الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السابع
(تأثير المقامات في الأدب الأوربي)
تعريف المقامة وتاريخ نشأتها وآراء نقاد الأدب فيها
تأثير المقامات في الأدب الأوربي:
ينفي الدكتور شوقي ضيف عن المقامة أن تكون قصة قائلًا: "إنها -وإن اشتملت على بعض العناصر القصصية كالحوار والمضمون، وتصوير عناصر الشر والفساد للمجتمع- تفتقر عادة إلى الحبكة، إذ إن بديع الزمان لم يضع في اعتباره أنه يؤلف قصة، بل قصد أن يضع تحت أعين تلاميذه مجاميع من أساليب اللغة العربية المنمقة، كي يقتدر على صناعتها، ويتفوق في كتابتهم الأدبية، ووضع ذلك في صورة قصصية تنحو نحو بلاغة اللفظ، وحب اللغة لذاتها؛ فالقصص فيها ليس أساسًا، وإنما الأساس العرض الخارجي والحلية اللفظية".
وهذا كلام غريب مجاف للحقيقة، ذلك أن المقامة يتحقق فيها الجانبان معًا، وعلى أحسن وضع في معظم الحالات، الجانب القصصي، وجانب الزخرف الأسلوبي، ونحن حين نقرأ المقامات الهمذانية مثلًا، نشعر بروعة الأمرين جميعًا، ونقرأ ما كتب الهمذاني في شغف وترقب ونشوة؛ نشوة فنية، ونشوة لغوية في ذات الوقت، وإن كانت النشوة الفنية أقوى وأبرز بما يدل على أن المقامة هي عمل قصصي بالدرجة الأولى، وأن الزخرف البديعي الذي يوشيها، ويغشيها قد زادها فرادة وروعة، إذ كان من شأنه لو لم يكن صاحبها أديبا قصاصا متمكنًا في فن القصص على أرسخ ما يمكن تصوره أن يبوخ الأمر في يده، فتأتي المقامات فاترة متكلفة تكاد تختنق تحت أثقال البديع كما هو الحال في بعض الكتابات البديعية في عصور الأدب العربي المتأخرة.
ويؤكد الباحث الإسباني "إيكناثيو فيراندو" عن حق أن المقامات ليست قالب جميل بدون أي مضمون، كما أدعى بعض الباحثين في الماضي، وما يزالون في الوقت الحاضر، ولدينا قبل هذا بزمن طويل صلاح الدين الصفدي، وله شهادة مهمة في كتابه (نصرة الثائر على المثل السائر) يحسن إيرادها هنا، إذ تدل على أن النقاد القدماء أنفسهم كانوا ملتفتين بكل قوة إلى الجانب القصصي في المقامات، وما فيه من تشويق الحبكة، ومتعة الفكاهة؛ حتى ليقبل الفرنج بكل شوق على قراءتها، وهو ما يدل على أن الأمر فيها أمر إنما هو أمر فن قصصي لا أمر لغة وبديع وبلاغة؛ لأن مثل تلك الأشياء لا تظهر في الترجمة كما هو معروف.
قال الصفدي في (تقويم مقامات الحريري): "ويُحكى أنّ الفِرنج يقرءونها على ملوكهم بلسانهم، ويُصَوّرونها، ويتنادمون بحكايتها، وما ذاك إلا لأن هذا الكتاب أحد مظاهره تلك الحكايات المضحكة، والوقائع التي إذا شرع الإنسان في الوقوف عليها تطلعت نفسه إلى ما تنتهي إليه، وتشوقت نفسه إلى الوقوف على آخر تلك القصة، هذا إلى ما فيها من الحكم والأمثال التي تشاكل كتاب (كليلة ودمنة)، وإلى ما فيها من أنواع الأدب، وفنونه المختلفة وأساليبه المتنوعة.
وإننا لنتساءل: كيف عرف الدكتور شوقي ضيف رحمه الله أن الهمذاني أو الحريري إنما ألفا مقامته لتعليم الناشئة أساليب البلاغة اللغوية لا ليبدعا فنًّا قصصيًّا يشوق، ويمتع بما فيه من سرد وحوار، ووصف، وحبكة، هل قال أي منهما ذلك، ونفى عن نفسه أن يكون هدفه كتابة شيء قصصي؟ وحتى لو كتب هذا هل يمنع ما كتبه ما نراه أمامنا بأم أعيننا، من واقع لا يمكن أن تخطئه العين،
يقول بأبلغ لسان وأقوى بيان: "إن كثيرًا من المقامات هي أعمال قصصية بالدرجة الأولى.
ثم يأتي البديعُ فيزيدُها جمالًا فوق جمال، فليقل الأديب ما يشاء حول ما يكتب ويؤلف، فالعبرة بالمكتوب لا بالمزعوم، ومع ذلك فالهمذاني والحريري لم يقل أيهما بشأن مقامته شيئًا ينفي عنها أن تكون من الفن القصصي في صميم الصميم؛ فأنا لنا إذًا أن نتبرع دون أي سبب بنفي الهوية القصصية عنها.
والواقِعُ أنّ جَميعَ العَناصر القصصية؛ من سرد، ووصف، وحوار، وحبكة، متوفرة تمامًا في كثير من مقاماتهما بالإضافة للأسلوب البديعي الذي يدل على أن كل منهما أديب من طراز سامق.
إذ لم تشغله البديعيات هنيهة عن إتقان فنه القصصي، ولا جارت عليه، بل زادته رونقًا على رونق، وأضافت إلى روعة إبداعه روعات، وأين هذا من بعض كُتاب القصة الحاليين عندنا، مِمّن يُعَانون من فقر المعجم، وركاكة الأسلوب، والجهل بقواعد النحو والصرف.
صحيح أن الذوق الأدبي قد تغير الآن بين جماهير القراء، بيد أن هذا لا ينبغي أن يدفعنا إلى الافتئات على ذلك الفن، وأصحابه الذين كانوا في إبداعهم أبناء عصرهم الأوفياء، وقد بهر عدد من مشاهير النقاد العربي في العصر الحديث بكثير من نماذج هذا الفن عند الهمذاني، وما فيه من عناصر قصصية جعلته يصمد للمقارنة مع أية قصة قصيرة حديثة؛ فكتبوا عنها في إعجاب ووله وعلى رأسهم: الدكتور شكري عياد، والدكتور علي الراعي.