الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التأثير والتأثر في الأدب المقارن عند المدرسة الفرنسية
هذا؛ عن المدرسة السلافية؛ بيد أن لواء الغلبة كان وربما لا يزال حتى الآن معقودًا للمدرسة الفرنسية، ذلك أن دخول مادة الأدب المقارن إلى جامعاتنا إنما تم في البداية على يد الأساتذة الذين كانوا قد بعثوا إلى الجامعات الفرنسية، وعلى رأسهم: الدكتور محمد غنيمي هلال، والدكتور أنور لوقا. ولأن فرنسا هي فيما نعرف أول بلد استخدم فيه مصطلح الأدب المقارن عام سبعة وعشرين وثمان مائة وألف.
ولقد بلغ من تأثير تلك المدرسة أن واحدًا مثلي، ظَلّ إلى وقت قريب، يَظُنّ أنّ الدِّرَاساتِ المُقارنة لا تصح ولا تجوز، إلا إذا كانت هناك علاقات تاريخية بين الطرفين المراد المقارنة بينهما، وثبت أن لأحدهما تأثيرًا على الآخر، وإلا إذا استطعنا أن نَرصد المسار الذي اتخذه هذا التأثير، وتحققنا من وقوعه، وأقمنا الأدلة عليه.
لكنني الآن بعدما اطلعت على تراثنا العربي في ميدان المقارنة، مع معرفتي بأن أجدادنا لم يكونوا متنبهين إلى أنهم يمارسون ما نسميه الآن الأدب المقارن، بل كانت جهودهم في ذلك الميدان جهودًا عفوية فطرية؛ لم أعُد أتَشَدّدُ تَشدد الفرنسيين، ولا آخذ أخْذَهم، وبخاصة أنني اطلعت على أفكار مدارس مقارنة أخرى.
وكنت أيضًا قد وقعت على ألوان مقارنة بين آدابنا وآداب غيرنا في العصر الحديث لم يهتم أصحابها الذين لم يكونوا قد سمعوا شيئًا اسمه الأدب المقارن بمسألة التأثير والتأثر على الإطلاق، وتركوا رغم هذا وراءهم بعض من أمتع المقارنات
كرفاعة الطهطاوي، وأحمد فارس الشدياق، وروح الخالدي، وقسطاق الحمصي مثلًا.
بل إن هناك دراسات مقارنة شائقة قام بها بعد ذلك الدكتور جمال الدين الرمادي، وشفيق جبري على سبيل المثال لا تستند إلى أي اهتمام بتأثير أو تأثر.
وبغض النظر عن اختلاف مدارس المقارنة الأدبية في هذه النقطة؛ فإن التأثير والتأثر بين الآداب أمر لا محيص عنه، ولا يمكن نكرانه، إذ هو واقع يدركه كل من له معرفة بطبيعة أي أدب من آداب العالم وتاريخه، وكما أن الفرد منا أو الشعب من الشعوب لا يمكنه العيش وحده في هذه الدنيا، ولا القيام وحده بحاجاته بل لا بد له من التعاون مع غيره من الشعوب والأفراد؛ فكذلك الحال في ميدان الآداب، إذ لا يوجد أدب يستطيع أن يحيى وحده دون الأخذ من الآداب الأخرى وإعطائها، وإلا ركدت الحياة الأدبية وأسنت وفسدت، وانحط مستواها فنيًّا ومضمونيًّا على السواء.
وهذه سنة الحياة؛ فالحياة تقوم على الصراع من جانب، وعلى التعاون من جانب آخر، وعملية التأثر والتأثير قد تكون هي ذاتها لونًا من ألوان الصراع، أو لونًا من ألوان التعاون، أو مزيجًا من اللونين جميعًا بدرجات متفاوتة؛ حسب ظروف كل أدب، وحسب ظروف المرحلة التاريخية التي تتم فيها تلك العملية.
والشعوب والأمم التي على ظهر البسيطة، تنتمي كلها إلى جنس واحد هو الجنس البشري رغم اختلافها في أشياء كثيرة، ورغم أن الغلبة في معظم الأحيان تكون لتلك الأشياء الفارقة، على حساب ما هو مشترك بينها كما قلنا في موضع آخر من هذه الدراسات.
ومن ثم كان لا بد من الأخذ والعطاء بينها في الأدب كما في الاقتصاد والسياسة والعلم، وغير ذلك، فاليد الواحدة لا تصفق كما يقولون.
ولسوف يكتشف الدارس المقارن كيف أن كثيرًا من الآداب الكبيرة العالمية، التي لا يظن للحظة أنها مدينة في شيء لآداب الأمم الصغيرة، التي لا تتمتع بالشهرة العالمية، بل قد يظن كثيرٌ من الدارسين أنها ليست آدابًا ذات قيمة، أنّها على العكس من ذلك، قد أفادت من تلك الآداب قليلًا أو كثيرًا، دونَ أن يتنبه بذلك أحد من قبل؛ لحرص رجالها على أن لا يعرف الناس شيئًا عن هذا الأخذ الذي يرون أنه يحط من قدرهم.
