المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بناء مدينة فاس - الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى - جـ ١

[أحمد بن خالد الناصري]

فهرس الكتاب

- ‌مُقَدّمَة فِي فضل علم التَّارِيخ

- ‌ذكر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الْأَرْبَعَة رضي الله عنهم

- ‌خلَافَة أبي بكر الصّديق رضي الله عنه

- ‌خلَافَة أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رضي الله عنه

- ‌خلَافَة أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه

- ‌فتح أفريقية

- ‌خلَافَة أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه

- ‌حَرْب صفّين

- ‌القَوْل فِي نسب البربر وَبَيَان أصلهم

- ‌القَوْل فِي تَقْسِيم شعوب البربر على الْجُمْلَة

- ‌الْخَبَر عَن حَال البربر قبل الْإِسْلَام وَذكر بعض أَمْصَار الْمغرب الْقَدِيمَة وَمَا قيل فِي ذَلِك

- ‌إِيقَاع يحيى بن يغمور بِأَهْل لبلة وإسرافه فِي ذَلِك

- ‌القَوْل فِي تَحْدِيد الْمغرب وَذكر حَال البربر بعد الْإِسْلَام

- ‌ولَايَة عَمْرو بن الْعَاصِ رضي الله عنه وفتحه برقة وطرابلس

- ‌ ولَايَة عبد الله بن سعد بن أبي سرح وفتحه إفريقية

- ‌ولَايَة مُعَاوِيَة بن حديج على الْمغرب

- ‌ولَايَة عقبَة بن نَافِع الفِهري على الْمغرب وبناؤه مَدِينَة القيروان

- ‌ولَايَة أبي المُهَاجر دِينَار وفتحه الْمغرب الْأَوْسَط

- ‌ولَايَة عقبَة بن نَافِع الثَّانِيَة وفتحه الْمغرب الْأَقْصَى ومقتله

- ‌ذكر من دخل الْمغرب من الصَّحَابَة مرتبَة أَسمَاؤُهُم على حُرُوف المعجم

- ‌ذكر اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي أَرض الْمغرب هَل فتحت عنْوَة أَو صلحا أَو غير ذَلِك

- ‌ولَايَة زُهَيْر بن قيس البلوي على الْمغرب ومقتل كسيلة وَمَا يتبع ذَلِك

- ‌ولَايَة حسان بن النُّعْمَان على الْمغرب وتخريبه قرطاجنة

- ‌ولَايَة مُوسَى بن نصير على الْمغرب وفتحه الأندلس

- ‌شغب العبيد على السُّلْطَان الْمولى عبد الله وفراره ثَانِيَة إِلَى البربر

- ‌الْخَبَر عَن دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ زين العابدين بن إِسْمَاعِيل رحمه الله

- ‌ولَايَة مُحَمَّد بن يزِيد على الْمغرب

- ‌ولَايَة إِسْمَاعِيل بن عبيد الله بن أبي المُهَاجر على الْمغرب

- ‌ولَايَة يزِيد بن أبي مُسلم على الْمغرب

- ‌ولَايَة بشر بن صَفْوَان على الْمغرب

- ‌ولَايَة عُبَيْدَة بن عبد الرَّحْمَن على الْمغرب

- ‌ولَايَة عبيد الله بن الحبحاب على الْمغرب

- ‌ولَايَة كُلْثُوم بن عِيَاض على الْمغرب ومقتله

- ‌ولَايَة حَنْظَلَة بن صَفْوَان على الْمغرب

- ‌ذكر صَالح بن طريف البرغواطي المتنبي ومخرقته

- ‌الْخَبَر عَن تغلب آل عقبَة بن نَافِع على الْمغرب وَولَايَة عبد الرَّحْمَن بن حبيب مِنْهُم

- ‌دُخُول عبد الرَّحْمَن الْأمَوِي إِلَى إفريقية وجوازه إِلَى الأندلس وتأسيسه للدولة الأموية بهَا

