الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي شُرُوطِ التَّأْوِيلِ]
وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِوَضْعِ اللُّغَةِ أَوْ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ أَوْ عَادَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ. وَكُلُّ تَأْوِيلٍ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَبَاطِلٌ. وَقَدْ فَتَحَ الشَّافِعِيُّ الْبَابَ فِي التَّأْوِيلِ فَقَالَ: الْكَلَامُ قَدْ يُحْمَلُ فِي غَيْرِ مَقْصُودِهِ. وَيُفْصَلُ فِي مَقْصُودِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْآرَاءُ فِي التَّأْوِيلِ، وَمَدَارُهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، فَيُضَعَّفُ التَّأْوِيلُ لِقُوَّةِ ظُهُورِ اللَّفْظِ، أَوْ لِضَعْفِ دَلِيلِهِ أَوْ لَهُمَا. وَمِنْ الثَّانِي مَنْعُ عُمُومِ قَوْلِهِ:«فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ دَالِيَةٍ نِصْفُهُ» حَتَّى لَا يَتَمَسَّكَ بِهِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْخَضْرَاوَاتِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْفَصْلُ بَيْنَ وَاجِبِ الْعُشْرِ وَنِصْفِهِ، وَكَاسْتِدْلَالِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] وَالْحَنَفِيَّةُ قَالُوا هَذَا مُفَصَّلٌ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ، مُجْمَلٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَفِي زَكَاةِ الْحُلِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] وَالْحَنَفِيَّةُ قَالُوا: هَذَا مُفَصَّلٌ فِي تَحْرِيمِ الْكَنْزِ، مُجْمَلٌ فِي غَيْرِهِ.
وَمِنْ الْأَوَّلِ حَمَلَ بَعْضُهُمْ الِاسْتِجْمَارَ فِي قَوْلِهِ: «مَنْ اسْتَجْمَرَ
فَلْيُوتِرْ» عَلَى اسْتِعْمَالِهِ الْبَخُورَ لِلتَّطَيُّبِ. فَإِنَّهُ يُقَالُ فِيهِ: تَجَمَّرَ وَاسْتَجْمَرَ، وَاللَّفْظُ قَوِيٌّ ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِنْجَاءِ، وَعَلَيْهِ فَهْمُ النَّاسِ. وَمِنْهُ حَمَلَ بَعْضُهُمْ الْجُلُوسَ فِي قَوْلِهِ:«نَهَى عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الْقَبْرِ» عَلَى الِاسْتِنْجَاءِ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ ظَاهِرٌ فِي الْمُرَادِفِ لِلْقُعُودِ. وَمِنْهُ حَمْلُ الظَّاهِرِيَّةِ حَدِيثَ:«لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ» عَلَى بَيْضَةِ الْحَدِيدِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي خِلَافَهُ. وَمِنْهُ حَمَلَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ:«أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» أَيْ دَخَلَا بِذَلِكَ فِي فِطْرَتِي وَسُنَّتِي، لِأَنَّ الْحِجَامَةَ مِمَّا أَمَرَ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَعْمَلَهُ، حَكَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ تِلْمِيذُ الْبَغَوِيّ، عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِ نَيْسَابُورَ. وَقَسَّمَ شَارِحُ " اللُّمَعِ " تَأْوِيلَ الظَّاهِرِ إلَى ثَلَاثِهِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: تَأْوِيلُهُ عَلَى مَعْنًى يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ كَثِيرًا، فَهَذَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ، كَحَمْلِ الْأَمْرِ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ} [النور: 33] عَلَى الْوُجُوبِ، وَحَمْلُهُ عَلَى النَّدْبِ بِدَلِيلٍ جَائِزٍ. لِاسْتِعْمَالِ الْأَمْرِ مُرَادًا بِهِ النَّدْبُ كَثِيرًا، فَيُحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّدْبُ.
وَالثَّانِي: تَأْوِيلُهُ عَلَى مَعْنًى لَا يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا، فَهَذَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَيَانُ قَبُولِ اللَّفْظِ لِهَذَا التَّأْوِيلِ فِي اللُّغَةِ.