ومن الناحية الأخرى يجد الدارس المقارن متعة عقلية ونفسية لا تقدر بثمن، حين يعمل على تتبع العلاقات بين الآداب المختلفة، ومظاهر التأثر والتأثير بينها، والسبل التي تسلكها هذه العملية.
وتتنوع عوامل التأثير والتأثر بين الآداب؛ فقد يكون غزو شعب لبلد شعب آخر أو احتلاله إياه سببًا من أسباب تأثير أدب الفاتحين في أدب المغلوبين، ومثالًا على هذا نشير إلى تأثير الأدب العربي في آداب البلاد التي فتحها المسلمون عند ظهور الإسلام، وكذلك تأثير الأدب الإنجليزي والفرنسي في البلاد المختلفة، التي احتلتها بريطانيا وفرنسا أيام المد الاستعماري.
وقد تكون الرحلات والبعثات الدراسية سببًا آخر في التعرف على آداب الأمم الأخرى، والإعجاب والتأثر بها، ولدينا أيضًا الترجمة التي قد تقوم بها الأمم المتأثرة من تلقاء نفسها، أو يخطط لها، ويوجهها ويشرف عليها ويمولها أصحاب الأدب القوي، الذي يراد له أن يكون مؤثرًا.
وهناك كذلك الصحف والمجلات والإذاعات المسموعة والمرئية، التي تتحدث عن أدب شعب من الشعوب، مروجة وممجدة له، ومقدمة إياه في صورة براقة تسحر النفوس، وتسبي العقول.
وقبل ذلك لا ننسى أنه كثيرًا ما يتم تعرفنا إلى الآداب الأجنبية، وتأثرنا بها، عبر قراءتها في لغتها الأصلية، وقد يكون التأثر عن طريق الندوات والمؤتمرات ومقابلة الأدباء الأجانب. وقد يقع من خلال أدب وسيط تأثر من قبل بأدب أمة ما، ثم أثر بدوره في أدب أمة ثالثة حاملًا إليه أثناء ذلك العناصر التي استقاها من الأدب الأول.
ومن أهم هذه العوامل حاليًا الدراسة المنظمة للآداب الأخرى في أقسام اللغات الأجنبية، كما هو الحال في جامعاتنا التي لا تخلو إحداها من أقسام لدراسة اللغة الإنجليزية والفرنسية على الأقل، وآدابهما، وقد ينضاف إلى ذلك الأدب الألماني، والأدب الإيطالي، والأدب الأسباني؛ فضلًا عن آداب الأمم الإسلامية كالأدب الفارسي والأدب الأردي، والأدب التركي.
وبالمثل يوجد في بريطانيا، وأمريكا، وكندا، واستراليا، وفرنسا، وسويسرا، وروسيا، وأسبانيا وايطاليا واليابان وإيران، وباكستان، وتركيا والهند والصين، ونيجيريا، وكثير من البلاد الأخرى وبخاصة الإسلامية أقسام لدراسة اللغة العربية وآدابها.
وينبغي أن لا نغفل عن الدور الذي قامت به المكتبات العامة ولا تزال، في توفير الكتاب إلى من يريد أن يقرأ، ودون أن يدفع مقابل لذلك إلا في الحالات الشاذة التي لا يقاس عليها.
وقد جد في الفترة الأخيرة عامل آخر فائق الأهمية ألا وهو المشباك "الإنترنت" حيث يتوفر الكتاب والمجلة، والصحيفة بلغات العالم المختلفة، في دقائق معدودات؛ وبدون تكلفة على الإطلاق في معظم الحالات وهكذا.
ولكن كيف يتسنى للدارس المقارن معرفة المصادر التي تأثر بها الأديب أو الأدب الذي يدرسه؟ إنها في الواقع مسألة اجتهاد قبل كل شيء، وكلما كان المقارن الأدبي واسع القراءة، عميق الإطلاع، واعيًا بما يقرأ، قوي الذاكرة، كان ذلك أعون له على الوصول إلى تلك المصادر، على أن يكون واضحًا منذ البداية أننا مهما نقبنا وسعينا في هذا السبيل؛ فلن نصل يومًا إلى معرفة كل المصادر التي أثرت في كل أديب أو أدب، إن هذا بكل يقين أمر مستحيل.
وغاية ما يمكننا أن نقوله هو أننا كلما أمطنا اللثام عن مصدر من تلك المصادر، كان ذلك مكسبًا عظيمًا، ولسوف تبقى الغالبية العظمى من مصادر التأثير مجهولة رغم ذلك.
ومن الممكن مثلًا أن يكتب الأديب عن الكتب التي قرأها أو الأدباء والمفكرين الذين تأثر بهم، بيد أن هذا لا يحدث دائمًا، وإن حدث فربما لا يذكر الأديب إلا بعض من تأثر بهم من أعمال أو أشخاص، ويضرب صفحًا عن الباقي لسبب أو لآخر ليس أقلها النسيان، أو تصوره أنّ الأمر ليس بتلك الأهمية التي يتصورها الآخرون، أو خشية من اتهامه بعدم الأصالة مثلًا.
