الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقامة المضيرية، كمثال من المقامات
ولكي لا يكون الكلام نظريًّا لا علاقة له بالواقع، ها أنذا أسوق إحدى مقامات الهمذاني، وهي المقامة المضيرية؛ حتى يلمس الدارس بنفسه مدى صحة ما قلناه عن الفن القصصي، وتحققه على أحسن ما يرام في هذا الشكل الأدبي على يد الهمذاني، ولسوف يرى الدارس عجبًا من الأمر، إذ إن هذه المقامة تخلو من التقعر اللغوي تمامًا، وليس فيها شيء مما يفد على الذهن حين نشير للأساليب البلاغية، وإن كان السجع والجناس متوفرين لا يغيبان:
" حدثنا عيسى بن هشام، قال: كنت بالبصرة، ومعي أبو الفتح الإسكندري، رجل الفصاحة يدعوها فتجيبه، والبلاغة يأمرها فتطيعه، وحضرنا معه دعوة بعض التجار؛ فقدمت إلينا مضيرة تثني على الحضارة، وتترجرج في الغضارة، وتؤذن بالسلامة، وتشهد لمعاوية رحمه الله بالإمامة، في قصعة يزل عنها الطرف، ويموج فيها الظرف، فلما أخذت من الخوان مكانها، ومن القلوب أوطانها؛ قام أبو الفتح الإسكندري يلعنها وصاحبها، ويمقتها وآكلها، ويثلبها وطابخها.
وظنناه يمزح، فإذا الأمر بالضد، وإذا المزاح عين الجد، وتنحى عن الخوان، وترك مساعدة الإخوان ورفعناها، فارتفعت معها القلوب، وسافرت خلفها العيون، وتحلبت لها الأفواه، وتلمظت لها الشفاه، واتقدت لها الأكباد، ومضى في إثرها الفؤاد، ولكنا ساعدناه على هجرها، وسألناه عن أمرها؛ فقال: قصتي معها أطول من مصيبتي فيها، ولو حدثتكم بها لم آمن الوقت وإضاعة الوقت.
قلنا: هاتِ، قال: دعاني بعض التجار إلى مضيرة، وأنا ببغداد، ولزمني ملازمة الغريم والكلب لأصحاب الرقيم، إلى أن أجبته إليها، وقمنا فجعل طول الطريق يثني على زوجته، ويُفَدّيها بمهجته، ويصف حذقها في صنعتها، وتأنقها في طبخها، ويقول: يا مولاي، لو رأيتها والخرقة في وسطها، وهي تدور في الدور، من التنور إلى القدور، ومن القدور إلى التنور، تنفث بفيها النار، وتدق بيديها الأبزار، ولو رأيت الدخان، وقد غبر في ذلك الوجه الجميل، وأثر في ذلك الخد الصقيل، لرأيتَ منظرًا تحار فيه العيون، وأنا أعشقها؛ لأنها تعشقني، ومن سعادة المرء أن يرزق المساعدة من حليلته، وأن يسعد بظعينته، ولا سيما إذ كانت من طينته.
وهي ابنه عمي لحى طينتها طينتي، ومدينتها مدينتي، وعمومتها عمومتي، وأرومتها أرومتي؛ لكنها أوسع مني خُلقًا، وأحسن خَلقًا، وصدعني بصفات زوجته، حتى انتهينا إلى محلته.
ثم قال: يا مولاي، ترى هذه المحلة! هي أشرف محال بغداد، يتنافس الأخيار في نزولها، ويتغايرُ الكبار في حلولها، ثم لا يسكنها غير التجار، وإنما المرء بالجار، وداري في السطة من قلادتها، والنقطة من دائرتها، كم تقدر يا مولاي أنفق على ك ل دار منها؟ قله تخمينًا إن لم تعرفه يقينًا، قلت: الكثير، قال: يا سبحان الله! ما أكبر هذا الغلط، تقول الكثير فقط، وتنفس الصعداء، وقال: سبحان من يعلم الأشياء.
