المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(علاقة الأدب المقارن بالعولمة والعالمية - الأدب المقارن - جامعة المدينة (بكالوريوس)

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 الأدب المقارن نشأته وتطوره

- ‌تعريف الأدب المقارن ونشأته

- ‌ميادين الأدب المقارن ومدارسه

- ‌الصلة التي تربط بين الأدب والفنون الجميلة

- ‌الدرس: 2 التأثر والتأثير في الأدب المقارن

- ‌التأثير والتأثر في الأدب المقارن عند المدرسة السلافية

- ‌التأثير والتأثر في الأدب المقارن عند المدرسة الفرنسية

- ‌بعض الشواهد على عملية التأثير والتأثر في بعض مجالات الأدب المقارن

- ‌الدرس: 3 الأجناس الأدبية القديمة والحديثة والتفاعل فيما بينها

- ‌تعريف الملحمة، وأهم أنواعها، وسماتها

- ‌المسرحية، ودورها كجنس أدبي

- ‌الدرس: 4 الرواية والقصة القصيرة، ودلالات التأثر والتأثير فيها

- ‌الرواية والقصة القصيرة؛ جذورها التاريخية وسماتها الأدبية

- ‌الموضوعات التي تناولتها القصة العربية القديمة

- ‌شبه ما يعترضون على وجود القصص العربي القديم

- ‌الدرس: 5 الشعر الغنائي ودلالات التأثر والتأثير فيه

- ‌معنى الشعر الغنائي وماهيته

- ‌أي الفنين أسبق من الآخر؛ الشعر أم النثر

- ‌عمر الشعر العربي

- ‌الدرس: 6 خصوصية الأدب العربي وميزاته الحضارية

- ‌نشأة الأدب العربي وسماته الخاصة

- ‌الشعر كجنس من أجناس الأدب العربي

- ‌القصص كجنس أدبي

- ‌خصائص الأدب العربي

- ‌الدرس: 7 تأثير المقامات في الأدب الأوربي

- ‌تعريف المقامة وتاريخ نشأتها وآراء نقاد الأدب فيها

- ‌المقامة المضيرية، كمثال من المقامات

- ‌تأثر الفن القصصي الجديد في أوربا بفن المقامة

- ‌الدرس: 8 قصة حي بن يقظان وأثرها في قصة "روبنسون كروزو" وغيرها

- ‌تطور قصة حي بن يقظان في الأدب العربي

- ‌ حي ابن يقظان" وتأثيرها في الفكر والأدب العالمي

- ‌الصلة بين "حي ابن يقظان" و"روبنسون كروزو

- ‌الدرس: 9 ألف ليلة وليلة والموشحات وتأثيرهما على الأدب الغربي الحديث

- ‌أثر "ألف ليله وليله" في الأدب الغربي

- ‌أثر الموشحات في الأدب الغربي

- ‌الدرس: 10 تأثير الأدب العربي في الشاعر الألماني جوت

- ‌نشأة جوته وثقافته

- ‌ما تركه القرآن في الأثر فيما خططته براعة جوته

- ‌الدرس: 11 أثر الأدب العربي في الآداب الإسلامية (1)

- ‌أثر الأدب العربي في الأدبين الإفريقيين: الأدب السواحلي، والأدب الهوسوي

- ‌تأثير الأدب العربي في لغة الهوسا وآدابها

- ‌الدرس: 12 أثر الأدب العربي في الآداب الإسلامية (2)

- ‌أثر الأدب العربي في الأدبي الفارسي

- ‌أثر الأدب العربي في الأدب الملاوي

- ‌الدرس: 13 تأثر الأدب العربي بالآداب الغربية (1)

- ‌تأثر الأدب العربي في ميدان التأليف المسرحي بالأدب الغربي

- ‌نماذج من المسرحيات العربية التي تأثرت بالمسرح الغربي

- ‌الدرس: 14 تأثر الأدب العربي بالآداب الغربية (2)

- ‌تعريف القصة، والفرق بينها وبين الملحمة والمسرحية

- ‌بعض المقارنات بين الأعمال القصصية العربية الحديثة، ونظيرتها في الآداب الغربية

- ‌الدرس: 15 نشأة قصيدة الشعر الحر وتطورها

- ‌نبذة عن مراحل تطور الشعر العربي

- ‌دعوى أصحاب شعر التفعيلة أن الشعر العربي شعر إنشادي

- ‌بناء القصيدة في الشعر العربي

- ‌المناداة بما يسمى بالوحدة العضوية داخل القصيدة

- ‌ظهور ما يُسمى بالشعر الحر

- ‌الدرس: 16 تأثر الشعر العربي بالشعر الإنجليزي

- ‌عوامل الاتصال بين الشرق والغرب وأثرها في إحياء الشعر العربي في العصر الحديث

- ‌مدرسة الديوان وأثرها في حركة الشعر في العصر الحديث

- ‌تأثر شعراء المهجر بالشعر بالأدب الغربي

- ‌الدرس: 17 المذهب الرومانسي والمذهب الواقعي في ميدان الأدب

- ‌المذهب الرومانسي في الأدب؛ نشأته وتطوره

- ‌مذهب الواقعية في الأدب؛ نشأته وتطوره

- ‌الدرس: 18 الرمزية والسريالية

- ‌الرمزية وأثرها في الأدب العربي

- ‌السريالية وأثرها في الأدب العربي

- ‌الدرس: 19 تقويم علاقة التأثر بين الأدب العربي وغيره من الآداب

- ‌طرق الاستفادة من الأدب المقارن في الأدب القومي

- ‌العوامل التي ساعدت على نشأة الأدب المقارن

- ‌الدرس: 20 بعض الدراسات التطبيقية الخاصة بالتأثير والتأثر بين الأدب العربي والآداب العالمية

