الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فكرة أصالة الإنتاج الفني والأدبي الراهن في بلدان العالم القديم أو بلدان الجنوب، وضرورة وضعه في واجهة لائحة التثقيف اليومي للأجيال من جهة، والاستعانة به في جهة أخرى؛ لترسيخ النزعة الإنسانية والفطرية لدى جمهرة المتنقلة في العالم.
ومثال ذلك رسالة منظمة اليونسكو، ولا سيما في مجال إحياء الثقافات المستضعفة، وإعادة بناء قائمة الروائع الأدبية العالمية، بحيث تشمل منجزات العالم القديم الثالث، وكل هذه التغيرات تصب في صالح المقارنة؛ لتجعل منها رافدًا فعالًا من روافد الصبوة العريقة للاتجاه نحو بناء حضارة إنسانية منسجمة مع ذاتها أو مثلها، وغير قائمة على التناقضات والتمييز بين الأنا والآخر.
خصوصية الأدب العربي وسماته، وعَلاقة ذلك بالأدب المقارن
وبالنسبة إلى خصوصية الأدب القومي، وعلاقة ذلك بالأدب المقارن، نقول: إنه لمن الواجب على المقارن العربي المسلم أن ينتبه أن هناك فروقًا بين عاداتنا وتقاليدنا وعقيدتنا وأخلاقنا وأذواقنا، وبين نظيراتها عند الأمم الأخرى، وأن كل ذلك من شأنه على نحو أو على آخر، أن يطبع كل أدب بطابعه. وعلى هذا فلا بد عند الأخذ من الآداب الأخرى أو دراسة هذا الأخذ، أن نكون على بصيرة ووعي كاملين بها، فلا نترامَى على آداب الآخرين فرحين بتقليدها، أو النقل عنها باعتبار ما ننقله شيئًا جديدًا، وبالذات إذا كان خاصًّا بأمة من أمم الغرب القوية المتقدمة في عصرنا؛ ظنًّا منا أننا حين ننقل عن أي من تلك الأمم فإننا بهذه الطريقة نلحقها ونستعيرها في تقدمها وقوتها، إذ ليس كل ما يقدمه الغرب سليمًا دائمًا، فضلًا عن أن يكون نافعًا، وبالذات لنا نحن الذين نختلف
عنهم في أشياء غير قليلة، رغم ما يوحدنا معه ومع كل البشر من الملامح الإنسانية المشتركة بين الشعوب والأمم المختلفة.
ذلك أن هذه الاختلافات هي التي تشكل هُويتنا وذاتيتنا، ونحن حين نقول هذا لا نقوله على سبيل الشغب والمكابرة والرغبة في المخالفة، بل نقول ما يعرف الغرب ذاته، ويحرص عليه أشد الحرص حين يكون الأمر متعلقًا به وبهويته الحضارية والثقافية، لكنه بالنسبة لنا لا يريد أن نتذكره فضلًا عن أن نتمسك به، ونناضل من دونه.
وقد تحدثنا من قبل عن كتاب أنور الجندي (خصائص الأدب العربي في مواجهة نظريات النقل الأدبي الحديث) الذي عمِل كل ما في وسعه على أن يستفزنا إلى البحث عما يغني أدبنا، ويحافظ على أصالته وقيمه الخيرة، وينفي عنه أضرار التقليد الضار الذي يضيع معالمه ويفسده، ويحمله ما لا نرضاه له من مضامين مؤذية تتنافى وقيمنا الإسلامية الكريمة.
وموقفنا من الأدب العربي هو وجوب وَضْع هذا الأدب في كل عصور تحت المِجهر، فما كان في مضامينه متفقًا مع قيم الخير والجمال والحقيقة بالله، وما لم يكن قلنا فيه رأينا بمنتهى الصراحة، واستنكرنا ما يتضمنه من قيم الزيف والتشويه والأذى، على أن يكون مرجعنا في هذا هو الإسلام، وقيمه، ومبادئه، وليس معنى ذلك أننا ننادي بتحويل الأدب العربي إلى موعظة ونشرات دينية، بل معناه أن نترك للأديب الحريةَ كاملةً داخل ذلك النظام القيمي الإسلامي فلا يناقضه ولا ينقضه، وهو حر بعد هذا في أن يتناول من الموضوعات ما يشاء على النحو الفني الذي يشاء، أي: أننا في الوقت الذي لا نوجب على الأديب -مثلًا- أن يأمر
الناس بالصلاة، لا نقبل منه أن يكتب قصيدةً أو قصةً أو غيرَ ذلك من الإبداعات الأدبية يحرِّض الناس فيها على ترك الصلاة، أو يسخر من المصلين، وهكذا.
