الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن قلت: كيف منعتم تكليف الغافل الداخل في قالب الموجودات، وجوزتم تكليف المعدوم؟
قلت: تكليف المعدوم بمعنى: تعلق الخطاب به في الأزل على تقدير وجوده. والمنع من تكليف الغافل إنما هو في زمن غفلته.
فإن قلت: الدهري مكلَّف بالإيمان وهو لا يعرف المكلِّف، فكيف يفهم التكليف؟
قلت: المعتبر التمكن من الفهم، وهو متمكن بواسطة النظر.
قال:
(الثالثة: الإكراه الملجئ يمنع التكليف؛ لزوال القدرة)
.
الإكراه إنِ انتهى إلى حد الإلجاء، بحيث صارت نسبة فاعله إلى الفعل المكرَه عليه كنسبة المُرْتعِش إلى حركته - مَنَع
(1)
التكليفَ في
(2)
المكْرَه عليه أو ضده
(3)
. والقول في جوازه مبني على التكليف بما لا يطاق.
واستدل المصنف على امتناعه بزوال القدرة، فإنَّ الفعل يصير واجبَ الوقوع، ويصير عدمه ممتنعًا، والتكليف بالواجب والمتنع تكليف بما لا يطاق.
(1)
قوله: "منع" جواب الشرط: "إن انتهى".
(2)
في (غ): "من".
(3)
كمن أُكْره على الفطر ووصل إلى حدِّ الإلجاء فهو غير مكلَّف بالفطر ولا بالصيام.
وقال القاضي في "مختصر التقريب": "إن هذا القسم لا يُسَمَّى عند المحققين إكراهًا؛ لأن الإكراه لا يتحقق إلا مع (تصور اقتدارٍ)
(1)
، فلا يوسف ذو الرعشة الضرورية بالإكراه، وإنما المُكْره من يُخَوَّف ويُضْطر إلى أن يُحَرِّك يده على اقتدار واختيار"
(2)
. وقد ذهب أصحابنا إلى أن ذلك لا يمنع التكليف، صَرَّح به طوائفهم القاضي
(3)
، وإمام الحرمين
(4)
. وأبو إسحاق الشيرازي
(5)
، والغزالي
(6)
وجماعة، ومال إليه الإمام
(7)
.
وذهبت
(8)
المعتزلة إلى أنه يمنع التكليف، وهذا ما أفهمه كلامُ المصنف، كذا نقله جماعة، وحكاية
(9)
إمام الحرمين عنهم: "أن المكره على العبادة لا يجوز أن يكون مكلفًا بها. قال: وبنوا ذلك على أصولهم في وجوب إثابة المكلَّف، والمحمولُ على الشيء لا يُثاب عليه"، قال: "وقد ألزمهم القاضي المُكْرَه على القتل فإنه مَنْهِيٌ عنه وآثم به لو أقدم عليه. وهذه
(1)
في (ك): "الاقتدار".
(2)
انظر: التلخيص 1/ 140، مع تصرف من الشارح.
(3)
انظر: المرجع السابق.
(4)
البرهان 1/ 106.
(5)
اللمع ص 20، وشرح اللمع 1/ 271.
(6)
المستصفى 1/ 302.
(7)
المحصول 1/ ق 2/ 449.
(8)
في (ت): "وذهب".
(9)
في (ت): "وحكاه".
هفوة عظيمة فإنهم لا يمنعون النهي عن الشيء مع الحمل عليه، فإن ذلك أشدُّ في المحنة واقتضاء الثواب، وإنما الذي منعوه الاضطرار إلى فعلٍ مع الأمر به"
(1)
. انتهى.