وانتهينا إلى باب داره، فقال: هذه داري، كم تقدر يا مولاي أنفقت على هذه الطاقة؟ أنفقت والله عليها فوق الطاقة، ووراء الفاقة، كيف ترى صنعتها وشكلها؟ أرأيت بالله مثلها؟ انظر لدقائق الصناعة فيها، وتأمل حسن تعريجها،
فكأنما خط بالبركار، وانظر إلى حذق النجار في صنعة هذا الباب، اتخذه من كم؟ قل: ومن أين أعلم؟ هو ساج في قطعة واحدة، لا مأرود ولا عفن، إذا حرك أن، وإذا نقر طن، من اتخذه يا سيدي؟ اتخذه أبو إسحاق بن محمد البصري، وهو والله رجل نظيف الأثواب، بصير بصنعة الأبواب، خفيف اليد في العمل؛ لله در ذلك الرجل، بحياتي لا استعنت إلا به إلا على مثله.
وهذه الحلقة؛ تراها اشتريتها في سوق الطرائف، من عمران الطرائفي بثلاثة دنانير معزية، وكم فيها يا سيدي من الشبه؟ فيها ستة أرطال، وهي تدور بلولب في الباب، بالله دورها ثم أنقرها وأبصرها، وبحياتي عليك إذا اشتريت الحلق إلا منه؛ فليس يبيع إلا الأعلاق، ثم قرع الباب، ودخلنا الدهليز، وقال: عَمّرك الله يا دار، ولا خربك يا جدار؛ فما أمتن حيطانك، وأوثق بنيانك، وأقوى أساسك، تأمل بالله معارجها، وتبين دواخلها وخوارجها، وسلني كيف حصلتها؟ وكم من حيلة احتلتها حتى عقدتها؟.
كان لي جار يكنى أبا سليمان، يسكن هذه المحلة، وله من المال ما لا يسعه الخزنة، ومن الصامت ما لا يحصره الوزن، مات رحمه الله وخلف خلفًا أتلفه بين الخمر والزمر، ومزقه بين النرد والقمر، وأشفقتُ أن يسوقه قائد الاضطرار، إلى بيع الدار؛ فيبيعها في أثناء الضجر أو يجعلها عرضة للخطر، ثم أراها، وقد فاتني شراها، فأتقطع عليها حسرات إلى يوم الممات؛ فعمدت إلى أثواب لا تمد تجارتها، فحملتها إليه، وعرضتها عليه، وساومته على أن يشتريها نسية، والمُدبر يحسب النسية عطية، والمتخلف يعتدها هدية، وسألته وثيقة بأصل المال؛ ففعل وعقدها لي ثم تغافلت عن اقتضائه، حتى كادت حاشية حاله ترق، فأتيته فاقتضيته، واستمهلني فأنظرته، والتمس غيرها من الثياب فأحضرته.
وسألته أن يجعل داره رهينة لدي، ووثيقة في يدي؛ ففعل ثم درجته بالمعاملات إلى بيعها؛ حتى حصلت لي بجد صاعد، وبخت مساعد، وقوة ساعد، ورب ساع لقاعد، وأنا بحمد الله مشدود، وفي مثل هذه الأحوال محمود.
وحسبك يا مولاي أني كنت منذ ليالٍ نائم في البيت مع من فيه، إذ قرع علينا الباب، فقلت: من الطارق المنتاب؛ فإذا امرأة معها عقد لآل في جلدة ماء ورقة آل، تعرضه للبيع فأخذته منها إخذة خلس، واشتريته بثمن بخس، وسيكون له نفع ظاهر، وربح وافر بعون الله تعالى ودولته.
وإنما حدثتك بهذا الحديث؛ لتعلم سعادة جدي في التجارة، والسعادة تنبت الماء من الحجارة، الله أكبر لا ينبيك أصدق من نفسك، ولا أقرب من أمسك.
