الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأَنْوَاعِ، فَسَبِيلُهُ التَّقْلِيدُ، وَإِنْ كَانَ مُتَبَحِّرًا فِي مَذْهَبٍ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ أَئِمَّةِ السَّلَفِ، وَلا يَجُوزُ لَهُ تَقَلُّدُ الْقَضَاءِ، وَلا التَّرَصُّدُ لِلْفُتْيَا، وَإِذَا جَمَعَ هَذِهِ الْعُلُومَ، وَكَانَ مُجَانِبًا لِلأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، مُدَّرِعًا بِالْوَرَعِ، مُحْتَرِزًا عَنِ الْكَبَائِرِ، غَيْرَ مُصِرٍّ عَلَى الصَّغَائِرِ، جَازَ لَهُ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْقَضَاءَ، وَيَتَصَرَّفَ فِي الشَّرْعِ بِالاجْتِهَادِ وَالْفَتْوَى، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يَجْمَعْ هَذِهِ الشَّرَائِطَ تَقْلِيدُهُ فِيمَا يَعِنُّ لَهُ مِنَ الْحَوَادِثِ.
وَجَوَّزَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْقَضَاءَ، ثُمَّ يَقْضِي بِمَا يُفْتِي بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " كَانَ قُضَاةُ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم سِتَّةً: عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ.
فَكَانَ قَضَاءُ عُمَرَ، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَالأَشْعَرِيِّ يُوَافِقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَكَانَ يَأْخُذُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَكَانَ قَضَاءُ عَلِيٍّ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَزَيْدٍ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَكَانَ يَأْخُذُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَكَانَ زَيْدٌ يَأْخُذُ مِنْ عَلِيٍّ وَأُبَيٍّ مَا بَدَا لَهُ.
بَابُ شَرَائِطِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ
قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [الْبَقَرَة: 282]، وَقَالَ اللَّهُ عز وجل: {
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطَّلَاق: 2]، وَقَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6].
2510 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، أَنا أَبُو الْعَبَّاسِ الطَّحَّانُ، أَنا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ قُرَيْشٍ، أَنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنا أَبُو عُبَيْدٍ، نَا مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ، يُقَالُ لَهُ: يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ تَرْفَعُهُ:«لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ، وَلا خَائِنَةٍ، وَلا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلا ظَنِينٍ فِي وَلاءٍ وَلا قَرَابَةٍ، وَلا الْقَانِعِ مَعَ أَهْلِ الْبَيْتِ» .
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَيَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ الدِّمَشْقِيُّ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ «وَلا مَجْلُودٍ حَدًّا»
2511 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمِيرْبَنْدُ كُشَائِيُّ، أَنا أَبُو سَهْلٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَرَفَةَ السِّجْزِيُّ، أَنا أَبُو إِسْحَاقَ سُلَيْمَانُ حَمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَطَّابِيُّ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ بْنِ دَاسَةَ التَّمَّارُ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ
السِّجِسْتَانِيُّ، نَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ، نَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جدِّهِ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «رَدَّ شَهَادَةَ الْخَائِنِ وَالْخَائِنَةِ، وَذِي الْغِمْرِ عَلَى أَخِيهِ، وَرَدَّ شَهَادَةَ الْقَانِعِ لأَهْلِ الْبَيْتِ، وَأَجَازَهَا لِغَيْرِهِمْ»
قَالَ الإِمَامُ: شَرَائِطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ سَبْعَةٌ: الإِسْلامُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْعَدَالَةُ، وَالْمُرُوءَةُ، وَانْتِفَاءُ التُّهْمَةِ، فَلَوْ شَهِدَ ذِمِّيٌّ عَلَى شَيْءٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى الإِطْلاقِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَعْرُوفُونَ بِالْكَذِبِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ، فَكَيْفَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ مَعَ كَذِبِهِمْ عَلَى اللَّهِ عز وجل! وَذَهَبَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ جَائِزَةٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ تَجُوزُ عِنْدَ اتِّفَاقِ الْمِلَّةِ، أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتِ الْمِلَّةُ بِأَنْ شَهِدَ يَهُودِيٌّ عَلَى
نَصْرَانِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ، فَلا تُقْبَلُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَإِسْحَاقَ، لِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [الْمَائِدَة: 14].
وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ بَاطِلَةٌ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى جَوَازِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ فِي السَّفَرِ خَاصَّةً، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَبِهِ قَالَ الأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ سبحانه وتعالى:{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [الْمَائِدَة: 106]، أَيْ: مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكُمْ.