وَالثَّانِي: إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ هُنَا يَقْتَضِيهِ.
وَالثَّالِثُ: حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنًى لَا يُسْتَعْمَلُ أَصْلًا، فَلَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ التَّأْوِيلِ أَقْوَى مِنْ دَلِيلِ. . . كَقَوْلِهِ:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الطَّلَاقَ فِي حَالِ وَقْتِ الْعِدَّةِ، وَهُوَ زَمَانُ الطُّهْرِ، فَلَوْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ عَدَدُ الطَّلَاقِ. قَالَ: وَهَلْ يَجُوزُ التَّأْوِيلُ بِالْقِيَاسِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، ذَكَرَهَا فِي الْإِرْشَادِ: أَحَدُهَا: الْمَنْعُ. وَالثَّانِي، وَهُوَ الصَّحِيحُ: الْجَوَازُ، لِأَنَّ مَا جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ جَازَ التَّأْوِيلُ بِهِ، كَأَخْبَارِ الْآحَادِ. وَالثَّالِثُ: بِالْجَلِيِّ دُونَ الْخَفِيِّ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْأُصُولِيِّينَ بِذِكْرِ ضُرُوبٍ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ هَاهُنَا كَالرِّيَاضَةِ لِلْأَفْهَامِ لِيَتَمَيَّزَ الصَّحِيحُ مِنْهَا عَنْ الْفَاسِدِ، حَتَّى يُقَاسَ عَلَيْهَا وَيَتَمَرَّنَ النَّاظِرُ فِيهَا. وَقَدْ أَوَّلَ الْحَنَفِيَّةُ أَشْيَاءَ بَعِيدَةً حَكَمَ أَصْحَابُنَا بِبُطْلَانِهَا:
فَمِنْهَا: تَأْوِيلُهُمْ «قَوْلُهُ عليه السلام لِغَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ الثَّقَفِيِّ وَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ: أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ» بِثَلَاثِ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَيْ: ابْتَدِئْ الْعَقْدَ، إطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُسَبَّبِ. عَلَى السَّبَبِ. ثَانِيهَا: أَمْسِكْ الْأَوَّلَ. وَلَعَلَّ النِّكَاحَ وَقَعَ بَعْدُ عَلَى التَّفْرِيقِ. ثَالِثُهَا: لَعَلَّهُ كَانَ قَبْلَ حَصْرِ النِّسَاءِ، وَقَبْلَ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، فَيَكُونُ الْعَقْدُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ فَوَّضَ الْإِمْسَاكَ وَالْفِرَاقَ إلَى الزَّوَاجِ، وَلِخُلُوِّهِ عَنْ الْقَرِينَةِ الْمُعَيِّنَةِ لَهُ، وَالْإِحَالَةُ عَلَى الْقِيَاسِ مُمْتَنِعَةٌ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ السَّائِلِ لَهُ بِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ، وَلِعَدَمِ فَهْمِهِمْ ذَلِكَ مِنْهُ، إذْ لَوْ فَهِمُوا لَجَدَّدُوا الْعَقْدَ، وَلَنُقِلَ وَإِنْ نَدَرَ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ إطْلَاقُ الْمُنَكَّرِ وَإِرَادَةُ الْمُعَيَّنِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ، وَلِأَنَّ حَدِيثَ مَرْوَانَ مُصَرِّحٌ بِنَفْيِهِ، وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْدِيلِ الظَّاهِرِ ثُبُوتُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ. وَلَا جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَامِلَ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ اعْتِقَادُهُ أَنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ صَحِيحَةٌ، لَكِنْ إذَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى مَنْ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ. وَأَمَّا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَالْعَقْدِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، أَوْ عَلَى مَنْ يُمْنَعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَلَا يَصِحُّ، وَلَا يُقِرُّهُ الْإِسْلَامُ، فَلَمَّا جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ وَظَاهِرُهُ مُخَالِفٌ لِقَاعِدَةِ مَذْهَبِهِ، تَوَسَّعَ فِي تَأْوِيلِهِ وَعَضَّدَ تَأْوِيلَهُ بِالْقِيَاسِ مِنْ أَنَّهَا أَنْكِحَةٌ طَرَأَ عَلَيْهَا سَبَبٌ مُحَرِّمٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفْسَخُ أَصْلُهُ مَا لَوْ نَكَحَ امْرَأَةً، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا رَضِيعَتُهُ. لَكِنَّهُ غَفَلَ عَنْ الْأُمُورِ الْمُوجِبَةِ لِفَسَادِهِ. وَهِيَ أَرْبَعٌ: أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَوْلُهُ: أَمْسِكْ، ظَاهِرٌ فِي اسْتِدَامَةِ مَا شَرَعَ فِي تَنَاوُلِهِ حَتَّى لَوْ قِيلَ لِمَنْ فِي يَدِهِ حَبْلٌ: أَمْسِكْ طَرَفَك، فُهِمَ اسْتِدَامَةُ مَا بِيَدِهِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ قَابَلَ لَفْظَةَ الْإِمْسَاكِ بِلَفْظَةِ الْمُفَارَقَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ التَّأْوِيلُ تُرْتَقَعُ الْمُقَابَلَةُ لِأَنَّهُ قَدْ قَيَّدَ الْإِمْسَاكَ بِابْتِدَاءِ عَقْدٍ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ
مُفَارَقَةِ مَنْ يُرِيدُ إمْسَاكَهَا مِنْهُنَّ، وَصَارَ كَأَنَّهُ أَمَرَ بِمُفَارَقَةِ الْجَمِيعِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ فَوَّضَ لَهُ الْخِيَرَةَ فِيمَنْ يُمْسِكُ مِنْهُنَّ، وَفِيمَنْ يُفَارِقُ مِنْهُنَّ، وَعِنْدَهُمْ الْفِرَاقُ وَاقِعٌ، وَالنِّكَاحُ لَا يَبْتَدِئُهُ مَا لَمْ تُوَافِقْهُ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ، فَصَارَ تَخْيِيرُ التَّفْوِيضِ لَغْوًا لَا فَائِدَةَ لَهُ، فَقَدْ لَا يَرْضَيْنَ أَوْ بَعْضُهُنَّ الرُّجُوعَ إلَيْهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ: " أَمْسِكْ " ظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ. وَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءُ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الْأَصْلِ، وَلَمَّا دَلَّ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ عَلَى فَسَادِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا تَأْوِيلَ فِيهِ، وَلَوْ صَحَّ عِنْدِي لَقُلْت بِهِ. وَقَالَ الْعَبْدَرِيّ: الْخِلَافُ بَيْنَ الْإِمَامَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَعَارُضِ الْقِيَاسِ، وَظَاهِرِ الْخَبَرِ، وَرَأَى الْأُصُولِيِّينَ فِيهَا أَنَّهَا مَوْكُولَةٌ إلَى اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَمَنْ رَأَى الْخَبَرَ أَقْوَى عَمِلَ بِهِ. وَمَنْ رَأَى الْقِيَاسَ أَقْوَى عَمِلَ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا الرَّأْيُ صَحِيحًا؛ بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّ دَلَالَةَ الْمَنْطُوقِ بِهِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ، وَدَلَالَةُ الْمَفْهُومِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الْمَعْقُولِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ. فَكَمَا يَتَقَدَّمُ الْخَبَرُ الْقِيَاسَ فِي قُوَّةِ الدَّلَالَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي الْعَمَلِ بِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الْمُجْتَهِدُ يَطْلُبُ أَوَّلًا الْإِجْمَاعَ، فَإِنْ وَجَدَهُ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ طَلَبَ النَّصَّ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ طَلَبَ الظَّاهِرَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ طَلَبَ الْمَفْهُومَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ إلَى الْقِيَاسِ. وَقَالَ الْهِنْدِيُّ: وَلَوْ قِيلَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي ذَلِكَ، لَكِنَّهُ ثَبَتَ جَوَازُ الِاخْتِيَارِ رُخْصَةً، وَتَرْغِيبًا فِي الْإِسْلَامِ.
