الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها كذلك أبيات البحتري في وصف الربيع، وهو ساكن في رقدته الشتوية، مختالًا ضاحكًا ابتهاجًا بما حباه الله به من الحسن والجمال، حتى أوشك أن ينطق من الفرح والابتهاج.
مذهب الواقعية في الأدب؛ نشأته وتطوره
أما بالنسبة إلى الواقعية؛ فكما يقول الدكتور مندور في كتابه (الأدب ومذاهبه): نشأ هذا المذهب في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، تَحت تأثير الحركة العلمية والفلسفية؛ ورد فعل على الإفراط العاطفي التي اتسمت به الرومانسية، فقد ازدهرا معًا وتجاورا، وقد عمد الواقعيين أن تشخيص الآفات الاجتماعية، وتصوير معاناة الطبقة الدنيا وبدءوا بذلك حتى اتسم أدبهم بطابع تشاؤمي، ومسحة سوداء.
ويعد "بلزاك" الذي عاش في النصف الأول من القرن التاسع عشر الرائد الأول للواقعية في فرنسا، وقد خَلّف أكبر موسوعة في الأدب الواقعي، وهي تشمل نحو مائة وخمسين قصة أطلق عليها اسم "الكوميديا البشرية" وتُمَثِّلُ قِطَاعَاتٍ مُختلفة من الحياة؛ كما نَجِدُ عدة أدباء آخرين من فرنسا في مجال الواقعية مثل:"جوستاف لوبير" وهو صاحب الأعمال الأدبية المتميزة مثل "مدام بوفريه" و"سلمبو" وغيرهما من الأعمال الأدبية القيمة.
ويقول الدكتور مندور أيضًا: إنّ الواقعية كمذهب أدبي ليست هي الأخذ عن واقع الحياة، وتصويره بخيره وشره؛ كالآلة الفوتوغرافية، كما أنها ليست معالجة لمشاكل المجتمع ومحاولة لحلها، أو ضد أدب الخيال أو الأبراج العاجية؛ بل هي فلسفة في فهم الحياة والأحياء وتفسيرهما. أو هي وجهة نظر خاصة ترى الحياة من
خلال منظار أسود، وتؤمن بأننا لو نقبنا عن حقيقة الشجاعة والاستهانة بالموت مثلًا؛ لوجدناها يأسًا من الحياة أو ضرورة لا مفر منها، مثلما أن الكَرَم في حقيقته أثرة تأخذ مظهر المباهاة، والمجد والخلود تكالب على الحياة وإيهام النفس بدوامها واستمرارها.
وهكذا الأمر في كافة القيم المثالية التي نسميها قيمًا خيرة، فهي ليست واقع الحياة الحقيقة، بل الواقع والأثرة ما ينبعث عنها من شرور وقسوة وحشية.
وتُمَثّل الواقعية الجانب الواقعي من المجتمع والحياة؛ فهي ترى أنّ الحياة كلها شر ووبال، وأنّ الإنسان لا يستطيع أن يعيش إذا كان ماكرًا ومخادعًا، لكن هناك في ذات الوقت لونًا آخر من الواقعية؛ كانت تعرفه الآداب الاشتراكية أيام أن كانت هناك اشتراكية قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، والدول التابعة له، وثورة الشعوب هناك على أنظمتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهذا اللون من الواقعية يركز على ما في الحياة من أوضاع تدعو إلى التفاؤل، وتؤدي إلى نتائج إيجابية بدلًا من هذه النظرة المتشائمة السوداوية التي تسبق الواقعية الغربية.
ذلك أن الاشتراكيين -كما ذكر الدكتور محمد مندور في كتابه (الأدب ومذاهبه) - يؤكدون أنّ الأدب اختيار، وأنّ الأدباء الذين يختارون الشخصيات الشريرة المؤذية أو السلبية المتخاذلة، إنما ينمون عن ضعف وشيخوخة في أوقات من الحياة، ولو كانت رؤيتهم لتلك الحياة رؤية متفائلة؛ لما ركزوا على هذا الجانب الأسود منها، ذلك الجانب الذي من شأنه أن يثبط الهمم، ويدعو لليأس وينشر روح العزيمة والانهيار أمام عوائق الحياة، بخلاف ما لو اجتهدوا في إبراز الطاقات البشرية المدفونة القادرة على صنع الأعاجيب؛ فعندئذ تسود مشاعر التفاؤل بين أفراد الشعب، ويبذلون غاية جهدهم، ويستطيعون التغلب على عقبات الحياة ويحققون نتائج مذهلة.
