الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نماذج من المسرحيات العربية التي تأثرت بالمسرح الغربي
وبالنسبة للمسرحيات العربية التي تأثرت بالمسرح الغربي، يمكننا أن نأخذ مثالين عليها:
الأول: مسرحية توفيق الحكيم (الملك أوديب)، والثاني: مسرحية صلاح عبد الصبور (مأساة الحلاج).
فأما مسرحية الحكيم فهي إعادة صياغة لمسرحية (سوفوكليس) الكاتب المسرحي الإغريقي المسماة (أوديب ملكًا)، وقد حظيت مسرحية (سوسفوكليس) من توفيق الحكيم باهتمام بالغ، حتى لقد استغرق في كتابة صفحاتها القليلة نحو أربع سنوات، والسبب في ذلك -كما يقول الحكيم نفسه- هو صعوبة محاكاة هذه المسرحية التي فشل عشرات الكتاب الكبار من الأوربيين أنفسهم قبله في تقليدها، وتحويلها إلى مسرحية عصرية، وتضمينها معانيهم هم دون الإخلال بقيمة العمل الفني.
والمحاكاة في المسرح فن شهير اتبعه كتاب أوربا من قبل، حيث يأخذون عملًا إغريقيًّا قديمًا فيحتفظون بشكله الخارجي مع تضمينه أفكارهم الخاصة، ولقد حاول الحكيم تحويل تلك المسرحية الوثنية الخرافية بالمعاني الإسلامية. ومسرحية (أوديب) بسيطة في أحداثها وشبه معروفة، إذ تكتب الآلهة على "أوديب" أن يتزوج أمه بعد أن يقتل أباه دون أن يعرف أنه أبوه، ثم يسمل عينيه في محاولة للتكفير عن ذلك الذنب حين تتكشف له الحقيقة، وقد حدث كل هذا رغم أنه قد قيل له قبلًا: إن هذا كله سوف يقع منه، مما جعله يترك وطنَه، ويهم بعيدًا عنرر
أبيه وأمه؛ كي لا يتورط فيما قال العرَّاف إنه سوف يقع منه، وهو ما لم يجده نفعًا بَتاتًا، إذ المكتوب لا مهرب منه.
وتدور أحداث القصة الأسطورية بأرض مصر القديمة، إذ يقال: إنه كان هناك ملك اسمه "لايوس" يحكم مدينة طيبة، وكان هذا الملك لا يولَد له، وكان له عدد من العرافين قد أخبروه بأنه سوف يولد له رغم ذلك ولدٌ، إلا أن هذا الولد سوف يقتله ويتزوج أمه "جوكاستا" زوجة الملك، وعندما وضعت "جوكاستا" ولدًا، أشار العرافون عليه بالتخلص منه؛ حتى لا يكون هلاكه على يديه، ومن ثَم أمر الملك أحدَ مستشاريه بأن يحمل الطفل ويقتله في الصحراء بعيدًا عن المدينة، لكن الرجل أشفق على الطفل، فلم يقتلْه، بل تركه عند راع من الرعاة فرِحَ به فرحًا شديدًا، إذ لم يكن ينجب أطفالًا، وهناك عاش "أوديب" مع الرعاة حياة قاسية خشنة لا يعرف أبًا غير ذلك الراعي.
وفي ذات يوم مرض الراعي فخرج "أوديب" بالأغنام وحده، فإذا به يرى موكبًا عظيمًا أمامه، وإذا بصاحب الموكب يطلب منه أن يفسح الطريق، لكنه رفض، وعندئذٍ عرَض عليه القائد المبارزة، فتقاتلَا لينتصر "أوديب" عليه ويقتله، وهنا شرع ضميره يعذبه تأنيبًا، إذ كيف يقتل رجلًا شيخًا؟! ثم زاد إحساسه بالذنب ففكر في معاقبة نفسه، فترك الأغنام، وهام على وجهه في الصحراء، وظل سائرًا إلى أن قادته قدمه إلى مشارف المدينة، فوجد على بوابتها أناسًا يعرضون على مَن يقتل "سفينكس" الواقف على بوابة مدينتهم، ويخلصهم منه ومن شره، أن يصبح ملكًا عليهم، وهذا "سفينكس" حيوان له رأس امرأة، وجسم أسد، وجناح طائر، يقسوا على أهالي طيبة ويسومهم سوءَ العذاب.
