الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اختلف القائلون بجواز التكليف بالمحال في وقوعه:
فذهب الجمهور إلى عدم وقوعه، والمختار عند المصنف التفصيل الذي ذكره: وهو عدم الوقوع بالممتنع لذاته، كقلب الحقائق مع بقاء الحقيقة الأولى
(1)
، وإعدام القديم. هذا ما ذكره وهو يُفهِم وقوعَ الممتنع لغيره
(2)
. والحق فيه التفصيل أيضًا: فإنْ كان مما قضت العادة بامتناعه كحمل الصخرة العظيمة للرجل النحيف - فحُكْمه حكم المتنع لذاته في الجواز وعدم الوقوع، وأما ما امتنع لتعلق العلم به
(3)
فذاك ليس محل النزاع، بل هو واقع بالإجماع، كما سلف.
فائدة:
قد عرفت ما عليه جمهور الأصحاب من تجويز التكليف بالمحال، واختلافهم في الوقوع على الوجه الذي رأيت. فأما التجويز فهو المنقول عن أبي الحسن وهو لازمٌ على قضايا مذهبه، وأما الوقوع فقد نقدوا اختلافًا عنه فيه، قال إمام الحرمين: "وهذا لِسوء
(4)
معرفةٍ بمذهب الرجل
(5)
، فإنَّ
(1)
كقلب حقيقة الإنسان طيرًا، مع بقاء الحقيقة الأولى وهي الإنسانية.
(2)
أي: لغير ذاته، وهو الممتنع عادة.
(3)
وهو الممتنع عقلًا، الممكن عادة.
(4)
في (غ)، و (ك):"سوء".
(5)
يعني: هذا الاختلاف في النقل عنه إنما حصل لسوء معرفةٍ بمذهبه، وإلا فلو عُرف مذهبه لما حصل هذا الاختلاف.
مقتضى
(1)
مذهبه أن التكاليف (كلها واقعة)
(2)
عنده على خلاف الاستطاعة". قال: "ويتقرر هذا من وجهين:
أحدهما: أن الاستطاعة عنده لا تتقدم على الفعل، والأمر بالفعل يتوجه على المكلَّف قبل وقوعه، وهو إذ ذاك غير مستطيع". قال:"ولا يدفع ذلك قولُ القائل: إن الأمر بالفعل نهي عن أضداده، والمأمور بالفعل قبل الفعل إن لم يكن قادرًا على الفعل فهو قادر على ضدٍّ من أضداده ملابسٌ له، فإنا سنوضح أن الأمر بالشيء لا يكون نهيًا عن أضداده". قال: "وأيضًا فإن القدرة إذا قارنت الضد لم تقارن الأمر بالفعل، والفعل مقصود مأمور به، وقد تحقق طلبه قبل القدرة عليه.
والثاني: أن القدرة الحادثة غيرُ مؤثِّرة في مقدورها
(3)
، بل مقدورها مخلوق لله تعالى، والعبد مطالب بما هو من فعل ربه". قال: "ولا معنى للتمويه بالكسب
(4)
فإنا سنوضح سر ما نعتقده
(5)
في خلق الأفعال"
(6)
انتهى، ولقائل أن يقول على الأول: قولكم ليس الأمر بالشيء نهيًا عن ضده.
(1)
سقطت من (ت).
(2)
في (ت): "واقعة كلها".
(3)
المراد بمقدورها هو الفعل الذي تعلَّق بالقدرة.
(4)
أي: كسب العبد للفعل؛ فإنه غير مؤثر في وجود الفعل.
(5)
في (غ): "نعتقد".
(6)
انظر: البرهان 1/ 103، مع بعض التصرف من السبكي.