وَمِنْهَا: حَمْلُهُمْ حَدِيثَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» عَلَى الصَّغِيرَةِ، وَرُدَّ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ امْرَأَةً فِي حُكْمِ اللِّسَانِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ الصَّبِيُّ بَعْلًا، وَأَيْضًا فَهَذَا سَاقِطٌ عِنْدَهُمْ فَإِنَّ الصَّغِيرَةَ لَوْ زُوِّجَتْ انْعَقَدَ النِّكَاحُ عِنْدَهُمْ صَحِيحًا مَوْقُوفًا نَفَاذُهُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ. وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:«فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» ، وَأَكَّدَهُ ثَلَاثًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَاطِلٌ أَيْ يُؤَوَّلُ إلَى الْبُطْلَانِ غَالِبًا لِاعْتِرَاضِ الْوَلِيِّ إجَازَتَهُ لِقُصُورِ نَظَرِهِنَّ، وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْبُطْلَانَ صَرَّحَ بِهِ مُؤَكَّدًا بِالتَّكْرَارِ مُطْلَقًا وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ نَحْوُ:{إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر: 30] فَفَرُّوا مِنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَمَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ تَسْمِيَةُ السَّيِّدِ وَلِيًّا، فَأَلْزَمُوا بُطْلَانَهُ بِأَنَّ نِكَاحَهَا كَمَا ذَكَرْنَا فِي الصَّغِيرَةِ، وَبِأَنَّهُ عليه السلام جَعَلَ لَهَا الْمَهْرَ بِمَا أَصَابَ مِنْهَا، وَمَهْرُ الْأَمَةِ لِمَوْلَاهَا، فَفَرُّوا مِنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ، وَأَرَادُوا التَّخَلُّصَ مِنْ الْمَهْرِ، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَةَ مُسْتَحِقَّةٌ، فَرُدَّ بِنُدُورِ الْمُكَاتَبَةِ وَقِلَّتِهَا فِي الْوُجُودِ، وَالْعُمُومُ ظَاهِرٌ فِيهِ، فَإِنَّ " أَيًّا " كَلِمَةٌ عَامَّةٌ، وَأَكَّدَهَا " بِمَا "، هَذَا مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَهُ ابْتِدَاءً تَمْهِيدًا لِلْقَاعِدَةِ، لَا فِي جَوَابِ سَائِلٍ حَتَّى يَظْهَرَ تَخْصِيصُهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الصِّنْفَ مِنْ التَّأْوِيلِ مَقْبُولٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ إذَا عَضَّدَهُ دَلِيلٌ وَقَالَ الْقَاضِي: إنَّهُ مَرْدُودٌ قَطْعًا. وَعَزَاهُ إلَى الشَّافِعِيِّ قَائِلًا: إنَّهُ عَلَى جَلَالَةِ قَدْرِهِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْفَى عَلَيْهِ هَذِهِ الْجِهَاتُ لِلتَّأْوِيلَاتِ، وَقَدْ رَأَى الِاعْتِصَامَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) اعْتِصَامُ النَّصِّ، وَقَدَّمَهُ عَلَى الْأَقْيِسَةِ الْجَلِيَّةِ، فَكَانَ ذَلِكَ شَاهِدًا عَدْلًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَى التَّعَلُّقَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي مَا حَاصِلُهُ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام ذَكَرَ أَعَمَّ الْأَلْفَاظِ، إذْ أَدَوَاتُ الشَّرْطِ مِنْ أَعَمِّ الصِّيَغِ، وَأَعَمُّهَا " مَا " وَ " أَيُّ " فَإِذَا فُرِضَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَانَ مُبَالَغًا فِي مُحَاوَلَةِ التَّعْمِيمِ، أَيْ أَنَّ " مَا " لَوْ تَجَرَّدَتْ، وَكَانَتْ شَرْطِيَّةً كَانَتْ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَقَدْ أُتِيَ بِهَا زَائِدَةً لِلتَّأْكِيدِ، فَكَانَتْ مُقَوِّيَةً لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ " أَيْ " مِنْ التَّعْمِيمِ، كَذَا فَهِمَهُ الْمَازِرِيُّ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ " مَا " الْمُتَّصِلَةُ " بِأَيْ " شَرْطِيَّةٌ، كَمَا فَهِمَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. ثُمَّ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: هَذِهِ غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَوَافَقَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ، وَنَسَبَاهُ إلَى إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَهُوَ فِي كَلَامِ الْقَاضِي، وَمَعْنَاهُ مَا عَرَفْت.