وكانت الآلهة قد أرسلته إلى طيبة، ليسأل الناس عن بعض الألغاز، ومَن لم يحل تلك الألغاز يقوم بقتله، وقد دفع هذا الوضع "كربون" خليفة الملك "لايوس" أن يعلن للناس بأن كل من يخلص البلد من محنتها التي يسببها لها هذا المخلوق الشرير، من حقه أن يتولى العرش، ويتزوج أرملة "لايوس" الملكة الجميلة "جوكاستا".
وعندما دخل "أوديب" المدينةَ قابله "سفينكس" وسأله: ما هو الحيوان الذي يمشي على أربع صباحًا، وعلى اثنتين ظهرًا وعلى ثلاث مساءً؟ وكان جواب "أديب" أنه الإنسان، فهو في طفولته يحبو على أربعة، وعندما يكبر يمشي على اثنتين، وعند الشيخوخة يستعين بالعصا إلى جانب قدميه، ومن ثم يكون مشيه على ثلاث.
وهناك روايتين عن مصير "سفينكس" بعد سماع الجواب، فالأولى تقول: إنه انتحر، والأخرى: إن "أوديب" قتله، ونتيجةً لذلك الجميل نصبه أهل المدينة ملِكًا عليهم، وتزوج الأرملة "جوكاستا"، وظن أهل المدينة أن الكوارث قد ذهبت عنهم بعد أن صار ملكهم شابًا قويًّا، إلا أن اللعنات ظلت تتوالى على المدينة، وازداد حالها سوءًا، فاستدعى الملك "أوديب" العرافين، لكنهم لم يتوصلوا إلى الحقيقة، إلى أن أتى رجل كبير السن وطلب الأمان قبل أن يتكلم، فأعطوه ما أراد، وعندئذٍ أمر الشيخُ "أوديبَ" بأن يخلع ثيابه، ففعل، فنظر الشيخ إلى ظهره قائلًا: هذه علامة تدل على أنك أنت ابن "لايوس"، وأنك أنت قاتل أبيك وزوج أمك، فشعر "أوديب" بأنه ارتكب ذنبًا إدًّا لا بد له من كفارة حتى ترضى الآلهة عنه، ومن ثم فقأ عينيه وغادر المدينة إلى الصحراء؛ عقابًا لنفسه على فعلته، وعلى مخالفة أوامر الآلهة.
ولقد حاول المؤلفون الأوربيون تحويل المسرحية ففشلوا فشلًا ذريعًا، كما حاول ذلك توفيق الحكيم المسلم، الذي حكم الناقد السويسري "ألويس دون ماريناك" أنه قد فشل في عمله أيضًا، رغم ما في محاولته من جمال، وهو ما أقر به الحكيم عن نفسه كذلك.
وتكمن المشكلة في أن الخرافة الوثنية لاصقة في مسرحية "سوفوكليس"، فلا يمكن إبعادها إلا بتشويه العمل، والخروج عن المحاكاة إلى شيء آخر، وقد أبعد أديبنا المصري كثيرًا من عناصر الأسطورة عن مسرحيته؛ لأن المسلم لا يعتقد أن الإنسان مجبر جبريةً مطلقةً كما هو الحال في مسرحية الأديب الإغريقي، كما أن الإسلام يرفض تمامًا فكرة الإله القاسي، الذي يكتب على عبده الشقاءَ اللازمَ من قبل أن يولَد، وعلى نحو لا يمكنه أن يتفاداه مهما صنَعَ، وفوق هذا فالمسلم لا يعتقد أن أحدًا من الخلق يمكنه أن يعلم الغيب أبدًا، على عكس ما تقوله المسرحية الإغريقية من أن العرَّاف كان يعلم ما سوف يقع لـ"أوديب" من مصائب، وأنه قد أخبره بذلك، وأن "أوديب" قد حاول بكل ما أوتي من قوة تجنب الكارثة، إلا أن محاولاته قد ضاعت عبثًا. بل إنه كلما كان أوغل في البعد يقترب رغمًا عن أنفه مما حاول الابتعاد عنه وتفاديه.