وَتَأَوَّلَ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ أَهْلَ الذِّمَّةِ قَوْلَهَ: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [الْمَائِدَة: 106] أَيْ: مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْوَصِيَّةِ أَنَّ الْمُوصِي يُشْهِدُ أَقَارِبَهُ وَعَشِيرَتَهُ عَلَيْهَا دُونَ الأَجَانِبِ، وَاحْتَجُّوا بِهَذَا التَّأْوِيلَ بِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الْمَائِدَة: 106]، فَقَوْلُهُ عز وجل:{وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الْمَائِدَة: 106] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تبارك وتعالى: {مِنْكُمْ} [الْمَائِدَة: 106]، أَيْ: مِنْ ذَوِي قَرَابَتِكُمْ.
وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، وَالأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الآيَةَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ، وَالْحَسَنِ، وَعَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، وَقَالُوا: سُورَةُ الْمَائِدَةَ آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا شَيْءٌ.
وَسَبَبُ نُزُولِ الآيَةِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ، فَمَاتَ
السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ فِيهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ، فَقَدُوا جَامَ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا بِالذَّهَبِ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ وَجَدُوا الْجَامَ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ، فَحَلَفَا: لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا، وَإِنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ، قَالَ: فَنَزَلَتْ فِيهِمْ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [الْمَائِدَة: 106] الآيَةُ.
وَتَأَوَّلَ بَعْضُهُمُ الآيَةَ عَلَى الْوَصِيَّةِ دُونَ الشَّهَادَةِ، لأَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ، وَعَدِيَّ بْنَ بَدَّاءٍ كَانَا وَصِيَّيْنِ لَا شَاهِدَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَلَّفَهُمَا، وَالشُّهُودُ لَا يُحَلَّفُونَ، فَعَبَّرَ بِالشَّهَادَةِ عَنِ الأَمَانَةِ الَّتِي تَحَمَّلاهَا.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} [الْمَائِدَة: 106] أَيْ: أَمَانَةَ اللَّهِ.
قَالَ الإِمَامُ: وَالْحُرِّيَّةُ شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، لأَنَّهَا مِنْ بَابِ الْوِلايَاتِ، وَالْعَبْدُ نَاقِصُ الْحَالِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْعَبِيدِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَنَسٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شُرَيْحٌ، وَزُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ.
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: شَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ إِلا لِسَيِّدِهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبِيدِ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ.
وَلا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَجْنُونِ، لأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِ فِي شَيْءٍ مَا، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ، لِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الْبَقَرَة: 282]، وَقَالَ مَالِكٌ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ، عَلَى الْجِرَاحِ الَّتِي تَقَعَ فِي مَحَلِّ اجْتِمَاعِهِمْ مَا لَمْ يَتَفَرَّقُوا، وَلا تُقْبَلُ فِي غَيْرِهَا، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ.
وَكَانَ شُرَيْحٌ يُجِيزُ شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ قَالَ: لَا تَجُوزُ، لأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى يَقُولُ:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [الْبَقَرَة: 282] وَالْعَدَالَةُ شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَحَدُّهَا: أَنْ يَكُونَ مُحْتَرِزًا عَنِ الْكَبَائِرِ، غَيْرَ مُصِرٍّ عَلَى الصَّغَائِرِ، وَالْخَائِنُ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، لِفِسْقِهِ وَخُرُوجِهِ عَنِ الْعَدَالَةِ بِالْخِيَانَةِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَا نَرَاهُ خَصَّ بِهِ الْخِيَانَةَ فِي أَمَانَاتِ النَّاسِ دُونَ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ وَأَتمَنَهُمْ عَلَيْهِ، فَمَنْ ضَيَّعَ شَيْئًا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، أَوْ رَكِبَ شَيْئًا مِمَّا نَهَاهُ اللَّهُ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَدْلا، لأَنَّهُ لَزِمَهُ اسْمَ الْخِيَانَةِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ نَعْلَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ قَلِيلا يُمَحِّضُ الطَّاعَةَ وَالْمُرُوءَةَ، حَتَّى لَا يَخْلِطَهُمَا بِمَعْصِيَةٍ، وَلا يُمَحِّضُ الْمَعْصِيَةَ وَتَرْكَ الْمُرُوءَةِ، حَتَّى لَا يَخْلِطَهُمَا بِشَيْءٍ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْمُرُوءَةِ، فَإِذَا كَانَ الأَغْلَبُ الأَظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ الطَّاعَةَ وَالْمُرُوءَةَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِذَا كَانَ الأَغْلَبُ الأَظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ الْمَعْصِيَةَ وَخِلافَ الْمُرُوءَةِ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: " إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمْ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمَّنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ وَلَيْسَ إِلَيْنَا
مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ، اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوأً، لَمْ نَأْمَنْهُ، وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ: إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ.