- ‌بداية معرفة العرب بالشعر الإنجليزي بتأثر السياب بـ"شِلي

- ‌حكايات الحيوان عند كل من إيسوب الحكيم وإخوان الصفا

- ‌الدرس: 21 علاقة الأدب المقارن بالعولمة والعالمية، والمثاقفة بين الشعوب، وتحديد خصوصية الأدب العربي وبيان ملامحه

- ‌(علاقة الأدب المقارن بالعولمة والعالمية

- ‌المثاقفه بين الآداب وبعضها

- ‌خصوصية الأدب العربي وسماته، وعَلاقة ذلك بالأدب المقارن

الفصل: ‌(علاقة الأدب المقارن بالعولمة والعالمية

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الحادي والعشرون

‌(علاقة الأدب المقارن بالعولمة والعالمية

، والمثاقفة بين الشعوب، وتحديد خصوصية الأدب العربي وبيان ملامحه)

علاقة الأدب المقارن بالعولمة والعالمية

علاقة الأدب المقارن بالعولمة والعالمية والمثاقفة بين الشعوب، وبتحديد خصوصية الأدب العربي وبيان ملامحه.

العولمة: هي المصدر من عولم، وهو فعل مستحدث في اللغة العربية، شقاقًا من لفظ عالم، والمعنى اللغوي للعولمة: إكساب الشيء أو الأمر أو الشخص صفة العالمية.

وهذه العولمة هي ترجمة لكل مة "قلوبلايزيشن" المستحدثة بدورها في اللغات الأوربية، والمأخوذة من "قلوب" أي: الكرة الأرضية وإن كان العالَم في أصل استعماله أوسع كثير من الأرض، إذ هو الكون كله لا الأرض وحدها، لكن المجاز قام بدوره هنا، فاستخدم الكل وأريد به الجزء، وهذا أمر معروف في الاستعمالات اللغوية، وليس في الفعل عولم أية مشكلة من الناحية الاشتقاقية، فهذه الصيغة الفعلية إحدى ثماني صيغ أصلها من الثلاثي، زِيد فيها حرف بغرض الإلحاق، ومنها: فعلل، وفوعل، وفعول، وفعيل، وفيعل، وفنعل، وفعنل، وفعلى.

وجاء على هذا البناء الأفعال حوقل أي: قال: لا حول لا قوة إلا بالله، وخوزق أي: وضع على الخازوق، وهوجل أي: نام أو سار في الهجر، وهو الطريق غير الواضح، وبوتق أي: وضع في البوتقة، وجورب أي: ألبسه جوربًا، ونورج أي: درس بالنورج

إلى آخره.

فالفعل -كما ترى- ذو أصل عربي، ويجري على قواعد اشتقاق العربي، فهو عربي مائة في المائة.

ص: 595

أقول هذا تعليقًا على تشكك الدكتور حسام الدين الخطيب في أن يوافق النحويين على استعمال هذا الفعل ومشتقاته، وتأكيده أنه لا يوجد أساس لغوي لكلمة عولمة، وقوله: إنه إلى حد علمنا تأخرت الجهات المختصة في معالجة هذا الأمر. ولعله يقصد المجامع اللغوية، فها نحن أولاء قد وضحنا الأساس المعجمي والصرفي لتلك الكلمة، فلا خوف إذًا من استعمالها فهي عربية تمامًا كما قلنا منذ قليل.

وليس من المعقول أن نقف حيارَى في كل مرة تقابلنا مثل تلك المسألة، بل علينا أن نعمل حسنا اللغوي ومعارفنا النحوية والصرفية والمعجمية، مستلهمين ذوقنا الذي اكتسبناه بممارسة لغتنا العبقرية التي لا يعجزها شيء، اللهم إلا خوف بعضنا أو تردده أحيانًا دون مسوغ.

هذا من جهة التأصيل اللغوي.

أما من الناحية الاصطلاحية لكلمة العولمة، فتقول المادة المخصصة له في "الموسوعة العربية العالمية": يطلق هذا المصطلح الذي انتشر في التسعينيات من القرن العشرين على عملية التداخل الثقافي بين أنحاء العالم المختلفة، وما ينتج عن ذلك من تأثير ثقافي وسياسي واقتصادي. والعولمة ترجمة لمصطلح إنجليزي، وقد اشتقت بالعربية من توحد العالم بتوحد المؤثرات الثقافية أو الحضارية، تحدث في العولمة نتيجة التطور الهائل في وسائل الاتصال بين المجتمعات والدول، وانتقال المؤثرات من بلد إلى آخر بسرعة لم يسبق لها مثيل.