ومما لجأ إليه توفيق الحكيم من تحويلٍ في المسرحية كي تتفق مع العقيدة الإسلامية إلغاءه النبوءة التي عرف منها "أوديب" أنه سوف يقتل أباه ويتزوج أمه، والتي عمل كل ما في وسعه كي يتجنب آثارها، لكن ضاعت جهوده كلها رغم ذلك سدًى كما نعرف، وقد أثبت توفيق الحكيم رأي الأستاذ السويسري ورده هو عليه في آخر المسرحية المذكورة.
أما مسرحية (مأساة الحلاج) لصلاح عبد الصبور، فتعالج قصة مقتل الحسين من منصور المشهور بالحلاج في بغداد عام 309 للهجرة، بعد محاكمته أمام ثلاثة قضاة، وتتخذ من شخصية هذا الشاعر الصوفي مناسبةً لطرح قضية الالتزام، كيف يا ترى يلتحم الأديب بمشكلات عصره؟ وهل يقتصر على تسجيل رأيه؟ أو ينزل إلى ساحة العمل فيرتكب العنفَ من أجل التغيير؟
وقد كتب الدكتور حمدي السكوت في مجلة "فصول" في أكتوبر سنة 1981م مقالًا عن صلاح عبد الصبور في اللغة الإنجليزية، جاء فيه عن موضوعنا: تكاد (مأساة الحلاج) أن تستأثر بكل ما كتب من مقالات حول صلاح عبد الصبور -يقصد باللغة الإنجليزية- ربما لأنها ترجمت ونشرت بالإنجليزية منذ تسع سنوات، ومن ثَم فقد وَجَد الدارسون الناطقون بالإنجليزية، والأجانب عمومًا، نصًّا متاحًا لعمل كامل يعد من أفضل أعمال الشاعر، فنشروا عنه مقالات عديدة.
ويستأثر مترجم المسرحية الدكتور خليل سمعان بنصيب الأسد مما كتب من مقالات في الإنجليزية، فقد نشر في مجلة "دراسات في الأدب المقارن" " Comparative Liteaure St u dies" مقالًا بعنوان:" T.S. Eliot،s Influence on Arabic Poetry and Theatre": " أثر تي. إس. إليوت على الشعر والمسرح العربيين". ثم نشر مع الترجمة مقدمةً عنوانها: "تي. إس. إليوت وصلاح عبد الصبور: دراسة في العلاقات الأدبية بين الشرق والغرب". ثم نشر في "المجلة العالمية بدراسات الشرق الأوسط" مقالين؛ أولهما عن: " Drama as a v ehicle of Protest in Nasir،s Egypt": " المسرحية باعتبارها وسيلة للاحتجاج في مصر في عهد عبد الناصر" والثاني بعنوان: " Islamic Mysticism in Modern Arabic
Poetry and Dr a ms " التصوف الإسلامي في الشعر العربي الحديث والدراما ".
أما المقال الذي نشره الدكتور سمعان في " International Journal of M. E. S" بعنوان: "المسرحية باعتبارها وسيلةً للاحتجاج في مصر في عهد عبد الناصر"، فيقرر فيه الكاتب أن صلاح عبد الصبور -وهو واحد من أبرز كتاب المسرح العربي المعاصر الذين عاشوا فترة الستينيات في القاهرة- قد عانَى ما عاناه المثقفون المصريون في تلك الفترة، واختار عن وعي حياة الحلاج واستشهاده؛ ليطلق صرخةً من القلب ضد ما يعتبره هو فسادًا سياسيًّا.