- ‌اسْتِيلَاء إلْيَاس بن حبيب على الْمغرب

- ‌اسْتِيلَاء حبيب بن عبد الرَّحْمَن على الْمغرب وفتنة عَاصِم بن جميل المتنبئ ومقتله

- ‌اسْتِيلَاء عبد الْملك بن أبي الْجَعْد على الْمغرب

- ‌اسْتِيلَاء عبد الْأَعْلَى بن السَّمْح على الْمغرب وَظُهُور الصفرية من آل مدرار المكناسيين وبناؤهم مَدِينَة سجلماسة

- ‌ولَايَة مُحَمَّد بن الْأَشْعَث على الْمغرب

- ‌ولَايَة الْأَغْلَب بن سَالم التَّمِيمِي على الْمغرب

- ‌ولَايَة عمر بن حَفْص هزارمرد على الْمغرب

- ‌ولَايَة يزِيد بن حَاتِم على الْمغرب

- ‌ولَايَة روح بن حَاتِم على الْمغرب

- ‌القَوْل فِي مَذَاهِب أهل الْمغرب أصولا وفروعا وَمَا يتبع ذَلِك

- ‌تَتِمَّة مهمة

- ‌الدولة الإدريسية

- ‌الْخَبَر عَن دولة آل إِدْرِيس بالمغرب الْأَقْصَى وَذكر السَّبَب فِي أوليتها

- ‌دُخُول إِدْرِيس بن عبد الله أَرض الْمغرب الْأَقْصَى

- ‌بيعَة الإِمَام إِدْرِيس بن عبد الله رضي الله عنه

- ‌غَزْو إِدْرِيس بن عبد الله بِلَاد الْمغرب الْأَقْصَى وفتحه إِيَّاهَا

- ‌غَزْو إِدْرِيس بن عبد الله أَرض الْمغرب الْأَوْسَط وَفتح مَدِينَة تلمسان

- ‌وَفَاة إِدْرِيس بن عبد الله وَالسَّبَب فِي ذَلِك

- ‌أَمر البربر بعد وَفَاة إِدْرِيس بن عبد الله رحمه الله

- ‌الْخَبَر عَن دولة إِدْرِيس بن إِدْرِيس رحمه الله

- ‌وُفُود الْعَرَب على إِدْرِيس بن إِدْرِيس رحمه الله

- ‌بِنَاء مَدِينَة فاس

- ‌غَزْو إِدْرِيس بن إِدْرِيس المغربين واستيلاؤه عَلَيْهِمَا

- ‌وَفَاة إِدْرِيس بن إِدْرِيس رحمه الله

- ‌الْخَبَر عَن دولة مُحَمَّد بن إِدْرِيس رحمه الله

- ‌حُدُوث الْفِتْنَة بَين بني إِدْرِيس

- ‌وَفَاة مُحَمَّد بن إِدْرِيس رحمه الله

- ‌الْخَبَر عَن دولة عَليّ بن مُحَمَّد بن إِدْرِيس

- ‌الْخَبَر عَن دولة يحيى بن مُحَمَّد بن إِدْرِيس

- ‌بِنَاء مَسْجِد الْقرَوِيين بفاس

- ‌الخبرعن دولة يحيى بن يحيى بن مُحَمَّد بن إِدْرِيس

- ‌لما توفّي يحيى بن مُحَمَّد الَّذِي بنى مَسْجِد الْقرَوِيين فِي أَيَّامه ولي الْأَمر من بعده ابْنه يحيى بن يحيى بن مُحَمَّد بن إِدْرِيس فاساء السِّيرَة وَكثر عيثه فِي الْحرم وَدخل على جَارِيَة من بَنَات الْيَهُود فِي الْحمام وَكَانَت بارعة فِي الْجمال فَرَاوَدَهَا عَن نَفسهَا فاستغاثت وبادر النَّاس إِلَيْهَا

- ‌الْخَبَر عَن دولة عَليّ بن عمر بن إِدْرِيس

- ‌الْخَبَر عَن دولة يحيى بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس

- ‌الْخَبَر عَن دولة يحيى بن إِدْرِيس بن عمر بن إِدْرِيس

- ‌اسْتِيلَاء العبيديين من الشِّيعَة على الْمغرب الْأَقْصَى وقدوم قائدهم مصالة بن حبوس إِلَى فاس

- ‌عود الْمغرب الْأَقْصَى إِلَى الأدارسة وَظُهُور الْحسن الْحجام بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس

- ‌خُرُوج الْحسن الْحجام إِلَى قتال مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة

- ‌الْخَبَر عَن دولة آل أبي الْعَافِيَة المكناسيين الناسخة لدولة آل إِدْرِيس بفاس وأعمالها

- ‌طرد مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة آل إِدْرِيس من أَعمال الْمغرب وحصره إيَّاهُم بِحجر النسْر

- ‌اسْتِيلَاء مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة على تلمسان وأعمالها

- ‌انحراف مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة عَن الشِّيعَة إِلَى بني مَرْوَان وَمَا نَشأ عَن ذَلِك

- ‌ثورة أَحْمد بن بكر الجذامي بدعوة المروانيين بفاس وَمَا نَشأ عَن ذَلِك

- ‌حَرْب ميسور مَعَ مُوسَى بن أبي الْعَافِيَة

- ‌بَقِيَّة أَخْبَار آل أبي الْعَافِيَة بالمغرب

- ‌الْخَبَر عَن الدولة الثَّانِيَة للأدارسة بِبِلَاد الرِّيف

- ‌الْخَبَر عَن رياسة الْقَاسِم كنون بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن إِدْرِيس

- ‌الْخَبَر عَن دولة أبي الْعَيْش احْمَد بن الْقَاسِم كنون

- ‌تغلب عبد الرَّحْمَن النَّاصِر على بِلَاد الْمغرب ومضايقته لأبي الْعَيْش بهَا

- ‌هِجْرَة أبي الْعَيْش إِلَى الأندلس بِقصد الْجِهَاد

- ‌الْخَبَر عَن دولة الْحسن بن كنون

- ‌قدوم الْقَائِد جَوْهَر الشيعي من إفريقيا إِلَى الْمغرب واستيلاؤه عَلَيْهِ

- ‌قدوم بلكين بن زيزي بن مُنَاد الصنهاجي الشيعي من إفريقيا إِلَى الْمغرب

- ‌قدوم غَالب الْأمَوِي إِلَى الْمغرب وتغريب آل إِدْرِيس إِلَى الأندلس

- ‌حُدُوث النفرة بَين الحكم وَالْحسن وَالسَّبَب فِي ذَلِك

- ‌عود الْحسن بن كنون إِلَى الْمغرب وَمَا كَانَ من أمره إِلَى مَقْتَله وانقراض دولته

- ‌الْخَبَر عَن دولة زناتة من مغراوة وَبني يفرن بفاس وَالْمغْرب

- ‌الْخَبَر عَن دولة زيري بن عَطِيَّة المغراوي بفاس وَالْمغْرب

- ‌حَدِيث أبي البهار الصنهاجي مَعَ الْمَنْصُور ابْن أبي عَامر وَمَا نَشأ عَن ذَلِك

- ‌وفادة زيري بن عَطِيَّة على الْمَنْصُور بن أبي عَامر بالأندلس

- ‌اسْتِيلَاء يدو بن يعلى اليفرني على فاس ومقتله

- ‌بِنَاء مَدِينَة وَجدّة

- ‌حُدُوث النفرة بَين زيري بن عَطِيَّة والمنصور بن أبي عَامر وَمَا نَشأ عَن ذَلِك

- ‌الْخَبَر عَن دولة الْمعز بن زيري بن عَطِيَّة المغراوي

- ‌الْخَبَر عَن دولة حمامة بن الْمعز بن عَطِيَّة المغراوي

- ‌الْخَبَر عَن دولة أبي الْكَمَال تَمِيم بن زيري اليفرني واستيلائه على فاس وأعمالها