قلنا: الكلام على رأي الشيخ وهو يرى ذلك لا على رأيكم، قال صفي الدين الهندي: "بل الجواب عنه أن ما هو مُتَلَبِّس به عند ورود الخطاب ليس ضدًا له
(1)
، (وهذا لأن)
(2)
ضدَّه الوجودي المنهي عنه: هو الذي يستلزم التلبسُ به تَرْكَه في الزمان الذي أُمر بإيقاع الفعل فيه. وهو في زمان ورود الخطاب لم يتلبس به؛ لأن زمان الفعل هو الزمان الثاني إنْ كان الأمر للفور. سلمنا أن ذلك ضده المنهي عنه، لكنه حاصلٌ عند ورود الخطاب، والأمر بترك الحاصل محال
(3)
، اللهم إلا أن يقال إنه مأمور بترك ما هو متلَبِّس به في المستقبل، وذلك
(4)
إنما يكون بإقدامه على المأمور به، وحينئذ يعود المحذور المذكور"
(5)
(6)
.
واعلم أن الوجه الأول لا يلزم على الشيخ إلا إذا قال يتوجه الأمر قبل الفعل، وفيه (من النزاع ما تقدم)
(7)
(8)
في المسألة المتقدمة. وأما الوجه
(1)
أي: ليس ضدًا للمأمور به. ويقصد بالتلبس: هو أنه متلبس بالترك للمأمور به.
(2)
في (ص): "وهو الآن". وهو خطأ.
(3)
لأن الحاصل هو الذي وقع وحصل، فالأمر بتركه بعد حصوله محال، لأن رفع ذلك الحصول الذي تَمَّ محال.
(4)
أي: ترك التلبس بالضد في الزمان المستقبل.
(5)
وهو الأمر بالشيء قبل القدرة على فعله، لأن القدرة مقارنة للفعل عند الأشعري، فإذا كان الإقدام على المأمور به في المستقبل - حصل المحذور المذكور.
(6)
انظر: نهاية الوصول 3/ 1031.
(7)
في (ص): "ما تقدم من النزاع".
(8)
المعنى - والله أعلم - أن الوجه الأول الذي ذكره إمام الحرمين لا يصح الاستدلال به على إثبات أن الشيخ قائل بأن التكاليف كلها واقعة على خلاف الاستطاعة، إلا =
الثاني فلا يلزم منه
(1)
تجويز التكليف بالممتنع لذاته أو الممتنع عادة.
قال: (للاستقراء، ولقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
(2)
).
استدل على أنه غير واقعٍ بالممتنع لذاته بوجهين:
أحدهما: الاستقراء، فإنا استقرينا فلم نجد في التكاليف الشرعية (ما هو متعلِّق)
(3)
بالممتنع لذاته.
والثاني: قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} والممتنع لذاته غير وُسْع المكلف، أي: غير مقدور له؛ فلا يكلَّف به.
ولك أن تقول: هذه الآية تدل على عدم التكليف بالممتنع لذاته، (والمتنع لغيره، لا المتنع لِذاته)
(4)
فقط؛ فيلزم من استدل بها منعُ الوقوع فيهما، ما لم يأت بدليل يُخْرِج الممتنع لغيره.
قال: (قيل: أَمَر أبا لهبٍ بالإيمان بما أَنزل، ومِنْه: أنه لا يؤمن. فهو جمع بين النقيضين. قلنا: لا نسلم أنه أَمَر به بعد ما أَنزل: أنه لا يؤمن).
= إذا قال الشيخ بتوجه الأمر قبل الفعل، فهنا يصح إلزامه بهذا القول الذي نسبه إليه الجويني، ولكن في نسبة هذا القول إلى الأشعري ما تقدم من النزاع في المسألة السابقة، وقد قال الشارح هناك:"ليس للشيخ في المسألة صريح كلام".
(1)
سقطت من (ص).
(2)
سورة البقرة: الآية 286.
(3)
في (ت): "ما يتعلَّق".
(4)
سقطت من (ت).
هذا دليل القائلين بوقوع التكليف بالمحال لذاته، ويصلح أن يكون اعتراضًا على الدليل الأول وهو الاستقراء. وتقريره: أن أبا لهب مأمور بالجمع بين النقيضين؛ لأنه مأمور بالإيمان، والإيمان عبارة عن: تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع ما جاء به، ومما جاء به: أنه لا يؤمن؛ فوجب عليه تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولا يتم تصديقه في ذلك إلا بعدم الإيمان؛ فوجب أن يؤمن وأن لا يؤمن، وهو جمع بين نقيضين.