كذلك لا ينبغي أن يؤخذ كلامه في كل الأحوال على محمل التصديق حتمًا، ذلك أن الأديب قد ينسى أو يسهو أو يكذب أو يبالغ، أليس هو بشر يجوز عليه ما يجوز على سواه؟.
ومن هنا كان على الدارس المقارن أن لا يسلم ما يقوله الأديب دون تمحيص أو مراجعة، وإذا كان القانون الذي يقره هو نفسه أن الاعتراف سيد الأدلة، لا يصدق اعتراف المتهم مباشرة؛ بل يعمل بكل ما أوتيه من قوة وخبرة، ومهارة على التحقق من صدق ما أدلى به من اعتراف، وكثيرًا ما يعدل عن الأخذ بتلك الاعترافات، بعد أن يتضح له أنها ملفقة لسبب أو لآخر، كما نعرف جميعًا فما بالنا بالأدب المقارن! إنه لأحرى أن نكون فيه على يقظة وحذر، ومن ثم ينبغي أن يراجع المقارن الأمر بنفسه، كي يتأكد من صحته، أو يتبين له أن فيه ما يبعث على الريبة إن لم يكن التكذيب.
كذلك بمكنة الدارس المقارن أن يُدلي بدلوه مباشرة في هذا المجال، وذلك يتوقف على مدى اتساع قراءته، وقوة ذاكرته، وشدة يقظته لما يقرأ إذ قد يتذكر مثلًا بعد قراءته رواية من الروايات أنه اطلع من قبل على رواية أو قصيدة، أو مذكرات شخصية تشبهها؛ لكن عليه في تلك الحالة أيضًا أنْ لا يتعجل الحكم بالتأثير والتأثر، بل لا بد له من بذل جهده في التحقق مما خطر له، وذَلك من خلال إعادة قراءة العملين من جديد، مع تسجيل نقاط التشابه والاختلاف، كُلّما مضى في القراءة واكتشف شيئًا يتعلق بهذا الموضوع.
ولكن مهما تكن سعة اطلاع المقارن، ووعيه ويقظته، وقوة ذاكرته؛ فإن مدى هذا الاطلاع وتلك الذاكرة جد محدود، ومن ثم فلا مناص من الاستعانة بما كتبه الآخرون عن الصلة بين العمل الأدبي الذي يكون بصدده، وبين سواه من الأعمال السابقة عليه، مع وجوب الاجتهاد في التحقق من سلامة ما كتبه الآخرون، بذات الطريقة التي يتحقق بها مما يخطر له هو نفسه في هذا الباب.
إنّ الوَضع ليُشبه إلى حد كبير وضع المنهج العلمي التجريبي، حيثُ يبدأ الأمر بفرضية تحتاج إلى تمحيص وتثبت، وبعد التمحيص والتثبت يمكن للعالم أن يعلن صحة الفرضية أو خطأها، أو على الأقل حاجتها إلى مزيد من التحقيق والتدقيق، مع تقديم الحيثيات التي استند إليها في هذا الحكم أو ذاك أو ذلك.
على أن يكون معروفًا أن التشابه بين عملين أدبيين مثلًا في بعض السمات أو الشيات، لا يعني على سبيل الحتم أن بينهما تأثرًا وتأثيرًا أو على الأقل أن بينهما تأثرًا وتأثيرًا مباشرًا؛ فكثيرًا ما يقع الحافر على الحافر -كما يقول البلاغيون- دفعًا لتهمة السرقة عن بعض الشعراء، وهو ما يعني أن التشابه قد يكون ثمرة من ثمرات المصادفة، أو راجعًا إلى اتفاق الجو الأدبي العام في الأدبين الذين ينتمي إليهما العملان، أو يكون سببه تأثر أحدهما أو كليهما بمصدر ثالث، تصادف أن قراءه صاحب العملين جميعًا؛ فكان هذا التشابه الذي لا يعني في هذه الحالة أنه كانت هناك صلة مباشرة، أو تأثر وتأثير بينهما.
ثم إن صور التأثر متعددة ومتنوعة، فقد يكون محصورًا في بعض الألفاظ أو العبارات أو التراكيب أو الصور البيانية؛ فيكون مجال التأثر والتأثير أسلوبيًّا، وقد يكون هناك تأثر من ناحية الجنس الأدبي أو الاتجاه المذهبي، أو مضمون العمل أو موضوعه أو العاطفة السائدة أو الوزن الشعري أو بناء القصيدة أو المقال أو الرواية
…
إلخ. وقد يكون التأثر من ناحيتين أو أكثر من هذه النواحي.
وبالمناسبة؛ فكثيرا ما يكون التأثر سلبيًّا بمعنى أن الأديب المتأثر قد يفهمه نظيره المؤثر فهمًا خاطئًا، أو يكون تأثره به عكسيًّا كأن يكون في الطرف الأول تشاؤم شديد، وتكون شخصية الثاني شخصية ناجحة مرحة مقبلة على الحياة، فيكون رد فعله هو الرغبة في إثبات أن في الدنيا موجبات كثيرة للابتهاج والسعادة مثلًا.