والواقعُ أنه لا هذه النظرة، ول29:10 ولا تلك النظرة الصحيحة للوجود؛ ففي الوجود ما يدعو إلى التشاؤم، وفيه في ذات الوقت ما يدفع إلى الابتهاج، والتفتح للحياة والتفاؤل بالمستقبل، بيد أن الظروف تختلف من شخص لآخر، ومن فترة تاريخية إلى أخرى، ومن مجتمع إلى مجتمع إلى غيره وهكذا.
على أنه ينبغي ألا يستسلم الأدباء لمعوقات الحياة والمجتمع في الفترات التي تنتشر فيها العيوب والسلبيات، بل عليهم إلى جانب تصوير تلك المعايب والشرور ألا يغفلوا عما في الحياة من جوانب الخير والأمل، حتى لا يكونوا بدورهم عبأ على المجتمع والقوى الناهضة المكافحة، ولكن بشرط ألا يزيفوا الواقع، ويقدموا صورة براقة، لا تساعد الوقائع اليومية على تصديقها وابتلاعها كما كان يحدث في أحيان غير قليلة في الأدب الاشتراكي، على أيام الاتحاد السوفيتي؛ حينما كان الناقد "سيمنوف" مثلًا يُعلن أن أدبهم يهدف إلى تغليب عوامل الخير والثقة في الإنسان وقدرته، وأن واقعيتهم واقعية متفائلة، تؤمن بإيجابية الإنسان وقدرته على الإتيان بالخير، والتضحية في سبيله بكل شيء في غير يأس ولا تشاؤم ولا نبرات مسرفة كما يقول الدكتور مندور السالف الذكر، وكانت الأعمال القصصية تبالغ في تصوير النفوس الخيرة مبالغة لا يستطاع هضمها.
ولمزيد من التفصيل نقول: إن الواقعية مذهبٌ في الفن والأدب، يُشير إلى محاولة الأديب أو الفنان تصوير الحياة كما هي في الواقع، وتكمن المهمة الرئيسية للفنان في نظر الفنان الواقعي؛ في وصف كل ما يلاحظه بحواسه بدقة وصدق شديدين، بغير إهمال لما هو قبيح أو مؤلم، ومن غير اقتراح للرمزية.
ولقد كانت الواقعية ثورة على كل من التقليدية الكلاسيكية والعاطفية الرومانسية، وهُما حركتان فنيتان عالجت أعمالهما أمور الحياة بأساليب مثالية،
حيث تظهر أعمال التقليدين الكلاسيكيين الحياة على أنها أكثر منطقية، وترتيبًا من ما هي في الواقع، أما أعمال العاطفيين الرومانسيين؛ فتظهر الحياة على أنها أكثر إثارة من الناحية العاطفية، وأكثر بعثًا على الشعور بالطمأنينة مما هي في الواقع الحياة أصلًا.
ويَبْذُل الواقعيين قصارى جهدهم؛ لكي يكونوا موضوعيين لأقصى درجة ممكنة، غيرَ أنّهم في محاولتهم انتقاء موضوعاتهم، وتقديمها لا يتمكنون من تجنب التأثير بما يشعر به أو يفكرون؛ ولذا فإن أعمق أنماط الواقعية لديهم يأتي نتيجة المراقبة والحكم الشخصي.
وبالنسبة للقصة الواقعية: فقد جاء الفن القصصي الواقعي ثورة على عاطفية المثالية الرومانسية؛ فشخصيات الفن القصصي الواقعي أكثر تعقيدًا من شخصيات القصص العاطفية الرومانسية، ومسرح الأحداث يتسع بالهدوء وعدم التركيز على الحبكة، وغموض الموضوعات، ويُعالج الفن القصصي الواقعي في معظمه حوادث عادية ممكنة الوقوع، كما أنه يَرْسُم شخصية قابلة للتصديق.
