الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثامن عشر
(الرمزية والسريالية)
الرمزية وأثرها في الأدب العربي
الرمزية والسريالية:
والرمز حسب ما نقرأ في مادة "الرمزية" من الموسوعة العربية العالمية، هو: علامة تشير إلى شيء ما، وبعض هذه الرموز تكون مرئية مثل:"الرايات، والإشارات المرورية" والبعض الآخر تكون مسموعة كنغمات الموسيقى، أو الكلمات المنطوقة، أو الأصوات.
وتعد الرموز من أقدم وأفضل ما اخترعه الإنسان، ويستعمل الرمز عادة وسيلة للإشارة أو التعبير عن شيء، فعلى سبيل المثال: تعد الألف باء والإيماءات والأصوات الصادرة من الإنسان، رموزًا تُعَبّر عن فكرة أو إحساس معين، ولدى كافة الدول والأحزاب والديانات رموزها الخاصة بها، فمثلًا: النخلة والسيف يرمزان للسعودية، وصقر والجديان يرمز للسودان، والنسر لمصر، والكنغر يرمز إلى أستراليا، والدب إلى روسيا، والعم سام إلى الولايات المتحدة الأميركية، والهلال في العرف الحديث يرمز إلى الإسلام، والصليب يرمز إلى النصرانية كما أن نجمة داود ترمز إلى اليهودية.
وكما نعرف: فالرموز تستخدم عمومًا للتعبير عن بعض المسائل التي قد يصعب لسبب أو لآخر التعبير عنها حرفيًّا في صراحة ووضوح، والإنسان يستخدم الكلمة المنطوقة أو المكتوبة للتعبير عن معنى ما يريد توصيله ونقله للآخرين، كما أنّ لُغَته مَليئةٌ بالرموز التي قد تتضمن مع ذلك معاني ودلالات إضافية، إلى جانب معناها الواضح الصريح المقبول.
فالرّمزُ يُوحي إذًا بشيء غامض، أو غير معروف، أو مستترًا بالنسبة لنا، والكلمة أو الصورة تكون رمزًا حين تُوحي بشيء أكثر من معناها الواضح المباشر، وبذلك
قد يكون لها جانبٌ أو مَظْهَرٌ لا شُعوريٌ يصعب تحديده أو تفسيره بدقة وجلاء، كذلك يشمل الرمز كل أنواع المجاز المرسل، والتشبيه، والاستعارة، بما فيها من علاقات معقدة بين الأشياء بعضها وبعض.
هذا عن الرمز، أما الرمزية: فحركة أدبية بدأت بمجموعة من الشعراء الفرنسيين، في الفترة من ألف وثمانمائة وخمسة وثمانين إلى ألف وثمانمائة وخمسة وتسعين، حيث قاد هذه الحركة الأديب الفرنسي "ستيفان مالرميه" لكن شعر "بول ذي لين" كان أكثر اجتزابًا للشعراء في فرنسا، وتتضمن قائمة المناظرين للرمزية كلًّا من "رينيه جيل" و"جستاف كان" و"جين موريس" و"تشارلز موريس". وتبعهم في تبني أسلوب الرمزية بعد ذلك الكثير من الشعراء الأوربيين، في بداية القرن التاسع عشر الميلادي.
واهتمت الرمزية بالجانب الروحي، والأحاسيس المعنوية الأخرى، وصور الشاعر الفرنسي "شارل جدلير" البشرية من خلال متتالياته الشعرية المسماة:"المراسلات"، بأنها تسير في غابة من الرموز التي تتحدث إليها بكلمات لا تستطيع أن تفهمها بصورة كاملة، ويُعبر الشاعر الرمزي دائمًا عن تحيز الشاعر الذي يمكن تَفسيرُه بطرقٍ شَتّى.
وشُعراء الرمزية يعنون بالإيقاع الموسيقي للألفاظ، وهم يعبرون عن أنفسهم بصورة مجازية، ورمى بعض من النقاد لهذه الحركة بالانحلال والانحطاط؛ نظرًا لتسلط فكرة الموت والتشاؤم بصورة عامة عليها.
ومن شعراء الرمزية أيضًا: الشاعر الفرنسي "بول فيرلين" الذي بدأ عمله الأدبي بكتابة عدد من القصائد الانطباعية؛ تتألف كل منها من أربعة عشر بيتًا، عَبّر "فيرلين" فيها عن روح مذهب الحركة الرمزية، مؤكدًا أن الشعر يجب أن يكون موسيقى في المكان الأول، وأن يجمع بين القوة والدقة.
والحق أن الأدب الرمزي إنما هو محاولة من الأديب للإفصاح عن العواطف المكبوتة في أعماق النفس البشرية، والإتيان بصور من العقل الباطن إلى قارئه؛ مستعينًا في ذلك بجرس الألفاظ، وإيقاع الوزن وتراسل الحواس.
