الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وانْتهى إِلَى ابْن الْأَغْلَب مَا عَلَيْهِ إِدْرِيس من الإستفحال فأرهف عزمه للتضريب بَين البربر واستفسادهم على إِدْرِيس فَكَانَ مِنْهُم بهْلُول بن عبد الْوَاحِد المضغري من خَاصَّة إِدْرِيس وَمن أَرْكَان دولته فكاتبه ابْن الْأَغْلَب واستهواه بِالْمَالِ حَتَّى بَايع الرشيد وانحرف عَن إِدْرِيس واعتزله فِي قومه فَصَالحه إِدْرِيس وَكتب إِلَيْهِ يستعطفه بقرابته من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَكف عَنهُ وَكَانَ فِيمَا كتب بِهِ إِدْرِيس إِلَى بهْلُول الْمَذْكُور قَوْله
(أبهلول قد حملت نَفسك خطة
…
تبدلت مِنْهَا ضلة برشاد)
(أضلك إِبْرَاهِيم مَعَ بعد دَاره
…
فَأَصْبَحت منقادا بِغَيْر قياد)
(كَأَنَّك لم تسمع بمكر ابْن أغلب
…
وقدما رمى بالكيد كل بِلَاد)
(وَمن دون مَا منتك نَفسك خَالِيا
…
ومناك إِبْرَاهِيم شوك قتاد)
ثمَّ أحس إِدْرِيس من إِسْحَاق بن مُحَمَّد الأوربي بانحراف عَنهُ وموالاة لِابْنِ الْأَغْلَب فَقتله سنة ثِنْتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَة وَصفا لَهُ الْمغرب وَتمكن سُلْطَانه بِهِ وَالله غَالب على أمره
بِنَاء مَدِينَة فاس
لما كثرت الْوُفُود من الْعَرَب وَغَيرهم على إِدْرِيس رحمه الله وَضَاقَتْ بهم مَدِينَة وليلى اراد أَن يَبْنِي لنَفسِهِ مَدِينَة يسكنهَا هُوَ وخاصته ووجوه دولته فَركب يَوْمًا فِي جمَاعَة من حَاشِيَته وَخرج يتَخَيَّر الْبِقَاع فوصل إِلَى جبل زالغ فأعجبه ارتفاعه وطبب هوائه وتربته فاختط بِسَنَدِهِ مَدِينَة مِمَّا يَلِي الْجوف وَشرع فِي بنائها فَبنى بَعْضًا من الدّور وَنَحْو الثُّلُث من السُّور فَأتى السَّيْل من أَعلَى الْجَبَل فِي بعض اللَّيَالِي فهدم السُّور والدور وَحمل مَا حول ذَلِك من الْخيام والزروع وَأَلْقَاهَا فِي نهر سبو فَكف إِدْرِيس عَن الْبناء وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك مُدَّة يسيرَة ثمَّ خرج ثَانِيَة يتصيد ويرتاد لنَفسِهِ موضعا يَبْنِي فِيهِ مَا قد عزم عَلَيْهِ فَانْتهى إِلَى نهر سبو حَيْثُ هِيَ الْيَوْم حمة خولان فأعجبه الْموضع
لقُرْبه من المَاء وَلأَجل الْحمة الَّتِي هُنَاكَ والحمة كَمَا فِي الْقَامُوس كل عين فِيهَا مَا حَار يَنْبع مِنْهَا ويستشفى بِهِ فعزم إِدْرِيس على أَن يَبْنِي هُنَاكَ مَدِينَة وَشرع فِي حفر الأساس وَعمل الجيار وَقطع الْخشب وابتدأ بِالْبِنَاءِ ثمَّ فكر فِي نهر سبو وَمَا يَأْتِي بِهِ من الْمَمْدُود والسيول زمَان الشتَاء وَمَا يحصل بذلك من الضَّرَر الْعَظِيم للنَّاس فَكف عَن الْبناء وَرجع إِلَى وليلى