ثم يقدم الكاتب ملخصًا سريعًا للمسرحية، مبرزًا أن صلاح عبد الصبور نشر المأساة -والعنوان مختار عن عَمْد، يقصد (مأساة الحلاج) - خارج وطنه، وقد قُوبل نشرها بالترحاب كقمة الشجاعة الاشتراكية. والكاتب يرى أيضًا هذا الرأي، ويروي أن صلاح عبد الصبور قد حاول أن يصف الأوضاع بدراسة وبلاغية ورصانة، واستخدم الحلاج ليتحدث نيابةً عنه حول الفقر على النحو التالي:
فقر الفقراء
جوع الجوعَى في أعينهم تتوهج ألفاظ لا أوقن معناها
أحيانًا أقرأ فيها
ها أنت تراني
لكن تخشَى أن تبصرني
لعن الديان نفاقك
أحيانًا أقرأ فيها
في عينك يذوي إشفاق، تخشى أن يفضح زهوك
ليسامحك الرحمن
قد تدمع عيني عندئذ .. قد أتألم
أما ما يملأ قلبي خوفًا، يضني روحي فزعًا
وندامة
فهي العين المرخاة الهدب
فوق استفهام جارح
أين الله؟؟
والمسجونون المصفودون يسوقهم شرطي
مذهوب اللب
قد أشرع في يده سَوْطًا لا يعرف مَن في راحته قد وضعه
مَن فوق ظور المسجونين الصرعى قد رفعه
ورجال ونساء قد فقدوا الحريةَ
اتخذتهم أربابًا من دون الله عبيدًا سخريًّا
ثم يقتبس الكاتب أبياتًا أخرى كثيرة يرى أن بعضها يدين السلطة، وبعضها يدين المحاكمة ونظام الحكم المفلس .. وهكذا.
أما المقال الثاني الذي نشر بتاريخ لاحق في نفس المجلة في نوفمبر 1979 حول "التصوف الإسلامي في الشعر العربي والدراما"، فيبدؤه الكاتب بمقدمة عن التصوف، وعن تاريخ الحلاج. ثم يُتبعها بتقديم صورة الحلاج في ديوان البياتي "سفر الفقر والثورة" وصورته في (مأساة الحلاج) مكتفيًا تقريبًا بأشعار كل من الشاعرين، ومبررًا ذلك بقوله: في هذه الدراسة يُسمَح للفنانين أن يعرضَا بنفسيهما وجهة نظرهما، فالكاتب -يقصد نفسه- يقوم فقط بدور المرشد الذي يقدم المتكلمين إلى المسرح، وينبه إلى الملامح البارزة لما يقولون، ويوضح المغزَى، ويلخص المحتوى كله.
وبعد أن يلاحظ أن القراء عادةً ما يضيقون بالاقتباسات الطويلة، ويتخطونها في قراءتهم، يقرر أن هذا لو حدث بالنسبة لهذه الدراسة فسيكون خطأً فادحًا؛ لأن المقتبسات هنا هي الدراسة.
ومنذ أن ترجم الدكتور خليل سمعان (مأساة الحلاج) وهو يعتقد أن صلاح عبد الصبور قد تأثر في كتابتها بمسرحية إليوت (جريمة قتل في الكاتدرائية)، وذلك واضح حتى في العنوان الذي اختاره للمسرحية بعد ترجمتها وهو (جريمة قتل في بغداد)" Murder in Baghdad" لكي يثير انتباه القارئ منذ الوهلة الأولى إلى مسرحية إليوت " Murder in the Cathedral".