وقد قام هذا الشاعر في سبعينات القرن التاسع عشر الميلادي بجولة في مناطق متعددة من بريطانيا، وهولندا، وبلجيكا بصحبة الشاعر الشاب "آرثر رامبو" واصفًا المناظر الطبيعية هناك في إطار من التخيلات الواسعة الشبيهة بالأحلام، تحت عنوان "أغانٍ بدون كلمات" وصدر عام ألف وثمانمائة وأربعة وسبعين، وعكست قصائده الشجية العفوية وما فيها من صور غريب كالسماوات الرّمادية، والقمر الشّاحِب والكمان الحزين نوعًا من اللمسات الحزينة المتشائمة.
وحسبما جاء في الندوة العالمية للشباب الإسلامي؛ فالرمز في الأدب إنما يروم التعبير غير المباشر عن النواحي النفسية المستترة، التي لا تقوى اللغة على أدائها، أو لا يُراد التعبيرُ عنها مباشرة.
ورغم أن استعمال الرمز حسبما مَرّ بيانُه قديم جدًّا، كما هو عند الفراعنة واليونانيون القدماء؛ فإن المذهب الرمزي بخصائصه المتميزة لم يعرف إلا عام ألف وثمانمائة وستة وثمانين، حيث أصدر عشرون كاتبًا فرنسيًّا بيانًا نشر في إحدى الصحف، يعلن ميلاد المذهب الرمزي. وعرف هؤلاء الكتاب حتى مطلع القرن العشرين بالأدباء الغامضين.
وقد جاء في البيان: أن هدفهم تقديم نوع من التجربة الأدبية، تستخدم فيها الكلمات لاستحضار حالات وجدانية؛ سواء كانت شعورية أو لا شعورية، بصرف النظر عن الماديات المحسوسة التي ترمز إلى هذه الكلمات، وبصرف النظر عن المحتوى العقلي الذي تتضمنه؛ لأنّ التجربة الأدبية، تجربة وجدانية في المقام الأول.
ومِن أبرَزِ الشَّخصيات في المذهب الرمزي في فرنسا وهي مسقط الرمزية: الشاعر "بودلير" وتلميذه "رامبو" وكذلك "مالرميه" و"بول فاليري" وفي ألمانيا "ريلكه" و"ستيفان جورج" وفي أمريكا "أيمي لويل" وفي بريطانيا "أوسكار وايلد".
ومن مبادئ الرمزية الابتعاد عن عالم الواقع وما فيه من مشكلات اجتماعية وسياسية، والجنوح إلى عالم الخيال؛ بحيث يكون الرمز هو المعبر عن المعاني العقلية والمشاعر العاطفية، والبحث عن عالم مثالي مجهول يسد الفراغ الروحي، ويعوض عن غياب العقيدة الدينية؛ وقد وجد الرمزيين ضَالتهم في عالم اللاشعور والأشباح والأرواح، واتخاذ أساليب تعبيرية جديدة، واستخدام ألفاظ موحية تعبر عن أجواء روحية، مثل لفظ:"الغروب" الذي يوحي بمصرع الشمس الدامي، والشعور بزوال أمر ما، والإحساس بالانقباض.
وكذلك تعمد الرّمزية إلى تقريب الصّفات المُتباعدة رغبة في الإيحاء مثل تعبيرات: "الكون المخمر""الضوء الباكي""الشمس المرة المذاق". وتحرير الشعر من الأوزان التقليدية؛ فقد دعا الرمزيون إلى الشعر المطلق مع التزام القافية، أو الشعر الحر. وذلك لتساير الموسيقى فيه دفعات الشعور، إذ كانوا يعتقدون أن اللغة عاجزة عن التعبير عن تجربتهم الشعورية العميقة، فلم يبق إلا الرمز ليعبر فيه الأديب عن مكنونات صدره.
ويكاد يكون هذا المذهب نتيجة من نتائج تمزق الإنسان الأوربي وضياعه، بسبب طغيان النزعة المادية، وغيبة الحقيقة، والتعلق بالعقل البشري وحده للوصول إليها؛ من خلال علوم توهم بالخلاص عند السير في دروب الجمال.
ولا شك أنّ الرّمزية ثمرة من ثمرات الفراغ الروحي، والهروب من مواجهة المشكلات باستخدام الرّمز في التعبير عنها؛ فضلًا عن الضيق بالمذهب الواقعي،
الذي اتجه نحو الواقع المادي، وكذلك التقدم الذي أحرزه علم النفس على يد "فرويد" وأتباعه الذين اتجهوا إلى قرار النفس الإنسانية.
"الفرنسية" كما ترى مذهب أدبي يعبر عن التجارب الأدبية الفلسفية من خلال الرمز والتلميح، نأيًا عن عالم الواقع إلى عالم الخيال، وبحثًا عن مثالية مجهولة تعوض الشباب عن غياب العقيدة الدينية، باستخدام الأساليب التعبيرية الجديدة والألفاظ الموحية، وتحرير الشعر من كافة قيود الوزن التقليدية.
