الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد فهمنا أن يقال: إن الشعر مرتبط بحاجة نفسية رغم تأكيدنا أن النثر هو أيضًا مرتبط بهذه الحاجة، كما أن الشعر مرتبط بالأفكار مثلما النثر مرتبط بها، لكننا لا نفهم كيف يكون الشعر مرتبطًا بحاجة الإنسان البيولوجية؟ أتراه يؤكل؟ أتراه يشرب؟ أتراه يساعد على التخلص من فضلات الأكل والشرب مثلًا؟ فكيف يقال: إنه يقوم بحاجة الإنسان البيولوجية إذًا؟ والكاتب ذاته لم يوضح ماذا يقصد بهذا بل ألقى كلمته، ومضى وكأنها مسألة بديهية لا تحتاج إلى توضيح أو حجاج رغم أنها بكل تأكيد ليست كذلك.
عمر الشعر العربي
كذلك من القضايا أيضًا التي تهمنا أيضًا في هذا السياق "عمر الشعر العربي":
يقول الجاحظ في كتابه (الحيوان): "وأما الشعر فحديث الميلاد، صغير السن، أول من نهج سبيله، وسهل الطريق إليه "امرؤ القيس بن الحجر" و"مهلهل بن ربيعة"، فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام".
لكن الجاحظ لم يقدم دليلًا هذا الذي قال، إذ كيف يمكننا الاقتناع بأن الذي مهد السبيل للشعر هو امرؤ القيس والمهلهل بما يعني أنهما أول من قالا الشعر من العرب، وأن شعرهما من ثم يتسم بما يتسم به أول كل شيء، من البدائية وقلة الفن والسذاجة بالنسبة لما جاء بعده، على حين أن ما خلفه لنا "الملك الضليل" من شعر سواء من ناحية المقدار أو من ناحية القيمة الفنية، حتى لقد جعلوه أميرًا للشعراء الجاهليين، يكذب ذلك تكذيبًا شديدًا.
وعلى أية حال فهناك أشعار تروى على أزمان أبعد كثيرًا من هذه المدة التي حددها الجاحظ، كتلك التي تُنسب لعاد وثمود مثلًا، صحيح أن ابن سلام في مقدمة كتابه (طبقات الشعراء) قد نفى أن تكون مثل تلك الأشعار حقيقية، إلا أنّ الحُجّة التي استند إليها في ذلك النفي ليست بالحاسمة، ذلك أنه اعتمد فيها على ما جاء في القرآن الكريم عن أولئك القوم من أنهم لم تبق منهم باقية، وهو ما أدى به إلى التساؤل قائلًا: إذا كانت عاد وثمود قد استؤصلتا كما جاء في القرآن، فمن الذي أدى لنا تلك الأشعار يا ترى؟.
لكن فاته أن القرآن لم يقل إنهم جميعًا استؤصلوا، بل الذين استؤصلوا منهم هم الكافرون فقط، كما جاء في الآيات من (50 - 68) من سورة هود، كذلك من الممكن جدًّا أن يكون غيرهم من العرب ممن كانوا يحفظون تلك الأشعار هم الذين أدوها لنا، ولست أقصد بذلك أن هذه الأشعار وأشباهها صحيحة بالضرورة؛ فليس ذلك همي هنا، بل كل ما أريد أن أوضحه هو أن الحجة التي ساقها "ابن سلام" لا تستطيع أن تحسم المسألة، وبخاصة أنه ليس هناك ما يمنع أن يكون عاد وثمود قد قالوا شعرًا، ولا أن يكون ذلك الشعر قد بقي تلك المدة التي تفصل بينهم وبين الإسلام، إذ هي ليست بالمدة الطويلة، فها نحن أولاء ما زلنا نهمتم بأشعار الجاهلية التي يقر بها الباحثون، ونقرؤها وندرسها، ونحفظ كثيرًا من نصوصها رغم انصرام كل هاتيك القرون التي تبلغ ال 1600 من السنين.
