الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
24 - كِتَابُ الْحُدُودِ
بَابُ حَدِّ الزِّنَا
قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النِّسَاء: 15].
رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا، الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدَ مِائَةٍ، وَرَمْيًا بالْحِجَارَةِ، وَالْبِكْرُ
بِالْبِكْرِ جَلْدَ مِائَةٍ، وَنَفْيَ سَنَةٍ».
فَهَذَا الْحَدِيثُ بَيَانٌ لِلْحُكْمِ الْمَوْعُودِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النِّسَاء: 15]، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ عُقُوبَةَ الزَّانِيَةِ الْحَبْسَ إِلَى أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهَا سَبِيلا، فَبَيَّنَهُ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.
2579 -
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الشِّيرَزِيُّ، أَنا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَنا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَنا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ، أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ.
وَقَالَ الآخرُ وكانَ أَفْقَهَهُمَا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَائْذَنْ لِي فِي أَنْ أَتَكَلَّمَ.
فَقَالَ: «تَكَلَّمْ» .
قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ، وَبِجَارِيَةٍ لِي، ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ
أَهْلَ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ مَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَمَا والَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ، فَرَدٌّ إِلَيْكَ» ، وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً، وَغَرَّبَهُ عَامًا، وَأَمَرَ أُنَيْسًا الأَسْلَمِيَّ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الآخَرِ، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَرَجَمَهَا.
قَالَ مَالِكٌ: الْعَسِيفُ: الأَجِيرُ.
هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، أَخْرَجَهُ مُحَمَّدٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ، وَأَخْرَجَاهُ مِنْ طُرُقٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
قَالَ الإِمَامُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْفِقْهِ، مِنْهَا: جَوَازُ الْفَتْوَى
فِي زَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم، وَالرُّخْصَةُ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى أَنْ يُفْتِيَ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، لأَنَّهُ عليه السلام لَمْ يُنْكِرِ الرَّجُلَ قَوْلَهُ: سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ مَعَ كَوْنِهِ عليه السلام مُقِيمًا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْفَتْوَى لِلتَّابِعِيِّ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ، وَالأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازِهِ.
وَفِيهِ أَنَّ الْبِكْرَ إِذَا زَنَى، عَلَيْهِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ إِذَا زَنَى عَلَيْهِ الرَّجْمُ، وَلا يُجْلَدُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الثَّيِّبِ: الْمُحْصَنُ، وَهُوَ الَّذِي اجْتَمَعَ فِيهِ أَرْبَعُ شَرَائِطَ: الْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالإِصَابَةُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُحْصَنِ هَلْ يُجْلَدُ مَعَ الرَّجْمِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةً ثُمَّ يُرْجَمُ، مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ:«الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدَ مِائَةٍ وَرَمْيًا بِالْحِجَارَةِ» ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْحَاقُ، وَدَاوُدُ.
2580 -
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكِسَائِيُّ، أَنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلالُ، نَا أَبُو الْعَبَّاسِ الأَصَمُّ، أَنا الرَّبِيعُ، أَنا الشَّافِعِيُّ، أَنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عُبَادَةَ يَعْنِي ابْنَ الصَّامِتِ، أَنّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَالرَّجْمُ» .
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ حَدَّثَنِي الثِّقَةُ أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يُدْخِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُبَادَةَ حِطَّانَ الرَّقَاشِيَّ، فَلا أَدْرِي أَدْخَلَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ، فَزَلَّ مِنْ كِتَابِي أَوْ لَا! قَالَ الإِمَامُ: الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ
وَذَهَبَ الأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا جَلْدَ عَلَى الْمُحْصَنِ مَعَ الرَّجْمِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ التَّابِعِينَ، وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْجَلْدَ مَنْسُوخٌ فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ، لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «رَجَمَ مَاعِزًا، وَالْغَامِدِيَّةَ، وَالْيَهُودِيَّيْنِ، وَلَمْ يَجْلِدْ وَاحِدًا مِنْهُمْ» .
وَقَالَ لأُنَيْسٍ الأَسْلَمِيِّ: «فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِجَلْدِهَا، وَهَذَا آخِرُ الأَمْرَيْنِ، لأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدْ رَوَاهُ، وَهُوَ مُتَأَخِّرُ الإِسْلامِ، فَيَكُونُ نَاسِخًا لِمَا سَبَقَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْبِكْرَ إِذَا زَنَى، أَنَّ عَلَيْهِ جَلْدَ مِائَةٍ، لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النُّور: 2] وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ الْبُلُوغَ، وَالْعَقْلَ، وَالْحُرِّيَّةَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُصِبِ النِّكَاحَ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَغْرِيبِهِ سَنَةً، فَذَهَبَ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، إِلَى أَنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةً، وَيُغَرَّبُ عَامًا، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ.