اشتريت هذا الحصير في المناداة، وقد أخرج من دور أهل الفرات، وقت المصادرات، وزمن الغارات، وكنتُ أطلب من مثله منذ زمن أطول فلا أجد، والدهر حُبْلَى ليسَ يُدرى ما يلد، ثم اتفقا أني حضرت باب الطاق، وهذا يعرض بالأسواق؛ فوزنت فيه كذا وكذا دينارًا، تأمل بالله دقته ودينه وصنعته ولونه، فهو عظيم القدر لا يقع مثله إلا في الندر، وإن كنت سمعت بأبي عمران الحصين فهو عمله، وله ابن يخلفه الآن في حانوته لا يوجد أعلاق الحصر إلا عنده؛ فبحياتي لا اشتريت الحصر إلا من دكانه، فالمؤمن ناصح لإخوانه لا سيما من تحرم بخوانه.
ونعود إلى حديث المضيرة؛ فقد حان وقت الظهيرة: يا غلام، الطست والماء، فقلت: الله أكبر ربما قرب الفرج، وسهل المخرج، وتقدم الغلام، فقال: ترى هذا الغلام، إنه رومي الأصل عراقي النشء، تقدم يا غلام واحسر عن رأسك، وشمر عن ساقك، وامض عن ذراعك، وافتر عن أسنانك، وأقبل وأدبر، ففعل
الغلام ذلك وقال التاجر: بالله من اشتراه! اشتراه، والله أبو العباس من النخاس، ضع الطست وهات الإبريق؛ فوضعه الغلام وأخذه التاجر وقلبه، وأدار فيه النظر؛ ثم نقره فقال: انظر إلى هذا الشبه، كأنه جذوة لهب، أو قطعة من الذهب، شبه الشام وصنعة العراق، ليس من قلقان الأعلاق؛ قد عرف دور الملوك ودارها، تأمل حسنه، وس لني ماذا اشتريته؟ اشتريته والله عام المجاعة، وادخرته لهذه الساعة.
يا غلام، الإبريق فقدمه وأخذه التاجر فقلبه ثم قال: وأنبوبه منه، لا يصلح هذا الإبريق إلا لهذا الطست، ولا يصلح هذا الطست إلا مع هذا الدست، ولا يحسن هذا الدست إلا في هذا البيت، ولا يجمل هذا البيت إلا مع هذا الضيف، أرسل الماء يا غلام فقد حان وقت الطعام.
بالله ترى هذا الماء ما أصفاه أزرق كعين السنور، وصاف كقضيب البلور، استقي من الفرات، واستعمل بعد البيات؛ فجاء كلسان الشمعة في صفاء الدمعة، وليس الشأن في السقاء الشأن في الإناء، لا يدلك على نظافة أسبابه أصدق من نظافة شرابه.
وهذا المنديل سلني عن قصته؛ فهو نسل جرجان، وعمل آل رجان، وقع إلي فاشتريته، فاتخذت امرأتي بعضه سراويلًا، واتخذت بعضه منديلًا، دخل في سراويلها عشرون ذراعًا، وانتزعت من يدها هذا القدر انتزاعًا، وأسلمته إلى المطرز حتى صنعه كما تراه وطرزه، ثم رددته من السوق وخزنته في الصندوق، وادخرته للظراف من الأضياف، لم تذله عرب العامة بأيديها، ولا النساء لمآقيها؛ فلكل علق يوم، ولكل آلة قوم.
يا غلام، الخوان فقد طال الزمان، والقصاع فقد طال المصاع، والطعام فقد كثر الكلام؛ فأتى الغلام بالخوان، وقلمه التاجر على المكان، ونقره بالبنان، وعجمه بالأسنان، وقال: عَمّر اللهُ بغداد فما أجود متاعها، وأظرف صناعها، تأمل بالله هذا الخوان، وانظر إلى عرض متنه، وخفة وزنه وصلابة عوده وحسن شكله، فقلت: هذا الشكل، فمتى الأكل؟ فقال: الآن عجل يا غلام الطعام، لكن الخوان قوائمه منه.