وكان "ابن سلام" يظن أن عادًا وثمود كانتا قبل زمنه بآلاف السنين، وأنه لم يبق منهما شيء، لكن ثمود لم يكن يفصل بينها وبين الإسلام في الواقع أكثر من ألف سنة أو أقل، إذ يعود تاريخ الثموديين إلى المسافة الزمنية الممتدة من قبل الميلاد
بعدة قرون إلى ما بعده بفترة، وكانوا يسكنون مدائن صالح، وما حولها، وجاء في القرآن الكريم أنهم قد أخذتهم الرجفة، إلا أنهم رغم هذا قد خلفوا لنا كثيرًا من النقوش في بلادهم وخارج بلادهم، مما يدل على أن فهم ابن سلام للآية الكريمة الخاصة باستئصالهم لم يكن فهمًا دقيقًا، كذلك اللغة التي كتبوا بها نقوشهم لا تختلف عن العربية الفصحى كما نعرفها اللهم إلا فيما لا يقدم، ولا يؤخر.
وبالإضافة إلى ذلك فقد تنبه الباحثون إلى أن الشعر الجاهلي الذي بين أيدينا لا يمكن أن يكون أول ما نظمته العرب من أشعار بل لا بد أن تكون قد سبقته أشعار أخرى على مدى زمني طويل، حتى استوى الفن الشعري على سوقه. أما إلى أي مدى يمتد هذا الزمن في الماضي بالضبط، فعلمه عند الله، إذ لم يستطع حتى الآن أي باحث الإتيان بما يشفي ويكفي في هذا السبيل.
وهناك من الباحثين من يرجع الشعر العربي إلى ما قبل الإسلام بزمن كبير، فمثلًا يشير " La poésie " في كتابه ( arabe anté - islamique)" طبعة باريس، سنة 1080م، إذ يتحدث المستشرق الفرنسي عما كتبه "سوزومين" المؤرخ الإغريقي الكنسي من أهل القرن الخامس الميلادي، من أن إحدى ملكات العرب في القرن الرابع قد انتصرت على القوات الرومانية الموجودة في فلسطين وفينيقيا، فأخذت الرعية تحتفل بهذا الانتصار مرددة الأغاني الشعبية، وإن لم يصلنا من ذلك شيء ولو عن طريق الترجمة، وهو ما أسف له " poésie ".
ومعنى هذا لديه أن هناك شعرًا عربيًّا يعود إلى القرن الرابع الميلادي، أي: أن الشعر الجاهلي لا يعود إلى ما قبل الإسلام بقرن أو قرن ونصف فقط كما كنا نردد، بل لا بد أنه امتد إلى ما وراء القرن الرابع نفسه؛ لأنه لا يعقل أن يكون
العرب قد وصلوا إلى نظم مثل تلك الأغاني إلا بعد أن كان فن الشارع قد نضج عندهم تمامًا.
وعند الدكتور "عمر فروخ" أن الشعر الذي وصل إلينا من الجاهلية يمثل دورًا راقيًا لا يمكن أن يكون الشعر قد بلغ إليه في أقل من ألفي سنة على أقل، غير أنه لم يصل إلينا من ذلك الشعر الأول شيء، وهذا موجود في كتابه (تاريخ الأدب العربي) في الجزء الأول.
أما من ناحية التأثير والتأثر في ميدان الشعر الغنائي، فمثلًا نرى أن عدد البحور الشعرية التي كان ينظم عليها الإيرانيون القدماء قصائدهم كان محدودًا، إذ لم تكن تزيد عن بضعة أبحر تشبه بحور الهزج، والرجز والمتقارب، والدوبيت العربية، إلا أن الأمر اختلف بعد الإسلام وانتشار اللغة العربية وآدابها في بلادهم، فقد رأيناهم ينقلون جميع الأوزان العربية لأشعارهم، مع اختلاف مساحة انتشار كل منهما هنا عنها هناك، فعلى حين يشيع في الشعر الفارسي بحور الهزج والرمل، والخفيف، والمتقارب، نرى أن الطويل، والكامل، والوافر والسريع والبسيط، والمتقارب هي أشيع البحور في شعر العرب.
