الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُقَدّمَة فِي فضل علم التَّارِيخ
اعْلَم أَن علم التَّارِيخ من أجل الْعُلُوم قدرا وأرفعها منزلَة وذكرا وأنفعها عَائِدَة وذخرا وَكَفاهُ شرفا أَن الله تَعَالَى شحن كِتَابه الْعَزِيز الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه من أَخْبَار الْأُمَم الْمَاضِيَة والقرون الخالية بِمَا أفحم بِهِ أكَابِر أهل الْكتاب وأتى من ذَلِك بِمَا لم يكن لَهُم فِي ظن وَلَا حِسَاب ثمَّ لم يكتف تَعَالَى بذلك حَتَّى امتن بِهِ على نبيه الْكَرِيم وَجعله من جملَة مَا أسداه إِلَيْهِ من الْخَيْر العميم فَقَالَ جلّ وَعلا {تِلْكَ الْقرى نقص عَلَيْك من أنبائها} وَقَالَ {وكلا نقص عَلَيْك من أنباء الرُّسُل مَا نثبت بِهِ فُؤَادك} وَقَالَ {لقد كَانَ فِي قصصهم عِبْرَة لأولي الْأَلْبَاب} وَقد كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا مَا يحدث أَصْحَابه بأخبار الْأُمَم الَّذين قبلهم ويحكي من ذَلِك مَا يشْرَح بِهِ صُدُورهمْ وَيُقَوِّي إيماناهم ويؤكد فَضلهمْ وَكتاب بَدْء الْخلق من صَحِيح البُخَارِيّ رحمه الله كَفِيل بِهَذَا الشَّأْن وَآت من الْقدر المهم مِنْهُ مَا يبرد غلَّة العطشان قَالَ بَعضهم احْتج الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن على أهل الْكِتَابَيْنِ بالتاريخ فَقَالَ تَعَالَى {يَا أهل الْكتاب لم تحاجون فِي إِبْرَاهِيم وَمَا أنزلت التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل إِلَّا من بعده أَفلا تعقلون} وَحكى بدر الدّين الْقَرَافِيّ رحمه الله إِن الإِمَام الشَّافِعِي رضي الله عنه كَانَ يَقُول مَا مَعْنَاهُ دأبت فِي قِرَاءَة علم التَّارِيخ كَذَا وَكَذَا سنة وَمَا قرأته إِلَّا لأستعين بِهِ على الْفِقْه
قلت معنى كَلَام الشَّافِعِي هَذَا أَن علم التَّارِيخ لما كَانَ مطلعا على أَحْوَال الْأُمَم والأجيال ومفصحا عَن عوائد الْمُلُوك والأقيال ومبينا من أعراف النَّاس وأزيائهم ونحلهم وأديانهم مَا فِيهِ عِبْرَة لمن اعْتبر وَحِكْمَة بَالِغَة لمن تدبر وافتكر كَانَ معينا على الْفِقْه وَلَا بُد وَذَلِكَ أَن جلّ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مَبْنِيّ على الْعرف وَمَا كَانَ مَبْنِيا على الْعرف لَا بُد أَن يطرد باطراده وينعكس بانعكاسه وَلِهَذَا ترى فتاوي الْفُقَهَاء تخْتَلف باخْتلَاف الْأَعْصَار والأقطار بل والأشخاص وَالْأَحْوَال وَهَذَا السَّبَب بِعَيْنِه هُوَ السِّرّ فِي اخْتِلَاف شرائع الرُّسُل عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وتباينها حَتَّى جَاءَ مُوسَى بشرع وَعِيسَى بآخر وَمُحَمّد بسوى ذَلِك صلى الله على جَمِيعهم وَسلم تمّ فَائِدَة التَّارِيخ لَيست محصورة فِيمَا ذَكرْنَاهُ بل لَهُ فَوَائِد أخر جليلة لَو قيل بِعَدَمِ حصرها مَا بعد قَالَ الْجلَال السُّيُوطِيّ رحمه الله من فَوَائِد التَّارِيخ وَاقعَة رَئِيس الرؤساء الْمَشْهُورَة مَعَ الْيَهُود بِبَغْدَاد وحاصلها أَنهم أظهرُوا رسما قَدِيما يتَضَمَّن أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَمر بِإِسْقَاط الْجِزْيَة عَن يهود خَيْبَر وَفِيه شَهَادَة جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه فَرفع الرَّسْم إِلَى رَئِيس الرؤساء وعظمت حيرة النَّاس فِي شَأْنه ثمَّ عرض على الْحَافِظ أبي بكر الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ فَتَأَمّله وَقَالَ هَذَا مزور فَقيل لَهُ بِمَ عَرفته قَالَ فِيهِ شَهَادَة مُعَاوِيَة وَهُوَ إِنَّمَا أسلم عَام الْفَتْح سنة ثَمَان من الْهِجْرَة وخيبر فتحت سنة سبع وَفِيه شَهَادَة سعد بن معَاذ وَهُوَ مَاتَ يَوْم بني قُرَيْظَة وَذَلِكَ قبل فتح خَيْبَر فسر النَّاس بذلك وزالت حيرتهم اه قَالَ الْعَلامَة القادري فِي الأزهار الندية وَفِي حُدُود صدر هَذِه الْمِائَة أَعنِي الْمِائَة الْحَادِيَة عشرَة ظهر نَحْو هَذَا الْكتاب المزور بِمَعْنَاهُ وَالرَّفْع على خطوطه بتاريخ سبع وَعشْرين وَسَبْعمائة
