "الرومانتيكية"، وإذا تجاوزنا الأسباب المباشرة لحدوث الرومانسية؛ فإننا نجد كاتبين وفيلسوفين كبيرين أثرا في الحياة العقلية والأدبية الأوربية، وإن كان تأثيرًا بعيدًا عن محيط الرومانسية، لكنه على كل حال ساعدا على تمهيد أرض صلبة لنشوئها، هذان الفيلسوفان هما:"جان جاك روسو" و"فولتير".
أما "روسو" فقد دعا إلى العودة إلى الطبيعة والحياة الفطرية؛ إذ إن أطماع الإنسان قد تطورت بتطور المجتمع، وأحس أنه في مجتمع يفرض عليه تبادل المصالح مع الآخرين، ومن شأن هذا أن يكون في نفسه الأثرة وحب الذات، والامتلاك والحرص، ولقد كان الإنسان الفطري البدائي سعيدًا في حياته وفي معيشته، آمنًا في كوخه، لا يحمل لغيره من الناس إلا الخير والحب.
و"روسو" هو صاحب المبدأ التربوي المشهور: "علينا أن نترك الطفل يدرج وحده في الطبيعة ليكتسب خبراته بنفسه". وكتاب "إيميل" إنما هو شرح لهذا المبدأ، وأما "فولتير" فإنه نشر في أوربا كلها أدب "شكسبير" ونوه به، وهو أدب مُتحرر من النظام الإغريقي في بناء المسرحيات، رغم إن "شكسبير" عاش في عصر "الكلاسيكية" إلا أنه لم يلتزم بمبادئها وأصولها بل اعتمد على نفسه وخبرته في تكوين مسرحه.
وكان من حقيقة هذا النشر أن فطن الأدباء لأن في القرن السادس عشر -وهو عصر ازدهار الكلاسيكية- من حاول التفلت من قيود الآداب الإغريقية والرومانية، اكتفاء بعبقريته وأصالته الفنية، واجتهاداته الشخصية، وبالطبع لم
يعتمد "فولتير" جميع آراء "شكسبير" ويأخذ بها كلية لكنه اختار ما يلائم طبعه في تجديد الأدب الفرنسي، ولا شك أن لهذا التجديد، أثر في اهتزاز قيمة المذهب الكلاسيكي.
ولم يكن "فولتير" ناقلًا لآراء "شكسبير" فقط بل كان كذلك ناقدًا اجتماعيًّا جريئًا في نقده؛ حتى إنه انتقد صكوك الغفران ورجال الكنيسة، وقد عرض الفيلسوف الفرنسي آراءه في المسرحيات التي ألفها، وكانت سببًا لتهيئة الجو الملائم للرومانسية.
كذلك أخذ بعض الفلاسفة يمهدون لهذا المذهب، ويبشرون بعالم أفضل كالفيلسوف الفرنسي "بيدرو" والفيلسوف الألماني "كانت" ولا شك أيضًا أنّ هؤلاء الفلاسفة قد أثروا في الأدب ونقده، حينما خالفوا أفلاطون في نظريته المشهورة عن المُثل، كذلك انصرف هؤلاء الفلاسفة في أبحاثهم الفلسفية إلى اجتناب طبيعة الجمال، وحقيقته وعلاقته بالمتعة، والفرق بين الجميل والنافع، واستطاعوا أن يحددوا نظرياتهم وآراءهم نحو الجمال.
ثم أتى فلاسفة بدءوا من حيث انتهى أولئك، في مقدمتهم الفيلسوف الألماني الرومانتيكي "فيتشه" والفيلسوف الألماني "شوبن هاور" الذي قامت فلسفته على التشاؤم، ويجبُ أنْ نأخُذَ بِعينِ الاعتبار أن تلك الأسباب لم تصنع بين عشية وضحاها الظروف التي نبتت فيها الرومانسية، وغدت مذهبًا أدبيًّا قائمًا بذاته، كما أن تلك المؤثرات التي أشرنا إليها من قبل، لا تستطيعُ وحدها تشييد صرح الرومانسية، لو لم تتضافر ظروف الحياة في فرنسا لتهيئة الحالة النفسية، التي تصدر منها الرومانسية.
وكان هناك في فرنسا عددٌ من الأدباء الناشئين الذين استجابوا لنداء هذه الأحداث، مُشكلين بذلك نقطة انطلاق الرومانسية، وقد وصف الشاعر "الرومانتيكي" الفرنسي الكبير "ألفريد ديموسيه" في كتابه (اعترافات فتى العصر) الحالة النفسية للأطفال الشبان، بعد هزيمة نابليون وإذلال فرنسا وفترة الضياع، تلك الحالة التي لم تعد مذهبًا أدبيًّا فقط، بل صارت فلسفة وسلوكًا في الحياة أيضًا.