- ‌الْخَبَر عَن دولة دوناس بن حمامة ابْن الْمعز بن عَطِيَّة المغراوي

- ‌الْخَبَر عَن دولة فتوح بن دوناس المغراوي

- ‌الْخَبَر عَن دولة معنصر بن حَمَّاد بن معنصر بن الْمعز بن عَطِيَّة المغراوي

- ‌الْخَبَر عَن دولة تَمِيم بن معنصر المغراوي

الفصل: ‌بناء مدينة فاس

وانْتهى إِلَى ابْن الْأَغْلَب مَا عَلَيْهِ إِدْرِيس من الإستفحال فأرهف عزمه للتضريب بَين البربر واستفسادهم على إِدْرِيس فَكَانَ مِنْهُم بهْلُول بن عبد الْوَاحِد المضغري من خَاصَّة إِدْرِيس وَمن أَرْكَان دولته فكاتبه ابْن الْأَغْلَب واستهواه بِالْمَالِ حَتَّى بَايع الرشيد وانحرف عَن إِدْرِيس واعتزله فِي قومه فَصَالحه إِدْرِيس وَكتب إِلَيْهِ يستعطفه بقرابته من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَكف عَنهُ وَكَانَ فِيمَا كتب بِهِ إِدْرِيس إِلَى بهْلُول الْمَذْكُور قَوْله

(أبهلول قد حملت نَفسك خطة

تبدلت مِنْهَا ضلة برشاد)

(أضلك إِبْرَاهِيم مَعَ بعد دَاره

فَأَصْبَحت منقادا بِغَيْر قياد)

(كَأَنَّك لم تسمع بمكر ابْن أغلب

وقدما رمى بالكيد كل بِلَاد)

(وَمن دون مَا منتك نَفسك خَالِيا

ومناك إِبْرَاهِيم شوك قتاد)

ثمَّ أحس إِدْرِيس من إِسْحَاق بن مُحَمَّد الأوربي بانحراف عَنهُ وموالاة لِابْنِ الْأَغْلَب فَقتله سنة ثِنْتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَة وَصفا لَهُ الْمغرب وَتمكن سُلْطَانه بِهِ وَالله غَالب على أمره

‌بِنَاء مَدِينَة فاس

لما كثرت الْوُفُود من الْعَرَب وَغَيرهم على إِدْرِيس رحمه الله وَضَاقَتْ بهم مَدِينَة وليلى اراد أَن يَبْنِي لنَفسِهِ مَدِينَة يسكنهَا هُوَ وخاصته ووجوه دولته فَركب يَوْمًا فِي جمَاعَة من حَاشِيَته وَخرج يتَخَيَّر الْبِقَاع فوصل إِلَى جبل زالغ فأعجبه ارتفاعه وطبب هوائه وتربته فاختط بِسَنَدِهِ مَدِينَة مِمَّا يَلِي الْجوف وَشرع فِي بنائها فَبنى بَعْضًا من الدّور وَنَحْو الثُّلُث من السُّور فَأتى السَّيْل من أَعلَى الْجَبَل فِي بعض اللَّيَالِي فهدم السُّور والدور وَحمل مَا حول ذَلِك من الْخيام والزروع وَأَلْقَاهَا فِي نهر سبو فَكف إِدْرِيس عَن الْبناء وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك مُدَّة يسيرَة ثمَّ خرج ثَانِيَة يتصيد ويرتاد لنَفسِهِ موضعا يَبْنِي فِيهِ مَا قد عزم عَلَيْهِ فَانْتهى إِلَى نهر سبو حَيْثُ هِيَ الْيَوْم حمة خولان فأعجبه الْموضع

ص: 220

لقُرْبه من المَاء وَلأَجل الْحمة الَّتِي هُنَاكَ والحمة كَمَا فِي الْقَامُوس كل عين فِيهَا مَا حَار يَنْبع مِنْهَا ويستشفى بِهِ فعزم إِدْرِيس على أَن يَبْنِي هُنَاكَ مَدِينَة وَشرع فِي حفر الأساس وَعمل الجيار وَقطع الْخشب وابتدأ بِالْبِنَاءِ ثمَّ فكر فِي نهر سبو وَمَا يَأْتِي بِهِ من الْمَمْدُود والسيول زمَان الشتَاء وَمَا يحصل بذلك من الضَّرَر الْعَظِيم للنَّاس فَكف عَن الْبناء وَرجع إِلَى وليلى