فالاتصالات الهاتفية عبر الأقمار الصناعية، والمحطات الفضائية التلفازية، وانتقال الناس عبر المواصلات السريعة من طائرات وغيرها، كل هذه عوامل تزيد من تداخل الشعوب والثقافات ببعضها البعض. ونموذج الأخبار التي تنقلها

ص: 596

شبكات التلفازية المنتشرة عالميًّا مثال على توحد العالم في معلومات إخبارية واحدة تقريبًا. ومن الأمثلة الواضحة أيضًا ما يحدث على مستوى الحاسبات الآلية ودخولها في شبكة من الاتصالات التي تربط مستعملي الحاسب الشخصي والحاسبات المركزية الضخمة في نظام واحد يُطلق عليه "الإنترنت".

لكن العولمة مثل التعددية الثقافية لم تؤد -كما يرى- الكثيرون إلى تعددية متساوية أو متوازية في المؤثرات الثقافية، وإنما تعكس الوضع الحضاري العالمي الذي يهيمن فيه النموذج الحضاري الغربي على غيره من النماذج، وإذا كانت تلك الهيمنة لا تتخذ شكل المواجهة المباشرة كما كان يحدث في الاستعمار الأوربي القديم للشعوب الأخرى، فإنها تتمثل في نوع من الزحف الحضاري السلمي وغير المباشر، كانتشار مطاعم الهمبورجر الأميركية، أو ملابس الجينز، أو أغاني الروك، أو من خلال سلاسل الفناقد الأميركية أو الأوربية أو شبكات التلفزيون الغربية، فعلى الرغم من أن هذه لم تنتج عن محو غيرها من المؤكلات أو الملابس أو أشكال الثقافة والاستثمار الاقتصادي الأخرى، فإنها زاحمتها إما إلى درجة الحد من الانتشار أو إلى ما يشبه الإلغاء التام، وذلك نتيجةً لأسباب كثيرة من أبرزها: عدم التكافؤ في المنافسة الاقتصادية.

ومن هنا فإن هناك من يرى أن العولمة أدت وتؤدي في كثير من الأحيان إلى هيمنة نموذج حضاري واحد هو النموذج الغربي الأميركي في المقام الأول.

ويحاول بعض المتحمسين للعولمة الثقافية أن يقنعوا الناس بأنها سوف تؤدي إلى إلغاء مختلف الحواجز التي ظلت قائمة تاريخية، ومن ثَم إلى زيادة التفاهم بين البشر والقضاء على التعصب والتنميطات؛ قفزًا فوق الحواجز الجغرافية والتاريخية والعرفية والدينية، وما إلى ذلك، ولا شك أن المشباك -أي:

ص: 597

الإنترنت- قد قرَّبَ المسافات بين الناس، وجعل الاتصال بين أي فرد وآخر في العالم في منتهى السهولة، دون أن يكون بالضرورة من وطن واحد أو دين واحد أو أصحاب لغة واحدة.

ولكن هل يعني هذا أنه سوف تكون هناك مساواة بين الثقافات والجنسيات واللغات المختلفة؟ لا نظن ذلك، إذ لا شك أن أية علاقة بين طرفين إنما تعكس قوة كل طرف بالنسبة إلى الآخر، وليس من المعقول أن يتنازل الطرف القوي أو الأقوى عن ميزته ويسوي نفسه بالطرف الآخر، لا لشيء إلا لكي يكون مخلصًا لمفهوم العولمة، ذلك أننا لا نحيا في عالم من الملائكة، بل في عالم من البشر، فيه من النزوع إلى السيطرة والتعصب لما يخصهم، والرغبة في استدامة ما يميزهم عن غيرهم. فتلك طبيعة البشر:{وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (فاطر: 43).

وكما أن الدول الكبرى -وبخاصة الولايات المتحدة الأميركية- تعمل على السيادة على الدول الأخرى في مَيْدان الاقتصاد والسياسة، فما الذي سوف يجبرها على أن تتخلى عن رغبتها تلك في ميدان الثقافة والآداب؟

بل إننا في ميدان اللغة نرى بأم أعيننا كيف أن السيادة في عالم السياسة والإنترنت وغيرهما هي اللغة الإنجليزية، وهو ما لا يمكن أن يتنازل عنه أصحاب هذه اللغة أبدًا، فيسووا بين لغاتهم وسائر لغات العالم، وهذا إن كان لكل لغة من المقومات والمؤهلات ما نجعلها تنجح في الوضع الراهن دفعةً واحدةً في مجال التسوية، ولا نظن ذلك، إذ ليس من المعقول أن ترتقي كل اللغات والثقافات والأمم دفعةً واحدةً إلى المستوى الذي بلغته اللغة الإنجليزية في هذا المجال عبر أزمان طويلة.

ونحن حين نقول ذلك لا نقصد أن اللغة الإنجليزية أفضل من غيرها من اللغات في حد ذاتها، فأنا -مثلًا- أؤمن أن العربية أفضل منها وأكثر ثراءً من ناحية المزايا

ص: 598

الذاتية، أي: المزايا المتعلقة باللغة ذاتها وتاريخيها وأوضاعها الطبيعية، إلا أن الأمر لا يُحسم بهذه الطريقة، بل الذي يحسمه هو مدى تقدم الأمة صاحبة اللغة بما لديها من تقدم علمي وقدرات، ومطامع ثقافية وأدبية وسياسية، وما إلى ذلك، فهل تتساوى كل الدول والشعوب في هذا؟ بطبيعة الحال لا، وإلا فلِمَ كان كل هذا التفاوت الذي نلمسه جميعًا في المجالات المذكورة وغيرها بين دول العالم وشعوبه؟

كما أن أميركا وإنجلترا تعملان على دوام الانتشار الواسع الذي تحظَى به لغتهما سواء في المحافل والمؤسسات الدولية، أو في مجال الاستعمال الفردي في الحياة اليومية، أو الحياة الثقافية أو الأدبية، ليس ذلك فقط بل إننا لا نسمع أن الدول الكبرى -وعلى رأسها أمريكا كالعادة- تستغل هذه العولمة بالإضرار بالشعوب الأخرى دون وازع من ضمير.