واتخذت الرومانسية من الشعر وسيلة للتعبير عن الذات، وما يجتنبها من ألم وشقاء وتشاؤم، ولم تُقيد الرومانسية نفسها بأصول ومبادئ فنية، كما حدث في الكلاسيكية؛ إلّا أنها قد بلورت بطريقة تلقائية بعض الاتجاهات التي أصبحت فيما بعد من مميزاتها، من مثل مرض العصر وما يطلقونه على تلك الحالة النفسية الناتجة عن عجز الفرد عن التوفيق بين القدرة والأمل، وكذلك اللون المحلي، ويقصدون به محاربة الاتجاه الإنساني السائد في الكلاسيكية، ثم الخلق الشعري الذي على أساسه يقرر الرومانسيون أن الأدب ليس محاكاة للحياة والطبيعة كما تذهب الكلاسيكية، بل خلق وأن أداة الخلق هي الخيال المبتكر مع ذكريات الماضي، وأحداث الواقع الراهن وإرهاصات المستقبل.
وخليقٌ بمن يريد الإلمام باتجاهات الرومانسية ومميزاتها وسماتها، أن يَطّلع على روائع الرومانسيين، من أمثال آثار "فيكتور هيجو" و"ألفريد ديموسيه" و"لامارتين" و"ريس وريث" و"كلورين" و"بايرون" و"شل" و"كيت".
وهُناك قصيدةٌ للشاعر الفرنسي "ألفريد ديموسيه" أجمع النقاد على أنها من روائع الرومانسية، وهي بعنوان:"ليلة أكتوبر" وتجري على صورة حوار بينها وبين ربة الشعر حول تجربة حقيقية عاشاها الشاعر بكل أبعادها، في حبه للكاتبة الفرنسية "جون ريسان" التي سافر معها إلى مدينة البندقية بإيطاليا؛ حيث سقط
مريضًا؛ فعاداه طبيب إيطالي، وأوقع "جورج صن" في حبه وهجرته هو ليعود وحده إلى باريس كسير القلب، وفي خلال تلك المنحة أتته ربة الشعر فجرى بينهما الحوار الآتي:
الشاعر: لقد تبدد الألم الذي أضناني كما تتبدد الأحلام، حتى لتشبه ذكراه البعيدة، ما يبعث الفجر من ضباب خفاف يتطاير هذا الصباح.
ربة الشعر: ما بك إذًا يا شاعري؟ ما هذا الألم الخفي الذي أقصاك عني؛ حتى ما أزال أشقى به؟ ما هذا الألم الذي خفي عني وإن طالما أبكاني؟.
الشاعر: كان ألمًا مبتذلًا من منصب الجميع، ولكننا نحسب دائمًا بخبلنا الجدير بالرحمة، أن ما يتسرب إلى قلوبنا من ألم، لم يتسرب مثله إلى قلب أحد سوانا.
ربة الشعر: لا، ما في الألم من كدر، إلا ألم نفس مبتذلة، دع عزيزي هذا السر ينطلق من فؤادك، افتح لي نفسك، وتكلم واثقًا من أمانتك؛ فإنّ الصمت أخ للموت، ولكم شكا متألمٌ ألمه فتعزى عنه، ولكم نجا القول قائله من وخزات الضمير.
الشاعر: إذا كان لا بد من الكلام عن ألمي؛ فوالله لا أدري بأي اسم اسميه؟ أكان حبًّا أم جنونًا أم كبرياء أم محنة؟ وما أدري من سيفيد من سماعه وأنا بعد قاص عليكي نبأه، وقد خلونا إلى أنفسنا في جلستنا هذه إلى جوار الموقد، خذي قيثارتك وتعالي إلى جانبي، ثم أيقظي ذكرياتي بعذب نغماتك.
ولا شَكّ أنّ تِلْكَ المعاني الذاتية لا تلائم إلا الشعر الغنائي، حيث يجد فيه الشاعر المنطلق الرحيم؛ إلا أنّ الرومانسيين لم يقتصروا على الشعر الغنائي فحسب؛ وإنّما كانت لهم مشاركات في الأدب الموضوعي، وبخاصة الأدب التمثيلي.