ثمَّ بعث وزيره عُمَيْر بن مُصعب الْأَزْدِيّ يرتاد لَهُ موضعا يَبْنِي فِيهِ الْمَدِينَة الَّتِي عزم عَلَيْهَا فَسَار عُمَيْر فِي جمَاعَة يقص الْجِهَات وَيتَخَيَّر الْبِقَاع والترب والمياه حَتَّى انْتهى إِلَى فحص سايس فأعجبه الْمحل فَنزل هُنَاكَ على عين مَاء تطرد فِي مرج أَخْضَر فَتَوَضَّأ وَصلى الظّهْر هُوَ وَجَمَاعَة الْقَوْم الَّذين مَعَه ثمَّ دَعَا الله تَعَالَى أَن ييسر عَلَيْهِ مطلبه ثمَّ ركب وَحده وَأمر الْجَمَاعَة أَن ينتظروه حَتَّى يعود إِلَيْهِم فنسبت الْعين إِلَيْهِ من يَوْمئِذٍ ودعيت عين عُمَيْر إِلَى الْآن وَعُمَيْر هَذَا هُوَ جد بني الملجوم من بيوتات فاس وكبرائهم فأوغل عُمَيْر فِي فحص سايس حَتَّى انْتهى إِلَى الْعُيُون الَّتِي يَنْبع مِنْهَا وَادي فاس فَرَأى بهَا من عناصر المَاء مَا ينيف على السِّتين عنصرا وَرَأى مياهها تطرد فِي فسيح من الأَرْض وحول الْعُيُون شعراء من شجر الطرفاء والطخش والعرعار والكلخ وَغير ذَلِك فَشرب من المَاء فاستطابه وَنظر إِلَى مَا حوله من الْمزَارِع الَّتِي لَيست على نهر سبو فَأَعْجَبتهُ فانحدر مَعَ مسيل الْوَادي حَتَّى انْتهى إِلَى مَوضِع مَدِينَة فاس الْيَوْم فَنظر فَإِذا مَا بَين الجبلين غيضة ملتفة الْأَشْجَار مطردَة الْعُيُون والأنهار وَفِي جَانب مِنْهَا خيام من شعر يسكنهَا قوم من زواغة يعْرفُونَ ببني الْخَيْر وَقوم من زناتة يعْرفُونَ ببني يرغش وَكَانَ بَنو يرغش على دين الْمَجُوسِيَّة وَكَانَ بَيت نارهم بالموضع الْمَعْرُوف بشيبوبة وَكَانَ الْبَعْض مِنْهُم على دين الْيَهُودِيَّة وَالْبَعْض على دين النَّصْرَانِيَّة
وَكَانَ بَنو الْخَيْر ينزلون بعدوة الْقرَوِيين وَبَنُو يرغش ينزلون بعدوة الأندلس وَكَانُوا قَلما يفترون عَن الْقِتَال لاخْتِلَاف أهوائهم وتباين أديانهم
فَرجع عُمَيْر إِلَى إِدْرِيس وأعلمه بِمَا رأى من الغيضة وساكنيها وَمَا وَقع عَلَيْهِ اخْتِيَاره فِيهَا فجَاء إِدْرِيس لينْظر إِلَى الْبقْعَة فألفى بني الْخَيْر وَبني يرغش يقتتلون فَأصْلح بَينهم وَأَسْلمُوا على يَده
وَاشْترى مِنْهُم الغيضة بِسِتَّة آلَاف دِرْهَم هم فرضوا بذلك وَدفع لَهُم الثّمن وَأشْهد عَلَيْهِم بذلك على يَد كَاتبه أبي الْحسن عبد الله بن مَالك الخزرجي
ثمَّ ضرب أبنتيه بكرواوة وَشرع فِي بِنَاء الْمَدِينَة فاختط عدوة الأندلس غرَّة ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَة
وَفِي سنة ثَلَاث بعْدهَا اختط عدوة الْقرَوِيين وَبنى مساكنه بهَا وانتقل إِلَيْهَا وَقد كَانَ أَولا أدَار السُّور على عدوة الأندلس وَبنى بهَا الْجَامِع الْمَعْرُوف بِجَامِع الْأَشْيَاخ وَأقَام فِيهِ الْخطْبَة ثمَّ انْتقل ثَانِيًا إِلَى عدوة الْقرَوِيين كَمَا قُلْنَا وَنزل بالموضع الْمَعْرُوف بالمقرمدة وَضرب فِيهِ قيطونة وَأخذ فِي بِنَاء جَامع الشرفاء وَأقَام فِيهِ الْخطْبَة أَيْضا ثمَّ شرع فِي بِنَاء دَاره الْمَعْرُوفَة الْآن بدار القيطون الَّتِي يسكنهَا الشرفاء الجوطيون من وَلَده ثمَّ بنى القيسارية إِلَى جَانب الْمَسْجِد الْجَامِع وأدار الْأَسْوَاق حوله وَأمر النَّاس بِالْبِنَاءِ وَقَالَ لَهُم من بنى موضعا أَو اغترسه قبل تَمام السُّور فَهُوَ لَهُ فَبنى النَّاس من ذَلِك شَيْئا كثيرا واغترسوا ووفد عَلَيْهِ جمَاعَة من الْفرس من أَرض الْعرَاق فأنزلهم بغيضة هُنَاكَ كَانَت على الْعين الْمَعْرُوفَة بِعَين علون
وَكَانَ علون عبدا أسود يأوي إِلَى تِلْكَ الغيضة وَيقطع الطَّرِيق بهَا على الْمَارَّة فتحامى النَّاس غيضته وتناذروها فَأعْلم إِدْرِيس رحمه الله بِشَأْنِهِ فَبعث فِي طلبه خيلا قبضوا عَلَيْهِ وجاؤوا بِهِ إِلَيْهِ فَأمر بقتْله وصلبه على شَجَرَة كَانَت على الْعين فأضيفت إِلَيْهِ الْعين من يَوْمئِذٍ وَقيل عين علون
ثمَّ أدَار إِدْرِيس السُّور على عدوة الْقرَوِيين وَكَانَت من لدن بَاب السلسلة إِلَى غَدِير الجوزاء
قَالَ عبد الْملك الْوراق كَانَت مَدِينَة فاس فِي الْقَدِيم بلدين لكل بلد مِنْهُمَا سور يحيى ط بِهِ وأبواب تخْتَص بِهِ وَالنّهر فاصل بَينهمَا وَسميت
إِحْدَى العدوتين عدوة الْقرَوِيين لنزول الْعَرَب الوافدين من القيروان بهَا وَكَانُوا ثَلَاثمِائَة أهل بَيت وَسميت الْأُخْرَى عدوة الأندلس لنزول الْعَرَب الوافدين من الأندلس بهَا وَكَانُوا جما غفيرا يُقَال أَرْبَعَة آلَاف أهل بَيت
وَكَانَ الحكم بن هِشَام الْأمَوِي صَاحب الأندلس صدرت مِنْهُ لأوّل إمارته هَنَات أوجبت قيام جمَاعَة من أهل الْوَرع عَلَيْهِ فيهم يحيى بن يحيى اللَّيْثِيّ صَاحب مَالك وراوي الْمُوَطَّأ عَنهُ وطالوت الْفَقِيه وَغَيرهمَا فخلعوا الحكم وَبَايَعُوا بعض قرَابَته وَكَانُوا بالربض الغربي من قرطبة فَقَاتلهُمْ الحكم وكثروه وكادوا يأْتونَ عَلَيْهِ ثمَّ أظفره الله بهم وَوضع فيهم السَّيْف ثَلَاثَة أَيَّام وَهدم دُورهمْ ومساجدهم وفر الْبَاقُونَ مِنْهُم فَلَحقُوا بفاس الْمغرب الْأَقْصَى وبالإسكندرية من