وتوضح مقدمة الدكتور سمعان للترجمة الإنجليزية:
أولًا: أن أي علاقة بين المسرحيتين لا يمكن أن تقوم على المصادفة أو توارد الخواطر؛ نظرًا للاختلاف الشديد بين الثقافتين اللتين ينتمي إليهما الشاعران. ثم يقرر الكاتب أنه سيدرس أثر إليوت على صلاح عبد الصبور من خلال ربط مسرحية إليوت (جريمة قتل في الكاتدرائية) بمسرحية صلاح عبد الصبور (مأساة
الحلاج)، ويقدم عرضًا موجزًا لتاريخ حياة الحلاج، موضوع المسرحية، لينتقل من ذلك إلى عرض أحداث المسرحية في إيجاز. ثم يقول: إن التشابه بين مسرحية إليوت (جريمة قتل في الكاتدرائية) ومسرحية عبد الصبور (مأساة الحلاج) تشابه يلفت النظر، فكلتاهما كتبت في الشعر الحر، وفي فصلين، وكلتاهما تتناول أحداثًا تاريخيةً ودينيةً تشكل جزءًا حقيقيًّا من الثقافة التي ينتمي إليها كاتبها، وكلا الشاعرين يضمن النظم مقطوعات جد بليغة من النثر، وهو نثر يثير التقاليد الدينية الخاصة بكل منهما.
والدافع الحقيقي للاستشهاد في كلتا الحالتين مبهم: في مقدمة المسرح يقف الفرسان في مسرحية إليوت، وفي مسرحية عبد الصبور تقف المجموعة التي تصيح مطالبةً بصلب الحلاج، ومن خلفهم قف إنسان غير واضح المعالم، وهو الملك هنري في مسرحية إليوت، وقضاة صلاح عبد الصبور الذين يدينون الحلاج، حيث يقدم إليوت مسألة استعداد "بيكت" للسعي إلى الموت الذي يلوح أمامه، ويثير صلاح عبد الصبور مسألةً مشابهةً من خلال المريدين الذين يزعمون أنهم قد تسببوا في استشهاد الحلاج بِناءً على رغبته.
وهكذا، فإن المسرحيتين في أبعد مستوًى لهما ترتكزان على إرادة الاستشهاد. ولكن كلا القتيلين مع ذلك متقبل لمصيره بابتهاج، يقول "بيكت": إن كل شيء يسير نحو إنجاز بهيج، ويسعى الحلاج إلى متعة منح حياته لله. ويوضح سمعان أن الفرق بين موقف الرجلين - المتمثلة في تطوع الحلاج بمنح حياته لله من جهة، وقناعة "بيكت" بتنفيذ المقدور من جهة أخرى- هذا الفرق ناجم عن الاختلاف بين المسرحية الأرثوذوكسية وبين التصوف الإسلامي. موضحًا الفروق بينه -أي: بين التصوف- وبين الإسلام كدين. ثم يشير سمعان في ختام مقاله إلى أن
المادة التي يستخدمها عبد الصبور، وإن كانت تختلف كثيرًا عن مادة إليوت، فمن الواضح أنه قد وجد في الألوان التكتيكية عند إليوت ما أفاده في معالجة مادته هو، سواء من حيث البناء، وفي عدد الفصول، وفي استخدام الكورس، أو من حيث المضمون في غموض الدافع وراء الحدث، وتأثير إليوت يمكن ملاحظته في تفاصيل أخرى، وفي بعض أعمال عبد الصبور الأخرى.
