الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وُجُوبُ الْإِعْتَاقِ. لَكِنَّ الظِّهَارَ وَالْقَتْلَ سَبَبَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. أَمَّا عَكْسُهُ وَهُوَ اتِّحَادُ السَّبَبِ وَاخْتِلَافُ الْحُكْمِ. فَظَاهِرُ إطْلَاقِهِمْ أَنَّهُ. لَا خِلَافَ فِيهِ. لَكِنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ فِي " الْمَحْصُول " جَعَلَهُ مِنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ. وَبِهِ تَصِيرُ الْأَقْسَامُ أَرْبَعَةً، وَمَثَّلَهُ بِآيَةِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ قَيَّدَ فِيهَا غَسْلَ الْيَدَيْنِ بِالْمَرَافِقِ، وَأَطْلَقَ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ، كَقَوْلِهِ:{وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] فَإِنَّ السَّبَبَ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْحَدَثُ. وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ الْخِلَافَ فِي اتِّحَادِ السَّبَبِ وَاخْتِلَافِ الْحُكْمِ. وَنَقَلَ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَمَثَّلَهُ بِآيَةِ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ أَيْضًا. وَكَذَا مَثَّلَ بِهَا الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ". .
[حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ إذَا اخْتَلَفَا فِي السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ]
[مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ][إذَا اخْتَلَفَا فِي السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ] إذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِمُوجِبِ اللَّفْظِ وَمُقْتَضَى اللُّغَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّ تَقَيُّدَ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ الْآخَرِ لَفْظًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35] وَكَمَا فِي الْعَدَالَةِ وَالشُّهُودِ فِي قَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] يُحْمَلُ عَلَى قَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَحَمَلَ إطْلَاقَ الْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ عَلَى الْعِتْقِ الْمُقَيَّدِ بِالْإِيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ: إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ الظِّهَارِ: إنَّ عَلَيْهِ جُمْهُورَ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ سُلَيْمٌ: إنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ. وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِمْ.
وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا. قَالَ: وَأَقْرَبُ طَرِيقِ هَؤُلَاءِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي حُكْمِ الْخِطَابِ الْوَاحِدِ، وَحَقُّ الْخِطَابِ الْوَاحِدِ أَنْ يَتَرَتَّبَ فِيهِ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ قَالَ: وَهَذَا مِنْ فُنُونِ الْهَذَيَان، فَإِنَّ قَضَايَا الْأَلْفَاظِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مُخْتَلِفَةٌ مُتَبَايِنَةٌ، لِبَعْضِهَا حُكْمُ التَّعَلُّقِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَلِبَعْضِهَا حُكْمُ الِاسْتِدْلَالِ وَالِانْقِطَاعِ، فَمَنْ ادَّعَى تَنْزِيلَ جِهَاتِ الْخِطَابِ عَلَى حُكْمِ كَلَامٍ وَاحِدٍ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ، وَالْأَمْرَ وَالزَّجْرَ، وَالْأَحْكَامَ الْمُتَغَايِرَةَ فَقَدْ ادَّعَى أَمْرًا عَظِيمًا، وَلَا تُغْنِي فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْإِشَارَةُ إلَى اتِّحَادِ الْكَلَامِ الْأَزَلِيِّ، وَمُضْطَرِبُ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْأَلْفَاظِ وَقَضَايَا الصِّيَغِ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ لَا مِرَاءَ فِي اخْتِلَافِهَا، فَسَقَطَ هَذَا الظَّنُّ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ بِنَفْسِ اللَّفْظِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ مِنْ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ، كَمَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ حَصَلَ قِيَاسٌ صَحِيحٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ يَقْتَضِي تَقْيِيدَهُ بِهِ قُيِّدَ، وَإِلَّا أُقِرَّ الْمُطْلَقُ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَالْمُقَيَّدُ عَلَى تَقْيِيدِهِ. قَالَ الْآمِدِيُّ: هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَصَحَّحَهُ هُوَ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَأَتْبَاعُهُمَا. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا نَقَلُوا عَنْهُ الْأَوَّلَ، وَهُمْ أَعْرَفُ مِنْ الْآمِدِيَّ بِذَلِكَ. وَفِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيَّ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى
قَالَ: سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَعِيبُ عَلَى مَنْ يَقُولُ: لَا يُقَاسُ الْمُطْلَقُ مِنْ الْكِتَابِ عَلَى الْمَنْصُوصِ. وَقَالَ: يَلْزَمُ مَنْ قَالَ هَذَا أَنْ يُجِيزَ شَهَادَةَ الْعَبْدِ وَالسُّفَهَاءِ، لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل قَالَ:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] مُطْلَقًا وَلَكِنَّ الْمُطْلَقَ يُقَاسُ عَلَى الْمَنْصُوصِ فِي مِثْلِ هَذَا، فَلَا يَجُوزُ إلَّا الْعَدْلُ. نَعَمْ، هَذَا الْقَوْلُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا، مِنْهُمْ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ كَمَا رَأَيْتُهُ فِي كِتَابِهِ، وَنَقَلُوهُ عَنْ ابْنِ فُورَكٍ، وَصَحَّحَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَالْغَزَالِيُّ، وَابْنُ بَرْهَانٍ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْعُمْدَةِ ": إنَّهُ الْأَقْرَبُ. وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَنَسَبَهُ إلَى الْمُحَقِّقِينَ. قَالَ: لَوْ جَازَ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ لِتَقْيِيدِ الْمُقَيَّدِ لَجَازَ إطْلَاقُ الْمُقَيَّدِ لِإِطْلَاقِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ إجْمَاعًا.
وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ قِلَّةُ مَعْرِفَةٍ بِلِسَانِهِمْ، لِأَنَّهُمْ تَارَةً يُكَرِّرُونَ الْكَلِمَةَ لِلتَّأْكِيدِ، وَتَارَةً يَحْذِفُونَهَا لِلْإِيجَازِ، وَتَارَةً يُسْقِطُونَ بَعْضَهَا لِلتَّرْخِيمِ. وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ الْجُمْهُورِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ. وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، فَقَالَا: وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُطْلَقِ بَعْدَ الْمُقَيَّدِ مِنْ جِنْسِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ. فَإِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَقْيِيدِهِ قُيِّدَ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَلِيلٌ صَارَ كَاَلَّذِي لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، فَيُعْدَلُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ. قَالَا: وَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إلَى وَقْفِ الْعُمُومِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصٍ أَوْ عُمُومٍ. وَهَذَا أَفْسَدُ الْمَذَاهِبِ، لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُحْتَمَلَةَ يَكُونُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا عَائِدًا إلَيْهَا وَلَا يُعْدَلُ بِالِاحْتِمَالِ إلَى غَيْرِهَا لِيَكُونَ النَّصُّ ثَابِتًا بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ مِنْ نَفْيِ الِاحْتِمَالِ عَنْهُ، وَتَعَيُّنِ الْمُرَادِ بِهِ.
قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: وَحَيْثُ قُلْنَا: يُقَيَّدُ قِيَاسًا أَرَدْنَا بِهِ سَالِمًا عَنْ الْفُرُوقِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُهُمْ: إنَّ اخْتِلَافَ الْأَسْبَابِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْأَحْكَامِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: كُلُّ دَلِيلٍ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ، يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِهِ، وَمَا لَا فَلَا، لِأَنَّ الْمُطْلَقَ عَامٌّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. فَيَجُوزُ التَّقْيِيدُ بِفِعْلِهِ عليه السلام، خِلَافًا لِلْقَاضِي، وَتَقْرِيرُهُ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ، وَبِمَفْهُومِ الْخِطَابِ.
وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ اخْتَلَفُوا، هَلْ الْقِيَاسُ مُخَصِّصٌ لِلْمُطْلَقِ أَوْ زَائِدٌ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْمُطْلَقِ لَا الزِّيَادَةَ فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَقْتَضِي الزِّيَادَةَ فِيهِ، وَجَوَّزَ الزِّيَادَةَ بِالْقِيَاسِ، وَلَمْ يُقَدِّرْهُ نَسْخًا.