وقد تابع القاضيَ جماعةٌ من الأصحاب على إلزام المعتزلة بذلك وهو صحيح، وما ذكره إمام الحرمين حقٌّ من هذا الوجه، ولكنِ المُلْزِمون لم يوردوه على هذا المأخذ، بل هو من جهة أنهم منعوا أن المكره قادرٌ على عين الفعل المكرَه عليه، فبَيَّن الملزمون أنه قادر؛ لأن المعتزلة كلفوه بالضد، وعندهم أن الله تعالى لا يكلِّف العبد إلا بعد خلق القدرة على الفعل، والقدرة عندهم على الشيء قدرة على ضده، فإذا قَدَر على ترك القتل قَدَر على القتل.
قال الغزالي: "وهذا ظاهر، ولكن فيه غَوْر: وهو أن الامتثال إنما يكون طاعةً إذا كان الانبعاث له بباعث الأمر والتكليف دون باعث الإكراه، فالآتي بالفعل مع الإكراه إن أتى به لداعي الإكراه فلا يكون مجيبًا داعي الشرع، وإنْ أتى به لداعي
(2)
الشرع فصحيح
(3)
".
قال بعض المتأخرين: وهذا الذي ذكره إنما هو في
(4)
العبادات المشروط فيها النية، أما ما لا يشترط فيه النية: كرد الغصوب، والودائع، وتسليم
(1)
البرهان 1/ 106 - 107.
(2)
سقطت من (ت).
(3)
انظر: المستصفى 1/ 303، مع تصرف من الشارح.
(4)
سقطت من (ص)، و (ت).
المبيع، وحبس المعتدة - فالمقصود منه واقعٌ قُصِد أو لم يُقْصد، فيخرج عن عُهدة التكليف به
(1)
مع الإكراه. هذا كلام الأصوليين.
وأما الفقهاء فقالوا: لا يباح بالإكراه الزنا
(2)
، والقتل
(3)
. ويباح شربُ الخمر
(4)
، والإفطار
(5)
، وإتلافُ مال الغير
(6)
، والخروج من الصلاة
(7)
، والتلفظ بكلمة الردة
(8)
. وقد يجب بعض ذلك. فإنْ قلت: قد قال الفقهاء: إنَّ الإكراه يُسقط أَثَر التصرف.
(1)
سقطت من (ت).
(2)
قال السيوطي: "ولا يباح به بالاتفاق أيضًا؛ لأن مفسدته أفحش من الصبر على القتل، وسواءٌ كان المُكْرَه رجلًا أو امرأة". الأشباه والنظائر ص 207.
(3)
قال التاج السبكي: "ويأثم المُكْرَه على القتل بالإجماع، ويجب عليه القصاص على الأصح". الأشباه والنظائر 2/ 9.
(4)
قال السيوطي: "ويباح به قطعًا، استبقاءً للمهجة، كما يباح لمن غُصَّ بلقمةٍ أن يُسيغها به، ولكن لا يجب على الصحيح، كما في أصل الروضة". الأشباه والنظائر ص 207.
(5)
قال السيوطي: "الفطر في رمضان، ويباح به، بل يجب قطعًا، كما يجب على الصحيح". الأشباه والنظائر ص 207.
(6)
قال السيوطي: "ويباح به، بل يجب قطعًا كما يجب على المضطر أكل طعام غيره". الأشباه والنظائر ص 207.
(7)
قال السيوطي: "وهو كالفطر". الأشباه والنظائر ص 207. أي: يباح ويجب.
(8)
قال السيوطي: "التلفظ بكلمة الكفر، فيباح به للآية، ولا يجب، بل الأفضل الامتناع مصابرةً على الدين، واقتداء بالسلف. وقيل: الأفضل التلفظ صيانة لنفسه. وقيل: إن كان ممن يُتوقع منه النكاية في العدو، والقيام بأحكام الشرع - فالأفضل التلفظ؛ لمصلحة بقائه، وإلا فالأفضل الامتناع". الأشباه والنظائر ص 206 - 207.