وأمامي الآن مقال كتبه جمال سلطان في جريدة "المصريون الضوئية" يتعرضون لمخاطر العولمة الناتجة عن أنانية بعض الدول ورغبتها الجامحة في الهيمنة على العالم، حتى لو كان ثمن تلك الهيمنة إنزال الأذى الشديد بالشعوب الأخرى بل إبادتها إن أمكن؛ كي تعيش هي في سيادة مطلقة لا يعكر من صفو سيادتها أحد، وهذا أمر لا غرابة فيه فقد سبق أن أباد الأمريكان شعبًا بأكمله يقدر عدد أفراده بعشرات الملايين إن لم يكن بمئاتها، ألا وهو شعب الهنود الحمر، الذي كان يسكن القارة الأمريكية الشمالية إلى أن خلا الجو تمامًا لهم، وأصبحوا هم أصحاب البلاد التي لم تكن لهم في يوم من الأيام، وأصبح الهنود في خبر كان.

يقول جمال سلطان في الجريدة المذكورة بتاريخ الرابع من أكتوبر، سنة ألفين وتسع ميلادية، تحت عنوان: الخوف يجتاح العالم، انتشرت عبر أنحاء العالم

ص: 599

خلال الأسابيع الماضية احتجاجات واسعة على عملية فرض اللقاح الجديد لمرض أنفلونزا الخنازير، الاحتجاجات ليست وقفًا على العالم الثالث وحده، بل هناك خبراء وأطباء في الولايات المتحدة وأوربا ينشرون تقارير خطيرة على شبكة الإنترنت، تتحدث عن مخاطرَ جسيمة ترقى إلى مستوى الجرائم الإبادة الجماعية ترتكب في حق الشعوب بتعمد تعميم وفرض اللقاح الجديد.

الاتهامات المنشورة تتحدث عن أصل فيروس أنفلونزا الخنازير، وأنه فيروس مركب في معامل متخصصة، أو كما يقول أحد هذه التحذيرات نصًّا: إن التحليل الدقيق للفيروس يكشف عن أن الجينات الأصلية للفيروس هي نفسها التي كانت في الفيروس الوبائي الذي انتشر عام ألف وتسعمائة وثمانية عشر ميلادية. بالإضافة إلى جينات من فيروس أنفلونزا الطيور، وأخرى من سلالتين جديدتين H3N2، وتشير كل الدلائل إلى أن أنفلونزا الخنازير، هو بالفعل فيروس مركب ومصنَّع وراثي.

انتهى النص.

والحقيقة أنني ألاحظ موجات غير مسبوقة من إشاعة الخوف والرعب من هذا المرض على مستوى العالم كله، رغم أن الواقع العملي يقول: بأن مستويات في الإصابة به محدودة جدًّا إذا قِيست بالأمراض الوبائية الأخرى المنتشرة في العالم، كما أن المخاطر العملية حتى الآن التي يتسبب فيها لا تتسق مع حالة الترويع التي تنتشر الآن، فمِن بين قرابة ثلاثمائة إصابة حدثت في مصر تم شفاء جميع المصابين فيها تقريبًا، وكلهم قالوا: إنها أشبه بالأنفلونزا العادية، وحالتا وفاة فقط حدثتا، وكلتاهما ليست بسبب أنفلونزا الخنازير، وإنما بسبب إصابة الضحايا بأمراض خطيرة أخرى مثل القلب، جاءت الأنفلونزا مع الإهمال كسبب معاون في الوفاة.

الاتهامات التي تدور الآن على نطاق واسع في شبكة الإنترنت وعبر تصريحات أطباء في مصر وبلدان عربية وأوربية مختلفة، تطرح علامات استفهام حقيقية حول عملية ابتزاز العالم بالخوف والرعب، المحتجون يتحدثون بمنطق لا يمكن

ص: 600

دحضه، وهو أننا أمام إصابات بالأنفلونزا لعدد لا يتجاوز عدة عشرات من الآلاف على مستوى العالم كله، ونحن نريد أن نحقن مليارات البشر عبر العالم بلقاح جديد ومريب، وقد ينتج عنه كوارث طبية لا نعرف جوهرها إلا بعد سنوات. البعض قال: إن نتائج اللقاح الجديد تظهر أعراضها الجانبية بعد سنة واحدة، فكيف نعرض مليارات البشر للمخاطرة التي تصل إلى حد الإبادة، بدعوى تحصينهم من مرض لا يمثل حتى هذه اللحظة بالدليل العملي أي خطر جسيم يهدد البشرية، وكل ما نسمعه خطب ودعايات تشبه الترويج لمنتجات شركات المنظفات، ومعجون الأسنان في الصحف والقنوات التلفزيونية.