كذلك تتسم الرمزية -على الأقل في بعض الحالات- بالمبالغة في الأسلوب ولغة الأداء، فتدون عناصرها بألفاظ وصور بعيدة عن المألوف، حتى تكاد تلحق بالطلاسم، ونَلحَظُ في كثير من الأعمال الرمزية الغموض والتناقض، والبُعد في الجمع بين الأشياء، وإرْغَام لُغة الأديب أن تقرر بين الأشياء وإن بعدت، يقول الشاعر "ستيفن مالرميه" مثلًا عن الربيع:
لقد طرد الربيع الشاحب
في حجر الشتاء الظامي
وفي جسم الذي يسيطر عليه الدم القاتم
يتمطى الفجر في تثاؤب طويل
أن شفقًا أبيض يبرد تحت جمجمتي
التي تعصبها حلقة من حديد
وكأنها قبر قديم
ويعود الغموض في الأدب الرمزي إلى كون الرمزيين يحاولون استجلاء ما وراء عالم الحس الخفي، وما في داخل النفس الإنسانية، إلى جانب إيثارهم للإيحاء
الذي لا يؤدي دلالة واضحة، بل ينقل حالة نفسية إلى القارئ من خلال التراكيب اللغوية.
ولعَلّ من المُناسب هنا إيراد كلمة "جورج صدح": إنّ الرّمز غير اللغز؛ فاللغز لا يفهم، ولا يُوحي أما الرمز فأنت تفهم إيماءته أضعاف ما تفهم من كلمته، والإغراق في الإبهام يسد منافذ الجو، ويخلق أمام القارئ فراغًا لا يستحث الفكر، ولا يوقظ الشعور، كذلك فإن الغموض المقبول هو ما أشار إليه النقاط العرب القدامى، كما في قول ابن سنان الخفاجي:"أفخر الشعر ما غمض عنك، فلم يعطك إلا بعض ما طلب منه".
أما الاستغلاق فهو مزعج، ومن شأنه أن يصرف القارئ عن القراءة، إذ يجدُ الأبواب بينه وبين الكاتب مغلقة غير قابلة للفتح، مهما أدام الطرق والدفع.
وهُناك أيضًا تركيز الرمزيين على العنصر الموسيقي في شعرهم، إذ عدوه جزءًا من تكوين النص الرمزي، واعتمدوا إلى حد بعيد على تراسل الحواس في التعبير الأدبي، وآمنوا إيمانًا راسخًا مبدأ الفن للفن، داعين إلى أن يكون الأدب غاية في ذاته، لا يوظف من أجل تحسين الواقع.
أما المقصود بتراسل الحواس فهو: أن يوصل الشاعر دلالات مبتكرة من خلال تبادل معطيات الحواس وتراسلها، كأن يستخدم حاسة اللمس لما يقتضيه السمع، وهو ما يعني أن يشم الشاعر من خلال حاسة السمع، أو يتذوق بحاسة البصر، أو يرى بحاسة اللمس، وكل حاسة من الحواس الخمس تؤدي وظيفة حاسة أخرى بدلًا عنها.
ويتحَقّقُ التأثير ذاته الذي يمكن للمخ البشري أن يتلقاه من أية حاسة، وبطبيعة الحال؛ فإن ذلك لا يتحقق في عالم الحقيقة بل في عالم الخيال، والتصور الفني؛
أي: أنّ الشّاعر يُحطم المنطق العلمي المحسوس، ويفرض منطق الحلم والوهم، بهدف نقل مشاعره وأحاسيسه إلى المتلقي، ومن الواضح أن تصرف الشاعر الرمزي في اللغة إلى هذا الحد، ليس عملًا مقبولًا عند سائر الناس، بل هو جميل فحسب عند أتباع المدرسة الرمزية وتعبيراتها الغريبة والمعجبين بآدابها.
وقد اتصل الأدباء المحدثون بالأدب الرمزي كالعادة، عن طريق الترجمة أو الاطلاع على أدب اللغات الأوربية، مما أدى إلى تأثرهم بذلك الأدب بدرجات متفاوتة؛ إلا أن الرمزية لم تشكل مذهبًا واضحَ المعالم في الأدب العربي.
ومن أهم الأدباء الذين نجد لديهم سمات رمزية: جُبران خليل جبران، وأمين الريحاني، ومي زيادة، ومصطفى صادق الرافعي. ويقول بعض الدارسين: إن "أديب مظهر" المتوفى عام ألف وتسعمائة وثمانية وعشرين في السادسة والعشرين من عمره هو أول شاعر عربي أدخل جذوة الرمزية إلى الشعر العربي في قصيدته "نشيد السكون"، وكان مقدرًا له أن يبرز لولا أن الموت عاجله وهو صغير السن.
كما برز الشاعر اللبناني "سعيد عقل" الذي كان من أوائل أدباء العرب نقلًا للرمزية الغربية، وكان يرى أن الشعر يجب ألا يُخبر، بل يوحي ويلمح، وأصر على إدراك اللامنطقي والحدسي للعالم، كما اعتبر أن الشعر موسيقى قبل أن يكون فنًّا فكريًّا.