ثمَّ بعث وزيره عُمَيْر بن مُصعب الْأَزْدِيّ يرتاد لَهُ موضعا يَبْنِي فِيهِ الْمَدِينَة الَّتِي عزم عَلَيْهَا فَسَار عُمَيْر فِي جمَاعَة يقص الْجِهَات وَيتَخَيَّر الْبِقَاع والترب والمياه حَتَّى انْتهى إِلَى فحص سايس فأعجبه الْمحل فَنزل هُنَاكَ على عين مَاء تطرد فِي مرج أَخْضَر فَتَوَضَّأ وَصلى الظّهْر هُوَ وَجَمَاعَة الْقَوْم الَّذين مَعَه ثمَّ دَعَا الله تَعَالَى أَن ييسر عَلَيْهِ مطلبه ثمَّ ركب وَحده وَأمر الْجَمَاعَة أَن ينتظروه حَتَّى يعود إِلَيْهِم فنسبت الْعين إِلَيْهِ من يَوْمئِذٍ ودعيت عين عُمَيْر إِلَى الْآن وَعُمَيْر هَذَا هُوَ جد بني الملجوم من بيوتات فاس وكبرائهم فأوغل عُمَيْر فِي فحص سايس حَتَّى انْتهى إِلَى الْعُيُون الَّتِي يَنْبع مِنْهَا وَادي فاس فَرَأى بهَا من عناصر المَاء مَا ينيف على السِّتين عنصرا وَرَأى مياهها تطرد فِي فسيح من الأَرْض وحول الْعُيُون شعراء من شجر الطرفاء والطخش والعرعار والكلخ وَغير ذَلِك فَشرب من المَاء فاستطابه وَنظر إِلَى مَا حوله من الْمزَارِع الَّتِي لَيست على نهر سبو فَأَعْجَبتهُ فانحدر مَعَ مسيل الْوَادي حَتَّى انْتهى إِلَى مَوضِع مَدِينَة فاس الْيَوْم فَنظر فَإِذا مَا بَين الجبلين غيضة ملتفة الْأَشْجَار مطردَة الْعُيُون والأنهار وَفِي جَانب مِنْهَا خيام من شعر يسكنهَا قوم من زواغة يعْرفُونَ ببني الْخَيْر وَقوم من زناتة يعْرفُونَ ببني يرغش وَكَانَ بَنو يرغش على دين الْمَجُوسِيَّة وَكَانَ بَيت نارهم بالموضع الْمَعْرُوف بشيبوبة وَكَانَ الْبَعْض مِنْهُم على دين الْيَهُودِيَّة وَالْبَعْض على دين النَّصْرَانِيَّة

وَكَانَ بَنو الْخَيْر ينزلون بعدوة الْقرَوِيين وَبَنُو يرغش ينزلون بعدوة الأندلس وَكَانُوا قَلما يفترون عَن الْقِتَال لاخْتِلَاف أهوائهم وتباين أديانهم

ص: 221

فَرجع عُمَيْر إِلَى إِدْرِيس وأعلمه بِمَا رأى من الغيضة وساكنيها وَمَا وَقع عَلَيْهِ اخْتِيَاره فِيهَا فجَاء إِدْرِيس لينْظر إِلَى الْبقْعَة فألفى بني الْخَيْر وَبني يرغش يقتتلون فَأصْلح بَينهم وَأَسْلمُوا على يَده

وَاشْترى مِنْهُم الغيضة بِسِتَّة آلَاف دِرْهَم هم فرضوا بذلك وَدفع لَهُم الثّمن وَأشْهد عَلَيْهِم بذلك على يَد كَاتبه أبي الْحسن عبد الله بن مَالك الخزرجي

