الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناداة بما يسمى بالوحدة العضوية داخل القصيدة
ثُم جد في الشعر العربي الحديث المناداة الملحة بالوحدة العضوية؛ وهي تقوم على تشبيه القصيدة بالجسم الحي، من حيث إن له أعضاء متصلة، ولكل عضو من أعضائه الموضع الذي لا يعدوه من الجسم؛ فلا يمكن من ثم نقله إلى موضع آخر؛ كما لا يمكن الاستغناء عنه، وهو ما لا بد أن يتحقق نظيره في القصيدة، فلا يتقدم بيت عن موضعه أو يتأخر، مثلما لا يمكن حذف شيء منها، وإلا فسد أمرها كما يفسد أمر الجسم إذا خلع منه عضو، ونقل إلى غيره مكانه الذي كان فيه لو بتر منه أصلًا.
وممن نادى بهذه الوحدة في العصر الحديث: المرحوم "عباس محمود العقاد" الذي أخذ على شوقي فيما أخذه عليه في كتاب (الديوان في الأدب والنقد) أن قصائده تعاني من التفكك أيما معاناة.
إلا أن "الحاتمي" في القرن الرابع الهجري قد قال شيئًا شبيهًا بهذا وهذا نص كلامه حسبما أورده كل من "ابن رشيق" في كتابه (العمدة في صناعة الشعر) والحصري القيرواني في (زهر الآداب وثمر الألباب) قال الحاتمي: "من حكم النسيب الذي يفتتح به الشاعر كلامه أن يكون ممزوجًا بما بعده من مدح أو ذم، متصلًا به غير منفصل عنه؛ فإن القصيدة مَثَلها مثل خلق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض؛ فمتى انفصل واحد عن الآخر وبينه في صحة التركيب؛ غادر بالجسم عاهة تتخول محاسنه، وتعفي محاسن جماله، ووجدت حذاق الشعراء وأرباب الصناعة من المحدثين، يحترسون من مثل هذه الحال احتراسًا يحميهم من شوائب النقصان، ويقف بهم على محجة الإحسان".
لكن من الواضح أنّ الحاتمي لم يكن يقصد أن يكون موضوع القصيدة شيئًا واحدًا، إذ طالبَ الشاعرَ بأن يكون نسيبه في أول القصيدة متصلًا اتصالًا وثيقًا بمديحه أو هجائه في آخرها، بما يعني انه لا يجد شيئًا في تعدد أغراضها، وعلى هذا فكل ما كان في ذهنه ألا أن تتنافر تلك الأغراض فيما بينها، بل تكون متلاحمة متسقة، وهذا مطلب نادى به النقاد العرب القدماء كلهم تقريبًا إلا أن "الحاتمي" هو الوحيد -فيما نعلم- الذي شبه القصيدة بالجسم الحي.
أما "العقاد" فكان يرفض تعدد الأغراض في القصيدة الواحدة، وأخذ على شوقي ابتداءه بعض أشعاره السياسية بالغزل على الطريقة القديمة.
ويرى "محمد مندور" في الفصل الذي خصصه للعقاد في كتابه (النقد والنقاد المعاصرون) أنّ هذه الوحدة العضوية التي نادى بها العقاد، لا تكادُ تُتَصَوّر إلا في القصائد القصصية أو الدرامية، أمّا في ما عدا هذا من شعر غنائي يقوم على تداعي المشاعر والخواطر، في غير نسق محدد فلا؛ وأن في دعوة الأستاذ "العقاد" تعسفًا غير مقبول.
ثُم مضى فذكر أنه طبق ذلك المعيار على قصيدة "البشير" لـ"العقاد" هي هدية الكروان؛ فكانت النتيجة إن أمكن تقديم بعض الأبيات وتأخير بعضها الآخر، دون أن يلحق بالقصيدة أي أذى، وكلام الدكتور "مندور" بوجه عام صحيح إلى حد كبير، ولكنّ هذا لا يمنع من وجود قصائد غير قصصية ولا درامية، تتحققُ فيها الوحدة العضوية، كقصيدة "سلع الدكاكين في يوم البطالة" و"رثاء طفلة" لـ"العقاد" وقصيدة "العودة" لـ"إبراهيم ناجي" وقصيدة "لست قلبي" و"لا تكذبي" لـ"كامل الشناوي" وقصيدة "أيظن" لـ"نزار قباني" مثلًا.