وأجاب: بأن أَمْر أبي لهب بالإيمان لم يكن في حال الإخبار بعدم الإيمان بحسب الزمان؛ فلم يقع التكليف بالجمع بين النقيضين
(1)
.
وهو
(2)
جواب باطل؛ فإن أبا لهبٍ مأمور بالإيمان قبل الإخبار وبعده بالإجماع
(3)
. وإنما الجواب أن هذا ليسَ من باب الممتنع لذاته
(4)
، بل من الممتنع لغيره
(5)
، وذلك أنه تعالى أخبرَ بأنه
(6)
لا يؤمن فاستحال إيمانُه ضرورةَ صدقِ خبرِ الله تعالى، وعدمِ وقوعِ الخُلْف في خبره. فإذا أمره بالإيمان والحالة هذه فقد أمره بما هو ممكن في نفسه، وإن كان مستحيلًا لغيره، كما قلناه فيمن عَلِم الله تعالى أنه لا يؤمن.
(1)
يعني: زمان الأمر بالإيمان قبلَ ورودِ الإخبار بأنه لا يؤمن، ومِنْ شرط النقيضين الاتحاد في الزمان.
(2)
في (ك): "وهذا".
(3)
لأنه مأمور بالإيمان إلى أن يموت، كحال كل مكلف.
(4)
أي: الممتنع عقلًا وعادة.
(5)
أي: الممتنع عقلًا لا عادة، وهو جائز بالاتفاق. وانظر: نفائس الأصول 4/ 1548.
(6)
في (ص): "أنه".
وها هنا تنبيهان:
أحدهما: وقد
(1)
ذكره القرافي
(2)
أن الجمع بين النقيضين على ما قرره
(3)
إنما يتم أن لو كان مكلفًا بأن يؤمن وبأن لا يؤمن
(4)
، وهو ليس بجيد، بل الصواب حذف الواو فيقال
(5)
:
كُلِّف بأن يؤمن بأن لا يؤمن. وهو
(6)
مدلول الأمر بالإيمان وإذا كان مكلفًا بأن يُصَدِّق الخبر بأنه لا يؤمن - لا يلزم أن يكون مُكَلَّفًا بجعل الخبر صادقًا، ألا ترى أن الصادق إذا أخبرك أن زيدًا سيكفر بالله
(7)
، فإنه يجب
(1)
سقطت من (ص).
(2)
في (ت): "القرافي في" وهذه الزيادة لا حاجة لها.
(3)
في (ص): "ما قرروه". وهو خطأ، لأن الضمير يعود على القرافي فقط.
(4)
قال القرافي رحمه الله في نفائس الأصول 4/ 1557 - 1558: "قلنا: لا نسلم أنه مكلف بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، وإنما يلزم ذلك أن لو كُلِّف بجعل الخبر صادقًا، وفَرْقٌ بين التكليف بالتصديق، وبين جعل الخبر صادقًا، فإنَّ جَعْلَ الخبر صادقًا هو وقوع المخبَر عنه، وذلك غير لازم في التكليف بالتصديق. . . فأبو لهب إنما يلزمه ألا يؤمن أن لو كُلِّف بجعل الخبر صادقًا حتى يسعى في عدم إيمانه، إنما هو يُصَدِّق الخبر فقط. وكذلك نقول في جميع الكفار الذين لم يؤمنوا: إنهم أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لا يؤمنون، وكلِّفوا بتصديق ذلك الخبر، ومع ذلك لم يقل أحد: إنهم كلِّفوا بأن يكفروا حتى يصير ذلك الخبر صادقًا. . . فبطل قولهم: إنه مكلَّف بأنه لا يؤمن؛ لأن هذا إشارة إلى التكليف بجعل الخبر صادقًا، لا بتصديق الخبر، فما تعلَّق التكليف بالمحال".
(5)
في (ت): "فنقول".
(6)
في (ك): "وهذا".
(7)
في (ص) زيادة "غدًا" بعد لفظ الجلالة، ولا حاجة إليها.