قال أبو الفتح الإسكندري: فجاشت نفسي وقلت: قد بقي الخبز، وآلاته والخبز وصفاته، والحنطة من أين اشتريت أصلًا، وكيف اكترى لها حملًا، وفي أي رحًا طحن، وإجانت عجن، وأي تنور سجر، وخباز استأجر، وبقي الحطب من أين احتطب ومتى جلب، وكيف صفف حتى جفف، وحبس حتى يبس، وبَقي الخباز وأصله، والسميز ونعته، والدقيق ومدحه، والخمير وشرحه، والملح وملاحته، وبقيت السكرجات من اتخذها، وكيف انتقذها، ومن استعملها ومن عملها؟ والخل كيف انتقي عنبه؟ أو اشتري رطبه، وكيف صهرجت معصرته؟ واستخلص لبه، وكيف قير حبه؟ وكيف يساوي دنه؟ وبقي البقل كيف احتيل له حتى قطف؟ وفي أي مبقلة رصف؟ وكيف تؤنق حتى نظف.
وبقيت المضيرة كيف اشتري لحمها؟ ووفي شحمها، ونصبت قدرها، وأججت نارها، ودقت أبزارها حتى أجيد طبخها، وعقد مرقها، وهذا خطب يطم وأمر لا يتم، فقمت فقال: أين تريد؟ قلت: حاجة أقضيها، فقال: يا مولاي، تريد كنيفًا يزري بربيعي الأمير، وخليفي الوزير، قد جصص أعلاه، وصهرج أسفله، وسطح سقفه، وفرشت بالمرمر أرضه، يزل عن حائطه الذر فلا يعلق، ويمضي على أرضه الذباب فينزلق، عليه باب غير أنه من خليط ساج وعاج، مزدوجين أحسن ازدواج، يتمنى الضيف أن يأكل فيه.
فقلت: كل أنت من هذا الجراب، لم يكن الكنيف في الحساب، وخرجت نحو الباب، وأسرعت في الذهاب، وجعلت أعدو وهو يتبعني ويصيح: يا أبا الفتح، المضيرة.
وظن الصبيان أن المضيرة لقب لي، فصاحوا صياحًا فرميت أحدهم بحجر من فرط الضجر، فلقي رجل حجر بعمامته، فغاص في هامته؛ فأخذت من النعال بما قدم وحدث، ومن الصفع بما طاب وخبث، وحشرت إلى الحبس، فأقمت عامين في ذلك النحس، فنذرت ألا أكل مضيرة ما عشت؛ فهل أنا في هذا يا آل همذان ظالم؟! قال عيسى بن هشام: فقبلنا عذره، ونذرنا نذره، وقلنا: قديمًا قد جنت المضيرة على الأحرار، وقدمت الأراذل على الأخيار".
وهَذه المقامة كما يرى القارئ هي قطعة برأسها، تُقرأ دفعة واحدة، ولا يستطيع القارئ أن يفلت من إرسالها، وتشويقها وسحرها، دون أن يتمها في هذه الدفعة الواحدة؛ إذ هي عمل محكم ليس فيه ثغرة، يمكن أن يتعلل بها المتعلل لأخذ نفسه، بل لا بد له أن يمضي حتى يفرغ منها في طلق واحد، وعندئذٍ وعندئذ، فقط يستطيع أن يتنفس.
وعلى كل حال فقد عاد الدكتور شوقي ضيف، فقال: "إن المقامات عرفت منذ وقت مبكر خارج الأدب العربي؛ ففي الأدب الفارسي مثلًا: ألف القاضي حميد الدين أبو بكر بن عمر البلخي ثلاثة وعشرين مقامة على نسق مقامات الحريري، وأتمها سنة خمسمائة وإحدى وخمسين للهجرة وكذلك عرفت في الأوساط اليهودية، والمسيحية الشرقية؛ فترجموها، وصاغوها على مثالها باللغتين العبرية والسريانية.
أما في أوربا فقد عني المستشرقون بمقامات الحريري؛ فترجمت إلى اللاتينية، والألمانية، والإنجليزية، إلا أنه يؤكد أن تأثيرها كان محدودًا وبخاصة إذا قارنا بينها وبين ألف ليلة وليلة في هذا المجال، ذَلك أنّ المقامات -كما يقول- ليست القصة عمادها، بل عمادها الأسلوب، وما يحمل من زخارف السجع والبديع.