وهناك القافية أيضًا، وقد أخذها الشعر الفارسي من نظيره العربي، كما أن كثيرًا من الألفاظ والصور البيانية قد انتقلت من الشعر العربي إلى الفارسي، وكان هناك رأي يقول بأن الشعراء الفُرس القدامى لم يكونوا يعْرِفُون الأوزان في نظم قصائدهم، بل كانوا ينظمونها مطلقة من الأوزان والتفاعيل، ثم نقلوا هذا عن العرب بعد الإسلام، إلا أنه ثبت أن الأمر خلاف ذلك، وأنهم كانوا يعرفون بعض الأبحر حسبما مر آنفًا.
وعلى الناحية الأخرى رأينا بعض الشعراء العرب يدخلون في أشعارهم ألفاظًا فارسية ككقول أحدهم:
وولهني وقع الأسنة والقنا
…
وكافر كوبات لها عجر قفد
بأيدي رجال ما كلامي كلامهم
…
يسومونني مردا وما أنا والمرد
والذي يفسره دكتور "محمد غنيمي هلال" بأن هناك في الغالب تحريف من الناسخ جعله يكتب "يسومونني" بدل من "يسمونني"، ويكون المعنى إذًا هو أنهم حين رأوه قالوا هذا رجل؛ لأن "مرد" معناها عندهم رجل، على حين ظن هو أنهم يظنونه واحدًا من المرد -أي: الغلام الأمرد.
ومن شواهد ذلك أيضًا قول "العماني الشاعر" في مدحه لهارون الرشيد:
لمّا هوى بين غياض الأُسْدِ
…
وصار في كفِّ الهِزَبْر الوَرْدِ
آلى يذوق الدَّهْرَ آبِ سَرْدِ
…
...... ..... ...... .....
أي: حلَفَ ألّا يذوقَ الماءَ البارِدَ أبد الدهر، وهو ما أرجعه الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين) هو أن الأعرابي قد يحب أن يتملح بإيراد شيء من كلام الفارسية في قصائده.
وهناك الموشحات ذلك الجنس الشعري الذي اشتهرت به الأندلس، وكانت تدور في كثير من نماذجها حول الغزل، كما كانت تخرج عن النظام العروضي والقفوي التقليدي الذي يجري على وتيرة واحدة ووزنًا وقافية من أول القصيدة إلى نهايتها حسبما هو معروف، والمعروف أن الموشحات تنتهي بما يسمي "الخرجة"، وكانت الخرجة تستعمل في كثير من الأحيان كلمات من اللغة الأوربية من أهل البلاد، فهذا تأثر من جانب الموشحات باللغة الأعجمية التي كان يتكلمها سكان الأندلس من أصل أوروبي.
ولكن من الناحية الأخرى نجد شعراء " التروبادور " قد تأثروا بالموشحات تأثرًا شديدًا بعيد المدى سواء في مضمون قصائدهم أو في نظامها الموسيقي، وكان شعراء التروبادور يعيشون في بلاط الملوك والأمراء، ويتغنون بالحب على نحو يذل فيه المحب لمحبوبته، ولا يجد في ذلك ما ينال من عزة نفسه.
وقد لوحظ أن شعراء "التروبادور" يبنون قصائدهم في المتوسط من سبع مقطوعات كما يفعل الوشاحون، وهو العدد الغالب على الموشحة، كذلك نجد في قصائد شعراء "التروبادور" ما يقابل المطلع والغصن والقفل في الموشحات، كما أن المصطلح الذي يطلق على مجموع الغصن والقفل معًا هو البيت، بالضبط مثلما هو الحال في هذه الموشحات.
ثم إن نظام القافية في شعر شعراء "التروبادور" يسير على نفس المنوال الذي تسير عليها قافية من ذلك الفن، وبالمثل يقابلنا في غزل شعراء التروبادور شخصية الرقيب، والواشي والعاذل والحاسد، والجار، وكذلك الرسول الذي يستخدم في مهمته خاتمًا، كما في الموشحات فضلًا عن استعمال ضمير المذكر للحبيبة في كثير من الأحيان.