قلت: لا يلزم من كونه مُسْقِطًا أثرَ التصرف أن لا يُجامع التكليف، والضابط في خطاب المكره وتصرفاته، والجمع بين كلام الأصوليين والفقهاء فيه يستدعي مزيد بسط، ولعلنا نستقصي القول فيه في كتابنا "الأشباه والنظائر"
(1)
. على أن الفقهاء قد استثنوا مسائل من هذه القاعدة:
منها: الإكراه على القتل على أصح القولين
(2)
.
ومنها: الإكراه على الكلام في الصلاة على الأصح
(3)
.
ومنها: الرضاع
(4)
.
ومنها: في الحدث
(5)
وقد حكى الرافعي عن الحناطي وجهين في انتقاض الوضوء بمس الذكر ناسيًا
(6)
، فلا يبعد أن يقال بجريانهما في حالة الإكراه.
ومنها: الإكراه على الزنا إن قلنا: يُتصور الإكراه عليه
(7)
.
(1)
انظر: الأشباه والنظائر للشارح 2/ 8.
(2)
فيلزمه القصاص بالقتل إكراهًا. انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص 203، 205.
(3)
أي: يلزمه قضاء الصلاة. انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص 203.
(4)
أي: تثبت المَحْرَمِيَّة بالرضاع مع الإكراه. انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 205.
(5)
أي: الإكراه على الحدث. وانظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص 203.
(6)
قال السيوطي في الأشباه والنظائر ص 203: "وفي مس الفرج وجه ضعيف: أنه لا ينقض ناسيًا".
(7)
فعلى هذا القول يجب عليه الحدُّ ولا يسقط بالإكراه. انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص 203، 205. وفيه في ص 208: "قال العلماء: لا يتصور الإكراه على شيءٍ =
ومنها: قال في "الاستقصاء" نقلًا عن "الإيضاح" إذا تبايعا في عَقْد الصَّرْف
(1)
وتفارقا قبل القبض - يبطل، سواء كان في حالة الاختيار أم الإكراه.
وقد يُعترض على هذا بأن الإكراه لا يُبْطل خيار المجلس في البيع على الصحيح. ويُجاب بضيق باب الربا
(2)
. والمسألة في شرح المنهاج لوالدي مبسوطة.
ومنها: إذا أُكره فَفَعَل أفعالًا كثيرة في الصلاة - بطلت بلا خلاف
(3)
.
ومنها: لو أكره على التحول عن القبلة، أو على ترك القيام في الفريضة مع القدرة فصلى قاعدًا - لزمه الإعادة؛ لأنه عذر
(4)
، وهذه كالتي قبلها.
= من أفعال القلوب. وفي الزنا وجهان: أصحهما: أنه يُتصور؛ لأنه منوط بالإيلاج. والثاني: لا؛ لأن الإيلاج إنما يكون مع الانتشار، وذلك راجع إلى الاختيار والشهوة".
(1)
الصرف في اللغة: الدفع والرد. وفي الاصطلاح: بيع الذهب والفضة بذهب، أو فضةٍ، سواء كانا مضروبَيْن، أو كان أحدهما مضروبًا، أو لم يكونا كذلك. وهناك من يعرفه في الاصطلاح بأنه: بيع النقد بالنقد. انظر: القاموس الفقهى لسعدي أبو جيب ص 210، التعريفات للجرجاني ص 116، شرح منتهى الإرادات 2/ 201.
(2)
أي: لو أكره أحد المتبايعين على مفارقة مجلس البيع - فلا يبطل خيار المجلس بعد الإكراه. أما لو أكره أحد المتعاقدين في بيع الصرف على عدم تسليم العِوَض في المجلس - فإن العقد يفسد، ولا يُنظر إلى الإكراه؛ لضيق باب الربا. وانظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص 204.
(3)
انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص 204.
(4)
هكذا في النُّسَخ، ولعل الصواب: لأنه نَدَر. أي: ندر الإكراه في هذه الصورة، =