الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الخامس عشر
(نشأة قصيدة الشعر الحر وتطورها)
نبذة عن مراحل تطور الشعر العربي
نشأة قصيدة الشعر الحر وتطورها:
الشعر فن من فنون الأدب، يزيد على الفنون النثرية كالخطابة والمقالة والرواية والمثل: بجريه على الوزن والقافية، وقيامه من ثم على التركيز والتكثيف، مع بروز العنصر الوجداني والخيالي فيه أشد من بروزهما في تلك الفنون الأخرى.
وقد يكونُ الشِّعْرُ بعد ذلك وصفًا لمنظرٍ طبيعيٍّ أو موقف من المواقف، أو شخصًا من الأشخاص، أو قد يكون تعبيرًا عن خاطرة، أو قد يكون انعكاسًا للذات الفردية، أو الذات الجماعية؛ وقد يكون تحميسًا واستنفارًا، وقد يكون عبثًا واستهتارًا، وقد يكون شجنًا ويأسًا، وقد يكون بهجة وأنسًا، وقد يكون فخرًا مجلجلًا، وقد يكون إعجابًا مستوريًا، وقد يكون تأمل واستبطانًا للنفس وانسحابًا من الدنيا والمجتمعات.
وقد يكون إقبالًا على الأحياء والحياة، وقد يكون هتافًا مصمًّا، وقد يكون همسًا ونجوى، وقد يكون كلامًا مباشرًا، وقد يكون حكاية، وقد يكون متعلق بقضية اجتماعية أو إنسانية أو دينية أو سياسية، وقد يكون متعلقًا بشأن ذاتي، وقد يكون مسرحية تتشابك فيها الشخصيات والمواقف والحوارات، وقد يكون ملحمة طويلة تشتمل على العقدة والسرد والوصف، وتحليل النفوس وتحاور الأفراد.
والمُهِمُّ في كل ذلك: أن نلفت النظر إلى أن هذا الفن إنما ينهض على أساس من التركيز وتحليق الخيال، وحرارة الوجدان؛ فضلًا عن توفر عنصر الموسيقى، ذلك العنصر الذي يحاول الآن قومٌ من العجزة أو الموتورين الراغبين في التدمير والتشويه إلغاءه، والزعم بأن الشعر لا يحتاج إليه؛ لأنه ليس من عناصره على
الإطلاق، إنّما هو شيء عرضي إلحاقي كان له يوم من الأيام، والآن يمكن أن يخلو منه، دون أن يكون ثمة ضرر من وراء ذلك البتة.
وقد ظلت القصائد العربية منذ بداية أمرها إلى بضع عشرات قليلة من الأعوام، تنظم على بحر من البحور الخليلية الستة عشر، في عدد من الأبيات يبدأ من سبعة أو عشرة، وقد يَطُولُ إلى بِضْع عَشراتٍ مِنْهَا، ورُبّما إلى ما هو أكبر من ذلك، وإن كان هذا نادرًا في شعرنا بوجه عام، وكان كل بيت ينقسم إلى شطرين، كما كانت الأبيات كلها تلتزم قافية واحدة.
وإلى جانب هذا النمط من الوزن ظهر في الطريق ألوانًا أخرى، كالموشحات والمخمسات، وما إلى ذلك؛ ثم عرفنا في العصر الحديث ما يُسمى بالشِّعر الجديد، أو شعر التفعيلة، الذي يقوم على نظام السطور لا الأبيات، حيث يتكونُ كُلُّ شطر من تكرار تفعيلة بعينها تكرارًا اعتباطيًّا؛ فمرة يكون السطر عبارة عن تفعيلة واحدة، ومرة يكون ست أو سبعًا أو ثلاثًا أو اثنتين حسبما يعن للناظم أن يقف، ويستأنف نظمه في سطر جديد.
وأحيانًا ما يكون في القصيدة الواحدة تفعيلتان مختلفتان أو أكثر، وعلى ذات الشاكلة تفتقر القصيدة التفعيلية إلى نظام قفوي معروف؛ إذ الشاعر حر في أن يُقَفّي متى شاء، وأن يترك التقفية متى شاء، مثلما يمكنه التنويع في القافية على النحو الذي يشاء.
وفوق هذا فلم يمض وقت طويل على ظهور شعر التفعيلة، الذي طنطن به أصحابه في البداية طنطنة محمومة، حتى عادت منظمته الأولى "نازك الملائكة" تنحي باللائمة على الشعراء التفعيليين الذين يخطئون أفظع الأخطاء، وهم يحسبون أنهم يأتون بأعظم التجديد، ويرتكبون أخطاء عروضية مشوهة وهم لا
يشعرون، مُقِرّة بأن ثمانين بالمائة من القصائد الحرة تحتوي على أغلاط عروضية من صنف لا يمكن السكوت عنه.