وممن تأثروا بالرمزية أيضًا: "يوسف غصوب" و"جورج صيدح" و"إيليا أبو ماضي" وبعد سنة ألف وتسعمائة وخمسين شاعت في الشعر العربي حركة جديدة تتسم ببعض الخصائص الرمزية، من أبرز أعلامها:"بدر شاكر السياب" و"عبد الوهاب البياتي" و"سعد يوسف" و"نازك الملائكة" و"خليل الحاوي" و"يوسف الخال" و"أدونيس" و"صلاح عبد الصبور".
ولمزيد من التوضيح نقول: إنّ المدرسة الرمزية حركة أدبية اعتمدت الرمز لغة، والموسيقى إيقاعًا، والجمال غاية ومحورًا. والرمزية هنا معناها الإيحاء، أي: التعبير غير المباشر عن النواحي النفسية المستترة، التي لا تقوى اللُّغة على أدائها في دلالاتها الوضعية، بحيثُ تتولد المشاعر عن طريق الآثار النفسية، لا عن طريق التسمية والتصريح.
وقد ظَهرت الرمزية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ فإن نشأة الرمزية في الأدب الغربي الحديث يعود إلى سنة ألف وثمان مائة وست وثمانين، عندما أصدر "مورياس" رسالة أدبية تتضمن تعريفًا مفصلًا بهذه المدرسة، وكانت هذه الرسالة بمثابة أول منشور للرمزية، وصدر هذا البيان في الملحق الإداري للفيجارو الفرنسية، حيث قدم تعريفًا بالمذهب الجديد. وحدد ممثليه ورواده، وهم:
"شارلْ بُودلير" وهو شاعر وكاتب فرنسي ولد وعاش بباريس، ومن مؤلفاته "زهور الشر" "لي فلير دي مل" وله مجموعة شعرية تعبيرية. وترجم قصصًا لـ"إدجر المبو" ويعد "بودلير" الرائد الأول للرمزية في فرنسا و"ماليرميه" المنظر الحقيقي الذي وهب الشعر معنى الغموض والأسرار الخارقة التي لا توصف. أما الثالث فهو:"فيرلين" لأنه كسر قواعد الشعر المألوفة، وحوله إلى نوع جديد هو الشعر الحر.
وبعد ذلك بعدة أسابيع ظهرت مجلة الرمزية "لوسبليست" في أربعة أعداد، وأوضحت كثيرًا من قواعد الرمزية، ورسخت اتجاهاتها.
ومن أبرز رواد الرمزية خارج فرنسا: "وليم بليك" و"وليام بتلر يتس" من أيرلندا و"ريلكه وإلكساندر بلوك" من روسيا، و"توماس سترس إليوت" من أمريكا، وإن كان يحمل الجنسية الإنجليزية.
ويرى الرمزيون أن اللغة لا قيمة لها في ألفاظها، إلا ما تثيره هذه الألفاظ من الصور الدينية التي تلقاها من الخارج، وعلى هذا الأساس تصبح اللغة وسيلة للإيحاء، كما يرون أن الأدب يسعى إلى نفس الصورة الفنية، ونقل خيال الكاتب إلى القارئ، هناك اهتمام أصحاب المذهب الرمزي بالإيقاع الموسيقي في شعرهم، إذ يرون أن الموسيقى وحدها هي التي توقد للسامع أو القارئ مشاعره العاطفية التي تهز نفسه.
ومن أهم خصائص المذهب الرمزي: لا مبالاة الشاعر بالواقع، والتحري عن الروح في قلبه، فقد عدت الرمزية الواقع الهادئ زائفًا في الدلالة على الحقيقة، ونظرت إليه على أنه قناع يسترها، فمثلًا إذا نظر الشاعر إلى البحر؛ فإنه لا يذكر زُرقته وموجه الهادر؛ وإنما يتخذه مادة للتأمل؛ إنه يرنو إلى ميتافيزيقية البحر، من حيثُ غاياته، وغاية الإنسان والوجود، فيتحول الإنسان بحرًا، والبحر إنسانًا كما يقول "بودلير":" أيها الإنسان الحر ستحب البحر البحر مرآة".
هذا؛ ويشكل الغُموض العمود الفقري للأدب الرمزي، والمقصود بالغموض ما يُخيم على القطعة الأدبية؛ فتُصبح مقتصرة على ذوي الإحساسات الفنية المُرهفة؛ فالرمزيون يكتفون بالإشارة إلى الحالة النفسية الغامضة بوسائل رمزية، كذلك إذا كانت الكلاسيكية تنقل المعاني عن طريق العقل، والرومانسية عن طريق الانفعال والعاطفة؛ فإن الرمزيون قد اهتموا بنوع آخر من هذه المشاركة الوجدانية بين الكاتب والقارئ، يقوم على نقل حالات نفسية من الكاتب إلى القارئ وهو الإيحاء.
ومن هذه الكلمات الموحية: "الضوء الخافت"، "التموج"، "الألوان الهاربة"، "الأنغام"، "الغروب"، "الرحيل". كما أنهم يقربون بين الصفات المتباعدة؛
فيقولون مثلًا: "السكون المقمر"، "الضوء الباكي"، "الشمس المرة المذاق"، "القمر الشرس".