وبرزت في هذا الأدب أسماء لامعة، وكانت مسرحياتهم روائع خالدة في المذهب الرومانسي، من أمثال "ديموسيه" و"فيكتور هيجو" الذي قام بترجمة مسرحية "ويليام شكسبير" إلى اللغة الفرنسية، وأخذ في دراستها واستنباط خصائصها، ومهاجمة الكلاسيكية خلال تلك الدراسة كما في مقدمة مسرحية "كرومويل" التي هاجم فيها وحدة الزمان والمكان في المسرحية عند "الكلاسيكيين" إذ المقصود من وحدة الزمان جعل المسرحية مشاكلة الحياة، وكأنها صورة منها ومن الأجدر إذا كان ذلك كذلك أن تحدد بساعتين أو ثلاث، وهو الزمن الذي يستغرقه تنفيذ المسرحية لا بأربعة وعشرين ساعة.
كما هَاجَمَ مبدأ فصل الأنواع، الذي يقتضي في المسرحية الكلاسيكية عدم اجتماع مشاهد المأساة إلى جوار مشاهد المغازل المسرحية، متحججًا بأن هذا المبدأ لا وجود له في واقع الحياة، إذ الحياة كثيرًا ما تنقلب من جد إلى هزل، ومن هزل إلى جد، وتتقلب مع عواطف الناس ومشاعرهم تبعا لهذا الانقلاب.
هذه هي الرومانسية التي سيطرت على الآداب الأوربية وقتًا من الزمن، وكان لا بد لها أن تنهار وتسقط في خضم المذاهب الناشئة، كما حدث للكلاسيكية أمامها، وقد قدّم هذا المذهب نفسه العوامل التي ساعدت على سقوطه أمام المذاهب الأدبية الناشئة، من مثل الواقعية والفنية، إذ هو يذهب إلى أن الأدب وحي وإلهام وخلق لا صناعة ومحاكاة ونظام، مما يجعله ينتهي عند المقدمين وأصحاب الملكات الضعيفة إلى إهمال الصياغة اللغوية واللامبالاة بتجويد الأسلوب وجماله، وعدم العناية بروائع الفحول من الأدباء.
كما أدى به هذا الأمر إلى اضطراب العواطف، وتشتت المشاعر عند الأدباء، واستخدام الأدب الشعري ونثره في التعبير عن الذات الفردية، وهو ما صرفه عن القضايا الإنسانية والوطنية الكبرى؛ حتى وصف بأنه أدب الأبراج العاجية.
وكان للأدب العربي الحديث هو أيضًا من حظه ونصبيه من الرومانسية، التي على أساسها قامت فيه عدد من المدارس الأدبية؛ كمدرسة الديوان ومدرسة أبوللو ومدرسة المهجر، بل إنّ مَدرسة الديوان ممثلة في زعمائها الثلاثة: العقاد، والمازني، وعبد الرحمن شكري. قد صدرت في نقدها لمسرحية شوقي وشعره ونثر المنفلوطي عن الرومانسية ومبادئها وتعاليمها، متأثرة في ذلك بالرومانسية الإنجليزية.
وتحت رايات هذه المدارس الأدبية في أدبنا العربي الحديث سطعت نجوم في سماء الشعر الرقيق الحالم، من أمثال الدكتور إبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، وعبد القاسم الشابي، وعمر أبو ريشة، وصالح جودت، وخالد نعيم، ومن قبل هؤلاء جميعًا خليل مطران، ونورد فيما يلي مقتطفات من قصيدة شعرية تشيع فيها المعاني والأخيلة الرومانسية؛ لشاعر سوريا الملهم عمر أبو ريشة المتوفى عام 1990 ميلادية:
لمن تعسر الروح يا شاعر
…
أما لضلال المنى آخر
أللحبِّ أين التفات الفنون
…
إذا هتف الأمل العاسر
أللهو كم من دمية صغتها
…
ومزقها ظفرك الكاسر
أللمجد ماذا يحس القتيل
…
إذا أزور أو بسم العابر
أللخلد كيف ترد الذئاب
…
وقد عضها جوعها الكافر
رويدك لا تسفحن الخيال
…
ببيداء ليس بها سامر
أما يرقص الكون في صمته
…
كما يرقص الحية الساحر
دع الحلم يخلب في ناظريك
…
فموعده غدك الساخر
وبرغم خلو آدابنا القديمة من الرومانسية مذهبًا يتخذه الأدباء عن وعي وقصد، تبعًا لفلسفة يعتنقونها، وظروف تدفع جموعهم إليها، كما هو الحال في تاريخ
الآداب الأوربية على ما هو معروف؛ فمن السهل على من لديهم معرفة بتاريخ الشعر العربي القديم أن يمد يده إلى إلى أي عصر أدبي تقريبًا، بدأ من العصر الجاهلي ذاته؛ فيقتطف بكل سهولة باقة من الشعر الفواح بعبق الرومانسية.