ولي تعليق على اتخاذ صلاح عبد الصبور من الحلاج رمزًا على المصلح الاجتماعي والسياسي في مسرحيته -التي نحن بصددها- ألا وهو أن الشاعر قد حمل الحلاج الذي نعرفه ما لا تحتمله شخصيته، إذ هو في الواقع ليس سوى صوفي خارج عن العقيدة الإسلامية، فقد كان يقول بالحلول والاتحاد، وما إلى ذلك من الأفكار التي لا يقرها الإسلام، ومن كلامه قوله:
أين الحق؟
ما في الجبة إلا الله
وقوله أيضًا:
أنا مَن أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
كما أن له كلامًا عن الناسوت واللاهوت ينفر منه الضمير المسلم نفورًا شديدًا، ولا يمكن أن يسمعه في هدوء، يقول:
سبحان من أظهر ناسوته
…
سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدَا محتجبًا ظاهرًا
…
في صورة الآكل الشارب
ويقول أيضًا:
مُزجت ْ روحي وروحك كما
…
تمزَج الخمرة بماء الزلال
ولم يعرف عنه يومًا أنه كان مصلحًا أو كان يهتم بشيء من هذا، بل كان يتظاهر أمام كل إنسان بما يوافق معتقده، فضلًا عما كان يمارسه من شعبزات ومخاريق، وهناك شهادة لزوجة ابنه لا تجعلنا نستريح إلى ذلك الرجل، إذ يبدو أنه كان يطمع في النيل من عِرْضها، وفي عصرنا هذا -للأسف- هناك أدباء ينتمون للإسلام يختارون رموزهم الأدبية من أمثال الحلاج، الخارجين على الدين، جاعلينهم أبطالًا، مع أنهم لم يكونوا من البطولة ولا كانت البطولة منهم في شيء.
ولا أدل على ذلك من أن الحلاج كان يرتعد من فكرة الموت، فكان يستعطف قضاته، قائلًا: اللهَ اللهَ في دمي، فكيف يقال: إنه كان يسعى إلى الاستشهاد والموت في سبيل مبادئه الاجتماعية والسياسية التي قام يدعو إليها!!.
ومن هنا فإن ما كتبه بعض النقاد عن تلك المسرحية، من أن صلاح عبد الصبور قد توقف طويلًا أمام شخصية الحلاج، وقرأ ما كتبه القدامَى والمستشرقون عن هذه الشخصية، وآثَرَ أن يبعثها بعثًا جديدًا في صورة الثائر الديني، والمصلح الاشتراكي، فقدم لنا بطلًا قضيته الأساسية هي محاربة الظلم والفقر بمعناهما الروحي والمادي، ومن ثَمَّ ركز على الجوانب التي تجعل منه رجلًا ربانيًّا يكره الطغيان وينشد العدل، وأنه بما أعطاه الله من نور المعرفة كان يعرف دوره كالثائر الديني، فقام بخلع الخِرقة التي تعني تجرد الصوفي من متاع الدنيا ونزل إلى الناس، واعيًا أن الصوفي الذي يرى إرضاء الله بشعار الخرقة سيرضيه أيضًا بخلعها في سبيل الدفاع عن مصالح عباده.
هذا الكلام الذي كتبه بعض النقاد لا يقنع العقل أبدًا، إذ هو يختلف تمامًا عن الحلاج الذي نعرفه من واقع التاريخ الحقيقي -حسبما وضحنا- كما أن قول صلاح عبد الصبور على لسان الحلاج: إنه قد لبس الخرقةَ؛ إرضاءً لله سبحانه، وإقرارًا له بالعبودية، هو شيء لا يقره الإسلام، فالإسلام لا يعرف شيء اسمه الخرقة، فضلًا عن أن تكون تلك الخرقة دليلًا عن إقرار لابسها بعبودية الله تعالى، وفوق ذلك فقول عبد الصبور على لسان ذلك الصوفي المتمرد، موجهًا الخطاب إليه سبحانه وتعالى:
يا رب اشهد
هذا ثوبك
وشعارُ عبوديتنا لك
وأنا أجفوه
أخلعه في مرضاتك
يا رب اشهد
وهو كلام غير مفهوم وغير مقبول عندنا نحن المسلمين، إذ كيف يتقرب العبد إلى ربه عز وجل بخلع دليل عبوديته له -سبحانه- وجفائه إياه؟ إن هذا منطق البهلوانين لا منطق المؤمنين العقلاء.
يقول الحلاج:
تعني هذه الخرقة!