وبالمثل اهتموا بالألوان إذ جعل "رامبو" مثلًا لكل لون معنى فاللون الأحمر يرمز إلى الحركة والحياة الصاخبة، والقتال والثورة، والغضب والأعاصير. واللون الأخضر يرمز إلى السكون والطبيعة والانطلاق، وفكرة المستحيل، والخلاص من عالم المادة. واللون الأزرق يرمز إلى العالم الذي لا يعرف الحدود، وفيه انطلاق إلى ما وراء المادة الكونية، واللون الأصفر لون المرض والشعور بالحزن والضيق، والتبرم من الحياة، واللون الأبيض يمثل الطهر المثالي وهدوء السكينة ويرمز إلى الفراغ والجمود، أما البنفسجي فهو لون الرؤى الصوفية.
ومن ناحية النغمة الموسيقية: فالرّمزية في نظر "فاليري" هي نية عدة من عائلات الشعراء في أن ينهلوا من الموسيقى، إن الموسيقى لا تقرر أفكارًا، بل تعبر تعبيرًا نغميًّا عما يشعر به الفرد، وتنتقل هذه المشاعر من المؤلف والعازف إلى المستمع، وهذا "بودلير" في ديوانه "أزهار الشر"، يكتُب مَقطوعة صغيرة عنوانها "الموسيقى" صَوّر فيها الأثر العميق الذي تحدثه الموسيقى:"تأخذني الموسيقى غالبًا مثل بحر، نحو نجمة الشاحبة، تحت سقف ضبابي، أو أثير واسع، أرفع الشراع صدري إلى الأمام ورئتاي منفوختان كالشراع".
ويقول "هرني" عن الموسيقى في قصيدته الفن الشعري: عليك بالموسيقى قبل كل شيء، قم بالموسيقى أولًا وأخيرًا، وليكن شعرك مجنحًا؛ حتى لا يُحِسّ أنه منطلق من الروح عابرًا نحو سموات أخرى.
وهُناك أيضًا "تراسل الحواس" كما سبق القول؛ فاللمس والشم والسمع والبصر وسائل تعبير متداخلة ومتبادلة، فبعضها ينوبُ عن بَعضها الآخر في التأثير
النفسي، كوصف أحد الرّمزيين للون السماء بقوله:"وكأن لون السماء في نعومة اللؤلؤ" وكقصيدة "بودلير" الشهيرة "مراسلات" التي يقول فيها: "ثمة عطور ندية كجسد الأطفال، عذبة كآلة موسيقية خضراء كالمروج".
وهكذا شاهد الشاعر لون الاخضرار في العطر، وسمع نغم المزمار ولامسه في جسد الأطفال.
وقد قيل عن الرمزية: إنها أدب الصفوة؛ فأصحابها لا يحفلون بسواد الشعب، ويتوجهون إلى الصفوة، بحيث يغدو فهم الأدب بالرمزي مقصورًا على الذين تمكنوا من بعض العلوم الإنسانية؛ كعلم النفس الجماعي الذي شرحه كل من "يونج وأدلر" وعلم التحليل النفسي الذي اكتشفه وعرفه العالم النمساوي "فرويد".
ومن مبادئهم أيضًا: الإيمان بالصنعة دون الإلهام، وبذلك يقول "فاليري": إذا آمن الشاعر بالوحي قتل الإبداع، كذلك نراهم يلجئون إلى الأساطير، وذلك عندما يُصَرّفون موضوعات إنسانية لها علاقة مباشرة بالفلسفة أو الأخلاق، وكان للترجمة التي قام بها عدد من الأدباء، ولا سيما تلك التي قامت بنشرها مجلات عربية مشهورة مثل "المقتطف" و"المكشوف" و"الرسالة" والأديب"، أثر واضح في نقل الآداب الغربية التي أخذت بأساليب المدارس الأدبية. وقد مهد لهذه الترجمات الإطلاع المباشر على اللغات الأوربية والأمريكية إثر الهجرات التي قام بها عدد من اللبنانيين والسوريين إلى بلاد الغرب ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية.
لقد لقيت الرّمزية اهتمامًا من الشُّعراء العَرب وانتشرت على نطاق واسع، ولم يكن ظهورها في أدبنا خاضعًا لنفس الظروف التي نشأت في كنفها في الأدب
الغربي، ومن مظاهر ذلك: الرمزية الجزئية لجبران خليل جبران، خاصة في قصيدته "المواكب" التي اعتمدت في بعض صورها على تراسل الحماس كما في قوله:
هل تحممت بعطر
…
وتنشفت بنور
وشربت الفجر خمرًا
…
في كؤوس من أثير
وفيه انتقال الحس اللمسي للاستحمام، مكان الحس الشمي العطر والحس البصري النور مكان الحس اللمسي التنشف، والحس الذوقي الشرب مكان الحس البصري.
