الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صَرَّحُوا بِهِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الرِّشْوَةِ لِمَا عَلِمْت وَفِي الْقُنْيَةِ قُبَيْلَ التَّحَرِّي الظَّلَمَةُ تَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ الِاحْتِطَابِ مِنْ الْمُرُوجِ إلَّا بِدَفْعِ شَيْءٍ إلَيْهِمْ فَالدَّفْعُ وَالْأَخْذُ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ رِشْوَةٌ اهـ. وَفِيهَا مَا يَدْفَعُهُ الْمُتَعَاشِقَانِ رِشْوَةً يَجِبُ رَدُّهَا وَلَا تُمْلَكُ اهـ.
فَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْآخِذَ لَا يَمْلِكُهَا وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي هِبَةِ الْقُنْيَةِ قَالَ وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ الرِّشْوَةُ لَا تُمْلَكُ إلَى أَنْ قَالَ أَبْرَأَهُ عَنْ الدَّيْنِ لِيُصْلِحَ مُهِمَّهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ لَا يَبْرَأُ وَهُوَ رِشْوَةٌ، وَلَوْ أَبَى الِاضْطِجَاعَ عِنْدَ امْرَأَتِهِ فَقَالَ أَبْرِئِينِي عَنْ الْمَهْرِ فَأَضْطَجِعُ مَعَكِ فَأَبْرَأَتْهُ قِيلَ يَبْرَأُ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لِلتَّوَدُّدِ الدَّاعِي لِلْجِمَاعِ، وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «تَهَادُوا تَحَابُّوا» بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ عَلَى إصْلَاحِ الْمُهِمِّ، وَإِصْلَاحُ الْمُهِمِّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ دِيَانَةً، وَبَذْلُ الْمَالِ فِيمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ حَدُّ الرِّشْوَةِ اهـ.
وَفِيهَا دَفَعَ لِلْقَاضِي أَوْ لِغَيْرِهِ سُحْتًا لِإِصْلَاحِ الْمُهِمِّ فَأَصْلَحَ ثُمَّ نَدِمَ بِرَدِّ مَا دُفِعَ إلَيْهِ اهـ.
فَظَاهِرُهُ أَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ الرِّشْوَةِ بِرَدِّ الْمَالِ إلَى صَاحِبِهِ وَإِنْ قَضَى حَاجَتَهُ وَفِي صُلْحِ الْمِعْرَاجِ تَجُوزُ الْمُصَانَعَةُ لِلْأَوْصِيَاءِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَبِهِ يُفْتَى، ثُمَّ قَالَ مِنْ الرِّشْوَةِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى الْآخِذِ دُونَ الدَّافِعِ مَا يَأْخُذُهُ الشَّاعِرُ وَفِي وَصَايَا الْخَانِيَّةِ قَالُوا بَذْلُ الْمَالِ لِاسْتِخْلَاصِ حَقٍّ لَهُ عَلَى آخَرَ رِشْوَةٌ، وَلَيْسَ مِنْهُ مَا تَأْخُذُهُ الْمَرْأَةُ لِأَجْلِ صُلْحِهَا مَعَ الزَّوْجِ قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ وَالْبَزَّازِيَّةِ آخِرَ كِتَابِ الصُّلْحِ وَقَعَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مُشَاقَّاتٌ فَقَالَتْ لَا أُصَالِحُهُ حَتَّى يُعْطِيَنِي كَذَا؛ لِأَنَّ لَهَا عَلَيْهِ حَقًّا كَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ اهـ.
وَمِنْهَا مَا فِي مَهْرِ الْبَزَّازِيَّةِ الْأَخُ أَبَى أَنْ يُزَوِّجَ الْأُخْتَ إلَّا أَنْ يَدْفَعَ لَهُ كَذَا فَدَفَعَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ قَائِمًا أَوْ هَالِكًا؛ لِأَنَّهُ رِشْوَةٌ وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا يَرْجِعُ بِالْهَدِيَّةِ أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إذَا عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُزَوِّجُهُ إلَّا بِالْهَدِيَّةِ وَإِلَّا لَا اهـ.
وَمِنْهَا لَوْ أَنْفَقَ عَلَى مُعْتَدَّةِ الْغَيْرِ لِيَتَزَوَّجَهَا فَأَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ إنْ شَرَطَ الرُّجُوعَ رَجَعَ تَزَوَّجَهَا أَمْ لَا وَإِلَّا لَكِنْ أَنْفَقَ عَلَى طَمَعِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا اخْتَلَفَ التَّصْحِيحُ فِي الرُّجُوعِ وَعَدَمِهِ، وَقَدَّمْنَاهُ وَتَمَامَهُ فِيهَا.