وَمِنْهَا: حَمْلُهُمْ قَوْله تَعَالَى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مُقَامَهُ. وَالْمَعْنَى فَإِطْعَامُ طَعَامٍ سِتِّينَ مِسْكِينًا، فَجَوَّزُوا صَرْفَ جَمِيعِ الطَّعَامِ إلَى وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الْحَاجَةِ، وَحَاجَةُ السِّتِّينَ كَحَاجَةِ الْوَاحِدِ فِي سِتِّينَ يَوْمًا، فَاسْتَوَيَا فِي الْحُكْمِ.
وَهَذَا تَعْطِيلٌ لِلنَّصِّ إذْ جَعَلُوا الْمَعْدُومَ وَهُوَ " طَعَامٌ " مَذْكُورًا، لِيَصِحَّ كَوْنُهُ مَفْعُولًا لِإِطْعَامٍ، وَالْمَذْكُورُ وَهُوَ " {سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] " عَدَمًا مَعَ صَلَاحِيَّتِهِ لِكَوْنِهِ مَفْعُولًا " لِإِطْعَامٍ " مَعَ إمْكَانِ قَصْدِ الْعَدَدِ لِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ، وَبَرَكَتِهِمْ، وَتَضَافُرِ قُلُوبِهِمْ عَلَى الدُّعَاءِ لِلْمُحْسِنِ. وَهَذِهِ مَعَانٍ لَائِحَةٌ لَا تُوجَدُ فِي الْوَاحِدِ. وَأَيْضًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْ النَّصِّ مَعْنًى يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْإِبْطَالِ.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلِأَنَّ " أَطْعَمَ " يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولَيْنِ، وَالْمُهِمُّ مِنْهُمَا مَا ذَكَرَ، وَالْمَسْكُوتُ عَنْهُ غَيْرُ مُهِمٍّ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَدَدَ الْمَسَاكِينِ، وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الطَّعَامِ، فَاعْتَبَرُوا الْمَسْكُوتَ عَنْهُ وَهُوَ الْأَمْدَادُ، وَتَرَكُوا الْمَذْكُورَ وَهُوَ الْأَعْدَادُ، وَهُوَ عَكْسُ الْحَقِّ.
أَمَّا الْمَازِرِيُّ فَانْتَصَرَ لِلْحَنَفِيَّةِ بِوَجْهَيْنِ: فِقْهِيٌّ، وَنَحْوِيٌّ. أَمَّا الْفِقْهِيُّ: فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ إبْطَالُ النَّصِّ إلَّا لَوْ جَوَّزُوا إعْطَاءَ الْمِسْكِينِ الْوَاحِدِ سِتِّينَ مُدًّا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ، بَلْ يُرَاعُونَ صُورَةَ الْعَدَدِ، وَيَشْتَرِطُونَ تَكْرِيرَ ذَلِكَ عَلَى الْمِسْكِينِ الْوَاحِدِ تَكْرِيرَ الْأَيَّامِ فِرَارًا مِنْ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَمَرَ بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَلَمْ يُعَيِّنْ مِسْكِينًا مِنْ مِسْكِينٍ، وَلَا خِلَافَ فِي عَدَمِ تَعَيُّنِهِمْ فَإِذَا أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَتَكَرَّرَ إطْعَامُهُ بِالْغَدَاةِ، وَهُوَ بِالْغَدَاةِ مِسْكِينٌ، فَكَأَنَّهُ أَطْعَمَ مِسْكِينًا آخَرَ، فَإِذَا انْتَهَى التَّكْرَارُ إلَى سِتِّينَ يَوْمًا صَارَ مُطْعِمًا سِتِّينَ مِسْكِينًا، لِكَوْنِ هَذَا الْمِسْكِينِ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ جُمْلَةِ الْمَسَاكِينِ.
