الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثامن
(قصة حي بن يقظان وأثرها في قصة "روبنسون كروزو" وغيرها)
تطور قصة حي بن يقظان في الأدب العربي
قصة حي بن يقظان، وأثرها في قصة "روبنسون كروزو" وغيرها:
في التراث العربي يوجد أكثر من قصة بعنوان "حي بن يقظان"، وهي قصة رمزية تدور حوادثها حول شخصٍ نشأ في جزيرة وحده، وتصور علاقته بالكون والدين.
أول منشئ لقصة "حي بن يقظان" هو الفيلسوف ابن سينا، ثم أعاد كتابتها شهاب الدين السهروردي، وبعدها صاغها من جديد الفيلسوف الأندلسي ابن طفيل، ثم كانت آخر رواية القصة بقلم ابن النفيس. على أن أشهر مؤلفٍ من بين هؤلاء الأربعة هو ابن طفيل، وبسبب من شهرة هذه الرواية قيل إن قصصًا غربيةً مثل قصة "روبنسون كروزو" و"طرزان" قد نسجت على منوالها.
وتُعَرِّف مادة "حي بن يقظان" في الموسوعة العربية العالمية برواية ابن طفيل فتقول: "حي بن يقظان اسم قصة عربية أصيلة، تمثل شكلًا باكرًا من أشكال الفن القصصي عند العرب، وتبرز أنماط فهم الناس للدين؛ كما تظهر آراء صاحبها ومفهومه في قضايا العقل والشريعة، كتبها فيلسوف غرناطة في القرن السادس الهجري، أبو بكر محمد بن عبد الملك بن الطفيل القيسي، توفي سنة خمسمائة وإحدى وثمانين للهجرة، ولم ينقل لنا من أعماله -وهو مقل- غير هذه القصة".
وقد صب ابن طفيل في هذه القصة آراءه القائلة بعدم التعارض بين العقل والشريعة، أو بين الفلسفة والدين في قالب روائي قصصي.
نشأ بطل القصة حي بن يقظان في جزيرة معزولة، وكان قد ألقي فيها طفلًا أو نشأ بشكل طبيعي من مادتها وترابها، وبعد أن نمى وترعرع تأمل الكون الذي حوله،
فوصل إلى حقيقة التوحيد بالفطرة؛ وينتقل إلى جزيرة أخرى فيلتقي بشخصين وهما سلامان وأبسال؛ يعلم الأول منهما أهل الجزيرة الذين يتدينون تدينًا سطحيًّا الحقائق الإلهية، والوجودية عن طريق ضرب الأمثال. بينما يميل الثاني إلى التأمل والنظر العقلي، وفيه نزعة صوفية.
ويدرك حي بعد أن يتفاهم مع أبسال أن ما توصل إليه من إدراك لحقائق الوجود والكون بالفطرة، وما ورثه أبسال عن طريق النبوة، إنْ هُو إلا وجهان لحقيقة واحدة؛ فالكونُ واحد، والخالق واحد، وهو رَبُّ السّماوات والأرض، وصانع الموجودات، قد نصل إليه عن طريق التأمل الذاتي كأفراد، لكن الجماعات بحاجة إلى طريقة أبسال في ضرب الأمثال الحسية لمعرفة ذلك؛ لأنه لا قدرة للعامة على إدراك الحقيقة المجردة، التي قد يصل إليها أصحاب التأمل الذاتي والنظر العقلي.
والنبوة حق ولا بد منها، والخليقة بحاجة إليها للوصول إلى معرفة الخالق، إلا أن حيًّا لا يُكاشف أهل الجزيرة بالحقيقة كلها، ويعود مع أبسال إلى الجزيرة الأخرى؛ ليعبدا الله عبادة روحية خالصة، حتى يأتيهما اليقين.