ثمَّ ضرب أبنتيه بكرواوة وَشرع فِي بِنَاء الْمَدِينَة فاختط عدوة الأندلس غرَّة ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَة

وَفِي سنة ثَلَاث بعْدهَا اختط عدوة الْقرَوِيين وَبنى مساكنه بهَا وانتقل إِلَيْهَا وَقد كَانَ أَولا أدَار السُّور على عدوة الأندلس وَبنى بهَا الْجَامِع الْمَعْرُوف بِجَامِع الْأَشْيَاخ وَأقَام فِيهِ الْخطْبَة ثمَّ انْتقل ثَانِيًا إِلَى عدوة الْقرَوِيين كَمَا قُلْنَا وَنزل بالموضع الْمَعْرُوف بالمقرمدة وَضرب فِيهِ قيطونة وَأخذ فِي بِنَاء جَامع الشرفاء وَأقَام فِيهِ الْخطْبَة أَيْضا ثمَّ شرع فِي بِنَاء دَاره الْمَعْرُوفَة الْآن بدار القيطون الَّتِي يسكنهَا الشرفاء الجوطيون من وَلَده ثمَّ بنى القيسارية إِلَى جَانب الْمَسْجِد الْجَامِع وأدار الْأَسْوَاق حوله وَأمر النَّاس بِالْبِنَاءِ وَقَالَ لَهُم من بنى موضعا أَو اغترسه قبل تَمام السُّور فَهُوَ لَهُ فَبنى النَّاس من ذَلِك شَيْئا كثيرا واغترسوا ووفد عَلَيْهِ جمَاعَة من الْفرس من أَرض الْعرَاق فأنزلهم بغيضة هُنَاكَ كَانَت على الْعين الْمَعْرُوفَة بِعَين علون

وَكَانَ علون عبدا أسود يأوي إِلَى تِلْكَ الغيضة وَيقطع الطَّرِيق بهَا على الْمَارَّة فتحامى النَّاس غيضته وتناذروها فَأعْلم إِدْرِيس رحمه الله بِشَأْنِهِ فَبعث فِي طلبه خيلا قبضوا عَلَيْهِ وجاؤوا بِهِ إِلَيْهِ فَأمر بقتْله وصلبه على شَجَرَة كَانَت على الْعين فأضيفت إِلَيْهِ الْعين من يَوْمئِذٍ وَقيل عين علون

ثمَّ أدَار إِدْرِيس السُّور على عدوة الْقرَوِيين وَكَانَت من لدن بَاب السلسلة إِلَى غَدِير الجوزاء

قَالَ عبد الْملك الْوراق كَانَت مَدِينَة فاس فِي الْقَدِيم بلدين لكل بلد مِنْهُمَا سور يحيى ط بِهِ وأبواب تخْتَص بِهِ وَالنّهر فاصل بَينهمَا وَسميت

ص: 222

إِحْدَى العدوتين عدوة الْقرَوِيين لنزول الْعَرَب الوافدين من القيروان بهَا وَكَانُوا ثَلَاثمِائَة أهل بَيت وَسميت الْأُخْرَى عدوة الأندلس لنزول الْعَرَب الوافدين من الأندلس بهَا وَكَانُوا جما غفيرا يُقَال أَرْبَعَة آلَاف أهل بَيت

وَكَانَ الحكم بن هِشَام الْأمَوِي صَاحب الأندلس صدرت مِنْهُ لأوّل إمارته هَنَات أوجبت قيام جمَاعَة من أهل الْوَرع عَلَيْهِ فيهم يحيى بن يحيى اللَّيْثِيّ صَاحب مَالك وراوي الْمُوَطَّأ عَنهُ وطالوت الْفَقِيه وَغَيرهمَا فخلعوا الحكم وَبَايَعُوا بعض قرَابَته وَكَانُوا بالربض الغربي من قرطبة فَقَاتلهُمْ الحكم وكثروه وكادوا يأْتونَ عَلَيْهِ ثمَّ أظفره الله بهم وَوضع فيهم السَّيْف ثَلَاثَة أَيَّام وَهدم دُورهمْ ومساجدهم وفر الْبَاقُونَ مِنْهُم فَلَحقُوا بفاس الْمغرب الْأَقْصَى وبالإسكندرية من أَرض مصر فَأَما اللاحقون بفاس فأنزلهم إِدْرِيس رحمه الله بعدوة الأندلس فأضيفت إِلَيْهِم وَأما اللاحقون بالإسكندية فثاروا بهَا بعد حِين فزحف إِلَيْهِم عبد الله بن طَاهِر الْخُزَاعِيّ صَاحب مصر من قبل الْمَأْمُون بن الرشيد فَقَاتلهُمْ ونفاهم إِلَى جَزِيرَة إقريطش فَلم يزَالُوا بهَا إِلَى أَن ملكهَا الفرنج من أَيْديهم بعد مُدَّة