قَالَ الإِمَامُ رحمه الله: وَالْمُرُوءَةُ شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَهِيَ مَا يَتَّصِلُ بِآدَابِ النَّفْسِ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّ تَارِكَهُ قَلِيلُ الْحَيَاءِ، وَهِيَ حُسْنُ الْهَيْئَةِ، وَالسِّيرَةِ وَالْعِشْرَةِ، وَالصِّنَاعَةِ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يُظْهِرُ مِنْ نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا يَسْتَحِي أَمْثَالُهُ مِنْ إِظْهَارِهِ فِي الأَغْلَبِ يُعْلَمُ بِهِ قِلَّةُ مُرُوءَتِهِ، وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا.
قَالَ الإِمَامُ رحمه الله: وَانْتِفَاءُ التُّهْمَةِ شَرْطٌ فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ حَتَّى لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى الْعَدُوِّ، وَإِنْ كَانَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ عَلَى غَيْرِهِ، لأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ عَدُوِّهِ وَلا يُؤْمَنُ أَنْ تَحْمِلَهُ عَدَاوَتُهُ عَلَى إِلْحَاقِ ضَرَرٍ بِشَهَادَتِهِ، فَإِنْ شَهِدَ لِعَدُوِّهِ، تُقْبَلُ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِي عَدَاوَتِهِ مَا يُفَسَّقَ بِهِ، وَإِنْ أَظْهَرَ مَا يُفَسَّقُ بِهِ كَانَ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْعُمُومِ.
وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ شَهَادَةَ الْعَدُوِّ عَلَى الْعَدُوِّ إِذَا كَانَ عَدْلا، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِمَنْ رَدَّهُ، لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ شَهَادَةَ ذِي الْغِمْرِ عَلَى أَخِيهِ، وَذُو الْغِمْرِ: الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَالْغِمْرُ: الضِّغْنُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ: " أَيُّمَا قَوْمٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِحَدٍّ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْحَدِّ، فَإِنَّمَا شَهِدُوا عَلَى ضِغْنٍ.
فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ شَهَادَةَ الْعَدُوِّ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَبَعْضُ النَّاسِ لَا يَقْبَلُ الشَّهَادَةَ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ عز وجل بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ، وَيَحْكُمُ بِسُقُوطِهَا دُونَ الْحُقُوقِ الَّتِي هِيَ لِلْعِبَادِ.
وَقَوْلُهُ: «وَلا ظَنِينٍ فِي وَلاءٍ وَلا قَرَابَةٍ» : هُوَ الْمُتَّهَمُ بِالانْتِسَابِ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَالانْتِمَاءِ إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سبحانه وتعالى:{وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24] أَيْ: بِمُتَّهَمٍ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَمْ يَكُنْ عَلِيٌّ يُظَنُّ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ، أَيْ: يُتَّهَمُ.
وَتُرَدُّ أَيْضًا شَهَادَةُ الْمُتَّهَمِ فِي دِينِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُتَّهَمُ فِي شَهَادَتِهِ بِأَنْ يَشْهَدَ لِوَالِدِهِ أَوْ لِوَلَدِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ.
قَوْلُهُ: «وَرَدَّ شَهَادَةَ الْقَانعِ لأَهْلِ الْبَيْتِ» ، فَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّابِعُ لَهُمْ، وَأَصْلُ الْقُنُوعِ: السُّؤَالُ، وَالْقَانِعُ: السَّائِلُ، يُقَالُ: قَنَعَ، يَقْنَعُ، قُنُوعًا: إِذَا سَأَلَ، وَيُقَالُ مِنَ الْقنَاعَةُ: قَنِعَ، يَقْنَعُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْقَانِعِ فِي الْحَدِيثِ: هُوَ الْمُنْقَطِعُ إِلَى الْقَوْمِ يخَدُمُهُمْ، وَيَكُونُ فِي حَوَائِجِهِمْ، فَهُوَ يَنْتَفِعُ بِمَا يَصِيرُ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّفْعِ، فَيَصِيرُ بِشَهَادَتِهِ لَهُمْ جَارًا إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، فَلا يُقْبَلُ، كَمَنْ شَهِدَ لِرَجُلٍ بِشِرَاءِ دَارٍ وَهُوَ شَفِيعُهَا، أَوْ شَهِدَ لِلْمُفْلِسِ وَاحِدٌ مِنْ غُرَمَائِهِ بِدَيْنٍ عَلَى رَجُلٍ، أَوْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ مُوَرِّثَهُ، لَا تُقْبَلُ، لأَنَّ نَفْعَ شَهَادَتِهِ يَعُودُ إِلَيْهِ.
وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، رحمه الله، وَأَجَازَهُ الآخَرُونَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيُّ، رحمه الله.
وَلا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَلا الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَتَجُوزُ عَلَيْهِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى جَوَازِ شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا لِلآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ دَاوُدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الأَخِ لِلأَخِ، وَسَائِرِ الأَقَارِبِ.
وَذَهَبَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْبَدَوِيِّ إِذَا كَانَ عَدْلا، وَقَالَ
مَالِكٌ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَدَوِيِّ عَلَى الْقُرَوِيِّ، وَرَوَى فِيهِ حَدِيثًا، وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَ الآخِرِينَ، إِنْ ثَبَتَ، أَنَّهُمْ قَلَّمَا يَضْبِطُونَ الشَّهَادَةَ عَلَى وَجْهِهَا لِجَهْلِهِمْ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَقُصُورِ عِلْمِهِمْ عَمَّا يُحِيلُ الشَّهَادَةَ عَنْ جِهَتِهَا، فَإِنْ كَانَ ضَابِطًا فَطِنًا بَصِيرًا بِمَا يُؤَدِّيهِ مِنْهَا، فَلا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَرَوِيِّ.
وَشَهَادَةُ الأَعْمَى مَقْبُولَةً فِيمَا يَثْبُتُ بِالسَّمَاعِ، أَوْ حَيْثُ انْتَفَتِ الرِّيبَةُ عَنْ شَهَادَتِهِ بِأَنْ أَقَرَّ رَجُلٌ لآخَرَ فِي أُذُنِهِ، فَتَمَسَّكَ بِهِ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ، وَمِمَّنْ أَجَازَ شَهَادَتَهُ: الْقَاسِمُ، وَالْحَسَنُ، وَالْحَكَمُ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَرَأَيْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ لَوْ شَهِدَ أَكُنْتَ تَرُدُّهُ؟ وَبَعْضُهُمْ أَجَازُوا إِذَا عَرَفَ بِالصَّوْتِ.
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الأَعْمَى بِحَالٍ، ثُمَّ أَجَازَ شَهَادَةَ الْبَصِيرِ عَلَى الْمَيِّتِ وَالْغَائِبِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَأَجَازَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ متنقبة.
وَالْقَاذِفُ فَاسِقٌ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ، وَإِذَا تَابَ وَحَسُنَتْ حَالَتُهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، سَوَاءُ أَتَابَ بَعْدَ مَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوْ قَبْلَهُ، لِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى: {
وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {4} إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النُّور: 4 - 5] وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسيِّبِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا جَلَدَ الثَّلاثَةَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ اسْتَتَابَهُمْ، فَرَجَعَ اثْنَانِ، فَقَبِلَ شَهَادَتَهُمَا، وَأَبَى أَبُو بَكْرَةَ أَنْ يَرْجِعَ، فَرَدَّ شَهَادَتَهُ، وَيُقَالُ: إِنَّ عُمَرَ قَالَ لأَبِي بَكْرَةَ: تُبْ، تُقْبَلْ شَهَادَتُكَ.
أَوْ: إنْ تُبْتَ، قَبِلْتُ شَهَادَتَكَ.
وَهُوَ
قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيُّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وقَالَ الشَّعْبِيُّ: يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَتَهُ، وَلا تَقْبَلُونَ شَهَادَتَهُ؟! وَقَالَ النَّخَعِيُّ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ.
وَذَهَبَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ إِلَى أَنَّ شَهَادَتُهُ لَا تُرَدُّ بِالْقَذْفِ، فَإِذَا حُدَّ فِيهِ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَلا تُقْبَلْ وَإِنْ تَابَ، ثُمَّ قَالُوا: يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَتِهِ، وَيَنْفُذُ قَضَاؤُهُ إِذَا وُلِيَ الْقَضَاءَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَهُوَ قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ شَرٌّ مِنْهُ حِينَ يُحَدُّ، لأَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ، فَكَيْفَ تَرُدُّونَهَا فِي أَحْسَنِ حَالَيْهِ، وَتَقْبَلُونَهَا فِي شَرِّ حَالَيْهِ؟! وَإِذَا قَبِلْتُمْ تَوْبَةَ الْكَافِرِ، وَالْقَاتِلِ عَمْدًا كَيْفَ لَا تَقْبَلُونَ تَوْبَةَ الْقَاذِفِ وَهُوَ أَيْسَرُ ذَنْبًا؟!