ثم يقول: إننا مع ذلك يمكن أن نرى أثرها في بعض القصص الأسباني، الذي يصف لنا حياة المشردين والشحاذين، وإن لهذا القصص عندهم بطل يُسمى "بيكارون" يشبه من بعض الوجوه أبا الفتح الإسكندري في مقامات بديع الزمان، وأبا زيد السروجي في مقامات الحريري.
وفيما يَخُصّ تقليد القاضي المذكور لمقامات الحريري ثمة كتاب للدكتور بديع محمد جمعة عنوانه (دراسات في الأدب المقارن) تناول في فصل منه هذا المسألة بشيء من التفصيل، وهو يبدأ بتعريف فن المقامة محاولًا الرجوع بهذا الفن العربي الأصيل إلى أول من ابتدعه من المؤلفين العرب.
والمقامة في بداياتها الأولى فن أدبي يقوم عادة على حكاية من حكايات الشطارة والاستجداء، ذات بطل واحد ينتقل من مكان لمكان، ومن موقف إلى آخر؛ مغيرًا هيئته في كل مرة متخذًا الكدية وسيلة لكسب ما يقيم حياته، إلى أن تنتهي الحكاية بانكشاف حقيقة حاله، وافتضاح أساليب مكره وخداعه، التي يلجأ إليها لتحصيل مطعمه ومشربه، كل ذلك في لغة بديعية مفعمة بالفكاهة، والتهكم والحرص على متانة الأسلوب، وإظهار البراعة اللغوية المتمثلة في سعة المعجم اللفظي، وكثرة التسجيع، والجناس، والتوازن والتوريات، وغير ذلك من ألوان المحسنات المعقدة، ولزوم ما لا يلزم، مع حلاوة التصوير، وإبراز بعض الأوضاع الاجتماعية، وتدبير المآزق للبطل، ثم إخراجه منها بذكاء ولوذعية.
ثم تطور ذلك الفن، ودخله التحوير في الموضوعات والأهداف؛ فاتسع لكل شيء؛ حتى للوعظ الديني والتوجيهات الخلقية
…
إلى آخره.
وبلغ من اتساع انتشار المقامات، واهتمام الكتاب بها، أن أحصى بعض الدارسين عدد الذين مارسوا تأليفها؛ فوجدهم تجاوزوا الثمانين مؤلفًا بدءًا من بديع الزمان الهمذاني في القرن الرابع الهجري، وانتهاءً بنصيف اليازجي في القرن التاسع عشر الميلادي.
أما في الأدب الفارسي؛ فلم يمارسها إلا أديب واحد هو القاضي حميد الدين، من أهل القرن السادس الهجري، الذي أقر بأنه ليس إلا تلميذًا من تلامذة بديع الزمان؛ فكفى الباحثين مؤنة التدليل على أنه إنما استقاها من العربية وأدبها، وإن كان الدكتور جمعة قد استأنس رغم هذا بما قاله كل من براون المستشرق الإنجليزي، وكريم شاورذي الباحث الإيراني.
وإذا كان البطل في كل من المقامات الهمذانية، والمقامات الحريرية شخصًا واحدًا لا يتغير، هو أبو الفتح الإسكندري عند بديع الزمان، وأبو زيد السروجي عند الحريري، وكذلك راوية كل منهما شخصًا واحدًا أيضًا، هو عيسى بن هشام في الأولى، والحارث بن همام في الثانية؛ فإن البطل لدى القاضي حميد الدين يتغير في كل مقامة، أما الموضوع، فيبقى ثابتًا دون تغيير، كما هو الحال عند الهمذاني، والحريري حيث الكدية هي المحور في معظم مقامات الأول، وكل مقامات الثاني.
وكما قامت المقامات في الأدب العربي ضمن ما قامت على المحسنات البديعية، والإغراق فيها، والاستعانة بالألغاز، والحرص على إبراز سعة المعجم اللغوي، وبخاصة ما يكثر في لغة العرب من غريب الألفاظ؛ فكذلك حاول القاضي حميد
الدين أيضًا الجري في نفس المضمار، وإن لم يكن للفارسية ذات الثراء الذي تتمتع به لغة القرآن، حسبما ذكر المؤلف.