إن كانت قيدًا في أطرافي
يلقيني في بيتي جنب الجدران الصماء
حتى لا يسمع أحبابي كلماتي
فأنا أجفوها
أخلعها يا شيخ
إن كانت شارة ذلٍ ومهانةٍ
رمزًا يفضح أن جمعنا فقر الروح إلى فقر المال
فأنا أجفوها
أخلعها يا شيخ
إن كان السر منسوجًا من أن نيتنا
كي يحجبنا عن عين الله
فنُحجب عن عين الله
فأنا أجفوها
أخلعها يا شيخ
يارب اشهد
هذا ثوبُك
وشعار عبوديتنا لك
وأنا أجفوه
أخلعه في مرضاتك
يا رب اشهد .. يا رب اشهد
أما تعليق بعض النقاد على ذلك بقوله: إن الحلاج عندما يخلع الخرقة فإنما يريد أن يكون حرًّا، حتى لا تكون هذه الشارة قيدًا على عقله وعلى لسانه، يمنعه من التفكير في أسباب امتلاء دُنيا الله بالفقر والقهر والمهانة. وتعني أيضًا: أنه يخلع أي قيد يمنعه من التفكير الحر، والاختيار الحر لسلوكه ومواقفه، بوصفه إنسانًا مسئولًا، ما دام قد أعطاه الله مِنة العقل، ونور المعرفة، وإن الحلاج لم يستأثر بما حصله من يقين وفهم ومعرفة، ولا بالموقف الذي أوقفه الله فيه، إذ عرَف أن ما حققه من الوعي والحب لا يعني أن يبحث كل منا عن دَرْب خلاصه، كما ينصحه صديقه الشبلي إنه يعرف:
لِمَ يَخَتْارُ الرَّحمْنَ شُخُوصًا مِنْ خَلْقِهْ
ليُفرّقَ فيهمْ أّقبْاسًا منْ نُورِه هَذَا
ليكُونوا مِيَزانَ الكَوْنِ المُعْتَلّْ
ويفيضوا نُور اللَّهِ عَلَى فُقَراءِ القَلْبْ
ولذا، فإنه لا يبحث عن خلاصه الفردي، وكيف يبحث عن خلاصه الفردي والكون قد امتلأ بأنواع عديدة من الشر؟
هذا التعليق الذي علَّق به بعض النقاد تعليق عجيب، فلو كانت الخرقة شعارًا لعبودية الإنسان لربه، فكيف يكون خلعها سبيلًا إلى التفكير الحر المنعتق من القيود؟ أَتُرى عبودية الإنسان لربه تقيده وتمنعه من التفكير في مصلحة العباد من حوله، والعمل على إقامة المِعوج من دنياهم؟ مَن يقولُ هذا؟!
كذلك فتصوير الشاعرُ الحلاجَ في صورة المتحير الذي لا يدري ماذا يصنع لمحاربة الفقر والظلم في المجتمع، هو تصوير يجافي الواقعَ -كما قلنا- لأن المعروف أن الحلاج لم يكن يفكر في موضوعات كهذه على الإطلاق، بل كان رجلًا صوفيًّا، يقول بالحلول والوَحدة مع الله، وما إلى ذلك، مما لا يقبله الإسلام.
يقول الحلاج:
اخترْتُ لنفسي ماذا أختار؟
هلْ أرفعُ صوتي؟
أمْ أرفعُ سيْفي؟
ماذا أختارْ؟
ماذا أختارْ؟
وقد وقع صلاح عبد الصبور في كل هذه المزانق؛ لأنه وضع نُصْب عينه -فيما يبدو- سيرة "توماس بيكيت" والمسرحية التي كتبها عن إليوت، فأراد أن تكون له مسرحية تشبهها، غافلًا عن أن شخصية بطلي المسرحتين مختلفتان، والسياقين مختلفان، والدوافع وراء قَتْل كل من الرجلين مختلفة، وهكذا.