وَذكر ابْن غَالب فِي تَارِيخه أَن الإِمَام إِدْرِيس لما فرغ من بِنَاء مَدِينَة فاس وَحَضَرت الْجُمُعَة الأولى صعد الْمِنْبَر وخطب النَّاس ثمَّ رفع يَدَيْهِ فِي آخر الْخطْبَة فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنِّي مَا أردْت بِبِنَاء هَذِه الْمَدِينَة مباهاة وَلَا مفاخرة وَلَا رِيَاء وَلَا سمعة وَلَا مُكَابَرَة وَإِنَّمَا أردْت أَن تعبد بهَا ويتلى بهَا كتابك وتقام بهَا حدودك وَشَرَائِع دينك وَسنة نبيك مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم مَا بقيت الدُّنْيَا اللَّهُمَّ وفْق سكانها وقطانها للخير وأعنهم عَلَيْهِ واكفهم مُؤنَة أعدائهم وأدر عَلَيْهِم الأرزاق وأغمد عَنْهُم سيف الْفِتْنَة والشقاق إِنَّك على كل شَيْء قدير

ص: 223

فأمن النَّاس على دُعَائِهِ فكثرت الْخيرَات بِالْمَدِينَةِ وَظَهَرت بهَا البركات

وَمن محَاسِن فاس أَن نهرها يشقها بنصفين وتتشعب جداوله فِي دورها وحماماتها وشوارعها وأسواقها وتطحن بِهِ أرحاؤها ثمَّ يخرج مِنْهَا وَقد حمل أقذارها وازبالها إِلَى غير ذَلِك من عُيُون المَاء الَّتِي تنبع بداخلها وتتفجر من بيوتها تجَاوز الْحصْر كَثْرَة وَقد مدحها الْفَقِيه الزَّاهِد أَبُو الْفضل ابْن النَّحْوِيّ بقوله

(يَا فاس جَمِيع الْحسن مسترق

وساكنوك ليهنهم بِمَا رزقوا)

(هَذَا نسميك أم روح لراحتنا

وماؤك السلسل الصافي أم الْوَرق)

(أَرض تخللها الْأَنْهَار داخلها

حَتَّى الْمجَالِس والأسواق والطرق)

وَقَالَ الْفَقِيه الْكَاتِب أَبُو عبد الله المغيلي يتشوق إِلَى فاس وَكَانَ يَلِي خطة الْقَضَاء بِمَدِينَة آزمور

(يَا فاس حَيا الله أَرْضك من ثرى

وسقاك من صوب الْغَمَام المسبل)

(يَا جنَّة الدُّنْيَا الَّتِي أربت على

حمص بمنظرها الْبَهِي الأجمل)

(غرف على غرف وَيجْرِي تحتهَا

مَاء ألذ من الرَّحِيق السلسل)

(وبساتن من سندس قد زخرفت

بجداول كالأيم أَو كالمقصل)

وبجامع القروين شرف ذكره

أنس بذكراه يهيج تململ)

(وبصحنه زمن المصيف محَاسِن

فَمَعَ الْعشي الغرب مِنْهُ اسْتقْبل)

(واجلس إزاء الخصة الحسنا بِهِ

واكرع بهَا عني فديتك وانهل)

ص: 224