وهناك محاضرة على جانب كبير من الأهمية ألقاها عام1981 م في ندوة بكلية الآداب جامعة الخرطوم، دكتور "عبد الله الطيب" عن "أثر الأدب العربي في شعر تي إس إليوت" وتتلخص فكرتها في أن الشاعر الإنجليزي المعروف قد تأثر في شعره، وبالذات في أشهر قصائده وهي "الأرض خراب" بالشعر الجاهلي في وقوفه على الأطلال الخربة المقفرة، رغم عدم وجود أي ذكر للعرب والمسلمين في التعليقات التي ذيَّل بها "إليوت" قصيدته، في الوقت الذي كان حريصًا على الإشارة إلى كل ما أخذه من هذه الأمة أو تلك، أو من هذا الكتاب المقدس أو
ذاك، وهو ما أثار الدكتور الطيب، ودفعه إلى تقصي البحث في تلك المسألة، إذ عزز عليه -حسبما فهم- أن يتجاهل "إليوت" ثقافة العرب والمسلمين كل هذا التجاهل، وكأنها لم تكن إحدى دعائم النهضة الأوربية.
ورأي الدكتور الطيب أن "إليوت" قد استوحى الروح العامة لقصيدته من معلقة "لبيد بن ربيعة"، ذلك أن الشعر الإنجليزي من "بريمستون"، "بريمستون" دائمة المطر والخضرة فلا شأن له إذًا بالأرض الخراب، اللهم إلا إذا كان قد قرأ مُعَلّقة "لبيد" التي يبدأ صاحبها كلامه بوصف بعض المواقع التي أصبحت خربة مقفرة، بعد أن غادرها أهلوها، بل إنه في الصورة التالية من القصيد المشار إليها " april is the cruelest month breathing relax " إنما يتابع لبيدًا في تصوره للربيع الذي يسقط فيه المطر، ويزدهر النبات مثلما يتابع كذلك وصف فصلي الصيف والشتاء.
وعلى نفس الشاكلة يرى الدكتور الطيب أن الشاعر الإنجليزي يحتذي امرأ القيس أيضًا حتى في الواقعة الماجنة التي ذكر فيها أنه دخل الخضر على عنيزة، فاشتكت جرأته، وتهوره وحذرته أنه إذا لم يكف عن عبثه ذاك، فإنه مرجلها عن بعيرها عما قليل.
ولم يكتف الأستاذ الدكتور برصد هذه التشابهات بين "إليوت" وبعض الشعراء العرب الجاهليين، بل مضى فتحدث عن ترجمة المعلقات قبل "إليوت" إلى الإنجليزية على يدي "السير ويليام جونز" الذي لم يكتفِ بالترجمة بل صدر كل معلقة منها بمقدمة تحليلية، كما كتب دراسة بالفرنسية عن لبيد وامرئ القيس وغيرهما من شعراء العرب والمسلمين، فوق ما وضعه من مؤلفات عن ديانة الهندوس، والمقارنة بينها وبين الإسلام.
ومن شأن هذه الكتابات أن تلفت انتباه "إليوت" الذي كان مهتمًا بـ " sense cretianot" لغة الهندوس، الذي كان يتعلق بها، وأي شيء يتعلق بها أشد مما كتبه "جونز" في المقارنة بين ديانة الهندوس والدين الإسلامي، علاوة على أن "إليوت" كان يتردد على ذات المكتبة التي تضم بحوث جونز في الأدب العربي، وترجمته للمعلقات.
بيد أنه رغم ذلك كله كان حريصًا على إبراز أصالة فكره، ومصدر إلهامه، وأنه لا يدين العرب والمسلمين بشيء، انطلاقًا من التعصب الديني والقومي لديه، حتى لقد تجاهل عن عمد الإشارة إلى اثنين من الشعراء الإنجليز الذين تأثر بهم تأثرًا لا يمكن إغفاله وهما " Walter de la Mare " و " wazwears " وذلك إمعان منه في التنكر لفضل العرب إذ أن كل من هذين الشاعرين قد ذكرهم في الصورة التي أخذها "إليوت" عنه.