لقد كان "توماس بيكيت" -وهو من أهل القرن الثاني عشر الميلادي- أسقفًا لكنيسة "كانتبري"، وعُرِفَ عنه رغبته في الحفاظ على استقلال الكنيسة الإنجليزية من التدخل الملكي. وفي عام 1255ميلادية، قام الملك "هنري" الثاني بتعينه كبيرًا لقضاة إنجلترا، فعاش "بيكيت" حياة رغدة، وأصبح الرفيق المفضل لذلك الملك، وفي عام 1162م، عينه الملك أسقفًا لـ"كانتبري"، فتولى مهام منصبه توليًا جادًّا، وأصبح مدافعًا عن حقوق الكنيسة ضد السلطات الملكية. وقد توالت الخلافات
المريرة بين "بيكيت" والملك "هنري"، نظرًا لمحاولة الأخير السيطرة على كنيست إنجلترا، وقاوم "بيكيت" محاولات الملك جمع الضرائب من ملاك الأراضي، والأراضي المملوكة للكنيسة، كما قاوم محاكمة مسئولي الكنيسة المتهمين بجرائم خطرة.
وفي عام 1164م خشي "بيكيت" على حياته وفَرَّ إلى فرنسا، ولكنه عاد إلى إنجلترا عام 1170م، وسرعان ما عاود معارضته للسلطات الملكية مما تسبب في غضب الملك عليه، وفي اجتماع لفرسان الملك تساءل الملك: هل لدى أي واحد منهم الشجاعة الكافية لتخليصه من أحد الرهبان المشاغبين؟ وَعَدَّ بعض هؤلاء الفرسان أن ما قاله "هنري" هو رغبة ملكية، فذهبوا إلى "كانتبري" وقتلوا "بيكيت" في كاتدرائيتها.
فأين "بيكيت" من الحلاج؟ وأين الحلاج من "بيكيت"؟
ثم هل دفاع "بيكيت" عن رجال الكنيسة المتهمين بجرائم خطيرة، واستماتته في إبعاد يد العدالة عنهم مما يصح دينيًّا أو سياسيًّا أو قانونيًّا أو أخلاقيًّا؟ قد يقال: إنه كان يريد استقلال الكنيسة عن سلطة الملك، لكن ما العَلاقة بين هذا وذاك؟
فلتكن الكنيسة مستقلة عن الملك كما تحب ويحب البابا ورجال الدين، لكن فليحاكَم كل من ارتكب الجريمة، وخاصةً حين تكون تلك الجريمة من النوع الخطر، وعلى وجه أخص إذا كان مجتنح الجريمة رجلًا من رجال الدين الذين ينبغي أن يكونوا مثالًا أعلى لسائر الناس، فلا يفكروا في ارتكاب الجرائم أصلًا، فضلًا عن أن يرتكبوها، ثم يعملوا على الهروب من تَبَعاتها، وبمساعدة الكنيسة ذاتها.
كذلك من الواضح أن "بيكيت" لم يكن يرد أن تدفع الكنيسة أية ضرائب للدولة، فهل هذا أيضًا مما يصح؟
قد يقال هنا كذلك؛ إنه كان يعرف أن الملك إنما يريد الضرائب لمصلحته هو، لكن هل كان يصح أن تحتجن الكنيسة كل تلك الممتلكات لنفسها، وهي التي تزعم أنها تسير على خطى المسيح في الزهد ونَبْذ أمور الدنيا؟
لو أنها كانت تنفق أموالها على الفقراء والمساكين والمحتاجين والمرضَى، لَكَان لهذا الاحتجان شيء من المعنى.
أيًّا ما يكن الأمر، فالحق أنه لا توجد أي صلة بين الحلاج و"بيكيت"، حتى في طريقة قتل كل منهما، والظروف التي تم فيها ذلك القتل، والأسباب التي دعت إلى ذلك القتل، ويكفي أن نقول: إن الحلاج قد حُوكِمَ، أما "بيكيت" فقد قتل غيلةً.
والسلام عليكم ورحمة الله.