أليست الرومانسية في جانب من جوانبها ثورة على العقل وسلطانه، وعلى الأصول والقواعد السائدة في الكلاسيكية، والاجتهاد في تقريبها ومحاكاتها، أليس الأدب الكلاسيكي هو أدب العقل والصنعة الماهرة، وجمال الشكل، والمواضيع الإنسانية العامة، واتباع الأصول الفنية القديمة؛ فجاءت الرومانسية لتشيد بأدب العاطفة والحزن والألم والخيال، والتمرد الوجداني، والفرار من الواقع، والتخلص من استعباد الأصول التقليدية للأدب؛ ألم يمرُّ بنا قبل قليل أنّ الفنانين والأدباء قد أظهروا على مر العصور اتجاهات رومانسية؛ رغم أن مصطلح حركة الرومانسية يشير عادة إلى الفترة التي بدأت في أوربا من أواخر القرن الثامن عشر الميلادي إلى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي.
فلنأخُذ مثلًا قصيدة "عبد يغوث" الذي نظمها وقد وقع أسيرًا في يد أعداء قبيلته في الجاهلية فقيدوه، وشدوا لسانه بلسعة كي لا يقول شعرًا في هجائهم فيفضحهم بين القبائل، وأصروا على أن يقتلوه بفارس من فرسانهم سقط في أحدى المعارك، التي دارت رحاها بينهم وبين قبيلة الشاعر الذي كان قائد قومه، أو أحد كبار قادتهم.
ففي هذه القصيدة يسود جو من الأسى والألم، وترفرف راية الموت السوداء؛ وتنثان ذكريات على الشاعر حزينة تلذع قلبه تلذيعًا، وبخاصة بعد ما تبين له أنه لا فائدة ترجى من المفاوضات التي حاول أن يديرها بينه وبينهم، عارضًا فيها دفع ما يريدون من دية؛ حتى لو استغرقت ماله كله وتركته حريبًا -أي: فقيرًا فقرًا مضجعًا لا يملك شروى نقير؛ فكانت أن ذهبت جهوده في تلك المفاوضات عبثًا.
أليست هذه القصيدة تخلو من نهج القصيدة، الذي ذكر ابن قتيبة أنه واجب الاتباع بحذافيره، لا البدء بالوقوف على الأطلال، ثم التثنية بركوب البعير والانطلاق في ناحية الصحراء، والتثليث بوصف كل ما يمر به الشاعر في محنته تلك التي أمضى فيها بعيره ونفسه وصفًا لا بد من التزامه بحذافيره المحددة دون أي خروج عنه في أشد التفاصيل دقة إلى آخره.
ترى أي فرق بين ذلك القصيدة وبين أية قصيدة رومانسية، مما نعرف من شعر العصر الحديث؟ وبحق يكتب أحد معلقي المنتديات الإنترنتية قائلًا:"قريبة إلى نفسي هذه الياء التي اختتمت بها قصيدة عبد يغوث بن وقاص، ذلك الشاعر الذي سمحت له تجربته بكشف مدى صدق التعبير عنها، تجربة الشعر الجاهلي لبني عبد يغوث كانت عند هزيمة قومه، حينما جره سوء حظه إلى أن يقع أسيرًا في صفوف أعدائه، بعد أن كان قائد قومه "مذحج" ويحاول الأسير أن يفدي نفسه، ولكن أنا له ذلك وقد تمادت تميم في حرصها عليه، بل أبت إلا قتله بالنعمان بن جساس؛ قتيلهم في يوم الكلاب الثاني، وموضع أسر عبد يغوث بن وقاص الحارثي، ولم يكن عبد يغوث قاتله ولكن تميمًا تنتهي بالرأي إلى إجماع الرغبة على قتله كفارس مذكور في قومه، وشاعر ذائع الصيت بينهم.
وكانوا قد شدوا لسانه لئلا يُقدم على هجائهم أو التعريض بهم، أو رصد مثالبهم، ولما أدرك الفارس الأسير أنه مقتول لا محالة؛ طلب إليهم أن يطلقوا لسانه لعله يذم أصحابه ممن تركوه وغدروا به، أو لعله يرثي نفسه قبل موته، كما طلب منهم أن يختاروا له قتلة كريمة تليق بمكانته وفروسيته، فأجابوه إلى رغبته وسقوه الخمر، وقطعوا له عرقًا يقال له:"الأكحل" وتركوه ينزف حتى مات.