2581 -
أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا السَّيِّدُ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْعَلَوِيُّ، أَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الشَّرْقِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، نَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ هُوَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، عَنِ الزُّهرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «يَأْمُرُ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ بِجَلْدِ مِائَةٍ، وتَغْرِيبِ عَامٍ» .
هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ مُحَمَّدٌ، عَنْ مَالِكِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَرَوَى نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «ضَرَبَ، وَغَرَّبَ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ ضَرَبَ، وَغَرَّبَ، وَأَنَّ عُمَرَ ضَرَب، وَغَرَّبَ» ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ،
وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يُجْلَدُ، وَلا يُغَرَّبُ، وَلا يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ.
قَوْلُهُ عليه السلام: «لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ» اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، قِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْكِتَابِ: الْفَرْضُ، يَقُولُ: لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِمَا فَرَضَهُ اللَّهُ وَأَوْجَبَهُ، إِذْ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ذِكْرُ الرَّجْمِ مَنْصُوصًا كَذِكْرِ الْجَلْدِ، وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَقَدْ جَاءَ الْكِتَابُ بِمَعْنَى الْفَرْضِ، قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى:{كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النِّسَاء: 24]، وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [الْبَقَرَة: 178]، وَقَالَ عز وجل:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [الْبَقَرَة: 183]، وَقَالَ تبارك وتعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} [الْمَائِدَة: 45]، أَيْ: فَرَضْنَا وَأَوْجَبْنَا.
وَقِيلَ: بِكِتَابِ اللَّهِ، أَيْ: بِحُكْمِ اللَّهِ، وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [الطّور: 41]، أَيْ: يَحْكُمُونَ.
وَقِيلَ: ذَكَرَ الرَّجْمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ صَرِيحًا، فَإِنَّهُ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ عَلَى سَبِيلِ الإِجْمَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ سبحانه وتعالى، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ:{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النِّسَاء: 16].
وَالأَذَى يَنْطَلِقُ عَلَى الرَّجْمِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ، أَوْ ضُمِّنَ الْكِتَابُ بِأَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا، ثُمَّ بَيَّنَهُ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، فَقَوْلُهُ عليه السلام:«الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ» بَيَانُ حُكْمِ الْكِتَابِ، وَقَدْ قِيلَ: كَانَ حُكْمُ الرَّجْمِ مُنَزَّلا مَتْلُوًّا فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ سبحانه وتعالى، فَرُفِعَتْ تِلاوَتُهُ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا
2582 -
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَنا أَحْمَد بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا، وَعَقَلْنَاهَا، وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، وَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجالِ والنِّسَاء إِذَا قَامَتِ البَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ، أَوِ الاعْتِرَافُ، ثُمَّ إِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ، فِيمَا نَقْرَأُ، مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنْ لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، أَوْ إِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ ".
هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ
قَالَ الإِمَامُ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الزَّانِيَيْنِ إِذَا كَانَ مُحْصَنًا دُونَ الآخَرِ أَنَّهُ يُرْجَمُ الْمُحْصَنُ، وَيُجْلَدُ غَيْرُ الْمُحْصَنِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا، وَالآخَرُ عَبْدًا، فَيُحَدُّ الْحُرُّ حَدَّ الأَحْرَارِ، وَيُحَدُّ الرَّقِيقُ حَدَّ الْعَبِيدِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ لَوْ زَنَى عَاقِلٌ بِمَجْنُونَةٍ، أَوْ بَالِغٌ بِمُرَاهِقَةٍ، يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْعَاقِلِ الْبَالِغِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَجْنُونَةِ وَالْمُرَاهِقَةِ بِالاتِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَكَّنَتْ عَاقِلَةٌ مِنْ مَجْنُونٍ، أَوْ بَالِغَةٌ مِنْ مُرَاهِقٍ، يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَذَهَبَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ إِلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الْعَاقِلَةِ الْبَالِغَةِ إِذَا مَكَّنَتْ مِنْ مَجْنُونٍ، أَوْ مُرَاهِقٍ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبْدَأَ بِاسْتِمَاعِ كَلامِ أَيِّ الْخَصْمَيْنِ شَاءَ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الإِجَارَةِ، لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرْ قَوْلَهُ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، وَقَدْ أَبْطَلَهَا قَوْمٌ، وَالأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازِهَا.