المحتجون يستدلون بأن "تشيكيا" أوقفت استخدام لقاح أنفلونزا الطيور قبل سنوات بعد أن اكتشفت أنه يحتوي على مواد تسبب السرطان، وتم وقف تعميمه في أوربا من لحظتها. ويقولون اليوم: إن لقاح أنفلونزا الخنازير يحتوي على مواد خطيرة للغاية، من أعراضها أمراض نفسية وعصبية، وتدمير للخصوبة وأمور أخرى.

الناس في حيرة، والحقيقة أن ما نحن بصدده الآن إحدى كوارث العولمة، فبقدر ما عاش العالم إيجابيات ثورة الاتصال والمواصلات والقرية الكونية الواحدة، فإنه يعيش اليوم مخاطر وسوءات تلك القرية الواحدة، فإن أي خطأ أو تلاعب في شركة أو مؤسسة في عاصمة في شرق الدنيا أو غربها، يمكن أن يعرِّض سكان نجع بعيد في صعيد مصر لخطر الإبادة من دون ذنب جَنَوْه، والعالم اليوم أمام أزمة انعدام الثقة، لا أحد يثق في التصريحات الرسمية لا أحد يثق في أمانة ونزاهة مراكز الأبحاث، لا أحد يطمئن أبدًا لتقارير شركات الأدوية، والناس ممزقة بين خوفين؛ خوف النصابين العالمين، وخوف الأمراض المجهولة النسب والمصدر والخطر.

انتهى كلام جمال سلطان.

ص: 601

ونفس الشيء يفعله الغرب في ميدان الثقافة والأدب، لنأخذ مثلًا ما يصنعه مع أي مبتدأ من شداة الأدب في عالمنا العربي، يتمرد في كتاباته على الإسلام والعروبة، وينشر القيم الانحلالية في أدبه، إنه يغدق عليه المال والشهرة، ويفتح له أبواب المناصب على مصراعيها أمامه، في الوقت الذي لا يتمتع بعشر معشار ذلك أي أديب أو كاتب يعتز بدينه وعروبته ويحرص على قيمه الأخلاقية، ولا يشنع على أمته، فيتهم تقاليدها الدينية الطاهرة بالتخلف والظلامية، وما إلى هذا من قاموس السخف والتنطع، الذي الذي مرضنا على سماع مفرداته منذ وقت طويل حتى مللناه مللًا كبيرًا.

وكل مطلع على ما يجري في الساحة الفكرية والأدبية، يروعه كم الهجمات الضارية التي تشنُّ على الإسلام كل يوم بل كل ساعة، والتهم جاهزة على الدوام، والكذب مباح، بل فرض حتى ينجزوا ما يتغيونه من أهدافه شيطانية. والغرب مشهور بأنه لا يتذوق ثقافة التفاهم مع الآخرين، إنه في الغالب لا يفهم إلا لغةَ العنفِ والدمِ والصدامِ المروعِ، إنه يريد اقتلاع الإسلام وإحلال النصرانية محله، رغم أنه هناك لم يعودوا يبالون بالدين، ولا يرون في النصرانية غالبًا سوى خرافات عفى عليها الزمن.

لكن عند سماعهم اسم الإسلام يعتريهم لون من الخبال لا يصلح مع الطب الذي نعرفه.

ثم هل من المتوقع -ولا نقول: هل من الأفضل- أن تختفي الخصائص القومية والبيئية التي تميز أدبًا عن أدب في ظل العولمة التي نتحدث عنها؟ هل من المتوقع أن يسود العالم كله أدب واحد له طعم واحد، ويدعو إلى ذات القيم، ويهتم بنفس القضايا، ويتوصل لنفس النتائج؟

ص: 602

لا أظن ذلك أبدًا. إذ الإبداع الأدبي والثقافي إنما هو ابن بيئته، وسياقه لا يمكن أن يتحرر من هذا على الإطلاق، وإلا حكم الأدباء الذي يحاولون هذه المحاولة على أنفسهم وأدبهم بالضياع، نعم، ربما تتقارب الآداب أكثر، لو أن العالم كله أصبح دولة واحدة في مقابل دولة أخرى في القمر وثالثة في المريخ -مثلًا- بافتراض أن الحياة ممكنة في ذينك الكوكبين، ولكن حتى في تلك الحالة سوف تكون هناك سمات خارقة بين أدب كل إقليم وأدب غيره من الأقاليم في هذه الدولة المسكونية الواحدة، رغم التقارب الحادث بتأثير تحول الأرض كلها إلى دولة واحدة -كما أشرت.

إن الله قد خلق البشر مختلفين حسبما نصت الآيتان من سورة هود، ونصهما:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118، 119) وهذا الاختلاف عنوان ثراء وغنًى، ولو صار الناس جميعًا شيئًا واحدًا لفسدت الأرض وأسنت الحياة.

ولو افترضنا -جدلًا- أن ذلك قد وقع، فما الذي يبقى للأدب المقارن ليفعله في تلك الحالة؟

إن وظيفة الأدب المقارَن هي في المقام الأول على الأقل المقارنة بين أدب أمة وأدب أمة أو أمم أخرى، ونحن نعرف أن المقارنة إنما تصح بين الآداب المختلفة لا بين منتجات الأدب الواحد ومبدعيه، أي: أنه لن يكون هناك موضوع للأدب المقارن على الأقل على النحو الذي نعرفه عليه الآن، اللهم إلا إذا تغير وتغيرت وظيفته ومهمته.