قَوْلُهُ (وَ
الْفَاسِقُ يَصْلُحُ مُفْتِيًا
وَقِيلَ لَا) وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَحْذَرُ النِّسْبَةَ إلَى الْخَطَأِ، وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَخَبَرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الدِّيَانَاتِ وَلَمْ يُرَجِّحْ الشَّارِحُونَ أَحَدَهُمَا وَظَاهِرُ مَا فِي التَّحْرِيرِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ اسْتِفْتَاؤُهُ اتِّفَاقًا فَإِنَّهُ قَالَ الِاتِّفَاقُ عَلَى حِلِّ اسْتِفْتَاءِ مَنْ عُرِفَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْعَدَالَةِ أَوْ رَآهُ مُنْتَصِبًا وَالنَّاسُ يَسْتَفْتُونَهُ مُعَظِّمِينَ وَعَلَى امْتِنَاعِهِ إنْ ظَنَّ عَدَمَ أَحَدِهِمَا فَإِنْ جَهِلَ اجْتِهَادَهُ دُونَ عَدَالَتِهِ فَالْمُخْتَارُ مَنْعُ اسْتِفْتَائِهِ بِخِلَافِ الْمَجْهُولِ مِنْ غَيْرِهِ إذْ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْمَنْعِ اهـ.
فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَرْجِيحًا لِعَدَمِ صَلَاحِيَّتِهِ، وَلِذَا جُزِمَ بِهِ فِي الْمَجْمَعِ وَاخْتَارَهُ فِي شَرْحِهِ، وَقَالَ إنَّ أَوْلَى مَا يُسْتَنْزَلُ بِهِ فَيْضُ الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي تَحَقُّقِ الْوَاقِعَاتِ الشَّرْعِيَّةِ طَاعَةُ اللَّهِ عز وجل وَالتَّمَسُّكُ بِحَبْلِ التَّقْوَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] وَمَنْ اعْتَمَدَ عَلَى رَأْيِهِ وَذِهْنِهِ فِي اسْتِخْرَاجِ دَقَائِقِ الْفِقْهِ وَكُنُوزِهِ وَهُوَ فِي الْمَعَاصِي حَقِيقٌ بِإِنْزَالِ الْخِذْلَانِ عَلَيْهِ فَقَدْ اعْتَمَدَ عَلَى مَا لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] . اهـ.
فَشَرْطُ الْمُفْتِي إسْلَامُهُ وَعَدَالَتُهُ، وَلَزِمَ مِنْهَا اشْتِرَاطُ بُلُوغِهِ وَعَقْلِهِ فَتُرَدُّ فَتْوَى الْفَاسِقِ وَالْكَافِرِ وَغَيْرِ الْمُكَلَّفِ إذْ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُمْ، وَيُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ اجْتِهَادِهِ كَمَا سَيَأْتِي وَلَا حَاجَةَ إلَى اشْتِرَاطِ التَّيَقُّظِ وَقُوَّةِ الضَّبْطِ كَمَا فِي الرَّوْضِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْغَفْلَةُ وَالسَّهْوُ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَدَالَةِ يُغْنِي عَنْهُمَا وَفِي شَرْحِ الرَّوْضِ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ الْمَشْهُورِينَ فِي عَصْرِهِ عَمَّنْ يَصْلُحُ لِلْفَتْوَى لِيَمْنَعَ مَنْ لَا يَصْلُحُ وَيَتَوَعَّدُهُ بِالْعُقُوبَةِ بِالْعَوْدِ وَلْيَكُنْ الْمُفْتِي مُتَنَزِّهًا عَنْ خَوَارِمِ الْمُرُوءَةِ فَقِيهَ النَّفْسِ سَلِيمَ الذِّهْنِ حَسَنَ التَّصَرُّفِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَلَوْ كَانَ الْمُفْتِي عَبْدًا أَوْ امْرَأَةً أَوْ أَعْمَى أَوْ أَخْرَسَ بِالْإِشَارَةِ وَلَيْسَ هُوَ كَالشَّاهِدِ فِي رَدِّ فَتْوَاهُ لِقَرَابَةٍ وَجَرِّ نَفْعٍ وَدَفْعِ ضُرٍّ وَعَدَاوَةٍ فَهُوَ كَالرَّاوِي لَا كَالشَّاهِدِ، وَتُقْبَلُ فَتْوَى مَنْ لَا يَكْفُرُ وَلَا يَفْسُقُ بِبِدْعَةٍ كَشَهَادَتِهِ اهـ.