وتقدم معظم القصص الواقعية موضوعات متشائمة، لا تدعو إلى البهجة وقد تثير الاشمئزاز، وهذه سمة قاتمة تنطبق بشكل أساسي على الطبيعية، وهي حركة تطورت على الواقعية، ويعزى ازدياد منهج الواقعية باعتبارها أسلوبًا لا إلى كونها مجرد رد فعل على المعالم الجميلة في الفن القصصي العاطفي فقط، بل يعود أساسا لعاملين:
الأول: هو تطور العلم الحديث، بتأكيده على كتابة التقارير العلمية المفصلة.
أما العامل الثاني: فهو الرغبة الجامحة لدى الكتاب والقراء لفهم المشاكل الاجتماعية من منظور أكثر واقعية.
حظيت الواقعية في الأدب الإنجليزي بالاهتمام لأول مرة في القرن الثامن عشر، وعلى وجه الخصوص في أعمال "دانيال ديفو" أما القرن التاسع عشر؛ فقد أصبحت الواقعية في أكثر أهمية، وبدا ذلك واضحًا من خلال أعمال كل من "جين أوستن" و"جورج إليوت" و"توماس هاردي" و"جورج مور" و"ويليام ماكبثكري" و"أنطوني ترولوب" ومن كتاب الواقعية الأوربيين البارزين في القرن التاسع عشر "أونريه ديبلزاك" و"جوستاف لوبير" و"ستدندال" في فرنسا و"ليو تلوسي" و"إيفان ترجنيف" في روسيا.
وكان "هنري جيمس" و"وليام بن هاولز" وإلى حد ما "ماركة وين" من أوائل الكتاب الواقعيين المتعرف بهم في الأدب الأمريكي، أما "ستيفن كرين" و"فرانك نورس" و"تيودور درايدزر" فكانوا أوائل الكتاب الطبيعيين الأمريكيين.
وبفضل الكتابة القصصية لهؤلاء الكتاب، وكتابات لكتاب آخرين أتوا بعدهم، مثل "سنكلير لويس" و"إف سكوت فيثجارت" و"إلنس هيمجويه" و"جون شتايمك" أصبحت الكتابة الواقعية سائدة ومقبولة، بحيث أصبحت القصص العاطفية الرومانسية أعمالًا لا تساير روح العصر.
وكانت الواقعية المسرحية، كما كان الفن القصصي محاولة لتصوير الواقع بجماله وقبحه، وقد تطورت المسرحية الواقعية في أوربا أولًا كرد فعل للـ"مليودراما" والمذاهب العاطفية التي كانت سائدة في أوائل ومنتصف القرن التاسع عشر، كما أخذت أشكالًا عديدة تتدرج من الواقعية الخفيفة في ملاهة السلوك المتكلف والمبالغ فيه؛ إلى المأساة العميقة في الأسلوب الطبيعي، وأصبحت للمسرحية الواقعية أهمية لأول مرة بعد ظهور المسرحيات "هنريك ألسون" في النرويج، وقد تفحص "ألسون" القضايا الاجتماعية التي كانت سائدة في عصره في أعماله المسرحية مثل "أعمدة المجتمع" و"بيت الدميا".
أما "أنطون تشيكوف" فقد وصف "أرستقراطية" روسيا المتلاشية في مسرحيته "بستان الكرس" وفيما يتعلق بالمسرح الإنجليزي فقد كان تقبله للواقعية بطيئًا، إلا أن "جورج بيرناردشو" ما لبث أن بعث الحياة في الحركة الواقعية، في سلسلة مسرحيات طويلة ذكية، تُعالج القضايا الاجتماعية، بدأ من مسرحية "بيوت الأرامل" وفي "إيرلندا" مزج "جون ميلنج تون سينج" الواقعية بالشعر في مسرحيته "ركاب البحر" وتناول "جون أكويسي" قضايا نضال "إيرلندا" من أجل استقلالها عن إنجلترا في مسرحيته "جونو وألبيكوك" ومسرحيات أخرى.
أما الأثر الدائم الذي أحدثته الواقعية في المسرح: فقد جاء بتقديم مسرحية ما وراء الأفق لـ"يجوين أونيل" في عام 1920.