وهناك نقطة أخرى تخص الأدب المقارن وتتصل بالعولمة، وهي تلك المتعلقة بأدب المبدعين المهاجرين من أوطانهم في العالم الثالث عادةً إلى هذا البلد الأوربي أو

ص: 603

ذاك، ترى كيف نتعامل مع إبداع هؤلاء؟ هل نظل ننسب إلى أدب أمتهم التي غادروها وانضموا إلى أدب أخرى؟ أم هل نضعهم مع أدب الأمة التي هاجروا إليها؟ وهذا ينطبق -مثلًا- على الأدباء الجزائريين الذين تركوا الجزائر واستقروا بفرنسا، وصاروا جزءًا من الشعب الفرنسي، ويكتبون أدبهم بلغة الفرنسيس، أو بأديبة كالدكتورة إهداف سويف القصاصة المصرية التي تزوجت بريطانيًّا تعيش وتعمل الآن في بريطانيا بوصفها واحدةً من الشعب البريطاني، حتى لو ظلت تحتفظ بجنسيتها المصرية، أو كالشاعرة والقصاصة الدكتور مهجة قحف أستاذة الأدب المقارن بالجامعات الأمريكية، التي نالت الجنسية الأميركية وأضحت واحدة من أفراد الشعب الأمريكي، رغم احتفاظها بحجابها وتأكيدها بأنها تعتز بذلك.

ترى كيف ننظر إلى الأدب الذي يبدعه هؤلاء وأشباههم، ويكتبونه بلغة البلد الذي هاجروا إليه؟ أنعامله على أنه أدب إنجليزي أو فرنسي، ومن ثم يمكن أن نجري مقارنة بينه وبين نظير له في الآداب العربية؟ أم نعامله على أنه لا يزال أدبًا عربيًّا وإن كان مكتوبًا بلغة غير اللغة العربية؟

في رأي أن ذلك يتوقف على اتجاه هذا الإبداع وروحه، أهو مشدود إلى الوطن الأصلي ومشاكله وقضاياه وهمومه، وقيمه وتطلعاته، وتسري فيه الروح التي تسري في أدب ذلك الوطن؟ أم هو قد اندمج وسار يعبر عن أحوال الوطن الجديد وموضوعاته واهتماماته؟ إن كانت الأولى فهو أدب عربي مكتوب بالفرنسية أو الإنجليزية -مثلًا- أما إن كانت الأخرى فهو أدب فرنسي أو إنجليزي حتى لو كانت له بعض الخصوصيات الدقيقة وسط سائر إبداعات الأدب الذي ينتمي إليه.

هذا عن العولمة.

ص: 604

أما العالمية: فهي المصدر الصناعي من كلمة عالم، وهي ترجمة لكلمة "يونفرسلزين" المأخوذة من كلمة "بايونفيرس" ومعناها العالم بمعنى الكون، وإن كانت مستعملةً هنا بمعنى المجتمع البشري على الأرض، من باب إطلاق الجزء على الكل مثلما قلنا في العولمة.

إلا أن هذا المصطلح يخلو من الإيحاءات السلبية التي يحملها مصطلح العولمة، إذ يؤمى إلى الأخوة الإنسانية، وما ينبغي أن يسود بين الناس من تفاهم سبيله الحوار والتبادل الثقافي، وما إلى ذلك، على أساس من المساواة بين البشر ورجوعهم جميعًا إلى أصل واحد، وبخاصة في هذا العصر الذي قصرت فيه المسافات وتقاربت المتباعدات.

يقول الدكتور حسام الدين خطيب: إن فكرة العالمية ليست جديدة في التاريخ الإنساني، بل لعل الإنسان خُلِق في الأصل عالميًّا. وهذا كلام لا غبارَ عليه إذا كان المقصود أن الله قد خلق البشر جميعًا من أصل واحد هو الماء والتراب، وأنهم ينتمون إلى أب واحد وأم واحدة هما آدم وحواء، وأنهم مهما اختلفت بهم الأوطان والأزمان لهم نفس الغرائز، ويتمتعون بنفس المواهب، ولهم نفس المطامح والمخاوف، والأفراح والأحزان، وأنهم خلقوا بنفس الملامح.

لكن لا بد أن نعرف أن هناك دائمًا فرقًا بين الفكرة والواقع، فالأمر هو فعلًا كما قلنا، إلا أن هذا لا يعني أن البشر يقبلون فكرة المساواة، ويتواضع بعضهم لبعض أو يسارع بعضهم لنجدة بعض على نحو تلقائي، بل لا بد لذلك من تربية أخلاقية ومرارة طويلة، ثم إنهم بعد ذلك ورغم ذلك كثيرًا ما يفشلون عند أول منعطف، إذ ينبغي حساب الأطماع والتنافسات والرغبة في التميز والتسيد، وإيمان كل فرد أو فريق بأنه أفضل من غيره، كذلك لا ينبغي أن ننسى عامل

ص: 605

البطء الشديد في وسائل المواصلات قبل العصر الحديث، مما كان يصعب جدًّا جدًّا قيام إحساس بالعالمية في ظله. ومن هنا فما كان أسهل -بل ما أسهلَ الآن أيضًا- أن تنشأ العداوات وتشتعل الحروب، وينسى الناس في غمرة هذا كله الأصل الواحد، وما يجب أن يسود بينهم من تفاهم وحب ومساواة، وتعاون وشعور بالأصل الواحد، والمصير المشترك، رغم اختلاف الأوطان والأعراف والديانات والثقافات.