وَأَمَّا النَّحْوِيُّ فَذَكَرَ أَنَّ سِيبَوَيْهِ قَالَ: إنَّ الْمَصْدَرَ يُقَدَّرُ " بِمَا، وَأَنَّ " فَإِذَا قَدَّرْنَا الْمَصْدَرَ هُنَا وَهُوَ " الْإِطْعَامُ " بِمَعْنَى " مَا " اقْتَضَى ذَلِكَ مَا قَالَتْهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَمَا يُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا. وَهَذَا التَّقْدِيرُ يُخْرِجُ أَبَا حَنِيفَةَ إلَى الْمَذْهَبِ الَّذِي أَرَادَ، وَإِنْ صَدَرَ " بِأَنَّ " كَانَ التَّقْدِيرُ: فَعَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَهَذَا التَّقْدِيرُ الْأَخِيرُ يُخْرِجُ إلَى مَا يُرِيدُ. قَالَ: وَقَدْ زَاحَمْنَا أَبَا الْمَعَالِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ صِنَاعَةِ النَّحْوِ، وَذَكَرْنَا لِأَبِي حَنِيفَةَ تَعَلُّقًا مِنْهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ فِيهَا، وَهُوَ سِيبَوَيْهِ. اهـ.
وَيُقَالُ لَهُ: أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَإِنَّ تَعْطِيلَ النَّصِّ حَاصِلٌ بِالِاتِّحَادِ سَوَاءٌ أَعْطَى فِي سِتِّينَ يَوْمًا أَمْ لَا. فَقَدْ عَطَّلُوا مِنْ النَّصِّ لَفْظَ السِّتِّينَ، وَلِلشَّارِعِ غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي الْعَدَدِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَلِأَنَّ فِي الْكَفَّارَةِ نَوْعُ تَعَبُّدٍ، وَهُوَ الْعَدَدُ، فَالتَّمَسُّكُ بِاللَّفْظِ الْمُحَصِّلِ لِلْمَقْصُودِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْلَى. وَأَمَّا الثَّانِي: فَمَا نَقَلَهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي كَلَامِهِ، وَالْمَنْقُولُ عَنْهُ أَنَّ الَّذِي يُقَدَّرُ بِهِ الْمَصْدَرُ الْعَامِلُ " أَنَّ " الْمُشَدَّدَةُ النَّاصِبَةُ لِضَمِيرِ الشَّأْنِ، لَا " أَنْ " الْمَصْدَرِيَّةُ وَ " مَا " الْمُقَدَّرَةُ حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ بِمَنْزِلَةِ " أَنْ ". وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ مَا قَالَهُ الْمَازِرِيُّ إذَا كَانَتْ مَوْصُولَةً لَا بِمَعْنَى الَّذِي، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَمَا يُطْعَمُ، وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ أَنْكَرَ نِسْبَةَ هَذَا التَّأْوِيلِ لِجُمْهُورِهِمْ، وَقَدَّرَهُ: إعْطَاءُ طَعَامٍ سِتِّينَ مِسْكِينًا.