ورغم أن مصطلح الأدب الواقعي يعني ما قلناه آنفًا؛ فليس معنى ذلك أنه لم يكن هناك قط أدب واقعي قبل الفترة التي ازدهرت فيها الواقعية بالمعنى السابق، إذ هناك فرق بين الواقعية بهذا المفهوم المحدد، وبين الواقعية بالمعنى الواسع الذي لا يرتبط بفترة تاريخية ولا بظروف اجتماعية وسياسية معينة، والذي يقوم على ملاحظة الواقع وتسجيله، لا على صورة خيال وتهاويله؛ فيكون بذلك معرض للرومانسية أو الذي يستقي مادته من حياة عامة الشعب ومشاكله؛ فيكون بذلك معرضًا لما يسمى أدب البرج العاجي، أي أدب أرستقراطي الفكر والخيال الذي يناقش القضايا الميتافيزيقية أو الموضوعات التاريخية، المأخوذة من بطون الكتب لا من قلب الواقع، أو الذي يقوم على الموضوعية لا على مشاكل النفس الفردية -كما يوضح الدكتور محمد مندور في الفصل الذي خصصه للواقعية من كتابه (الأدب ومذاهبه).
كذلك لا يخلو أدبنا القديم من نصوص ذات عناصر واقعية، وإن لم يكن وراءها تنظير نقدي كالذي واكب ظهور الواقعية في أوربا على مر بيانه، فلدينا مثلًا شعر عمر بن أبي ربيعة في التعرض للنساء حتى في مواسم الحج، والاجتهاد في نيل ما يمكن نيله منهن، وتحمل ما يمكن أن يصيب المتعرض لهن من مس الكرامة أحيانًا، وعَدُم المُبالاة بأقاويل الناس، والنظر إلى المرأة على أنها شيء يُستمتع به، دون التقيد بشخص امرأة بعينها، بحيثُ إذا غابت أو هجرت أو غضبت أسودت الدنيا في وجه من يحبها، واستحالة حياته جحيمًا لا يمكن احتماله.
وتزداد الأمور إثارة في الواقعية على هذه شاعر كبشار بن برد، الذي لم يكن يرى في المرأة أو يهمه منها إلا جسدها، وما يؤويه هذا الجسد من شهوات، دون مبالاة بالناحية الروحية فيه على الإطلاق.
ومن الشعر الذي ينحو منحًا واقعيًّا ما نظمه أبو نواس مثلًا من قصائد تقص مغامراته في عالم الحانات وتصف مجالس الشراب، حيث لا يترك تفصيلة من تفصيلات الواقع الحي إلا سجلها أو أبرزها وكأننا نصاحبه في تلك المغامرات وهذه المجالس، ونرى ونسمع ونشم كل ما يراه ويسمعه ويشمه.
أو فلنقرأ قصيدة البوصيري في شكواه الفقر لممدوحه؛ حيث يورد وصفًا واقعيًّا لما يدور بينه وبين زوجته من مشادات بسبب الحاجة، أو لما يقع من أولاده من تصرفات بسبب ما يقلص بطونهم من جوع:
يا أيها المولى الوزير الذي
…
أيامه طائعة أمره
ومن له منزلة في العلى
…
تكل عن أوصافها الفكرة
إليك نشكو حالنا
…
إننا حاشك من قوم أولي عسره
في قلة نحن ولكن لنا
…
عائلة في غاية الكثره
أحدث المولى الحديث الذي
…
جرى لهم بالخيط والإبره
صاموا مع الناس ولكنهم
…
كانوا لمن أبصرهم عبره
إن شربوا فالبئر زير لهم
…
ما برحت والشربة الجرة
لهم من الخبيز مسلوقة
…
في كل يوم تشبه النشره
أقول مهما اجتمعوا حولها
…
تنزهوا في الماء والخضره
وأقبل العيد وما عندهم
…
قمح ولا خبز ولا فتره
فأرحمهم إن عاينوا كعكة
…
في يد طفل أو رأوا تمره
تشخص أبصارهم نحوها
…
بشهقة تتبعها زفره
كما قائل يا أبا من هما
…
قطعت عنا الخير في كره
ما صرت تأتينا بفلس ولا
…
بدرهم ورق ولا نقره
وأنت في خدمة قوم
…
فهل تخدمهم يا أبتا سخره