وَفِي تَلْقِيحِ الْمَحْبُوبِيِّ أَنَّ الْإِشَارَةَ مِنْ الْمُفْتِي النَّاطِقِ يُعْمَلُ بِهَا فَلَا يَخْتَصُّ بِالْأَخْرَسِ
ــ
[منحة الخالق]
(قَوْلُهُ وَفِي صُلْحٍ إلَخْ) هَكَذَا وُجِدَ بِالنُّسَخِ مُكَرَّرًا مَعَ السَّابِقِ، وَإِنْ كَانَتْ عِبَارَةُ الْمُحَشِّي تَقْضِي بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ تَأَمَّلْ اهـ. مُصَحَّحَةً
[الْفَاسِقُ يَصْلُحُ مُفْتِيًا]
(قَوْلُهُ وَظَاهِرُ مَا فِي التَّحْرِيرِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ اسْتِفْتَاؤُهُ اتِّفَاقًا) هَذَا بِنَاءً عَلَى مَا عَلَيْهِ الْأُصُولِيُّونَ مِنْ أَنَّ الْمُفْتِيَ هُوَ الْمُجْتَهِدُ كَمَا سَيَأْتِي فِي شَرْحِ قَوْلِهِ، وَالْمُفْتِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَكَذَا وَهُوَ غَيْرُ الْمُرَادِ هُنَا بَلْ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمُقَلِّدُ الَّذِي يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ عَنْ غَيْرِهِ (قَوْلُهُ إنْ ظَنَّ عَدَمَ أَحَدِهِمَا) أَيْ الِاجْتِهَادِ أَوْ الْعَدَالَةِ فَضْلًا عَنْ عَدَمِهِمَا جَمِيعًا كَذَا فِي شَرْحِ ابْنِ أَمِيرِ حَاجٍّ
وَفِي الْقُنْيَةِ رَامِزًا لِعَيْنِ الْأَئِمَّةِ الْمَكِّيِّ أَشَارَ الْمُفْتِي بِرَأْسِهِ مَكَانَ قَوْلِهِ نَعَمْ لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يَعْمَلَ بِهِ وَرَمَزَ لِلنَّوَازِلِ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ مِثْلَهُ وَرَمَزَ لِظَهِيرِ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيِّ لَا لِأَنَّ إشَارَةَ النَّاطِقِ لَا تُعْتَبَرُ. اهـ.
وَسَيَأْتِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي كَالْقَاضِي فِي أَوْصَافِ الْكَمَالِ وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ وَلَا بَأْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ مَنْ لَمْ يُخَاصِمْ إلَيْهِ، وَلَا يُفْتِي أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ فِيمَا خُوصِمَ إلَيْهِ اهـ.
(قَوْلُهُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فَظًّا غَلِيظًا جَبَّارًا عَنِيدًا) ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ وَهُوَ إيصَالُ الْحُقُوقِ إلَى أَهْلِهَا لَا يَحْصُلُ بِهِ، وَفِي الْمِصْبَاحِ رَجُلٌ فَظٌّ شَدِيدٌ غَلِيظُ الْقَلْبِ يُقَالُ مِنْهُ فَظَّ مِنْ بَابِ تَعِبَ فَظَاظَةً إذَا غَلُظَ حَتَّى يُهَابَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَغَلُظَ الرَّجُلُ اشْتَدَّ فَهُوَ غَلِيظٌ وَفِيهِ غِلْظَةٌ أَيْ غَيْرُ لَيِّنٍ وَلَا سَلِسٍ، وَأَغْلَظَ لَهُ فِي الْقَوْلِ إغْلَاظًا عَنَّفَهُ اهـ.
وَالْجَبَّارُ فِي الْخَلْقِ الْحَامِلُ غَيْرَهُ عَلَى الشَّيْءِ قَهْرًا وَغَلَبَةً وَفِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى الَّذِي جَبَرَ خَلْقَهُ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَالْعَنِيدُ مَنْ عَانَدَ فُلَانًا عِنَادًا مِنْ بَابِ قَاتَلَ إذَا رَكِبَ الْخِلَافَ وَالْعِصْيَانَ وَعَانَدَهُ مُعَانَدَةً عَارَضَهُ وَفَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ الْمُعَانِدُ الْمُعَارِضُ بِالْخِلَافِ لَا بِالْوِفَاقِ، وَقَدْ يَكُونُ مُبَارَاةً بِغَيْرِ خِلَافٍ اهـ.
وَفَسَّرَهُ فِي الْمُغْرِبِ بِمَنْ يَظْهَرُ لَهُ الْحَقُّ فَيَأْبَاهُ، وَذَكَرَهُ مِسْكِينٌ أَنَّ الْفَظَّ هُوَ الْجَافِي سَيِّئُ الْخُلُقِ وَالْغَلِيظَ قَاسِي الْقَلْبِ وَالْجَبَّارَ مَنْ جَبَرَهُ عَلَى الْأَمْرِ بِمَعْنَى أَجْبَرَهُ أَيْ لَا يُجْبِرُ غَيْرَهُ عَلَى مَا لَا يُرِيدُ وَالْعَنِيدَ الْمُعَانِدُ الْمُجَانِبُ لِلْحَقِّ الْمُعَادِي لِأَهْلِهِ
قَوْلُهُ (وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْثُوقًا بِهِ فِي عَفَافِهِ وَعَقْلِهِ وَصَلَاحِهِ وَفَهْمِهِ وَعِلْمِهِ بِالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَوُجُوهِ الْفِقْهِ) وَيَكُونُ شَدِيدًا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ لَيِّنًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْرَفَ وَأَقْدَرَ وَأَوْجَهَ وَأَهْيَبَ وَأَصْبَرَ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ النَّاسِ كَانَ أَوْلَى، يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَتَفَحَّصَ فِي ذَلِكَ وَيُوَلِّيَ مَنْ هُوَ أَوْلَى لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ قَلَّدَ إنْسَانًا عَمَلًا وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ» وَالْمَوْثُوقُ بِهِ مِنْ وَثِقْت بِهِ أَثِقُ بِكَسْرِهِمَا ثِقَةً وَوُثُوقًا ائْتَمَنْتُهُ هُوَ وَهِيَ وَهُمْ ثِقَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وَقَدْ يُجْمَعُ فِي الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فَيُقَالُ ثِقَاتٌ، وَالْعَفَافُ بِالْفَتْحِ مِنْ عَفَّ عَنْ الشَّيْءِ يَعِفُّ مِنْ بَابِ ضَرَبَ عِفَّةً بِالْكَسْرِ امْتَنَعَ عَنْهُ فَهُوَ عَفِيفٌ كَذَا فِي الْمِصْبَاحِ، وَفَسَّرَهُ الْكَرْمَانِيُّ شَارِحُ الْبُخَارِيِّ بِالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَخَوَارِمِ الْمُرُوءَةِ وَالْعَقْلُ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ كَمَا فِي التَّحْرِيرِ قُوَّةٌ بِهَا إدْرَاكُ الْكُلِّيَّاتِ لِلنَّفْسِ اهـ.