وللرمزية في حقل الأدب ولا سيما الشعر رواد كثيرون، يأتي في مقدمتهم الشاعر الفرنسي "بودلير" وقد كان في مبدأ حياته الأدبية معجبًا بمدرسة الفن للفن، ومن أنصارها المتحمسين ورائدها "توفيل جوتييه" أستاذًا وموجهًا، ومن روادها الشاعر "فولفيرلين" و"رامبو"، و"مالرميه"، وتدعو هذه المدرسة الرمزية إلى الاهتمام بالموسيقى اللفظية في الشعر؛ فلا بد من العناية بالصورة الشعرية عناية فائقة حتى تستطيع أن تستشف منها معاني الجمال.
واللغة الشِّعريةُ نَفْسُها ما هي إلا وسيلة إيحاء توحي بالخواطر والمشاعر والأحاسيس والرؤى والأحلام والحالات النفسية من الكاتب إلى القارئ، إذًا اللغة في نظر الرمزيين قاصرة وعاجزة عن أن تنقل لنا حقائق الأشياء.
وبالتّالي ليست بوسيلة لنقل المعاني المحددة، أو الصور المرسومة الأبعاد، ولا بد من أن تبدأ الصور التعبيرية من الأشياء المادية المحسوسة؛ ليستوحي ظلالها وأثرها العميق في النفس وفي منطقة اللاشعور، أو العقل الباطن، وهي منطقة لا يدركها العقل الواعي ولا يسلم بها، ولا تبرز مخزوناتها إلا في الأحلام، وأحلام اليقظة وفي حالات التنويم المغناطيسي.
وفي هذا المجال تصير اللغة الشعرية رمزًا لا تعبيرًا، وعملية إيحاء لشتى الصور والأخيلة، وفي منطقة اللاشعور لا تهتم بالعالم الخارجي إلا بمقدار ما تتمثل وتتخذه منافذ للخلجات النفسية الدقيقة التي يصعب التعبير عنها.
ولا بد لتكامل عملية الإيحاء للصور من اللجوء إلى ما يسمى بـ"تراسل الحواس" أي: أن تستعير حاسة وظيفة أو صفة حاسة أخرى؛ فتعطي المسموعات ألوانًا والمشمومات أنغامًا، وتصبح المرئيات عاطرة يشم الأنف من الورد الأصفر نغمًا حزينًا، ومن هذا القبيل قول الشاعر علي الجارم:
أسوان تعرفه إذا اختلط الدجى
…
بالنبرة السوداء في أناته
فقد وصف النبرة وهي صوت بالسواد وهو لون، ولا شك أن وصف النبرة بالسواد في هذا المقام، أقدر على الإيحاء بالجو النفسي الذي يحسه الشاعر، ويريد أن ينقله إلينا، ولا شك أن تقارب الحواس لصفاتها فيما بينها، يُساعد كثيرًا على نقل الأثر النفسي.
وممن دعا إلى الاستعانة بتراسل الحواس بكمال التعبير والصور الشاعر الفرنسي "بودلير" في قصيدته التي عنوانها "تراسل" كما قلت من قبل وفيها يقول: "الطبيعة ذات دعائم حية، وأحيانًا تنطق هذه الدعائم ولكنها لا تفصح، ويجوس المرء منها في غابات من رموز؛ تلحظه بنظراته أليفة، وتتجاوب الروائح والألوان والأصوات كأنها أصداء طويلة مختلطة، آتية من بعيد؛ لتألف وحدة عميقة المعنى، مظلمة الأرجاء، رحيبة كالليل أو كالضوء".
فتبادل الحواس لصفاتها يجعل من العالم الواقعي مثاليًّا صوريًّا تتمازج فيه الخيالات مع الحقائق، والرمزيون بالإضافة إلى هذا يمقتون في الصورة الأدبية اللهجة البيانية الخطابية بأساليبها الواضحة المشرقة، ذات المعنى الظاهر؛ لأنهم
يريدون الغوص والتعمق في تصوير المعاني المستعصية على التعبير، القابعة في خفايا النفس وأعماق الضمير، ويرون أنه لا بد من إضفاء شيء من الغموض والخفاء والإبهام على الصورة الشعرية؛ لتتوافر أمام القارئ فرصة التأمل والتفكير، كي توحي الصورة معاني وخواطر جديدة.
إذ إن الوضوح لا يترك للقارئ فرصة إعمال الذهن وكد العقل، ويسيء لما في الصورة من جمال ولذة وفائدة، بالإضافة إلى أن اللغة فيها شيء من القصور عن أن تنقل لنا المعاني المحددة، والأجواء النفسية، فيما لو أردنا إبرازها والتعبير عنها.
على أنه لا بد أن يكون في هذا الغموض والخفاء شيء من الإيحاء وانسياب الخواطر، لا أن يكون من نوع الأحاجي والألغاز. ولعل هذا ما يعبر عنه الشاعر "بول ذرلين" بقوله:"أحب شيء إلي هو الأغنية السكرى، حيث يجتمع المحدد الواضح بالمبهم اللامحدود".
ويقول أيضًا تتمة لهذا المعنى: "الأهمية الأولى للضلال لا للألوان كما تتراءى العيون الساحرة من خلف النقاب". فعبر بالظلال عن الصور الشعرية الغامضة الموحية، وبالألوان عن الصور الشعرية الواضحة.