ويوم زارت أمهم أختها
…
والأخت في الغيرة كالضره
وأقبلت تشكو لها حالها
…
وصبرها مني على العشره
قالت لها كيف تكون
…
النسا كذا مع الأزواج يا عره
قومي اطلبي حققي منه
…
بلا تخلف منكي ولا فتره
وإن تأبى فخذي ثخمه
…
وخلصيها شعرة شعره
قالت لها ما هكذا عادتي
…
فإن زوجي عنده ضجرة
أخاف إن كلمته كلمة
…
طلقني قالت لها بعره
وهون القدر في نفسها
…
فجاءت الزوجة محتره
فقابلتني فتهددها
…
فاستخبرت رأسي بأجره
ودامت الفتنة ما بيننا
…
من أول الليل إلى بكره
وحق من حالته هذه
…
أن ينظر المولى له نظره
إنّ الرجل إنما يقبس من نار قلبه وواقع بيته، وهو إن فاتته فحولة الشعر؛ فلم يفوته الكثير، لأنّ هذا اللون من الشعر لا يصلح له إلا هذا الأسلوب البسيط العجيب في صدقه وصراحته وواقعيته وفكاهيته وشعبيته، وحُسن تصويره ودفء تعبيره، وماذا يريد الواحد منا في مثل هذا الموقف أكثر من هذا؟! ولا ينبغي أن نغفل الألفاظ العامية المصرية الموحية التي يستعملها البوصيري، ومازلنا نستعملها نحن أيضًا حتى الآن كقوله:"يا عره" أي: يا من تجلبين الشماتة والاحتقار لنفسك وأهلك، و"الفتره" وهي ألطاف العيد الصغير من تمر وزبيب وكعك، و"سخره" أي بلا مقابل و"بكره" أي غدًا و"صبرها مني على العشره" أي رضاها بواقع الحال البائس إخلاصًا لزوجها وحرصًا منها على بيتها أن يهدم.
ولنقرأ أيضًا تلك الحكاية المأخوذة في ألف ليلة وليلة، والتي تُقَدّم لنا بعض المشاهد الواقعية من المجتمع البغدادي في العصور القديمة، مصورة بلغة تخلو تمام من أي تأنق أو تكلف؛ لغة بسيطة تقترب من اللهجة العامية، وإن اتبعت إلى حد معقول قواعد النحو والصرف، ولكن في أيسر صورها وأقلها مئونة، وهي حكاية أحمد الدنف وحسن شومان، مع الدليلة المحتالة وبنتها زينب النصابة:
"يحكى أيها الملك السعيد، أنه كان في زمن هارون الرشيد رجل يسمى أحمد الدنف، وآخر يسمى حسن شومان، وكانا صاحبي مكر وحيل، ولهما أفعال عجيبة؛ فبسبب ذلك خلع الخليفة على أحمد الدنف خلعة؛ وجعله مقدم الميمنة، وخلع على حسن شومان خلعة وجعله مقدم الميسرة، وجعل لكل منهما شامكية في كل شهر ألف دينار، وكان لكل منهما أربعون رجلًا من تحت يده، وكان مكتوبًا على أحمد الدنف در كل بر فنزل أحمد الدنف ومعه حسن شومان، والذين من تحت أيديهما راكبين والأمير خالد الوالي بصحبتهم،
والمنادي ينادي حسبما رسم الخليفة أنه لا مقدم من بغداد في الميمنة إلا المقدم أحمد الدنف، ولا مقدم من بغداد في الميسرة إلا حسن شومان، وأنهما مسموعا الكلمة واجبا الحرمة.
وكان في البلدة عجوزًا تُسمى الدليلة المُحتالة، ولها بنت تسمى زينب النصابة؛ فسمعتا المناداة بذلك، فقالت زينب لأمها دليلة: انظري يا أمي، هذا أحمد الدنف جاء من مصر مطرودًا، ولعب مناصب في بغداد، إلى أن تقرب عند الخليفة، وبقي مقدم الميمنة، وهذا الولد الأقرع حسن شومان مقدم الميسرة، وله سماط في الغداء وسماط في العشاء، ولهما جوامق لكل واحد منهما ألف دينار في كل شهر، ونحن معطلون في هذا البيت لا مقام لنا ولا حرمة، وليس لنا من يسأل عنا.