وَمِنْهَا: حَمْلُهُمْ حَدِيثَ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ» عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ قِيمَةُ شَاةٍ، فَجَوَّزُوا إخْرَاجَ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ حَاجَةِ الْفَقِيرِ،
لِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّاةِ فِيهَا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَيَصِحُّ الْإِبْدَالُ، لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ يُؤَدِّي إلَى رَفْعِ النَّصِّ وَبُطْلَانِهِ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ قِيلَ إنَّ الشَّاةَ لَا تُجْزِئُ، وَلَمْ يَقُلْهُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: إنَّ الْقِيمَةَ نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الشَّاةِ إذَا أُخْرِجَتْ وَهُوَ تَوْسِيعٌ لِلْمَخْرَجِ، لَا إسْقَاطٌ. وَإِنَّمَا النِّزَاعُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: إنَّ مَقْصُودَ الشَّرْعِ سَدُّ الْخَلَّةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: لَا يَبْعُدُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ إعْطَاءَ الْفَقِيرِ مِنْ جِنْسِ مَالِ الْغَنِيِّ، لِيَنْقَطِعَ تَشَوُّفُ الْفَقِيرِ إلَى مَا فِي يَدِ الْغَنِيِّ. وَأَيْضًا فَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي إيجَابِ تَعَيُّنِهَا، وَتَجْوِيزُ الْإِبْدَالِ مُحْوِجٌ إلَى الْإِضْمَارِ وَإِيجَابِ شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ الْمَذْكُورِ خِلَافَ الْأَصْلِ.
وَمِنْهَا: حَمْلُهُمْ حَدِيثَ: «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» عَلَى صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ. وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ النَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ مِنْ أَدَلِّ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ سِيَّمَا مَا وَرَدَ ابْتِدَاءً لِلتَّأْسِيسِ. فَحَمْلُهُ عَلَى النَّادِرِ مُخْرِجٌ لِلَّفْظِ عَنْ الْفَصَاحَةِ، وَتَأْوِيلُ نَفْيِ الْكَمَالِ أَقْرَبُ مِنْ هَذَا كَمَا قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ؛ وَحَمَلَهُ الطَّحَاوِيُّ عَلَى نِيَّةِ صَوْمِ الْغَدِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَكَانَ يَلْهَجُ بِهِ. وَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ سِيَاقَهُ النَّهْيَ عَنْ تَأْخِيرِ النِّيَّةِ عَنْ اللَّيْلِ، وَالْحَثَّ عَلَى تَقْدِيمِهَا عَلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَصُومُ فِيهِ، وَهَذَا كَالْفَحْوَى لَهُ. وَهُوَ مُضَادٌّ لِمَا ذَكَرُوهُ، وَلِأَنَّ حَمْلَ النَّهْيِ عَلَى الْمُعْتَادِ أَوْلَى، وَتَقْدِيمُ النِّيَّةِ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَحَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ أَقْرَبُ مِمَّا سَبَقَ، لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِي الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ، فَلَوْ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ لِنَفْيِ الْكَمَالِ، وَفِيهِ لِنَفْيِ الصِّحَّةِ، لَزِمَ الِاسْتِعْمَالُ لِمَفْهُومَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ.
وَمِنْهَا: حَمْلُهُمْ قَوْله تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41]
عَلَى أَرْبَابِ الْحَاجَاتِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الْقَرَابَةَ، فَصَرَفُوا اللَّفْظَ إلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَرَابَةِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ الْحَاجَةِ، وَهِيَ مُنَاسِبَةٌ مَعَ ذَلِكَ، فَاشْتَرَطُوا الْحَاجَةَ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الْقَرَابَةَ، وَهَذَا خِلَافُ مَا تَقْتَضِيهِ لَامُ التَّمْلِيكِ وَتَرَتُّبِ الْحُكْمُ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَهِيَ نَسْخٌ عِنْدَهُمْ، لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَكَيْفَ بِالْقِيَاسِ.