بل إنه إمعان منه في التضليل والتجاهل قد أشار إلى أنه إنما أخذ صورته التالية أن " Dry stons gives no Sound Of Water " من سفر حزقيال، رغم أنها لا وجود لها في السفر المذكور بل في القرآن الكريم في قوله تعالى:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 74). وواضح من التشابه بين النصين.
هذا ما جاء في كتاب (فصول في الأدب المقارن) للدكتور "شفيع السيد"، وقد عَلّق الدكتور شفيع بأنه ينبغي أن تكون هذه المحاضرة، وما جاء فيها عن "إليوت" وإمكان تأثره في شعره بمصادر عربية وإسلامية، منطلقًا لمراجعة مسلماتنا عن كثير
من الشعراء الأوربيين، فلعلهم قد تأثروا بتراثنا وآدابنا، على أن يكون الفيصل في هذا كله هو التأكد من وقوع مثل ذلك التأثر فعلًا، لا القفز بمجرد التشابه إلى القول بالتأثير دون برهان.
وهذا كلام متزن تمام الاتزان، إلا أنه لا ينفي عن محاضرة الدكتور الطيب أنها من الأدب المقارن في الصميم، إذ ليس بلازم أن تكون هناك صلة بين الأدبين أو النصين أو المبدعين اللذين نريد أن ندرسهما دراسة مقارنة كما تشترط المدرسة الفرنسية بوجه عام، بل يكفي مثلًا أن نلمح فيهما تشابهًا أو تناقضًا أو ما إلى ذلك، مما من شأنه أن يبعثنا إلى القيام بمثل تلك الدراسة، وهو ما فعله هنا الدكتور الطيب، وسواء بعد ذلك أثبت مثل ذلك التأثير أم لا.
وأخيرًا فلعل من المفيد أن يرجع القارئ إلى ما جاء عن مصادر القصيدة "الإليوتية" في المقال الخاص بها في الموسوع ة المشباكية " wikipedia" وعنوانه " The West Land" ولسوف يرى بنفسه صحة ما نبه إليه الدكتور الطيب من أنه لا توجد أدنى إشارة إلى أي شيء عربي أو إسلامي بين تلك المصادر، بل إن في نهاية الكلام إشارة إلى أن "إليوت" قد استوحى فكرة "الأرض الخراب" من الدراسة التي قامت بها " Jessie Weston " في كتابها " From Ritual to Romance " عن نفس الموضوع في الأساطير الكلتية.
أما بالنسبة لتأثر شعرنا الحديث بالشعر الغربي، فقد لاحظ "جبرا إبراهيم جبرا" مثلًا أن الأساطير والإشارات التي انطوت عليها "الأرض اليباب" مثل فيلبس الفنيقي، وتموز، والملك الصياد) وغيرها من الأساطير وجدت سبيلها إلى أعمال الكتاب العرب؛ لما فيها من أصل محلي كان عاملًا في تقريب أرض "إليوت" من محاولتهم الشعرية والنسج على منوالها.
وإن لم يتجاوز الأمر السطح الخارجي في رأي "عمر أزراج" الذي شرح ذلك في الجزء الأول من مقال له بعنوان "حول تأثير إليوت على الشعر العربي- السياب وصلاح عبد الصبور ومحمود درويش كنماذج"، قائلًا أن عدم تفاعل النقاد والشعراء العرب الحيوي والإبداعي مع شعر "إليوت" يعود إلى عدة أسباب بعضها يتصل بشعر "إليوت" ومرجعياته الفلسفية والرمزية والأسطورية والتاريخية، وبعضها يتصل بالترجمة العربية، وبالنقد العربي في صلتهما بإنتاج "إليوت" الشعري والنقدي والفلسفي، إذ من المعروف أن شعر "إليوت" لم يكن سهلًا للقارئ الأوربي نفسه، ولا للشعراء والنقاد والدارسين الغربيين أنفسهم أيضًا سواء في الماضي أو في الحاضر، وأن صدور شعر "إليوت" عن مرجعيات الفلسفة و"المثيولوجيا" والتاريخ، وعن المصادر الشعرية الغربية القديمة والمختلفة والديانات وغيرها من المرجعيات، هو العائق أمام التفاعل الأفقي المعتاد في الثقافة العربية من أشعار "إليوت".