وَالْمُرَادُ بِالْوُثُوقِ بِهِ فِي عَقْلِهِ أَنْ يَكُونَ كَامِلَهُ فَلَا يُوَلَّى الْأَحْمَقُ وَهُوَ نَاقِصُ الْعَقْلِ قَالَ فِي الْمُسْتَظْرَفِ الْحُمْقُ الْخِفَّةُ غَرِيزَةٌ لَا تَنْفَعُ فِيهَا الْحِيلَةُ، وَهِيَ دَاءٌ دَوَاؤُهُ الْمَوْتُ وَفِي الْحَدِيثِ «الْأَحْمَقُ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى إذْ حَرَمَهُ أَعَزَّ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْعَقْلُ» .
وَيُسْتَدَلُّ عَلَى صِفَتِهِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ بِطُولِ اللِّحْيَةِ؛ لِأَنَّ مَخْرَجَهَا مِنْ الدِّمَاغِ فَمَنْ أَفْرَطَ طُولَ لِحْيَتِهِ قَلَّ دِمَاغُهُ، وَمَنْ قَلَّ دِمَاغُهُ قَلَّ عَقْلُهُ وَمَنْ قَلَّ عَقْلُهُ فَهُوَ أَخَفُّ، وَأَمَّا صِفَتُهُ مِنْ حَيْثُ الْأَفْعَالُ فَتَرْكُ نَظَرِهِ فِي الْعَوَاقِبِ وَثِقَتُهُ بِمَنْ لَا يَعْرِفُهُ وَالْعُجْبُ وَكَثْرَةُ الْكَلَامِ وَسُرْعَةُ الْجَوَابِ وَكَثْرَةُ الِالْتِفَاتِ وَالْخُلُوُّ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَجَلَةُ وَالْخِفَّةُ وَالسَّفَهُ وَالظُّلْمُ وَالْغَفْلَةُ وَالسَّهْوُ وَالْخُيَلَاءُ إنْ اسْتَغْنَى بَطِرَ، وَإِنْ افْتَقَرَ قَنِطَ وَإِنْ قَالَ فَحُشَ وَإِنْ سُئِلَ بَخِلَ وَإِنْ سَأَلَ أَلَحَّ وَإِنْ قَالَ لَمْ يُحْسِنْ، وَإِنْ قِيلَ لَهُ لَمْ يَفْقَهْ وَإِنْ ضَحِكَ قَهْقَهَ وَإِنْ بَكَى صَرَخَ وَإِذَا اعْتَبَرْنَا هَذِهِ الْخِصَالَ وَجَدْنَاهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، فَلَا يَكَادُ يُعْرَفُ الْعَاقِلُ مِنْ الْأَحْمَقِ قَالَ عِيسَى عليه السلام: عَالَجْتُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ فَأَبْرَأْتُهُمَا وَعَالَجْتُ الْأَحْمَقَ فَلَمْ يَبْرَأْ. اهـ.
وَأَمَّا الصَّلَاحُ فَهُوَ لُغَةً خِلَافُ الْفَسَادِ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ وَذَكَرَ الْكَرْمَانِيُّ أَنَّهُ لَفْظٌ جَامِعٌ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَلِذَا وَصَفَ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم بِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَقَالَ كُلُّ مَنْ لَقِيَهُ فِي السَّمَاوَاتِ مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ وَصْفٌ أَجْمَعُ مِنْهُ لِلْخَيْرِ لَوَصَفُوهُ بِهِ اهـ.
وَفِي أَوْقَافِ الْخَصَّافِ الصَّالِحُ مَنْ كَانَ مَسْتُورًا لَيْسَ بِمَهْتُوكٍ وَلَا صَاحِبَ رِيبَةٍ وَكَانَ مُسْتَقِيمَ الطَّرِيقَةِ سَلِيمَ النَّاحِيَةِ كَامِنَ الْأَذَى قَلِيلَ السُّوءِ لَيْسَ
ــ
[منحة الخالق]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بِمُعَاقِرٍ لِلنَّبِيذِ، وَلَا يُنَادِمُ عَلَيْهِ الرِّجَالَ، وَلَيْسَ بِقَذَّافٍ لِلْمُحْصَنَاتِ وَلَا مَعْرُوفًا بِالْكَذِبِ فَهَذَا عِنْدَنَا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ. اهـ.