وعلى هذا، فإنني لا أستطيع أن أشاطر الدكتور الخطيب القول: بأنه على المستوى الديني والثقافي والفلسفي كان العالم القديم حتى مطالع العصر الحديث عالمي الأفق، إنساني الوجدان، ذلك أن الكلام هنا قد انتقل من ميدان الفكرة إلى ميدان الواقع، والواقع لم يكن بهذا الإشراق الذي توحي به العبارة، بل كانت هناك العداوات والحروب الشرسة الفتاكة التي يجتهد فيها كل طرف لسحق الطرف الآخر.

ألا يتذكر الكاتب الحروب الصليبية -مثلًا- التي أسال فيها الفِرنجة دماء عشرات الآلاف من المسلمين، لا لشيء سوى أنهم يدينون بدين غير الدين الذي يدينون هم به؟!

ألا يتذكر ما صنعه الإسلام بمسلمي الأندلس من قتل وسَجن، ونفي وتشريد، وإخراج من الوطن، جراء اختلاف الدين؟!

بل ألا يتذكر الحروب بين دول أوربا نفسها بسبب المذهب الديني رغم اجتماعها على النصرانية دينًا للقارة كلها؟!

ص: 606

بل إن هذه المشاعر التفريقية لا تزال لها السيادة في العلاقات بين الدول والشعوب رغم انتشار أفكار العالمية والعولمة، وتزايد الشعور بأن الأرض قد صارت قريةً واحدةً بسبب تقدم وسائل المواصلات المادية والفكرية، وسرعتها الرهيبة.

وها نحن أولاء المسلمين نصلى بعدوان الغرب على بلادنا في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وجنوب السودان منذ مدة، وتنهدم البيوت والمساجد والمدارس والجامعات، ويسقط القتلى من إخواننا في تلك البلاد وأمثالها بأعداد مرعبة، ويعتدي جنوده على أعراض نسائنا، بل ورجالنا أيضًا، دون أي اعتبار لمفاهيم الإنسانية والعالمية، وما إلى ذلك.

أما عن ارتباط العالمية بالأدب المقارن فالآداب جميعها أيًّا كان مستوى مبدعيها من الحضارة والثقافة والإبداع الأدبي، هي نِتاج إنساني يرتبط بطريقة أو بأخرى بغيره من الآداب، وعليه من المفيد معرفة الصلة التي تربطه بتلك الآداب الأخرى، والمقارنة بينه وبينها.

هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى: هناك ما يُعرف بعالمية الأدب، وهي شيء قريب مما نحن فيه، فما هي تلك العالمية؟

يقول الدكتور محمد غنيمي هلال: إن عالمية الأدب معناها خروجه من نطاق اللغة التي كتب بها إلى أدب لغة أو آداب لغة أخرى، وهذه العالمية ظاهرة عامة بين الآداب في عصور معينة، ويتطلبها الأدب المتأثر في بعض العصور بسبب عوامل خاصة تدفعه إلى الخروج من حدود قوميته، إما للتأثير في الآداب الأخرى، وإما نشدانًا بما به يغنى ويكمن ويساير الركب الأدبي العالمي.

ص: 607

وواضح أنه يقصد هنا عملية التلاقح بين الآداب وأَخْذ بعضها من بعض بما يغنيها ويكسبها ما لم يكن فيها، وهذا من صميم الأدب المقارن. على أن هناك معاني أخرى لتلك العالمية منها ما قاله "بوتا" ومَن ساروا على دربه، من أن الآداب العالمية حين يتم تجاوبها بعضها مع بعض لم تلبث أن تتوحد جميعًا في أجناسها الأدبية، وأصولها الفنية، وغايتها الإنسانية، بحيث لا تبقى من حدود سوى اللغة، وما يمكن أن توحي به البيئة والإقليم.

وهو ما ينكر الدكتور محمد غنيمي هلال إنكار تحققه في يوم من الأيام؛ لأن الأدب كما قال: هو قبل كل شيء استجابة للحاجات الفكرية والاجتماعية إلى الوطن والقومية، وموضوعه تغطية هذه الحاجات، فهي محلية موضوعية أولًا، وإن كان لا يمكن مع ذلك أن تشف هذه الحاجات عن غايات عالمية، ولكن من وراء التعبير عن المسائل والآمال والآلام القومية، وما يتبع ذلك من المواقف النفسية والخواطر الذاتية التي لا بد أن تدل أولًا على حال المؤلف، بوصفه مواطنًا أو فردًا من جماعة كبيرة، فالآداب قومية وطنية أولًا.

وهذا صحيح، فإن الأديب -أي أديب- لا يستطيع تجاهل ما هو موجود أمامه، لكي يسبح في بحار العالمية دفعة واحدة دون المرور بالمحلية التي هي جزء من الإنسانية، ومن ثم فهي العالمية مصبوغة بصبغة محلية، على أن الأديب الكبير لا يفَنى في العنصر المحلي، جاعلًا إياه كل أكده، بل يتخذه نقطة انطلاق نحو الأشواق والأحزان والأفراح الإنسانية، وتصويرها بعمق من خلال هذا العنصر كما فعل ويفعل كل أديب عبقري.