وَفِي قَوْلِهِ: «أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ إِلَيْكَ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَأْخُوذَ بِحُكْمِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَالصُّلْحِ الْفَاسِدِ مُسْتَحِقُّ الرَّدِّ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلآخَرِ.
وَفِي قَوْلِهِ: «فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِالزِّنَا عَلَى نَفْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِ، وَلا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّكْرَارُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً يُقْطَعُ، وَلَوْ أَقَرَّ بِالْقَتْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُحَدُّ مَا لَمْ يُقِرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ قَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ يُقِرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعِ مَجَالِسَ، فَإِذَا أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ كَإِقْرَارٍ وَاحِدٍ.
وَأَوْجَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَحْمَدُ بِهِ الْحَدَّ، وَاحْتَجَّ مَنْ شَرَطَ التَّكْرَارَ فِي الإِقْرَارِ بِالزِّنَا بِقِصَّةِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ، وَإِقْرَارِهِ بِالزِّنَا، وَسَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عز وجل.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَنَ إِذَا زَنَى، لَا يُجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ.
قَالَ الإِمَامُ: وَفِي قَوْلِهِ: «فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» بَيَانُ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَعْتَرِفْ لَا حَدَّ عَلَيْهَا، وَإِنْ وَجَبَ عَلَى الْمُقِرِّ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، " أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَجَلَدَهُ مِائَةً، وَكَانَ بِكْرًا، ثُمَّ سَأَلَهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَقَالَتْ: كَذَبَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَجَلَدَهُ حَدَّ الْفِرْيَةِ ثَمَانِينَ ".
قَالَ الإِمَامُ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُضُورَ الإِمَامِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لإِقَامَةِ الرَّجْمِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ حُضُورَ الإِمَامِ شَرْطٌ، وَإِنْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، كَحُضُورِ الشُّهُودِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: الرَّجْمُ رَجْمَانِ: فَإِنْ كَانَ بِالْحَبَلِ وَالاعْتِرَافِ، يَبْدَأُ الإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ، وَإِنْ ثَبَتَ بِالشُّهُودِ، فَيُبْدَأُ بِالشُّهُودِ، فَيُبْدَأُ بِالشُّهُودِ ثُمَّ الإِمَامِ ثُمَّ النَّاسِ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْوِكَالَةِ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ.
قَالَ الإِمَامُ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ رَجُلا بَيْنَ يَدَيِ الْحَاكِمِ، فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَى الْمَقْذُوفِ، فَيُخْبِرُهُ بِهِ، لَا لِطَلَبِ إِقْرَارِ الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَا، فَإِنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى يَقُولُ:{وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12]، وَلأَنَّ الأَوْلَى بِمَنْ تَنَاوَلَ شَيْئًا مِمَّا يُوجِبُ حَدَّ اللَّهِ سبحانه وتعالى أَنْ يَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَكِنْ لِيُطْلِعَهُ عَلَى أَنَّ فُلانًا قَدْ قَذَفَهُ، وَوَجَبَ لَهُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَرِفًا بِالزِّنَا، طَلَبَ حَقَّهُ مِنَ الْحَدِّ، وَعَلَى هَذَا تَأَوَّلَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله، بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُنَيْسًا إِلَى امْرَأَةِ الرَّجُلِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنِ الْقَاذِفُ مُعَيِّنًا، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيِ الْحَاكِمِ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: إِنَّ فُلانًا زَنَى، فَلا يَبْعَثُ الإِمَامُ إِلَيْهِ، وَلا يَبْحَثُ عَنْ حَالِهِ اخْتِيَارًا لِلسَّتْرِ، وَاحْتِرَازًا عَنْ تَتَبُّعِ الْعَوْرَاتِ، وَفِي حِفْظِ السَّتْرِ عَلَى مَنْ لَزِمَهُ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عز وجل، رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ، يُقَالُ لَهُ هَزَّالٌ:«يَا هَزَّالُ، لَوْ سَتَرْتَهُ بِرِدَائِكَ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ» .
قَالَ الإِمَامُ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ وَلَدَهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يحدهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ابْنِي زَنَى بِامْرَأَتِهِ.