وَالْفَهْمُ لُغَةً كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ الْعِلْمُ وَالْعُنْفُ عَدَمُ الرِّفْقِ وَالضَّعْفُ الْعَجْزُ عَنْ احْتِمَالِ الشَّيْءِ وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ قُبَيْلَ الْحَبْسِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فِي الْقَاضِي عِبْسَةٌ بِلَا غَضَبٍ، وَأَنْ يَلْتَزِمَ التَّوَاضُعَ مِنْ غَيْرِ وَهَنٍ وَلَا ضَعْفٍ، وَالْمُرَادُ بِعِلْمِ السُّنَّةِ مَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلًا وَفِعْلًا وَتَقْرِيرًا عِنْدَ أَمْرٍ يُعَايِنُهُ وَالْمُرَادُ بِوُجُوهِ الْفِقْهِ طُرُقُهُ، وَقَدَّمْنَا تَعْرِيفَهُ أَوَّلَ الْكِتَابِ، وَذَكَرَ مِسْكِينٌ هُنَا أَنَّ الْفِقْهَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ اسْمٌ لِعِلْمٍ خَاصٍّ فِي الدِّينِ لَا لِكُلِّ عِلْمٍ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْمَعَانِي الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهَا الْأَحْكَامُ مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ وَإِجْمَاعٍ وَمُقْتَضَيَاتِهَا وَإِشَارَاتِهَا
قَوْلُهُ (وَالِاجْتِهَادُ شَرْطُ الْأَوْلَوِيَّةِ) وَهُوَ لُغَةً بَذْلُ الطَّاقَةِ فِي تَحْصِيلِ ذِي كُلْفَةٍ، وَاصْطِلَاحًا ذَلِكَ مِنْ الْفِقْهِ فِي تَحْصِيلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ظَنِّيٍّ كَمَا فِي التَّحْرِيرِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُجْتَهِدِ فَقِيلَ أَنْ يَعْلَمَ الْكِتَابَ بِمَعَانِيهِ وَالسُّنَّةَ بِطُرُقِهَا، وَالْمُرَادُ بِعِلْمِهِمَا عِلْمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ مِنْهُمَا مِنْ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَالْمُشْتَرَكِ وَالْمُؤَوَّلِ وَالنَّصِّ وَالظَّاهِرِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَمَعْرِفَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَلَا يُشْتَرَطُ حِفْظُهُ لِجَمِيعِ الْقُرْآنِ وَلَا لِبَعْضِهِ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ بَلْ يَكْفِي أَنْ يَعْرِفَ مَظَانَّ أَحْكَامِهَا فِي أَبْوَابِهَا فَيُرَاجِعُهَا وَقْتَ الْحَاجَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ التَّبَحُّرُ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ لُغَةً وَإِعْرَابًا، وَأَمَّا الِاعْتِقَادُ فَيَكْفِيهِ اعْتِقَادٌ جَازِمٌ وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهَا عَلَى طَرِيقِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَدِلَّتِهِمْ؛ لِأَنَّهَا صِنَاعَةٌ لَهُمْ وَيَدْخُلُ فِي السُّنَّةِ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقِيسُ مَعَ وُجُودِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ عُرْفِ النَّاسِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ قَرِيحَةٍ وَفِي الْقَامُوسِ وَالْقَرِيحَةُ أَوَّلُ مَاءٍ يُسْتَنْبَطُ مِنْ الْقُرْحِ كَالْبِئْرِ، وَأَوَّلُ كُلِّ شَيْءٍ وَمِنْك طَبْعُك، وَالِاقْتِرَاحُ ارْتِجَالُ الْكَلَامِ وَاسْتِنْبَاطُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ وَالِاجْتِبَاءُ وَالِاخْتِيَارُ وَابْتِدَاعُ الشَّيْءِ وَالتَّحَكُّمُ اهـ.
وَفِي مَنَاقِبِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ الْكَرْدَرِيِّ كَانَ مُحَمَّدٌ يَذْهَبُ إلَى الصَّبَّاغِينَ، وَيَسْأَلُ عَنْ مُعَامَلَاتِهِمْ وَمَا يُدِيرُونَهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَخْتَلِفُ إلَى مُحَمَّدٍ فَقَالَ لَهُ يَوْمًا أَكْثَرُ مَا تَقُولُونَ وَعَلَى هَذَا مَعَانِي كَلِمِ النَّاسِ مَا أَنْتُمْ وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا الْحُذَّاقُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ فَمَنْ أَتْقَنَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فَهُوَ أَهْلٌ لِلِاجْتِهَادِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِاجْتِهَادِهِ، وَلَا يُقَلِّدَ أَحَدًا وَقَوْلُهُ شَرْطُ الْأَوْلَوِيَّةِ يُفِيدُ أَنَّ تَوْلِيَةَ الْجَاهِلِ صَحِيحَةٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقَضَاءِ وَهُوَ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ يَحْصُلُ بِالْعَمَلِ بِفَتْوَى غَيْرِهِ وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ مِنْ كِتَابِ الْإِيمَانِ قُبَيْلَ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ الْمُفْتِي يُفْتِي بِالدِّيَانَةِ وَالْقَاضِي يَقْضِي بِالظَّاهِرِ إلَى أَنْ قَالَ دَلَّ أَنَّ الْجَاهِلَ لَا يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ بِالْفَتْوَى أَيْضًا فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْقَاضِي الْحَاكِمِ فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ عَالِمًا دَيِّنًا كَالْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ وَأَيْنَ الْكِبْرِيتُ الْأَحْمَرُ وَأَيْنَ الدِّينُ وَالْعِلْمُ اهـ.