ومن العرب يمكن أن نضرب المثل بالروائي نجيب محفوظ الذي يرسم من خلال أحياء القاهرة المُعزية ما يشغل الإنسان في كل زمان ومكان، بحيث يجد القراء على

ص: 608

اختلاف بيئاتهم وأوطانهم ولغاتهم أنفسهم فيه، ويتفاعلون بقوة مع ما يُبدع، رغم أنه إنما يتحدث في الإساس عن الناس في بعض أحياء القاهرة.

أما الدكتور الطاهر أحمد مكي فيقول: إن "بوتا" قد أعاد النظر في معنى عالمية الأدب، إذ رجع فوضح أن الفكرة التي ينادي بها ليست هي أن تفكر الأمم بطريقة واحدة، وإنما عليها أن تتعلم كيف تتفاهم فيما بينها. وإذا لم يكن يعنيها الحب المتبادل فلا أقل من أن تتعلم كيف تتسامح، فالحمد الله الذي جعل الفيلسوف والأديب الجرماني يرجع إلى ما يمكن وقوعه بدلًا من التعلق بأهداب ما يبدو مستحيلًا لا يُستثار تحقيقه.

وثم معنى ثالث لمفهوم العالمية ألا وهو بلوغ بعض الأعمال الأدبية مستوى فنيًّا ومضمونيًّا سامقًا، بحيث يُقبل عليها النقاد والقراء من مختلف دول العالم، ويجدون فيها المتعة والفائدة، ويتفقون على أنها أعمال متميزة على مستوى العالم.

لكن كيف تصل تلك الإبداعات لأيدي القراء من مختلف دول العالم؟

ليس هناك من سبيل إلا الترجمة، فهي وسيلة المواصلات التي تنقل تلك الأعمال إلى القراء، لكن مَن يقوم بهذه المهمة؟ إنهم ناس من الناس يخضعون لما يخضع له الناس من كسل وهوى وتعصب واعتبارات سياسية أو دينية أو أدبية، ومن ثَم فمن الممكن أن تترجم أعمالٌ لا ترقى إلى المستوى العالمي، وتهمل أعمال أخرى رغم قيمتها الفنية والإنسانية العالية. ولقد سبق أن أشرت قبل قليل إلى ما تصنعه المؤسسات الغربية الثقافية والسياسية مع أدباء العالم الثالث، إذ تقرر مَن ينخرطوا في خدمة مخططاتهم، وتُغدق عليهم نفحاتها، في الوقت الذي تضرب فيه صفحًا عمن يتأبى منهم على ذلك ويخلص لوطنه ودينه.

ص: 609

وترجمة الأعمال الأدبية إلى اللغات الواسعة الانتشار، والكتابة عنها، والإشادة بها وبأصحابها، وتلميع أسمائهم، هي باب من أبواب المكافأة في هذا المضمار. ويتحدث الدكتور حسام الدين الخطيب عن تأثير المركزية الأوربية في ذلك الميدان، إذ ما أسرع أن تترجم وتختار للقراءة في كتب المختارات إبداعات الإغريق والرومان، وسائر الإبداعات الأوربية المعاصرة، في الوقت الذي يندر فيه ترجمة إبداع لأي عربي أو مسلم.

ونقرر ما قلناه لتونا من أن الأدباء العرب والمسلمين الذين يحتفى بهم عادةً هم أولئك الذين يكتبون على هوى الغربيين، فيتناولون موضوعات بعينها كالإباحية الجنسية، والشذوذ، والتمرد، والإلحاد، والتغيير في المجتمعات العربية والإسلامية، ويدعون إلى قيم تتصادم وقيم الإسلام، ويتداعون إلى نصرتها بدعوتها حرية الفكر والتعبير، وأن الأدب يعلو ولا يعلَى عليه، فلا ينبغي من ثم أن يخضع لأي قيمة دينية أو أخلاقية

وهكذا.

والآن، ما الذي ينبغي أن يصنعه المقارنون في هذا السياق؟

الواقع أن المقارن الغربي ينبغي أن يعلو فوق مثل تلك الاعتبارات لو أراد أن يكون مقارنًا محترمًا، فيبحث عن الإبداعات غير الغربية ويسلط عليها الضوء، دون أن يقيم للاعتبارات التي تناولناها لتونا أية أهمية. بل يعتمد على يمليه عليه ضميره النقدي وميزانه الإنساني المستقيم، وإذا وجد إبداعًا راقيًّا أشاد به بغض النظر عن أي شيء آخر، إذ لا ينبغي أن يكون لديه ابتداءً أي مانع من أن يكون الإبداع غير الغربي أفضل من نظيره الغربي المشابه له.

ومن جهة أخرى فقد نبه الدكتور محمد غنيمي هلال إلى معنى مهم حين قال: إن عالمية الأدب في معناها الذي شرحناه، وهو خروج الآداب من حدودها القومية طلبًا لما هو جديد مفيد تهضمه وتتغذى به، واستجابةً لضرورة التعاون الفقهي والفني بعضهم البعض، لها أسسها العامة والتي تحدد سيرها.

ص: 610