الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما من ناحية الأجناس الأدبية، فلدينا الشعر والقصة والمقامة، والخطبة والرسالة والرحلة
…
إلخ، ولسوف نقصر الكلام على الشعر والقصص مجتزئين بهما عن سائر الفنون.
الشعر كجنس من أجناس الأدب العربي
ونبدأ بالكلام عن الشعر، الذي كان كله حتى العصر الحديث شعرًا غنائيًّا كما هو معروف، وكانت القصيدة في بداية أمرها ولعدة قرون تتكون من أبيات كل منها ينقسم إلى شطرين متساويين، ويختلف عدد أبيات كل قصيدة عن أخرى بدءً من سبعة أبيات إلى بضع عشرات منها غالبًا، وإن أطال بعض الشعراء كابن الرومي قصائدهم أحيانًا إلى بضع مئات من الأبيات.
كما كانت القصيدة تجري من أولها إلى آخرها على وزن واحد في شكل واحد من أشكاله وعلى قافية واحدة مهما طالت أو قصرت، ثم ظهرت الموشحات بعد بضعة قرون، وازدهرت في الأندلس ازدهارًا واسعًا، وظهرت كذلك الرُّباعيات والمزدوجات، والمخمسات وما إلى ذلك، ولكن الشعر العربي في كل ذلك كان يصب في البحور الخليلية أيًّا كان الشكل الفني الذي يصب فيه، سواء كان قصيدة أو موشحة أو رباعية.
ثم عرفنا في العصر الحديث ما يسمى بـ"الشعر الجديد أو شعر التفعيلة" الذي يقوم على نظام السطور لا الأبيات، حيث يتكون كل سطر من تكرار تفعيلة بعينها تكرارًا اعتباطيًّا، فمرة يكون السطر عبارة عن تفعيلة واحدة، ومرة يكون ستًّا أو سبعًا أو ثلاثًا أو اثنتين حسبما يعنُّ للنّاظم أن يقف ويستأنف نظمه في سطر جديد.
وأحيانًا ما يكون في القصيدة الواحدة أكثر من تفعيلة، وعلى ذات الشاكلة تفتقر القصيدة التفعيلية إلى نظام قفوي معروف، إذ الشاعر حر في أن يقفي متى شاء، وأن يترك التقفية متى يشاء، مثلما يمكنه التنويع في القافية على النحو الذي يشاء.
ومن هنا خفت نغم القصيدة، وظل يخفت رويدًا رويدًا حتى مات في كثير من القصائد، فانتفى عنها الشعر، وأضحينا أمام جثث يزعم أصحابها، ومن يوافقونهم من النقاد على هذا العبث والإفساد المزاعم الطويلة العريضة التي تصم الآذان، إلا أنها لا تجدي فتيلًا إيذاء تلك الجثث التي خلت من الحياة والحيوية، فإذا أضفنا إلى هذا ما أصبح ملمحًا بارزًا من ملامح كثير من نصوص هذا الشعر في الفترة الأخيرة، وهو الغموض الذي يبلغ حد الاستغلاق، تبين لنا حجم الكارثة التي نزلت بالشعر العربي على أيدي هؤلاء المغرمين بالتدمير والتجريف في الوقت الذي يملئون الدنيا صياحًا، بأنهم إنما يعملون على إنقاذ الشعر العربي من المأزق الذي وقع فيه، على حين أنهم هم أنفسهم مأزق هذا الشعر ومصيبته وبلواه.
إذ صار الشعر على أيديهم فاقد للمعنى واقترب في حالات كثيرة من الهلوسات والبهلوانيات، فإذا اعترضت بأنّ هذا ليس بشعر، أجابوك بأن الشعر لم يخلق ليقول شيئًا، بل يلعب الشعر بالكلمات وحسب، ومع هذا تراهم مغرمين غرام عجيبًا بإذاعة شعرهم، كما تراهم يتهافتون أشد التهافت على النقاد؛ ليكتبوا عنه وعنهم، وكثيرًا ما نرى أولئك النقاد الذين يزعمون أن لغة الشعر ليست للتوصيل ولا للتواصل، وهم يزحرون ويتصببون عرقًا في تفسير ما يقصده الشعر من معنى، وهذا أكبر دليل على عظم التدليس الذي ينتهجه الفريقان كلاهما في حديثهم عن فن الشعر.