وتمثل القصة العقل الإنساني الذي يغمره نور العالم العلوي، فيصل إلى حقائق الكون والوجود بالفطرة والتأمل، بعد أن تلقاها الإنسان عن طريق النبوة، وتؤكد قصة (حي بن يقظان) على أهمية التجربة الذاتية في الخبرة الفكرية والدينية، وقد تركت آثارها على كثير من الجامعات والمفكرين، وترجمة إلى اللاتينية واللغات الأوربية الحديثة، وكان ابن طفيل أستاذًا لابن رشد الذي سماه "دانتي" الشارح الأكبر، والذي عن طريقه عرفت أوربا في عصر النهضة أرسطو وفلسفته.
وقد حدد ابن رشد ثلاثة مستويات لفهم الشريعة والدين، وهي ليست بعيدة عن جوهر ما ذهب إليه ابن طفيل في (حي بن يقظان) فهناك فهم العامة للدين، وفهم الخاصة، وفهم خاصة الخاصة وإن كان للدين جوهر واحد لا يتغير.
وقصة "حي بن يقظان" وضعت أيدينا على تباين المستويات لهذا الفهم، بشكل روائي قصصي يطرح قضية فلسفية، وتتجلى براعة ابن طفيل في مزجه الأفكار الفلسفية الدقيقة بالقصص الشعبي، وفي جهده؛ لتسويغ هذه الأفكار منطقيًّا وفنيًّا، وقد ذكر ابن طفيل تأثره في قصته بفلسفة ابن سينا.
وفي قصة "حي بن يقظان" جوانب من النضج القصصي، وإن كان قالب القصة ليس سوى إطار لصب الآراء الفلسفية والصوفية في النص، وقد قدر كثير من النقاد هذا الجهد القصصي لابن طفيل، فعدوا "حي بن يقظان" أفضل قصة عرفتها العصور الوسطى جميعًا. وهناك روايتان تفسران لنا ولادة حي بن يقظان:
الأولى: تقول إنه تولد من الطين في جزيرة جنوب خط الاستواء تسمى الوقواق، وهي جزيرة خيالية كما هو واضح.
على حين تخبر الأخرى بأنه قد ولد لأميرة تزوجت على غير إرادة أخيها الملك من قريب لها اسمه يقظان، ثم أنجبت منه طفلًا، فخافت أن يفتضح أمرها، فيعاقبها أخوها عقابًا رهيبًا هي وزوجها؛ لأنه لم يكن لها أن تتزوج، فألقت ابنها في تابوت وأسلمته لليم الذي حمله إلى جزيرة مهجورة، وتصادف أن مرت في هذا المكان الذي استقر فيه التابوت غزالة كانت تبحث عن ابنها الذي فقدته؛ فسمعت صوت بكاء فاتجهت نحوه فعثرت على الطفل الرضيع؛ فأخذته وأرضعته وحضنته وربته، وكانت تحمله هنا وهناك أينما اتجهت.
ويكبر حي بن يقظان، وتمر حياته بسبع مراحل -كما يقول كاتب مادته في النسخة العربية من موسوعة "الويكيبيديا":
أما الأولى: فهي إرضاع الغزالة لحي وحضانتها له، ورعايتها إياه حتى بلغ سبع سنوات.
ثم بعد ذلك وفاة الغزالة وتشريحها من قبل حي لمعرفة سبب الوفاة، حيث بدأت تتكون عنده المعرفة عن طريق الحواس والتجربة.
وهنا تأتي المرحلة الثالثة، وكانت في اكتشافه للنار.
أما المرحلة الرابعة: فكانت في تصفحه لجميع الأجسام، التي كانت موجودة حوله، إذ جعل يكتشف الوحدة والكثرة في الجسم والروح، وتشابه الكائنات في المادة واختلافها في الصور.
وتلا ذلك المرحلة الخامسة: وكان في اكتشاف الفناء، وهذا شجعه إلى الخروج من رصده إلى معارف في العالم بقدمه وحدوثه.
وعند بلوغه الخامسة والثلاثين من عمره، بدأ حي مرحلته السادسة: وهي مرحلة الاستنتاج بعد التفكير؛ فتوصل إلى أن النفس منفصلة عن الجسد كما شعر داخله بالشوق إلى واجب الوجود.