وَذَكَرَ يَعْقُوبُ بَاشَا وَيُعْلَمُ مِنْ الدَّلِيلِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْجَاهِلِ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِ الْمَسَائِلِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَضَبْطِ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ كَمَا لَا يَخْفَى مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُقَلِّدُ بِقَرِينَةِ جَعْلِ الِاجْتِهَادِ شَرْطَ الْأَوْلَوِيَّةِ. اهـ.
وَهَكَذَا فِي إيضَاحِ الْإِصْلَاحِ، وَجَوَّزَ فِي الْعِنَايَةِ أَنْ يُرَادَ بِالْجَاهِلِ الْمُقَلِّدُ لِكَوْنِهِ ذُكِرَ فِي مُقَابَلَةَ الْمُجْتَهِدِ، وَأَنْ يُرَادَ مَنْ لَا يَحْفَظُ شَيْئًا مِنْ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِسِيَاقِ الْكَلَامِ لِقَوْلِهِ فِي دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ وَلَا قُدْرَةَ بِدُونِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَقُلْ بِدُونِ الِاجْتِهَادِ. اهـ.
وَأَمَّا مَعْنَاهُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا فَقَدَّمْنَاهُمَا، وَأَمَّا حُكْمُهُ فَهُوَ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِالْحُكْمِ مَعَ احْتِمَالِ الْخَطَأِ وَرَأَيْت فِي حُجَجِ الدَّلَائِلِ أَنَّ الظَّنَّ الْغَالِبَ غَيْرُ غَلَبَةِ الظَّنِّ لِتَغَيُّرِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَقَدْ يُقَالُ الْمُقَلِّدُ أَيْضًا يَعْمَلُ بِفَتْوَى غَيْرِهِ وَلَوْ أَخَذَهَا مِنْ الْكُتُبِ، وَحَاصِلُ شَرَائِطِ الْمُجْتَهِدِ عَلَى مَا فِي التَّلْوِيحِ وَالتَّحْرِيرِ الْإِسْلَامُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَكَوْنُهُ فَقِيهَ النَّفْسِ بِمَعْنَى شَدِيدِ الْفَهْمِ بِالطَّبْعِ وَعِلْمِهِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَيْ الصَّرْفِ وَالنَّحْوِ وَالْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَالْأُصُولِ، وَكَوْنُهُ حَاوِيًا لِعِلْمِ كِتَابِ اللَّهِ
ــ
[منحة الخالق]
(قَوْلُهُ وَذَكَرَ يَعْقُوبُ بَاشَا) أَيْ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى صَدْرِ الشَّرِيعَةِ وَعِبَارَتُهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَصِحُّ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ وَالْجَاهِلِ، وَدَلِيلُهُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ تَقْلِيدِ الْجَاهِلِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقَضَاءِ يَسْتَدْعِي الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ وَلَا قُدْرَةَ بِدُونِ الْعِلْمِ، وَدَلِيلُنَا عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِفَتْوَى غَيْرِهِ، وَمَقْصُودُ الْقَاضِي يَحْصُلُ بِهِ وَهُوَ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ كَذَا فِي الْهِدَايَةِ، وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا إلَخْ وَفِي الْفَوَاكِهِ الْبَدْرِيَّةِ لِابْنِ الْغَرْسِ مَا مُلَخَّصُهُ لَيْسَ مُرَادُهُمْ بِالْجَاهِلِ الْعَامِّيَّ الْمَحْضَ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَأَهُّلِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ، وَأَقَلُّهُ أَنْ يُحْسِنَ بَعْضَ الْحَوَادِثِ وَالْمَسَائِلِ الدَّقِيقَةِ، وَأَنْ يَعْرِفَ طَرِيقَ تَحْصِيلِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ كُتُبِ الْمَذْهَبِ وَصُدُورِ الْمَشَايِخِ، وَكَيْفِيَّةِ الْإِيرَادِ وَالْإِصْدَارِ فِي الْوَقَائِعِ مَعَ الدَّعَاوَى وَالْحُجَجِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُمْ الْعَالِمُ
تَعَالَى مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، وَكَوْنُهُ عَالِمًا بِالْحَدِيثِ مَتْنًا وَسَنَدًا وَنَاسِخًا وَمَنْسُوخًا وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقِيدَةِ عِلْمُ الْكَلَامِ وَلَا تَفَارِيعُ الْفِقْهِ وَلَا الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ وَلَا الْعَدَالَةُ فَلِلْفَاسِقِ الِاجْتِهَادُ لِيَعْمَلَ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يَعْمَلُ بِهِ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ عَالِمًا بِوُجُوهِ الْقِيَاسِ وَفِي الْحَقِيقَةِ اشْتِرَاطُ عِلْمِهِ بِالْأُصُولِ يُغْنِي عَنْهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْإِجْمَاعِ وَمَوَاقِعِهِ وَمِنْ مَعْرِفَةِ عَادَاتِ النَّاسِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّرَائِطَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَرْطًا، وَأَمَّا رُكْنُهُ فَالْمُجْتَهِدُ وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ وَالْمُجْتَهَدُ فِيهِ وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ظَنِّيٌّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ
قَوْلُهُ (وَالْمُفْتِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَكَذَا) أَيْ مَوْثُوقًا بِهِ فِي دِينِهِ وَعَفَافِهِ إلَى آخِرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا قَالَ فِي الْفَتْحِ الْقَدِيرِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْقَاضِي ذُكِرَ فِي الْمُفْتِي فَلَا يُفْتِي إلَّا الْمُجْتَهِدُ، وَقَدْ اسْتَقَرَّ رَأْيُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ هُوَ الْمُجْتَهِدُ فَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ مِمَّنْ يَحْفَظُ أَقْوَالَ الْمُجْتَهِدِ فَلَيْسَ مُفْتِيًا، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إذَا سُئِلَ أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَ الْمُجْتَهِدِ كَأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى جِهَةِ الْحِكَايَةِ فَعَرَفَ أَنَّ مَا يَكُونُ فِي زَمَانِنَا مِنْ فَتْوَى الْمَوْجُودِينَ لَيْسَ بِفَتْوَى بَلْ هُوَ نَقْلُ كَلَامِ الْمُفْتِي لِيَأْخُذَ بِهِ الْمُسْتَفْتِيَ، وَطَرِيقُ نَقْلِهِ لِذَلِكَ عَنْ الْمُجْتَهِدِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ سَنَدٌ فِيهِ، أَوْ يَأْخُذُهُ مِنْ كِتَابٍ مَعْرُوفٍ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي نَحْوُ كُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَنَحْوِهَا مِنْ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ لِلْمُجْتَهِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ أَوْ الْمَشْهُورِ هَكَذَا ذَكَرَ الرَّازِيّ فَعَلَى هَذَا لَوْ وَجَدَ بَعْضَ نُسَخِ النَّوَادِرِ فِي زَمَانِنَا لَا يَحِلُّ عَزْوُ مَا فِيهَا إلَى مُحَمَّدٍ وَلَا إلَى أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَشْتَهِرْ فِي عَصْرِنَا فِي دِيَارِنَا، وَلَمْ تُتَدَاوَلْ نَعَمْ إذَا وُجِدَ النَّقْلُ عَنْ النَّوَادِرِ مَثَلًا فِي كِتَابٍ مَشْهُورٍ مَعْرُوفٍ كَالْهِدَايَةِ وَالْمَبْسُوطِ كَانَ ذَلِكَ تَعْوِيلًا عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ، فَلَوْ كَانَ حَافِظًا لِلْأَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفَةِ لِلْمُجْتَهِدِينَ وَلَا يَعْرِفُ الْحُجَّةَ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الِاجْتِهَادِ لِلتَّرْجِيحِ لَا يُقْطَعُ بِقَوْلٍ مِنْهَا يُفْتَى بِهِ بَلْ يَحْكِيهَا لِلْمُسْتَفْتِي فَيَخْتَارُ الْمُسْتَفْتِي مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ الْأَصْوَبُ.
ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ الْجَوَامِعِ، وَعِنْدِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حِكَايَةُ كُلِّهَا بَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَحْكِيَ قَوْلًا مِنْهَا فَإِنَّ الْمُقَلِّدَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ أَيَّ مُجْتَهِدٍ شَاءَ، فَإِذَا ذَكَرَ أَحَدَهَا فَقَلَّدَهُ حَصَلَ الْمَقْصُودُ نَعَمْ لَا يُقْطَعُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ جَوَابُ مَسْأَلَتِكَ كَذَا، بَلْ يَقُولُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ حُكْمُ هَذَا كَذَا نَعَمْ لَوْ حَكَى الْكُلَّ فَالْأَخْذُ بِمَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ أَصْوَبُ أَوْلَى، وَإِلَّا فَالْعَامِّيُّ لَا عِبْرَةَ بِمَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ مِنْ صَوَابِ الْحُكْمِ وَخَطَئِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا اسْتَفْتَى فَقِيهَيْنِ أَعْنِي مُجْتَهِدَيْنِ فَاخْتَلَفَا عَلَيْهِ الْأَوْلَى بِأَنْ يَأْخُذَ بِمَا يَمِيلُ إلَيْهِ قَلْبُهُ مِنْهُمَا، وَعِنْدِي أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ بِقَوْلِ الَّذِي لَا يَمِيلُ إلَيْهِ قَلْبُهُ جَازَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَيْلَ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ، وَقَدْ فَعَلَ أَصَابَ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ أَوْ أَخْطَأَ وَقَالُوا الْمُنْتَقِلُ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ بِاجْتِهَادٍ وَبُرْهَانٍ آثِمٌ يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ فَبِلَا اجْتِهَادٍ وَبُرْهَانٍ أَوْلَى وَلَا بُدَّ أَنْ يُرَادَ بِهَذَا الِاجْتِهَادِ مَعْنَى التَّحَرِّي وَتَحْكِيمِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَيْسَ لَهُ اجْتِهَادٌ، ثُمَّ حَقِيقَةُ الِانْتِقَالِ إنَّمَا