وإلى جانب ذلك؛ فإن الترجمات المتوفرة منذ عدة عقود إلى الآن عن شعر "إليوت" هي تَرجمات أفراد، وغالبًا ما تكون ناقصة وأحيانًا خاطئة، وأكثر من ذلك فإن الذين ترجموا بعض أعمال "إليوت" لم يعملوا مع هذا الشاعر عن قُرب حينما كان على قيد الحياة على تذليل الصعوبات التي تعترض ترجمة هذا النص أو تلك الكلمة أو تلك الإشارة الرمزية، علمًا أن مثل هذا العمل المشترك والجماعي هو الذي يضمن إنجاز الترجمة الأمينة والمطابقة للأصل كما قال.
ومثالًا على تأثر بعض الشعراء العرب المحدثين بـ"إليوت" نسوق ما ذكره الدكتور "شاهين" في كتابه (تي إس إليوت وأثره في الشعر العربي، السياب، صلاح عبد الصبور ومحمود درويش- دراسة مقارنة) من أن "قصيدة لحن" الموجودة في
ديوان صلاح عبد الصبور "الناس في بلادي "إليوتية" في مظهرها" موضحًا أن قصائد إليوت التي تأثر بها عبد الصبور هي صورة سيدة، وأغنية العاشق ألفريد بروفروك، والرجال الجوف.
ومما ذكر دكتور شاهين أيضًا أن الشاعر العراقي "بدر شاكر السياب" فد أفلت من سطوة هذا التأثير؛ لتشكل أنشودته -يقصد أنشودة المطر- صورة قائمة بذاتها، ومستقلة تمامًا عن المصدر، رغم كل ما في أنشودته من ظلال استشفها من رائعة "إليوت""الأرض اليباب"، وقد قام المؤلف بالمقارنة بين قصيدة أنشودة المطر، وبين الأرض اليباب مركزًا في أثناء هذا على المقاطع التي يلاحظ فيها تأثر السياب بـ"إليوت"، مستنتجًا رغم ذلك أن السياب لم يحاك "إليوت" محاكاة خارجية شكلية، بل كانَ تأثره يتميز بأصالة تغني القارئ عن الرجوع إلى مصدر التأثير من أجل تذوق النص الجديد.
وعن قصيدة " أنشودة المطر" للسياب أيضًا، وتأثرها بشعر "إليوت" روحًا وألفاظًا، يقول "عبد المنعم عبد الله عجب الفيا" في مقال له عنوانه "مأساة تموز -دراسة في تأثير إليوت على شعر السياب": لقد اتخذ السياب في هذه القصيدة من سيمة المطر ناظمًا جماليًّا، أو معادلًا موضوعيًا حسب المفهوم "الإليوتي" للتعبير عن الجفاف المادي والمعنوي، ورغبة منه في إحياء الموات الذي يسود العالم، وذلك مثلما فعل "إليوت" حينما وظف ثيمة الماء للتعبير عن ذات الفكرة في الأرض الخراب، لذلك نجد أن مفردة (مطر) تكررت في قصيدة السياب كثيرًا، وقد وردت أحيانًا في صيغة لازمة موسيقية توالت في إيقاع منتظم "مطر- مطر- مطر" أكثر من مرة.
وبهذه الطريقة التي تكررت به مفردات "ماء" في قصيدة إليوت، فقول السياب:
دغدغ صمت العصافير على الشجر
أنشودة المطر
مطر ....
مطر ....
مطر
…
وفي الواقع محاكاة لقول "إليوت" بالقسم الخامس والأخير من الأرض الخراب المُسَمّى "ماذا يقول الرعد" حيث يصور "إليوت" رحلة البحث الصحراوية عن الماء بمعناه المادي والمعنوي، تصويرًا رائعًا تتقطع له الأنفاس:"لا ماء هنا وإنما صخر" لو كان هنالك فقط صوت الماء، حيث تغرد عصافير السمان على أشجار الصنوبر طك- طك- طك، "قطرة .. قطرة .. قطرة"، لكن لا ماء.