قد يقال: إن الأدب والفن لا يزدهران إلا في جو الحرية!! فنجيب: بأن الحرية المطلقة لا وجود لها في أي مكان من العالم، والذين ينادون بهذا إنما يريدون التفلت من قيم الإسلام إلى قيم أخرى يريدون نشرها تحت ستار حرية التعبير، وهذا واضح مفهوم، رغم كل الغبار الذي يثيره هؤلاء في أعيننا كي لا نطلع على ما يخططون له.
ومن الناحية اللغوية: فالمعروف أن العربية الفصحى كانت هي أداة الإبداع العربي على مر العصور، لا يعرف أداة غيرها، اللهم إلا في الزجل الأندلسي تقريبًا، وفي بعض خَرْجات الموشحات الأندلسية التي تختلط فيها بعض الكلمات الأجنبية بالكلمات العامية. ثم جاء العصر الحديث فأُثيرت مسألة الكتابة بالعامية، وتولى كِبر الدعوى إليها على حساب الفصحى طائفة من عُتاة المستشرقين، الذين لا تهمهم المسألة بذاتها قليلًا أو كثيرًا، لكنهم إنما يرمون من وراء ذلك إلى القضاء على لغة القرآن؛ لتمزيق الروابط التي تصلنا بالتراث وبكتاب الله وأحاديث رسول الله، ومن ثم ننسلخ عن ماضينا وهويتنا، ونضحي أمساخًا مشوهةً لا هم لها إلا تقليد الغرب في كل شيء.
ثم سَرعان ما رأينا بعضَ الكتاب من الأدباء والنقاد يزينون لكتاب القصص والمسرحيات الصناعة العامية في الحوار، بحجة الحفاظ على الواقعية وصدق التصوير، ثم تتابعت الكتابات التي تفعل ذلك وكثرت نسبيًّا، وإن كان هناك في ذلك الوقت أدباء كثيرون وبخاصةٍ من ذوي القامات والمواهب العالية، لا يزالون يلتزمون الفصحى في كل شيء: سردًا، وحوارًا، ووصفًا.
فهذه سمة أخرى من سمات الأدب العربي التي ينبغي الحفاظ عليها وعدم التهاون فيها.
وسمة أخرى لذلك الأدب ينبغي الحفاظ عليها، ألا وهي ألا تقوم بين المبدع والقارئ تلك الأسوار العالية الصلبة التي لا يمكن اختراقها، وبالتالي لا يمكن أن يفهم القارئ إبداع المبدعين، لقد كان الشاعر العربي على مر العصور حريصًا على أن يكون واضحًا مفهومًا، فلا استغلاقَ في شعره ولا ألغازَ، اللهم إلا في بعض العصور المتأخرة حين يتعمد بعضهم النظم في لغز تعمدًا؛ تسليةً للقارئ ليس إلا.
أما في العصر الحديث -فكما سبق القول- أصبح الغموض عند فريق من الأدباء غرضًا يقصد قصدًا كأنه قيمة في ذاته، وذلك بتأثير بعض المذاهب الأدبية التي أفرزها تاريخ الآداب الغربية وتأثرنا نحن بها، تلك المذاهب التي يُرجِعها المرحوم أنور الجندي إلى طبيعة البلاد الغربية ذات الجبال والغيوم والعواصف والليل البهيم المرتبط بالأساطير والرمزية، على عكس طبيعة بلاد العرب التي ينتشر فيها النور والشمس والضوء، وينكشف فيها الأفق تمامًا، ومن ثَم عجزت الأساطير والرمزيات وأدب الظلال أن تجد لها مكانًا عندنا.
ومن المضحك أن بعض الشعراء والأدباء العرب يزعمون تقليدًا منهم لما يقرءونه في النقد الغربي، أن الشعر الواضح لا يمكن أن يكون شعرًا حقيقيًّا، إذ لا بد من المعاناة في قراءة الشعر وفهمه، بل لقد يقولون: إن الشعر لا يُكتب ليُفهمَ بل ليشعَر به ليس إلا!! وليت شعري!! كيف يستطيع الإنسان أن يتمتع بشعر لا يمكن فهمه؟!
إن مثل تلك المزاعم العجيبة تناقض طبيعةَ العقل البشري الذي يقول: إنه في مجال الأدب لا يمكن أن يتذوق القارئ أو السامعُ أيَّ إبداعٍ ما لم يفهمه أولًا، ولو على نحو مقارب. أما مع غموضه واستغلاقه فهذا ما لا يمكن أن يكون.
وهكذا، ينبغي أن يكون كل مِن الأديب الذي يأخذ عن الآداب الأخرى، والدارس المقارن الذي يتناول البحث في هذا الأخذ عن الآداب الأخرى على ذكر من هذا كله؛ حتى لا تنجر قدماه إلى الرمال المتحركة المهلكة، وهو يظن أنه سائر في الطريق والاتجاه الصحيحين دون أن يعرف أنه إنما يسيء صنعًا.
والسلام عليكم ورحمة الله.