ويقال: إنه نظم يائيته المشهورة، وقد جهز للقتل؛ فراح من خلالها يحكي قصة ألمه إزاء ما كان من قومه، وقد تركوه حين هزموا، ولو شاء الفرار لسهل عليه أمره، ولنجا من مأزق أسره، ولكنه آثر الثبات من أجل حماية قومه؛ فإذا به في
موقف لا يحسد عليه بين مهانة، ومذلة يترجمها موقف نساء تميم منه، وهُن يهزأن به ويسخرن منه ويراودنه عن نفسه يقول عبد يغوث:
ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا
…
فما لكما في اللوم خير وما ليا
ألم تعلما أن الملامة نفعها قليل
…
وما لومي أخي من شماليا
فيا راكبًا إن ما عرضت فبلغن
…
دامية من نجران ألا تلاقيا
أبا كلب والأيهمين كليهما
…
وقيسًا بأعلى حضر موت اليمانيا
جزى اللهُ قومي من كليب مليمة
…
صريعهم والآخرين المواليا
ولو شئت نجتني من الخير نهدة
…
ترى خلفها الحوى الجياد تواليا
ولكنني أحمي ذمار أبيكم
…
وكان الرماح يختطفن المحاميا
أقول وقد شدوا لساني بمسعة
…
أمعشر تيم أطلقوا عن لسانيا
فإن تقتلوني تقتلوا بي سيدًا
…
وإن تطلقوني تحرموني بماليا
أحقًّا عباد الله أن لست سامعًا
…
نشيد الرعاء المعذبين المتاليا
وتضحك مني شيخة عبشمية كأن
…
لم تري قبلي أسيرًا يمانيا
وظل نساء الحي حولي ركدًا
…
يراودن مني ما تريد نسائيا
وقد علمت عرسي مليكة أنني
…
أنا الليث معدوًّا علي وعاديا
وقد كنت نحار الجزور ومعمل الـ
…
ـمطي وأمضي حيث لا حي ماضيا
وأنحر للشرب الكرام مطيتي
…
وأصدع بين القينتين ردائيا
وكنت إذا ما الخيل شمصها القنا
…
لبيقًا بتصريف القناة بنانيا
وعادية سوم الجراد وزعتها بكفي
…
وقد أنحوا إليّ العواريا
كأني لم أركب جوادًا
…
ولم أقل لخيلي كري نفسي عن رجاليا
ولم أسبق الزق الروي ولم أقل
…
لأيسار صدق أعظموا ضوء ناريا
ويُمكن المُضي في جمع تلك الباقة فنجد أمامنا مثلًا العانية التي نظمها أمية بن أبي الصّلت أو المنسوبة إليه في الشكوى من عقوق ابنه، وكذلك حائيته التي يرثي فيها بألم عنيف قتلى بدر من المشركين الذين سقطوا بسيوف أبطال الإسلام في تلك الملحمة العظيمة؛ فكان وقعها على قريش ومن لفّ لفهم ووقف إلى جانبهم ضد الدين الجديد العظيم وقع الزلزال المدمر.
وبالمثل نستطيع أن نضم إلى تلك الباقة عانية أبي ذؤيب الهذلي في رثاء أولاده الأربعة، ذلك الرثاء الذي لم يقصد إليه من الناحية الفنية قصدًا مباشرًا، بل أداه من خلال أربع حكايات تصور كل واحدة منها سقوط ثور وحشي، وكأنه يجيء على ما نسميه في عصرنا بالمعاد الموضوعي الذي سنه الشاعر الإنجليزي الأمريكي "تي إس إليوت".
وهناك كذلك رثاء الخنساء لصخر أخيها، ذلك الرثاء الذي وقفت حياتها كلها عليه، لا تريد أن تتوقف أبدًا عنه رغم تمادي الزمن؛ وهناك أيضًا رثاء مالك ابن الريب لنفسه الذي استلهم فيه قصيدة "عبد يغوث" فبلغ مدى سامقًا قلما يبلغه شاعر في أي أدب.
ومنه كذلك أشعار العذريين، وكثير عزة المُفْعَمة بالحرمان والعذاب، والعكوف على المشاعر الباطنية، يَجْتَرّها الشاعر في ألم لا يعدله ألم، صارخًا حيث لا يسمع صريخه ولا يمد يده إليه أحد.
ولا ننسى مثلًا أبيات ابن خفاجة في وصف الجبل المتوحد في قلب الصحراء؛ حيث لجأ إليه ذات ليلة، ومد أذنه ليسمع الكثير من أخبار ماضيه، وما مر به من أحداث وناس ومفارقات فسمع حديثًا عجبًا.