حتى الخليج الذي يتكرر ذكره في قصيدة السياب أكثر من مرة، والذي صار لا يهب سوى الموت وعظام الغرقى، فيه إشارة إلى خليج الدردنيل الذي غرق فيه "جان فيردنان" صديق "إليوت" في الحرب العالمية الأولى، وقد وردت إليه الإشارة في قول إليوت في الأرض الخراب:
I think we are in rats' alley
Where the dead men lost their bones
" أفكر أنا في ممر الجرذان حيث فقد الموتى عظامهم"
ويأتي ذكر الخليج في أنشودة المطر في مقطع شعري يتكرر من نحو ثلاث مرات في صورة لازمة موسيقية، حيث ينادي الشاعر الخليج بقوله:
يا خليج يا واهب اللؤلؤ والمحار
فيرتد إليه صدى النداء خاسئًا حسيرًا:
يا خليج يا واهب المحار والردى
مستبدلًا كلمة لؤلؤ بالردى، إن الموت بالماء أو الموت غرقًا هو عنوان الجزء الرابع من "الأرض الخراب"، ويمثل هذا العنوان خاصية من خصائص "إليوت" الأسلوبية الساخرة، وهي توظيف المفارقة كقيمة جمالية للتعبير عن رؤاه الشعرية، فالماء العنصر الأساسي والوحيد في انبعاث الموات، وإعادة الحياة إلى الأرض الخراب، يتحول إلى عامل من عوامل هذا الموات نفسه، ويعبر الجزء الرابع الموت بالماء أقصر أجزاء قصيدة "إليوت"، وقد خَصّصَه "إليوت" للحديث رمزًا عن صديقه "جان فردينال" الذي مات غرقًا في خليج الدردنيل، وذلك من خلال توظيف أسطورة الإله الفنيقي "فيلباس" حيث يقول:"فيلباس الفنيقي ميت منذ أسبوعين، نسي صوت النوارس، ولجة البحر العميق والربح والخسارة، تيار بعمق البحر فت عظامه في رفق، وإذ صار يعلو ويهبط، وهو يلج الدوامة مر بمراحل طفولته والشباب".
استلهم السياب في "أنشودة المطر" صورة هذا الملاح الغريق الذي تناثرت عظامه في قاع البحر، بعد أن ظلت طافيًا بفعل الموج لبعض الوقت؛ ليُعيد صياغتها لوصف الخليج العربي الذي صار لا يلقي باللؤلؤ كما كان يفعل من قبل، وإنما يلقي بالزبد، وجثث الغرقى من البحارة والمهاجرين البائسين الفقراء حيث يقول:
وينشر الخليج من هباته الكثار
على الرّمال رغوة الأجاج، والمحّار
وما تبقّى من عظام بائس غريق
من المهاجرين ظل يشرب الردى
.. من لجة الخليج والقرار
لاحظ التناص في قوله: "من المهاجرين ظل يشرب الردى، من لجة الخليج والقرار" وقول "إليوت": "تيار بعمق البحر فت عظامه في رفق وإذ راح يعلو ويهبط ويلج الدوامة".
كذلك استعار السياب في "أنشودة المطر" صور شعرية أخرى لـ"إليوت" من غير الأرض الخراب، ومن ذلك تشبيه المساء بإنسان، وهو من التشبيهات المستحدثة، التي أدخلها "إليوت" ووقف عندها النقاد، وقلده فيها الشعراء، وقد ورد هذا التشبيه في أول قصيدة أغنية حب "ألفريد جي بروفروك"، ومن ذلك أيضًا تشبيه "إليوت" الشهير للمساء المتردد على الكون كتمدد مريض مخدر على منصة طبيب جراح، والوارد في مطلع القصيدة المذكورة، وقد استعار السياب هذه التشبيهات في أنشودة مطر في قوله:"كالبحرِ سرَّحَ اليدينِ فوقَهُ المساء" وقوله "تثاءب المساء".
والسلام عليكم ورحمة الله.