أَرض مصر فَأَما اللاحقون بفاس فأنزلهم إِدْرِيس رحمه الله بعدوة الأندلس فأضيفت إِلَيْهِم وَأما اللاحقون بالإسكندية فثاروا بهَا بعد حِين فزحف إِلَيْهِم عبد الله بن طَاهِر الْخُزَاعِيّ صَاحب مصر من قبل الْمَأْمُون بن الرشيد فَقَاتلهُمْ ونفاهم إِلَى جَزِيرَة إقريطش فَلم يزَالُوا بهَا إِلَى أَن ملكهَا الفرنج من أَيْديهم بعد مُدَّة
وَذكر ابْن غَالب فِي تَارِيخه أَن الإِمَام إِدْرِيس لما فرغ من بِنَاء مَدِينَة فاس وَحَضَرت الْجُمُعَة الأولى صعد الْمِنْبَر وخطب النَّاس ثمَّ رفع يَدَيْهِ فِي آخر الْخطْبَة فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنِّي مَا أردْت بِبِنَاء هَذِه الْمَدِينَة مباهاة وَلَا مفاخرة وَلَا رِيَاء وَلَا سمعة وَلَا مُكَابَرَة وَإِنَّمَا أردْت أَن تعبد بهَا ويتلى بهَا كتابك وتقام بهَا حدودك وَشَرَائِع دينك وَسنة نبيك مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم مَا بقيت الدُّنْيَا اللَّهُمَّ وفْق سكانها وقطانها للخير وأعنهم عَلَيْهِ واكفهم مُؤنَة أعدائهم وأدر عَلَيْهِم الأرزاق وأغمد عَنْهُم سيف الْفِتْنَة والشقاق إِنَّك على كل شَيْء قدير
فأمن النَّاس على دُعَائِهِ فكثرت الْخيرَات بِالْمَدِينَةِ وَظَهَرت بهَا البركات
وَمن محَاسِن فاس أَن نهرها يشقها بنصفين وتتشعب جداوله فِي دورها وحماماتها وشوارعها وأسواقها وتطحن بِهِ أرحاؤها ثمَّ يخرج مِنْهَا وَقد حمل أقذارها وازبالها إِلَى غير ذَلِك من عُيُون المَاء الَّتِي تنبع بداخلها وتتفجر من بيوتها تجَاوز الْحصْر كَثْرَة وَقد مدحها الْفَقِيه الزَّاهِد أَبُو الْفضل ابْن النَّحْوِيّ بقوله
(يَا فاس جَمِيع الْحسن مسترق
…
وساكنوك ليهنهم بِمَا رزقوا)
(هَذَا نسميك أم روح لراحتنا
…
وماؤك السلسل الصافي أم الْوَرق)
(أَرض تخللها الْأَنْهَار داخلها
…
حَتَّى الْمجَالِس والأسواق والطرق)
وَقَالَ الْفَقِيه الْكَاتِب أَبُو عبد الله المغيلي يتشوق إِلَى فاس وَكَانَ يَلِي خطة الْقَضَاء بِمَدِينَة آزمور
(يَا فاس حَيا الله أَرْضك من ثرى
…
وسقاك من صوب الْغَمَام المسبل)
(يَا جنَّة الدُّنْيَا الَّتِي أربت على
…
حمص بمنظرها الْبَهِي الأجمل)
(غرف على غرف وَيجْرِي تحتهَا
…
مَاء ألذ من الرَّحِيق السلسل)
(وبساتن من سندس قد زخرفت
…
بجداول كالأيم أَو كالمقصل)
وبجامع القروين شرف ذكره
…
أنس بذكراه يهيج تململ)
(وبصحنه زمن المصيف محَاسِن
…
فَمَعَ الْعشي الغرب مِنْهُ اسْتقْبل)
(واجلس إزاء الخصة الحسنا بِهِ
…
واكرع بهَا عني فديتك وانهل)