وأننا قد نجد خطأ عروضي في قصيدة واحدة من عشر، في أسلوب الشطرين، في حين نجده في ثمان من عشر في الأوزان الحرة، وهذه نسبة غير هينة، تجعلُ الغَلط في الشعر الحر ظاهرة متمكنة، يَنبغي أن تخص بالملاحظة.
ومن هنا ارتبك نجم القصيدة التفعيلية وخفت، وظل يرتبك ويخفت رويدًا رويدًا حتى كاد أن يموت في كثير من القصائد، وأضحينا أمام أشباه جثث يزعم أصحابها، أو من يرافقونهم من النقاد على هذا العبث والإفساد المزاعم الطويلة العريضة التي تصم الآذان، إلا أنها لا تجدي فتيلًا.
فإذا أضفنا إلى هذا ما أصبح ملمحًا بارزًا لكثير من نصوص هذا الشعر في الفترة الأخيرة، وهو الغموض الذي كثيرًا ما يبلغ حد الاستغلاق، تبين لنا حجم الكارثة التي نزلت بالشعر العربي على أيدي هؤلاء المغرمين بالتدمير والتجريف، في الوقت الذي يملئون الدنيا صياحًا بأنهم إنما يعملون على إنقاذ الشعر العربي من المأزق الذي وقع فيه، على حين أنهم هم أنفسهم مأزق هذا الشِّعر ومصيبته وبلواه؛ إذ صار الشعر على أيديهم فاقدًا للمعنى والوزن والقافية، واقترب في حالات كثيرة من الهلوسات والبهلوانيات.
فإذا اعترضت أن هذا ليس بشعر، أجابوك بأن الشاعر لم يخلق ليقول شيئًا بل ليلعب الشعر بالكلمات وحسب، ومع هذا تراهم مغرمين غرامًا عجيبًا بإذاعة شعرهم، كما تراهم يتهافتون أشد التهافت على النقاد؛ ليكتبوا عنه وعنهم، وكثيرًا ما نرى أولئك النقاد الذين يزعمون أن لغة الشعر ليست للتوصيل ولا للتواصل؛ وهم يزحرون ويتصببون عرقًا في تفسير ما يقصده الشعر من معنى،
وهذا أكبر دليل على عظم التدليس الذي ينتهجه الفريقان كلاهما في حديثهما عن فن الشعر.
وقد كتبَ بعضُ مَنْ يُدافِعون عن هذا الشعر مقرًّا بأن الغموضَ يلف الشعر الحديث وقسماته، ويخفي جوهره وعلاقاته بأشقائه في لوحة الأدب، وزاد الفجوة التي تفصل بين كثير من النصوص الشعرية المعاصرة، وجمهوره الواسع من القراء، وأن ظاهرة الغموض جاءت من أمور منها الغموض الدلالي، واستحالة الصورة الفنية، وغموض الرمز؛ فماذا بالله بقي في شعر يكون بهذه الدرجة من الغموض؟ وأي غموض إنه غموض مثلث؛ إنه غموض شامل كامل لا يترك للقارئ فرصة لينفد منها إلى شيء يقبل الفهم التذوق.
أما النصوص التفعيلية التي ما زالت تقول شيئًا مفهومًا؛ فقد انحدرت في غير قليل من الأحيان إلى العدوان على قيمنا الخلقية والدينية التي نعتز بها كل الاعتزاز، إذ نرى فيها التجديف في حق الله، والتطاول على الذات الإلهية، والاستعانة بالرموز الوثنية والصليبية، مما لا يمكن استساغته بتاتًا في النفس المسلمة السوية.
بل إن أصحاب هذا اللون من الشعر حين يرجعون إلى التاريخ الإسلامي، لا يجدون من يتخذونه رموزًا لهم إلا أمثال "الحلاج" و"ابن عربي" و"أبي نواس" و"ابن الراوندي" والقرامطة والزنج، ممن تثور حول أفكارهم ومواقفهم ومعتقداتهم علامات استفهام لا تبعث أبدًا على الطمأنينة، كما يتخذون أساتذتهم ومثلهم العُليا من "إليوت" و"باوند" و"ريلك" و"دورك" و"نيورود" وأشباههم رغم اختلاف القيم والاتجاهات والعقائد بيننا وبينهم، ورغم اختلاف ظروف شعرنا العربي عن الشعر الغربي في أشياء كثيرة.