ــ
[منحة الخالق]
إذَا تَعَيَّنَ لِلْقَضَاءِ وَجَبَ عَلَيْهِ قَبُولُهُ وَإِذَا تَرَكَهُ أَثِمَ وَمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ فَالتَّرْكُ أَفْضَلُ، وَإِذَا كَانَ الْجَاهِلُ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ فَمَتَى يَتَعَيَّنُ قَالَ فِي النَّهْرِ وَأَقُولُ: وُجُودُ الْجَاهِلِ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَعَيُّنِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ، وَلَمْ يَقْبَلْ أَثِمَ وَإِنْ وُجِدَ جَاهِلٌ تَصِحُّ تَوْلِيَتُهُ
(قَوْلُهُ ثُمَّ حَقِيقَةُ الِانْتِقَالِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إلَخْ) قَالَ الرَّمْلِيُّ قَالَ فِي تَصْحِيحِ الْقُدُورِيِّ وَقَالَ الْأُصُولِيُّونَ أَجْمَعُ: لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ التَّقْلِيدِ بَعْدَ الْعَمَلِ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ فِي الْمَذْهَبِ وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ الْفَتَاوَى وَالْمُفْتِي عَلَى مَذْهَبٍ إذَا أَفْتَى بِكَوْنِ الشَّيْءِ كَذَا عَلَى مَذْهَبِ إمَامٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ وَيُفْتِي بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ تَشَهٍّ، وَقَالَ أَيْضًا إنَّهُ بِالْتِزَامِهِ مَذْهَبَ إمَامٍ يُكَلَّفُ بِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ غَيْرُهُ، وَالْمُقَلَّدُ لَا يَظْهَرُ لَهُ اهـ.
قُلْت: وَفِي التَّحْرِيرِ لِابْنِ الْهُمَامِ مَسْأَلَةٌ لَا يَرْجِعُ فِيمَا قَلَّدَ فِيهِ أَيْ عَمِلَ بِهِ اتِّفَاقًا، وَهَلْ يُقَلَّدُ غَيْرُهُ فِي غَيْرِهِ الْمُخْتَارُ نَعَمْ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَفْتُونَ مَرَّةً وَاحِدًا وَمَرَّةً غَيْرَهُ غَيْرَ مُلْتَزِمِينَ مُفْتِيًا وَاحِدًا فَلَوْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فَهَلْ يَلْزَمُهُ الِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهِ فَقِيلَ نَعَمْ، وَقِيلَ لَا وَقِيلَ كَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمْ إنْ عَمِلَ بِحُكْمٍ تَقْلِيدًا لَا يَرْجِعُ عَنْهُ وَفِي غَيْرِهِ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُهُ شَرْعًا، وَيَتَخَرَّجُ مِنْهُ جَوَازُ اتِّبَاعِهِ لِلرُّخَصِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ إذْ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْلُكَ الْأَخَفَّ عَلَيْهِ إذَا كَانَ لَهُ إلَيْهِ سَبِيلٌ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ عَمِلَ بِآخَرَ فِيهِ اهـ.
وَلِلشَّيْخِ حَسَنٍ الشُّرُنْبُلَالِيُّ رِسَالَةٌ سَمَّاهَا الْعِقْدَ الْفَرِيدَ فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ وَذَكَرَ فِيهَا مَا حَاصِلُهُ أَنَّ دَعْوَى الِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ فِيمَا قَلَّدَ فِيهِ ذَكَرَهَا الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَتَبِعَهُمَا فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَغَيْرِهِ، وَذَكَرَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ أَبِي شَرِيفٍ أَنَّ فِي كَلَامِ غَيْرِهِمَا مَا يُشْعِرُ بِإِثْبَاتِ الْخِلَافِ بَعْدَ الْعَمَلِ فَلَهُ التَّقْلِيدُ بَعْدَهُ بِقَوْلِ غَيْرِهِ، وَذَكَرَ مِثْلَهُ عَنْ الزَّرْكَشِيّ الْعَلَّامَةُ ابْنُ أَمِيرِ الْحَاجِّ وَالسَّيِّدِ بَادْشَاهْ فِي شَرْحِهِمَا عَلَى التَّحْرِيرِ أَيْ فَيَجُوزُ اتِّبَاعُ الْقَائِلِ بِالْجَوَازِ، وَأَيْضًا الْقَوْلُ بِالْمَنْعِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا بَقِيَ مِنْ آثَارِ الْفِعْلِ السَّابِقِ أَثَرٌ يُؤَدِّي إلَى تَلْفِيقِ الْعَمَلِ بِشَيْءٍ مُرَكَّبٍ مِنْ مَذْهَبَيْنِ كَتَقْلِيدِ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْحِ بَعْضِ