أما في نُصوص هذا الصنف من الشعراء التي ما زالت تقول شيئًا مفهومًا، فقد انحدرت في كثير من الأحيان إلى العدوان على قيمنا الخلقية والدينية، التي نعتز بها كل الاعتزاز، نعم قد انتهى الشعر العربي -أو كاد أن ينتهي- في أيدي هؤلاء الشعراء إلى طريق مسدود، بعد أن قضوا على كل ما هو نضر فيه، فلم يعد له في معظم ما يكتبون معنى ولا نغم، ولا فيه شعور، وأضحى كنشارة الخشب على القارئ أن يمضغها ويتجرعها ويعمل المستحيل كي يسيغها، وهيهات ثم هيهات.
وبالنسبة لموضوعات القصيدة كان هناك المديح والهجاء والرثاء والخمر، والحماسة، والغزل والغلمان
…
إلخ. ولم تكن كل هذه الموضوعات موجودة منذ البداية، فالمديح مثلًا لم يظهر إلا في أواخر العصر الجاهلي، على حين أن شعر الغلمان لم يعرفه العرب إلا في العصر العباسي بتأثير فارسي حسبما لاحظ الدارسون، كذلك فقد جد في العصور العباسية المتأخرة شعر التصوف والمدائح النبوية، وهو ما لم يكن يعرفه الشعر العربي قبل ذلك تقريبًا.
ولم تعرف القصيدة العربية الاقتصار على الغزل أو وصف الخمر إلا في العصر الأموي، كما غَلب على القصيدة العربية في نصوصها المبكرة تعدد الموضوعات، أما بعد ذلك فما أكثر أن وجدنا القصيدة تنفرد بموضوعها لا يشرك فيها موضوع آخر، لكن ذلك لم يضح ملمحًا ثابتًا للقصيدة العربية إلا في العصر الحديث.
ومن ناحية تمييز القصائد بعضها عن بعض، لم يكن هناك عناوين للأشعار على خلاف النثر من كتب ورسائل وقصص، وكانوا إذا أرادوا أن يشيروا إلى قصيدة من القصائد المشهورة، قالوا: بائية أبي تمام، وسينية البحتري، ونونية ابن زيدون، وميمية المتنبي، على رغم أنه قد يكون للشاعر أكثر من قصيدة على هذا
الحرف، ذلك أن شهرتها تدفع الذهن إلى ناحيتها دفعًا، فيعرف السامع أو القارئ أن المقصود بها هو تلك القصيدة لا غيرها من القصائد التي على نفس رويها.
أما في القصائد الأخرى؛ فكان يقدم لها عادةً بعبارة: "وقال يمدح أو يهجو أو يرثي فلانًا" وهذا كل ما هنالك، ولكن الأمر اختلف في العصر الحديث بتأثير الشعر الغربي الذي كانت قصائده تعرف العناوين من قبل اتصالنا بهم، فعرفت قصائدنا عناوين هي أيضًا، وبخاصة أنها أمست لا تدور حول أكثر من موضوع واحد.
كذلك دخل شعرنا ما يُسَمّى بـ"القصائد والأناشيد الوطنية"، وهو موضوع لم يعرفه الشعر العربي إذ لم يكن المسلمون ينظرون لأنفسهم بوصفهم شعوبًا وأوطانًا متميزة، بل على أنهم جميعًا يمثلون أمة واحدة رغم اختلاف الديار والحكام أحيانًا.
وبالمثل استجد شعر التأملات الفكرية والاستبطانات النفسية، والتهاوين الذهنية، وكذلك الاستعانة بالأساطير الوثنية الشرقية والإغريقية، مما لم يكن الشعراء العرب يفكرون فيه.
وفي ميدان الغزل كان هناك الغزل العفيف، والغزل المفحش، والغزل المعتاد الذي يتغنى بالمرأة وبجمالها، وما يفعل هذا الجمال بالقلوب واصفًا كل شيء في جسدها دون إفحاش رغم ذلك، وكان هناك كذلك الغزل بالغلمان الذي قد يكتفي فيه الشاعر بالحديث عن هيامه بغلام من الغلمان، وتصوير صدود الحبيب عنه، والعذاب الذي يقاسيه جراء ذلك، غير متحرج في تلك الأثناء من وصف جماله، ووجه الفتنة فيه.