وكان زوج دليلة مقدم بغداد سابقًا، وكان له عند الخليفة في كل شهر ألف دينار؛ فمات عن بنتين بنت متزوجة ومعها ولد يسمى أحمد اللقيط، وبنت عازبة تسمى زينب النصابة، وكانت الدليلة صاحبة حيل وخداع ومناصف، وكانت تتحايل على الثعبان حتى تطلعه من وكره، وكان إبليس يتعلم منها المكر، وكان زوجها براجًا عند الخليفة، وكان له جامكية في كل شهر ألف دينار، وكان يربي حمام البطاقة الذي يسافر بالكتب والرسائل، وكان عند الخليفة كل طير وقت حاجته أعز من واحد من أولاده، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح".
وفي الليلة التالية قالت: "بلغني أيها الملك السعيد، أنّ زينب النصابة لما قالت لأمها: قومي اعملي لنا حيلًا ومناصف، لعل بذلك يشيع لنا صيت في بغداد، فتكون لنا جامكية أبينا؛ فقالت لها: وحياتك يا ابنتي، لألعبن في بغداد مناصف
أقوى من مناصف أحمد الدنف وحسن شومان، فقامت وضربت لثامًا، ولبست لباس الفقراء من الصوفية، ولبست لباسًا نازلًا لكعبها وجبة صوف، وتحزمت بمنطقة عريضة، وأخذت إبريقًا وملأته ماء لرقبته، وحطت في فمه ثلاثة دنانير، وغطت فم الإبريق بليفة وتقلدت بقدر حملة حطب، وأخذت راية في يدها وفيها شرايط حمر وصفر.
وطلعت تقول: الله الله، واللسان ناطق بالتسبيح والقلب راكد في ميدان قبيح، وصارت تتلمج لمنصف تلعبه في البلد، فسارت من زقاق إلى زقاق؛ حتى وصلت إلى زقاق مكنوس مرشوش، وبالرخام مفروش، فرأت بابا مقوصلًا بعتبته من مرمر، ورجلًا مغربيًّا واقفًا بالباب، وكانت تلك الدار لرئيس الشاوشية عند الخليفة، وكان صاحب الدار ذا زرع وبلاد شامكية واسعة، وكان يُسمى حسن شر طريق، وما سموه بذلك إلا لكون ضربته تسبق كلمته، وكان متزوجًا بصبية مليحة، وكان يحبها وكانت ليلة دخلته بها حلفته ألا يتزوج عليها، ولا يبيت في غير بيته إلى أن طلع زوجها يوما من الأيام إلى الديوان، فرأى كل أمير معه ولد وولدان.
وكان قد دخل الحمام ورأى وجهه في المرآة، فرأى بياض شعره ذقنه غطى سوادها، فقال في نفسه: هل الذي أخذ أباك لا يرزقك ولدًا، ثم دخل على زوجته وهو مغتاظ، فقالت له: مساء الخير، فقال لها: روحي من قدامي، من يوم ما رأيتك ما رأيت خيرًا، فقالت له: لأي شيء! فقال لها: ليلة دخلت عليكي حلفتيني أني ما أتزوج عليكي، ففي هذا اليوم رأيت الأمراء كل واحد معه ولد وبعضهم معه ولدان؛ فتذكرت الموت وأنا ما رزقت ولد ولا بنت، ومن لا ذكر له لا يذكر وهذا سبب غيظي فأنك عاقر لا تحبلين مني.
فقالت له: اسم الله عليك، أنا خلقت الأكوان من دق الصوف والعقاقير، وأنا مالي ذنب، والعاقة منك لأنك بغل أفطس، فقال لها: لما أرجع من السفر أتزوج عليكي، فقالت له: نصيبي على الله تعالى، وطلع من عندها فبينما زوجته تطل من طاقتها، وهي كأنها عروسة تكنس من المصاغ الذي عليها، وإذا بدليلة واقفة فرأتها فنظرت عليها صيغة وثيابًا ثمينة؛ فقالت في نفسها: يا دليلة، لا أصنع من أن تأخذي هذه الصبية من بيت زوجها وتعريها من المصاغ والثياب وتأخذي جميع ذلك؛ فوقفت وذكرت تحت شباك القصر الله الله فرأت الصبية هذه العجوز وهي لابسة من الثياب البيض ما يشبه قبة من نور، متهيئة بهيئة الصوفية وهي تقول: احضروا يا أولياء الله.