2512 -
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ، أَنا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، نَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَنا شَرِيكٌ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بِشَاهِدِ زُورٍ، فَوَقَفَهُ لِلنَّاسِ يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ يَقُولُ:«هَذَا فُلانٌ شَهِدَ بِزُورٍ، فَاعْرِفُوهُ، ثُمَّ حَبَسَهُ»
وَلا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ إِلا عَنْ عِلْمٍ، قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى:{إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الْإِسْرَاء: 36] أَيْ: لَا تَتَّبِعْهُ.
ثُمَّ مِنَ الشَّهَادَاتِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الرَّؤْيَةُ وَهِيَ الشَّهَادَةُ عَلَى الْقَتْلِ، وَالإِتْلافِ، وَمِنْهَا مَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالسَّمَاعِ مِثْلُ النَّسَبِ وَالأَمْلاكِ الْمُطْلَقَةِ، وَمِنْهَا مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ السَّمَاعُ، وَالْمُعَايَنَةُ، مِثْل: الْعُقُودِ وَالأَقَارِيرِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا مُشَاهَدَةُ الْعَاقِدِ، وَالْمُقِرِّ، وَسَمَاعُ قَوْلِهِمَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِتْقِ، وَالْوَلاءِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْوُقُفِ أَنَّهَا هَلْ تَثْبُتُ بِالتَّسَامُعِ؟ فَأَثْبَتَها بَعْضُهُمْ كَالنَّسَبِ، وَلَمْ يُثْبِتْهَا بَعْضُهُمْ إِلا بِأَنْ يَسْمَعَ عَنِ الْمُبَاشِرِ مُشَاهَدَةً.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ: إِنْ عَرَفْتَهَا، فَاشْهَدْ، وَإِلا فَلا، وَجَوَّزُوا شَهَادَةَ الْمُخْتَبِئِ.
قَالَ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ: كَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالْكَاذِبِ الْفَاجِرِ.
قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ: لَمْ يُشهِدُونِي عَلَى شَيْءٍ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ كَذَا وَكَذَا.
وَمَنْ أَقَامَ حُجةً عَلَى غَائِبٍ بِحَقٍّ بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي، فَسَمِعَهَا، وَحَكَمَ بِهِ، وَكَتَبَ إِلَى قَاضِي بَلَدِ الْخَصْمِ، وَأَشْهَدَ عَلَى حُكْمِهِ، فَأَجَازَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ.
وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ سَمَاعَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْغَائِبِ، وَلَمْ يُجَوِّزْهَا الْحَكَمُ، بَلْ يَكْتُبُ إِلَى قَاضِي بَلَدِ الْخَصْمِ لِيَحْكُمَ عَلَى وَجْهِ الْخَصْمِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَجَوَّزُوا إِذَا كَانَ لَهُ اتِّصَالٌ بِالْحَاضِرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كِتَابُ الْحَاكِمِ جَائِزٌ إِلا فِي الْحُدُودِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي جَائِزٌ إِذَا عُرِفَ الْكِتَابُ وَالْخَاتمُ، وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يُجِيزُ الْكِتَابَ الْمَخْتُومَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْقَاضِي، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ.
وَكَانَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَالْحَسَنُ، وَثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، وَبِلالُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيُّ، وَعبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ يُجِيزُونَ كُتُبَ الْقُضَاةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنَ الشُّهُودِ، فَإِنْ قَالَ الَّذِي جِيءَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ: إِنَّهُ زُورٌ، قِيلَ لَهُ: اذْهَبْ فَالْتَمِسِ الْمَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَوَّلُ مَنْ سَأَلَ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ: ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
وَالْعَدَدُ فِي الشَّهَادَةِ شَرْطٌ حَتَّى لَا يَثْبُتَ الْحُكْمُ بِقَوْلِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ الْمُزَكِّيُّ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ اثْنَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْمُقَوِّمُ.
وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ تَزْكِيَةَ الْوَاحِدِ، قَالَ أَبُو جَمِيلَةَ: وَجَدْتُ مَنْبُوذًا فَاتَّهَمَنِي عُمَرُ، فَقَالَ: عريفي: إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ، قَالَ: كَذَاكَ؟! اذْهَبْ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ.
فَأَمَّا الْقَائِفُ، فَوَاحِدٌ كَالْقَاضِي، وَإِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْقَاضِي لِسَانَ الْخَصْمِ، فَهَلْ يَكْتَفِي بِمُتَرْجِمٍ وَاحِدٍ؟ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُتَرْجِمَيْنِ كَالشَّاهِدِ وَالْمُزَكِّيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيُّ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يَكْتَفِي بِمُتَرْجِمٍ وَاحِدٍ، «أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ لِيَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ، فَيَكْتُبُ إِلَيْهِمْ، وَيَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ» .