وقد يمضي أبعد من هذا كما فعل أبو نواس فيصل إلى حد التقزيز، ومثله الهجاء إذ كان من الهجاء بالأحساب وبالعيوب النفسية والخلقية كما كان الحال في الجاهلية، ومنه الهجاء بالعيوب الجسدية، ومنه الهجاء السياسي، وقد بدأ في العصر الأموي، ومنه الهجاء بالكلام البذيء وهو ما عرفه الشعر العربي في العصر العباسي.
وفي ميدان الخمر كان هناك من يجاهر بشربها، وبأنه يجد لذة في ارتكاب معصيتها غير مبال بشيء، ومن كان يلم بالإشارة إليها مكتفيًا بذلك مما يمكن أن يكون معناه أنه لم يكن من شاربيها، بل يجري على تقليد فني لا أكثر ولا أقل، ومن لا يأتي على ذكرها من قريب أو بعيد، وفي ميدان المديح كان هناك الشعراء المعتدلون كما كان هناك المغالون الذين قد يخرجون بممدوحهم من نطاق البشرية؛ فيخلعون عليهم بعض الصفات الإلهية كما هو الحال في "مدائح بن هانئ الأندلسي للمعز لدين الله الفاطمي" بتأثير العقيدة الإسماعيلية التي كان الشاعر وممدوحه يعتنقانها، وإن لم ينتشر هذا اللون الجامح السخيف من المدائح.
لكن الغالب في كل ذلك هو التمسك حقيقة أو إدعاء، صراحة أو ضمنًا بقيم الإسلام ومبادئه، حتى إننا لا نجد شيئًا من الشعر يعلن فيه الشاعر كفره أو ينال من الإسلام وتاريخه، فضلًا عن أن يصدر منه في حق النبي والصحابة أية إساءة.
أما من كان يصر على معرفة الناس عنه أنه يشرب الخمر، ويتفانى في شربها، فإنه كان يريد استفزاز الناس من حوله لوجدانه لذة في ذلك، لا إعلان تمرده على أحكام الدين، ورغبته في التفلت من شرائعه.
وهذا في الإسلام، أما في الجاهلية فقد كانت القيم عربية جاهلية بما فيها من خير وشر، وعقل وحمق، كان الناس يتفاخرون مثلًا بالكرم والمنعة، وحماية الجار
والقدرة على ظلم الآخرين دون أن يستطيع أولئك الآخرون ردًّا على هذا الظلم بظلم مثله، وكانوا يرون شرب الخمر ولعب الميسر مكرمة يتغنون بها، لما يرتبط به من نشوة تبعث الأريحية والسخاء.
كما كانت العصبية القبلية على أشدها حتى لتجر وراءها من الكوارث ما لا يخطر على بالنا الآن، كاشتعال حرب طحون بسبب تافه تستمر سنوات وسنوات دون أن يهدأ لها أوار، ولكن بالنسبة إلى الدين لم يظهر الاعتقاد في الأوثان، والتعبد لها والقيام بشعائرها في شعر تلك الفترة مثلما لم يتحدث الشعراء عن النصرانية إلا في أضيق نطاق ممكن، اللهم إلا إذا قيل إن هذا وذاك كان موجودًا على نحو كاف، لكن المسلمين حذفوه وهو ما لا أظنه صحيحًا رغم ما يردد في هذا الصدد فريق من الباحثين.
على أن الشاعر في هذا كله كان حريصًا على أن يكون واضحًا مفهومًا، فلا استغلاق في شعره ولا إلغاز، اللهم إلا في العصور المتأخرة حين يتعمد بعضهم النظم في لغز تعمدًا، أما في العصر الحديث، فكما سبق القول أصبح الغموض عند فريق من الأدباء غرضًا يقصد قصدًا كأنه قيمة في ذاته، وذلك بتأثير بعض المذاهب الأدبية التي أفرزها تاريخ الآداب الغربية وتأثرنا نحن بها، تلك المذاهب التي يرجعها المرحوم "أنور الجندي" إلى طبيعة البلاد الغربية ذات الجبال والغيوم والعواصف، والليل البهيم المرتبط بالأساطير الرمزية، على عكس طبيعة بلاد العرب التي ينتشر فيها النور، والشمس، والضوء وينكشف فيها الأفق تمامًا. ومن ثم عجزت الأساطير، والرمزيات، وأدب الظلال أن تجد لها مكان عندها.
ومن المضحك أن بعض الشعراء والأدباء العرب يزعمون تقليدًا منهم لما يقرءونه في النقد الغربي، أن الشعر الواضح لا يمكن أن يكون شعرًا حقيقيًّا، إذ لا بد من