فأطلت النساء من النوافذ وقالت: شيء لله، من المدد هذه شيخة طالع من وجهها النور، فبكت خاتون زوجة الأمير حسن، وقالت لجاريتها: انزلي قبلي يد الشيخ أبو علي البواب، خليه يدخل الشيخة لنتبرك بها، فنزلت وقبلت يده وقالت: سيدتي تقول لك: خلي هذه الشيخة تدخل إلى سيدتي لنتبرك بها، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح".
وفي الليلة التالية، قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنّ الجارية لما نزلت للبواب، وقالت له: سيدتي تقول لك: خل هذه الشيخة تدخل لنتبرك بها، لعل بركتها تعم علينا، فتقدم البواب وقبل يدها، فمنعته وقالت له: ابعد عني لئلا تنقض وضوئي، أنت الآخر مكذوب ومخلوط من أولياء الله، الله يعتقك من هذه الخدمة يا أبا علي.
وكان للبواب أجرة ثلاثة أشهر على الأمير، وكان معسرًا، ولم يعرف أن يخلصها من ذلك الأمير؛ فقال لها: يا أمي، اسقيني من إبريقك لأتبرك بك؛ فأخذت
الإبريق من على كتفها، وضربت به في الهواء، وهَزّت يدها حتى طارت الليفة من فم الإبريق، فنزلت الثلاثة دنانير على الأرض، فنظرها البواب والتقتها وقال في نفسه: شيء لله هذه الشيخة من أصحاب التصرف، فإنها كاشفت علي وعرفت أني محتاج للمصروف.
فتصرفت لي في حصول الثلاثة دنانير التي وقعا الأرض من إبريقك، فقالت له العجوز: أبعدها عني فإني من ناس لا يشتغلون بالدنيا أبدًا خذها ووسع بها على نفسك عوضا عن الذي لك عند الأمير فقال: شيء لله من المدد، وهذا من باب الكشف وإذا بالجارية قبلت يدها، وأطلعتها لسيدتها، فلما دخلت رأت سيدة الجارية كأنها كنز انفكت عنه الطلاسم، فرحبت بها وقبلت يدها، فقالت لها: يا ابنتي، أنا ما جئتك إلا بمشورة فقدمت لها الأكل فقالت لها: يا ابنتي أنا ما آكل إلا من مأكل الجنة، وأديم صيامي فلا أفطر إلا خمسة أيام في السنة، ولكن يا ابنتي أنا أنظرك مكدرة ومرادي أن تقولي لي على سبب تكديرك.
فقالت: يا أمي، في ليلة ما دخلت حلفت زوجي أنه لا يتزوج غيري، فرأى الأولاد فتشوق إليهم، فقال لي: أنت عاقر، فقلت له: أنت بغل لا تحبل، فخرج غضبان، وقال لي: لما أرجع من السفر أتزوج عليكي، وأنا خائفة يا أمي أن يطلقني ويتزوج غيري؛ فإن له بلادًا وزروعًا وجامكية واسعة؛ فإذا جاء أولاد من غيري يملكون المال والبلاد مني، فقالت لها: يا ابنتي، هل أنتي عمياء عن شيخ أبي الحملات، فكل من كان مديونًا وزاره قضى الله دينه، وإن زارته عاقر فإنها تحبل.
فقالت: يا أمي، أنا من يوم دخلت ما خرجت لا معزية ولا مهنئة، فقالت لها العجوز: يا ابنتي، أنا آخذك معي وأريك أبا الحملات، وأرمي حملتك عليه،
وانذري له نذرًا عسى أن يجيء زوجك من السفر، وينام معكي فتحبلي منه بنت أو ولد، وكل شيء ولدتيه إن كان أنثى أو ذكر، يبقى درويش الشيخ أبي الحملات، فقامت الصبية ولبست مصاغها جميعه، ولبست أفخر ما عندها من الثياب، وقالت للجارية: ألقي نظرك على البيت، فقالت: سمعًا وطاعة يا سيدتي، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح".
إلى آخر الحكاية وهي طويلة ويكفي ما أخذناه منها وهو يطلعنا على العناصر الواقعية التي يمكن أن نجدها في كثير من حكايات ألف ليلة وليلة وغيرها.
والسلام عليكم ورحمة الله.