بِالْمُوَحَّدَةِ ثمَّ ظهر أَيْضا بتاريخ سِتّ وَثَمَانمِائَة ثمَّ تعدد ظُهُوره مرَارًا آخرهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف مُسَمّى فِيهِ جمَاعَة مِمَّن شهرتهم بِالدّينِ وَالْعلم قاطعه بالتقول عَلَيْهِم فِي ذَلِك انْظُر بَقِيَّة كَلَامه
قلت وَقد وقفت فِي بعض التقاييد المظنون بهَا الصِّحَّة على كَلَام للأديب أبي عبد الله اليفرني الْمَعْرُوف بالصغير فِي هَذَا الْمَعْنى قَالَ جرى بِمَجْلِس شَيخنَا قَاضِي الْجَمَاعَة فلَان الْفُلَانِيّ ذكر علم التَّارِيخ فَقَالَ إِن علم التَّارِيخ يضر جَهله وَتَنْفَع مَعْرفَته لَا كَمَا قيل إِنَّه علم لَا ينفع وجهالة لَا تضر قَالَ وَانْظُر مَا وَقع فِي هَذَا الْوَقْت فِي حُدُود عشر وَمِائَة ألف من أَن نَفرا من يهود فاس الْجَدِيد امْتَنعُوا من أَدَاء الْجِزْيَة وأخرجوا ظهيرا قَدِيما مضمنه أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم عقد لمُوسَى بن حييّ بن أَخطب أخي صَفِيَّة رضي الله عنها وَلأَهل بَيت صَفِيَّة الْأمان لَا يطَأ أَرضهم جَيش وَلَا عَلَيْهِم نزل وَلَهُم ربط العمائم فعلى من أحب الله وَرَسُوله أَن يؤمنهم وَكتب عَليّ بن أبي طَالب وَشهد عَتيق بن أبي قُحَافَة وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وتاريخ شَهَادَتهم فِي ذِي الْقعدَة سنة تسع من الْهِجْرَة قَالَ شَيخنَا فَظهر لي ولعلماء الْعَصْر أَن ذَلِك زور وافتراء لَا شكّ فِيهِ وَلَا امتراء لِأَن التَّارِيخ بِالْهِجْرَةِ إِنَّمَا حدث زمن عمر سنة سبع عشرَة لأسباب
اقْتَضَت ذَلِك كَمَا فِي ابْن حجر وَلِأَن أهل التَّارِيخ لم يذكرُوا لصفية أَخا اسْمه مُوسَى وَإِنَّمَا الْمَرْوِيّ فِي الْأَحَادِيث أَنه عليه الصلاة والسلام قتل أَبَا صَفِيَّة وَزوجهَا وَلِأَن الظهير الَّذِي استظهروا بِهِ نُسْخَة من الأَصْل الَّذِي فِيهِ خطوط الصَّحَابَة وَقد أَرخُوا الاستنساخ من الأَصْل بِسنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة فقد تَأَخّر خطّ الصَّحَابَة بزعمهم إِلَى الْمِائَة الثَّامِنَة وَكَيف يتَوَصَّل فِي الْمِائَة الثَّامِنَة إِلَى أَن ذَلِك خطّ الصَّحَابَة هَذَا خُلَاصَة مَا كتبه أهل فاس فِي إبِْطَال الظهير وَلما رفع ذَلِك إِلَى السُّلْطَان الْمولى إِسْمَاعِيل رحمه الله عاقب الْيَهُود عقَابا شَدِيدا اه
وَبِالْجُمْلَةِ ففضيلة علم التَّارِيخ شهيرة وَفَائِدَته جليلة خطيرة ومادحه مَحْمُود غير ملوم والْحَدِيث بفضله حَدِيث بِمَعْلُوم وَللَّه در ابْن الْخَطِيب إِذْ يَقُول
(وَبعد فالتاريخ والإخبار
…
فِيهِ لنَفس الْعَاقِل اعْتِبَار)
(وَفِيه للمستبصر استبصار
…
كَيفَ أَتَى الْقَوْم وَكَيف صَارُوا)
(يجْرِي على الْحَاضِر حكم الْغَائِب
…
فَيثبت الْحق بِسَهْم صائب)
(وَينظر الدُّنْيَا بِعَين النبل
…
وَيتْرك الْجَهْل لأهل الْجَهْل)
وَقَالَ الآخر
(لَيْسَ بِإِنْسَان وَلَا عَاقل
…
من لَا يعي التَّارِيخ فِي صَدره)
(وَمن روى أَخْبَار من قد مضى
…
أضَاف أعمارا إِلَى عمره)