وَكَوْنُهُ مَذْكُورًا مَعَ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ مَعَ قَرِينَةِ إعْطَاءِ الْمَالِ لَيْسَ قَرِينَةً فِيهِ، وَإِلَّا لَزِمَ النَّقْصُ فِي حَقِّ الرَّسُولِ لِوُجُودِهَا فِيهِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَوْ حَتَّمُوا صَرْفَ شَيْءٍ إلَى الْقَرَابَةِ بِشَرْطِ الْحَاجَةِ لَكَانَ قَرِيبًا. اهـ. لَكِنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ الْخُمُسَ مَقْسُومٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، وَيُعْطِي ذَوِي الْقُرْبَى مِنْ سَهْمِ الْمَسَاكِينِ لِفَقْرِهِمْ، فَعَلَى هَذَا ذِكْرُ الْقَرَابَةِ كَالْمُقْحِمِ الْكَيَاظِمِ، وَهُوَ تَعْطِيلٌ لِلنَّصِّ. فَإِنْ قَالُوا: ذِكْرُ الْقَرَابَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ مَنْعُهُمْ كَمَا فِي الصَّدَقَاتِ، لَا فِي وُجُوبِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ. قُلْنَا: هَذَا بَعِيدٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ دَلَالَةِ اللَّامِ وَوَاوِ الْعَطْفِ الْمُقْتَضِي لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَفِيهِ عَطْفُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ مَعَ تَخَلُّلِ الْفَصْلِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي اللُّغَةِ، وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ عِنْدَهُ مِنْ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، وَلَيْسَ مِنْ الْمَقْطُوعِ بِبُطْلَانِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا تَخْصِيصُ عُمُومِ لَفْظِ " الْقُرْبَى " بِالْمُحْتَاجِينَ مِنْهُمْ كَمَا فَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي اعْتِبَارِ الْحَاجَةِ مَعَ الْيُتْمِ فِي سِيَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ. اهـ. وَمَا فَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ أَقْرَبُ، لِأَنَّ لَفْظَ " الْيَتِيمِ " مَعَ قَرِينَةِ إعْطَاءِ الْمَالِ يُشْعِرُ
بِالْحَاجَةِ فَاعْتِبَارُهَا يَكُونُ اعْتِبَارًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْآيَةِ، فَالْيُتْمُ الْمُجَرَّدُ غَيْرُ صَالِحٍ لِلتَّعْلِيلِ. بِخِلَافِ الْقَرَابَةِ فَإِنَّهَا بِمُجَرَّدِهَا مُنَاسِبَةٌ لِلْإِكْرَامِ بِاسْتِحْقَاقِ خُمُسِ الْخُمُسِ.
وَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُعْطُونَ الْقَرِيبَ بِشَرْطِ الْحَاجَةِ، وَلَكِنْ سَبَقَ عَنْهُمْ خِلَافُهُ.
وَقَوْلُهُ: لَيْسَ فِيهِ إلَّا تَخْصِيصُ عُمُومِ ذَوِي الْقُرْبَى بِالْمُحْتَاجِينَ. قِيلَ عَلَيْهِ: كَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ، وَفِي الْآيَةِ ذِكْرُ الْمَسَاكِينِ؟ فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا التَّخْصِيصِ التَّكْرَارُ فِي الْآيَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْيَتَامَى، فَإِنَّ الْيُتْمَ يُفِيدُ الِاحْتِيَاجَ لِلْعَجْزِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: ذِكْرُ الْقَرَابَةِ يُخَصُّ فِيهِ فِي الْمُحْتَاجِينَ مِنْهُمْ، وَهُوَ تَوْكِيدُ أَمْرِهِمْ.
وَمِنْهَا: حَمْلُهُمْ حَدِيثَ: «أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ، وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ» عَلَى أَنْ يُؤَذِّنَ بِصَوْتَيْنِ، وَيُقِيمَ بِصَوْتٍ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الِاصْطِلَامِ ": وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ فِي الْخَبَرِ إضَافَةَ الشَّفْعِ وَالْإِيتَارِ إلَى الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ هِيَ الْكَلِمَاتُ لَا الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ فِيهِمَا، عَلَى أَنَّهُ قَالَ فِي الْخَبَرِ: الْإِقَامَةُ، وَعِنْدَهُمْ كَمَا يَقُولُ سَائِرُ الْكَلِمَاتِ فِي الْإِقَامَةِ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ، كَذَلِكَ يَقُولُ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ [قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ] بِصَوْتٍ وَاحِدٍ، فَبَطَلَ التَّأْوِيلُ.