وأخيرًا يدرك حي بن يقظان في المرحلة السابعة أن سعادته لا تتحقق إلا في ديمومة المشاهدة، لهذا الموجود الواجب الوجود، والبقاء داخل حياةٍ رسمها هو نفسه.
وتمثل هذه القصة العقل الإنساني الذي يستطيع بجهده الذاتي، أن يصل إلى حقائق الكون والوجود بالفطرة والتأمل، كما تؤكد أهمية التجربة الذاتية في الخبرة الفكرية والدينية؛ وقد تركت آثارها على كثير من الجامعات والمفكرين، وتُرجمت إلى اللاتينية واللغات الأوربية الحديثة.
ومن الواضح أن ابن طفيل في إيراده الروايتين اللتين تفسران مولد حي بن يقظان، إنّما يجري على ما جاء في القرآن من أن الإنسان كجنس من أجناس الكائنات، قد جبل من الطين إلا أنه كأفراد لا يتولد من التقاء رجل بامرأة؛ ذلك أن هذه القصة إنما تعكس تطور الجنس البشري على الأرض، منذ خلق الله الإنسان إلى العصر الذي كان يعيش فيه ابن الطفيل، إذ من المستحيل أن يتطور الفرد الإنساني بهذه الطريقة، وبتلك السرعة، وعلى هذا النحو السلس الذي تطورت به حياة ابن يقظان في القصة، فيكتشف النار مثلًا، ويَعرفُ التّشريح والتفكير العلمي المنهجي، والتأمل في الكون، والإيمان بالله وبالآخرة، وبضرورة الأخلاق الفاضلة، وما إلى هذا بتلك البساطة وفي ذلك الزمن القصير.
فهي بهذا قصة رمزية؛ ولولا رَمزيتها لما قبلنا أن تقوم غزالة بإرضاع طفل بشري، أو تنظفه من وساخاته وفضلاته، أو تحميه من الآفات الطبيعية، والهوام والحشرات والزواحف التي تعج بها الغابات، أو تحمله على ظهرها من مكانٍ إلى مكان، ببساطة لأن هذا أمر مستحيل، وقد صب ابن طفيل في هذه القصة آراءه القائلة بعدم التعارض بين العقل والشرعية، أو بين الفلسفة والدين -كما سبق أن أومأنا- وهي فكرة كان يتبناها بعض الفلاسفة والمتكلمين المسلمين، إذ كانوا يقولون إن العقل الإنسان كافٍ وحده لوصول الإنسان إلى الحقيقة، بشأن وجود الله ومعرفة صفاته والإيمان بالآخرة. ومن ثم وجوب تحمل المسؤولية، واستحقاقه للحساب الإلهي، وما يترتب عليه من الثواب والعقاب.
وكانوا يفسرون الرسول في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (الإسراء: 15) بأنه هو العقل، وهذا التفسير يعكس شططًا في التفكير، إذ لا تساعد عليه اللغة العربية، ولا النصوص القرآنية والحديثية، ولا ريب أن نصوصًا قرآنية
أو قوله في سورة "طه": {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى * وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} (طه: 133، 134) هذه النصوص تدل دلالة قاطعة على أنه لا حساب، ولا ثواب، ولا عقاب، دون رسل من البشر لا من العقل؛ حسبما يقول بعض الفلاسفة والمتكلمين المسلمين.
ثم لو كان العقلُ وحده كافيًا في مثل تلك الأمور؛ فلماذا لم يكل الله عباده إليه؟ كذلك فمعروف لنا جميعًا من تجارب التاريخ الواقع الأليمة، أنه رغم إرسال الأنبياء والرسل، فما زال وسيظلُّ هُناك كفارٌ، ومنافقون، ومتمردون، ومتشككون، ومؤمنون، وعصاة، وظلمة ومستبدون وطغاة، ولصوص وقتلة، وزناة وكسالى، وسبابون، ومغتابون؛ فما بالنا لو ترك الله البشر لعقولهم المجردة دون أن يبعث إليهم برسلٍٍ تأخذ بيد تلك العقول، وتشير لها إلى الطريق، وتعينها على التفكير السليم.