نعم قد انتهى الشعر العربي أو كاد أن ينتهي في أيدي هؤلاء الشعراء إلى طريق مسدود، بعد أن قضوا على كل ما هو نضر فيه، فلم يعد له في معظم ما يكتبون معنى ولا نغم ولا فيه شعور.
وكانت "نازك الملائكي" قد توقعت أنه سوف يأتي اليوم الذي يعود فيه ناظمو شعر التفعيلة، إلى النظم على الطريقة الخليلية مرة أخرى، بعد أن تنحسر الحماسة الأولى لذلك الشعر؛ إذ كتبت في مقدمة ديوان "شجرة القمر":"وإني على يقين من أن تيار الشعر الحر سيتوقف في يوم غير بعيد، وسيرجع الشعراء إلى الأوزان الشطرية، بعد أن خاضوا في الخروج عليها والاستهانة بها".
كما صرح "نزار قباني" منذ وقت جد مبكر في عدد أغسطس سنة ألف وتسعمائة وثلاث وخمسين ميلادية، من "مجلة الآداب البيروتية" بما نصه:"كنت من أول القائلين بوجوب التحرر من القافية، هذه العبودية التي تقود البيت العربي قف فيقف؛ وتقطع خيوط الخيال العربي في روعت قفزته فيقع منقطع الأنفاس، أما الآن فقد جئت أعترف بفشلي، لأني أيقنت أن التحرر من القافية العربية مغامرة قد تودي بطابع القصيدة العربية، وتقضي على إرنانتها".
ونحن نرى أن موجة الشعر الجديد، هي مجرد موجة من موجات الشعر العربي؛ ليست أفضل ما فيه، ولا هي قمة تطوره كما يريد منا أصحابه أن نعتقد، بل فيها وفيها؛ إلا أن عُيوبَها أوضح فضلًا عن أن هذه العيوب ليست بالعيوب الهينة كما رأينا.
بل إن النماذج الجيدة من هذا الشعر لا تصمد للمقارنة مع النماذج الجيدة لما يسمى بالشعر القديم، خذ مثلًا قصيدتين من أقوى القصائد في هذا الشعر، وهما:"أحلام الفارس القديم" لصلاح عبد الصبور، و"الغرفة رقم ثمانية" لأمل
دنقل، فالأولى في نصفها الأخير تعاني من ما يرمون به الشعر التقليدي كله زورًا وبهتانًا من خطابية ولجوء إلى حشو السطر للوصول إلى النهايات بأي طريق، والثانية يعيبُها ضعف النغم وضحالة العاطفة، إذا قيست مثلًا بقصيدة "مالك بن الريب الأموية" وهي في رثاء الذات مثل قصيدة "دنقل" وذلك رغم المسافة الزمنية الشاسعة التي تفصل بين العمل الأخير، والذي رثى به "دنقل" نفسه.
أو فلنأخذ قصيدة صلاح عبد الصبورة "أغنية من فيينا"، وهي أيضًا من النماذج الشعرية الجديدة التي يبوئها أصحاب الشعر التفعيلي مكانة عالية جدًّا من شعرهم، ولنُقارن بينها وبين رائية بشار "قد لامني في خليلتي عمرو" مثلًا، ولسوفَ يتبينُ لنا في الحال ما يغلب على قصيدة "عبد الصبور" من نثرية وضعف نغم، وتشتُت فكر، وقلة تركيز بحيث لا يجد القارئ لها ما يجده من أثر من قصيدة "بشار" المحكمة البناء، المتجهة قدمًا إلى هدفها، رَغم أن صاحب الأولى معاصر لنا على عكس بشار الذي يفصله عنا ثلاثة عشر قرنًا.
أو فلنأخذ "طردية أحمد عبد المعطي حجازي" ولنُقَارن بينها وبين "طردية الملك العماني سُليمان بن سليم النبهاني" من أهل القرن التاسع والعاشر الهجريين، رغم أن لغة حجازي لغة عصرية ليس في معجمها كلمة واحدة تحتاج منا إلى استشارة أي معجم، في حين أن "طردية النبهاني" مملوءة بالكلمات الغريبة علينا؛ مما يُحوجُنا إلى فتح المعجم كثيرًا.
على أن ليس هناك ما هو أحسم في التفرقة بين الشعرين لصالح الشعر القديم بوجه عام، من أن النّماذج التي يحفظها العربي ويستشهد بها من الشعر الجديد، نادرة جدًّا جدًّا، إذا ما قيست بروائع الشعر التقليدي الخالدة، التي لا تزال تملأ علينا نفوسنا، رغم البعد الزمني الذي يفصلنا عن ذلك الشعر.