ومن مظاهر التأثر الحميدي بمقامات بديع الزمان كذلك كثرة استخدامه للألفاظ العربية؛ فضلًا عن الجمل، والعبارات الكامنة المنقولة من لغة الضاد، حتى في المواضع التي لا يكون ثمة داع لذلك من ضرب مثل، أو سوق شاهد في أصله العربي.
بل لقد قلد الحميدي تركيب الجملة العربية في كثير من الأحيان؛ فكان يأتي بالفعل في أول الكلام على عكس ما تقتضيه اللغة الفارسية، التي يقع فعلها في آخر الجملة لا في بدايتها، فضلًا عن إيراده كثير من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية والأشعار، والأمثال العربية كما هي، إضافة إلى بعض الأشعار التي نظمها هو بلغة القرآن، ليس ذلك فقط بل إنه قد اقتصر في عدد من الحالات على إيراد بعض المقامات الهمذانية كما هي، بعد ترجمتها إلى الفارسية مع زيادة بعض الإضافات بغية إظهار تفوقه وبراعته، مثلما هو الحال في المقامة السكباجية؛ التي تقوم على المقامة المضيرية لدى الحريري. كذلك تتشابه المقامات هنا وهناك في العدد إذ تبلغ كل منهما أربعًا وعشرين مقامة.
هذه نقاط الاتفاق، أما الاختلافات؛ فتَكْمُن في أن بطل مقامات الحريري يختلفُ من مقامة إلى مقامة، كما أنّ رَاويها هو نفسه كاتبها، على حين أن بطل المقامات لدى الهمذاني واحد دائمًا؛ عِلاوةً على أنّ راويها شخص غيره، كذلك ففي الوقت الذي نجد فيه البديعي يسمي معظم مقاماته بأسماء البلدان؛ فإن الحميدي لا يصنع شيئًا من هذا، بل يطلقها على كل مقامة اسمًا مشتقًّا من الفكرة التي تعالجها.
وإلى جانب ذلك؛ فإن في مقامات الأديب الفارسي كثيرًا من المناظرات كتلك التي قامت بين السني والملحد، والأخرى التي دارت بين الشيب والشباب؛ ثُمّ إنه بِسبب انتشار التصوف في إيران، في الفترة التي عاش فيها القاضي حميد الدين، وجدنا الكاتب الفارسي يخلع على كثير من مقاماته خلعة صوفية بتعبير المؤلف، كما في المقامة "السكباجية" التي تجري في إثر المقامة المضيرية للهمذاني، إذ يوجد فيها شيخ ومريدون.
وأخيرًا فقد أذكر أن الدكتور زكي مبارك كتب قائلًا: "إن فن المقامة قد انتقل أيضًا إلى الأدبين السرياني والعبري، وهو ما أشار إليه الدكتور شوقي ضيف كما رأينا منذ قليل، ولعل الله يقيض لمسألة انتقال هذا الفن من العربية إلى السريانية والعبرية من يدرسها هي كذلك.
وفي القرن السادس عشر والسابع عشر ظهر في أوربا -كما يقول الدكتور محمد غنيمي هلال- جنس جديد من القصص، خطا بالقصة خطوات نحو الواقع، وهو ما نطلق عليه قصص الشطار، ووجد أول ما وجد في أسبانيا، وهو قصص العادات والتقاليد للطبقات الدنيا في المجتمع، وتُسَمّى في الإسبانية "بكاريسكا" وتختص بأن المغامرات فيها يحكيها المؤلف على لسانه؛ كأنّها حدثت له.
وهي ذات صبغة هجائية للمجتمع ومن فيه، ويُسافر فيها البطل المؤلف على غير منهج في سفره، وحياته فقيرة بائسة يحياها على هامش المجتمع، ويظل يتنقل بين طبقاته ليكسب قوته، ويحكم على المجتمع من وجهة نظره هو حكم تظهر فيه الأثرة والانطواء على النفس، وقصر النظر في اعتبار الأشياء من الناحية الغريزية النفعية، فكل من يعارضه فهو خبيث؛ ومن يمنحه الإحسان خير.