يضاف إلى ذلك أن الرمزيين يعنون بصياغة الصور الشعرية المهموسة المشوبة بالغموض، ويتأنقون باختيار الألفاظ الموحية المشعة المصورة، بحيثُ تُوحي اللفظة بأجواء نفسية وانفعالات عاطفية رحيبة؛ فمثلًا لفظة الرّبيع تُوحي لك بمنظر المياه الدافقة، والخُضرة اليانعة، والأشجار المورقة الباسقة، وتُسمعك خرير الماء، وزقزقة العصافير، وتغريد البلابل، وصدح العنادل، وتشعرك بالمتعة والانبساط والارتياح وانشراح النفس ونقاوة الضمير، ولهذا لا يسمى الشعر عند
الرمزيين شعرًا إلا إذا كان غامضًا مبهمًا موحيًا شافًّا عن أجواء نفسية غريبة متنوعة.
ولعلنا نستطيع أن نلم بمنهج الرمزية إذا رددنا النظر في قصائد الرمزيين، وفيما يلي قصيدة للشاعر الفرنسي الرمزي "ستيفان مالرميه" وفيها يقول:
لقد طرد الربيع الشاحب في حزن
الشتاء - فصل الفن الهادئ الشتاء الضاحي
وفي جسم الذي يسيطر عليه الدم القاتم
يتمطى العجز في تثاؤب طويل
إن شفقًا أبيض يبرد تحت جمجمتي
التي تعصبها حلقة من حديد
وكأنها قبر قديم
وأهيم حزينًا خلف حلم غامض جميل
خلال الحقول التي يزدهر فيها عصير لا نهاية له
ثم أخر من هو كالعصب بعطر الأشجار
وأحفر برأسي قبرًا لحلمي
وأع ض الأرض الساخنة التي تنبت النرجس
ومع ذلك فزرقة السماء تبتسم فوق سياج الشجر المستيقظ
حيث ترفرف العصافير كالزهر في ضوء الشمس
يُعبر لنا في هذه القصيدة عن الحالة النفسية التي يعيشها بسبب الملل الذي أنهكه، والسأم الذي يقضم جوانحه، ويقتنص من مظاهر الطبيعية صورًا رمزية تُوحي لنا
بحالته النفسية، والشعر فيه شيء من غموض؛ ولكنه غموض يُوحي لقارئه بإدراك المعنى، والجو النفسي الذي يعيشه الشاعر، وليس بغموض أولئك الشعراء الناشئين المقلدين الذين يتنطعون ويتقعرون، ويجعلون من ذلك الغموض شيئًا أشبه بالألغاز حتى هم أنفسهم لا يدركون معناها، وإنما يقصدونها سترًا لعجزهم، وإيهامًا للناس بشاعريتهم.
وبعد هذا كله؛ ربما يتبادر إلى ذهن القارئ أن الرمزية لم تظهر إلا في الشعر، والشعراء وحدهم هم الذين اهتموا بها، نظرًا لما فيها من الغموض الذي بطبعه يناسب الشعر، ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إن الرمزية لم تقتصر على الشاعر الغنائي الذاتي فحسب، وإنما تعدته إلى الأدب الموضوعي، الذي يهتم بالمشاكل الإنسانية والأخلاق الاجتماعية العامة، تعالجها بواسطة الأخيلة والصور.
ولكن يجب ألا يعزب عن البال: أنّ الرمزية لا تأخذ نفسها في معالجة هذه المشاكل والأخلاق وتحديدها، ونقدها كما في الكلاسيكية مثلًا، بل تأخذ في تجسيم الأفكار النظرية المجردة، وإلباسها شيئًا من الحوادث والأفعال؛ لتُصبح ديناميكية متحركة، ونلمح من خلالها الحقائق الفلسفية والخلقية.
وكثيرًا ما يلجأ الرّمزيون في علاج هذه الموضوعات إلى الأساطير القديمة، بل إنهم ينحون نحوها في ابتكارهم للحوادث والأعمال، عند عرض أو مناقشة قضية إنسانية عامة، كما يلاحظ ذلك في القصص والمسرحيات التي ابتكرها الرمزيون من أخيلتهم؛ كمسرحية "الأشباح" لـ"إبسون" ومسرحية "صفقة الشيطان" لـ"جيروم".
وتعرض المسرحية الأولى من خلال الوقائع مشكلة إنسانية لم يبت فيها أحد، وهي مشكلة توارث الخطيئة؛ على نحو يكاد يكون عضويًّا لا دخل للوعي ولا
للإرادة فيه، إذ ترى في هذه المأساة أبًا يفسق بخادمته، ثم يرث ابنه منه هذه الخطيئة، فيهم هو الآخر بأن يفسق بخادمته، على الرغم أنه لم يعش في جو أسرته، ولم يعش في جو الخطيئة، بل أرسلته أمه بعيدًا عن المحيط الملوث ليتعلم ويتثقف؛ ولكنه هم بفعلته تلك بعد عودته، فكأنها غريزة فيه وصفة فطرية ورثها من والده لا يستطيع عنها فكاكًا.
وتُصور المسرحية الثانية قضية صفقة تجارية يجريها شيخ شرير مع شاب خير؛ فيتبادل كل منهما روح صاحبه، ولكن كل من الروحين لا يستقر في جسم الآخر، فكأنه هناك تلازم بين الجسم والروح.
وقد أخذت الرمزية تغزو الأدب العربي المعاصر، ولكن قبل أن يلم بهذه القضية يجدر بنا أن نسأل أنفسنا: هل عرف الأدب العربي القديم الرمزية؟ وجوابًا على هذا السؤال أستطيع أن أقول دون تحفظ: إن الأدب العربي القديم لم يعرف الرمزية كما هي عند "بودلير" و"إدجر ألمبو" و"مارميه" ولكنه عرف الرمزية في أسلوب الكناية، وهناك علاقة وثيقة بين الرمزية الحديثة والكناية التي نعرفها في علم البيان، وسوف نورد بعض من أمثلة الكناية للنظر إلى أي حد يمكن أن تكون صورًا رمزية أو قريبة منها في الإيحاء.
فعندما أقول: "فتى رياضي" فإنني هنا أكني عنه بأنه ذو قوة وعضلات مشدودة، ولو وضعت لفظة أرمز بدل أكني؛ لاستقام المعنى واستقامت الدلالة.
وحينما يقول العربي: "قلبت له ظهر المجن" والمجن هو الترس الذي يستتر به المحارب من واقع السهام والرماح؛ فإنّ هذا التعبير رمز أو كناية عن تغير المودة.
وحينما يقول الغربي: "ذاب بينهم الجليد" فإن ذلك التعبير رمز أو كناية عن رجوع أواصر المحبة أو علاقات التعاون بعد أن كانت مقطوعة.
بل إن في الكناية قسم يسمونه "الرمز" وكثيرًا ما يمثل له البيانيون بقول العرب: "فلان عريض الوساد" يرمزون إلى بلاهته وبلادته، إذ يترتب على عرض الوساد عرض القفا، ويعتقد العرب أن عريض القفا يكون عادة بليدًا، كما أن واسع الجبين عريضه، يكون عادة نبيهًا ألمعيًّا ذكيًّا.
وحينما يقول "ملر ميه": إن شفقًا أبيض يبرد تحت جمجمتي، فإنه يكني عن المخ ويرمز إليه، والكناية هنا عن موصوف؛ فالكناية رمز يأتي في صور قصيرة موجزة، مثل هذه الأمثلة، ولم تتخذ الكناية شكلًا أدبيًّا أو موضوعيًّا، كما في الرمزية الحديثة، ولكنها تدل على أن الذهن العربي ولود مفكر سبق الغرب في أشياء كثيرة.
أما الرّمزية الحديثة؛ فدخلت الأدب العربي الحديث عن طريق لبنان، وأصبح لها رواد كثيرون من شعراء لبنان، منهم على سبيل المثال: بشر فارس، وألبير أديب، وأديب مظهر، وخليل شيبوب، وجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمه.
ولنزار قباني بعض قصائد رمزية، ولكنّ فيها شيئًا من الوضوح، ويلاحظ الدارس لشعر هؤلاء أنهم تأثروا لحد كبيرًا في شعرهم لمعطيات الرمزية وتعاليمها واتجاهاتها، ووقفوا على آثارها في لغاتها الحية، واستطاعوا بكل سهولة أن يضمنوها شعرهم.
ونورد فيما يلي بعض أمثلة من الشعر الرمزي العربي، من ذلك قصيدة مرسلة للأستاذ ألبير أديب بعنوان "حياتنا" يقول فيها:
حياتنا شباب وفكر أخضر
وعواطف من عمل الربيع
وقلوب من ندى الفجر
نجمعها ونغسل بها أرض الأزقة
أو نروي رمال الصحراء
ثم هي ليله وضحاها
فإذا الزوبعة تذهب بنا
فنأخذ معنا كل أحلامنا وأمانينا
ونحن على قدم من الهاوية أو أقل
ما زلنا نؤسس ونبني ونقيم
فما أسخفنا لا نجعل أيامنا ابتسامة
ونقيم علينا رب يعرف كيف
يجعلنا كيف نبتسم حتى لأنفسنا
شعر فيه شفافية، وفيه شيء من غموض ومن إيحاء، ولكنه غير عميق فيه شيء مما يسمى بتراسل الحواس عند الرمزيين؛ وصف الفجر بالاخضرار، وعواطف من عمل الربيع، وقلوب من ندى الفجر. ومن ذلك قصيدة ابن الشاعر "أديب مظهر" بعنوان "نشيد السكون" وفيما يبدو أن أكثر الشعراء الشباب ينصرفون الآن إلى معالجة الشعر الرمزي، ولكن أكثر إنتاجهم من هذا الشعر يبدو مجردًا عاريًا من معطيات الرمزية وتعاليمها، بل إن بعضَ القصائد لا يأخذ من الرمزية إلا