وَقَالَ صَاحِبُ الْوَاضِحِ: اخْتَلَفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ فِي أَنَّ تَقْيِيدَ الرَّقَبَةِ الْمُطْلَقَةِ بِالْإِيمَانِ، هَلْ يَقْتَضِي زِيَادَةً أَوْ تَخْصِيصًا؟ فَقَالَ الْبَصْرِيُّ: هُوَ زِيَادَةٌ، لِأَنَّ إطْلَاقَ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي إجْزَاءَ كُلِّ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الرَّقَبَةُ، فَإِذَا اُعْتُبِرَ فِي إجْزَائِهَا الْإِيمَانُ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً لَا مَحَالَةَ. وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاةِ: هُوَ تَخْصِيصٌ، لِأَنَّ إطْلَاقَ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي إجْزَاءَ الْمُؤْمِنَةِ، وَالْكَافِرَةِ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْإِيمَانِ يُخْرِجُ الْكَافِرَةَ، فَكَانَ تَخْصِيصًا لَا مَحَالَةَ. قَالَ: وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ مَنْ قَالَ: زِيَادَةٌ، يَمْنَعُ الْحَمْلَ بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ نَسْخٌ، وَالنَّسْخُ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ، وَمَنْ قَالَ: تَخْصِيصُ جَوَازِ الْحَمْلِ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ. لَيْسَ هَذَا بِخِلَافٍ فِي الْحَقِيقَةِ، فَالْقَاضِي أَرَادَ أَنَّ التَّقَيُّدَ بِالصِّفَةِ نُقْصَانٌ فِي الْمَعْنَى، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَرَادَ زِيَادَةً فِي اللَّفْظِ. اهـ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ": الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْبَاطُ مِنْ مَحَلِّ التَّقْيِيدِ، فَلِيَكُنْ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ، وَهُوَ عَدَمُ إجْزَاءِ الْمُرْتَدِّ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ: وَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْمُسْتَنْبَطَ مِنْ مَحَلِّ التَّقْيِيدِ إنْ كَانَ مَحِلًّا صَالِحًا قُبِلَ، وَإِلَّا فَهُوَ بَاطِلٌ، لِعَدَمِ الْإِحَالَةِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ أَوْلَى الْمَذَاهِبِ، أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَغْلَظَ حُكْمَيْ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، فَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْمُطْلَقِ أَغْلَظَ حُمِلَ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَلَمْ يُقَيَّدْ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْمُقَيَّدِ أَغْلَظَ، حُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى إطْلَاقِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، لِأَنَّ التَّغْلِيظَ إلْزَامٌ، وَمَا تَضَمَّنَهُ الْإِلْزَامُ لَمْ يَسْقُطْ الْتِزَامُهُ بِالِاحْتِمَالِ.
الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً، فَيُحْمَلُ كَالْإِيمَانِ فِي الرَّقَبَةِ، أَوْ ذَاتًا فَلَا يُحْمَلُ، كَالتَّقْيِيدِ بِالْمَرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ دُونَ التَّيَمُّمِ وَهُوَ حَاصِلُ كَلَامِ الْأَبْهَرِيِّ وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ.
الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ أَصْلًا، لَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ عَنْ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ بَعْدَ أَنْ قَالَ: الْأَصَحُّ عِنْدِي الثَّانِي. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الِاصْطِلَامِ ": وَعَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ تَقْيِيدَ الْخِطَابِ بِشَيْءٍ فِي مَوْضِعٍ، لَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ مِثْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، كَمَا أَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ فِي مَوْضِعٍ لَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ الْعُمُومِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَوْ وَجَبَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِظَاهِرِ الْخِطَابِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَوْلَى مِنْ حَمْلِ الْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ بِظَاهِرِ الْوُرُودِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّقْيِيدَ لَهُ حُكْمٌ، وَالْإِطْلَاقَ لَهُ حُكْمٌ، وَحَمْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ مِثْلُ حَمْلِ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ. لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَرَكَ الْخِطَابَ مِنْ تَقْيِيدٍ أَوْ إطْلَاقٍ. اهـ.
قَالَ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ الْمَنْعِ، فَقِيلَ: لِأَنَّ تَقْيِيدَهُ بِالْإِيمَانِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَالنَّسْخُ لَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِالْقِيَاسِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ تَقْيِيدَهُ بِالْإِيمَانِ زِيَادَةٌ عَلَى حُكْمٍ قُصِدَ اسْتِيفَاؤُهُ. وَقِيلَ: تَخْصِيصُهُ بِالْإِيمَانِ هُوَ تَخْصِيصُهُ بِحُكْمٍ قَدْ قُصِدَ اسْتِيفَاؤُهُ.
وَقَالَ فِي " الْمَنْخُولِ ": اخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ النَّسْخِ، فَقِيلَ: لِأَنَّ فِيهِ شَرْطَ الْإِيمَانِ وَالنَّصُّ لَا يَقْتَضِيهِ. وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: اقْتَضَى النَّهْيُ إجْزَاءَ مَا يُسَمَّى رَقَبَةً، فَشَرْطُ الْإِيمَانِ بِغَيْرِ مُقْتَضَى النَّصِّ. قَالَ: وَهَذَا يَقْوَى لَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى بَيَانَ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ وَأَرْكَانِهِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُقُوعَ الْإِجْزَاءِ بِتَحْصِيلِ مَا تَعَرَّضَ لَهُ، وَشَرْطُ النِّيَّةِ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ تَخْصِيصٌ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يُسَمِّي الظَّاهِرَ نَصًّا. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْقِيَاسِ وَغَيْرِهِ نُقْصَانٌ لَا زِيَادَةٌ. فَإِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ فِيهَا مَا هُوَ نَسْخٌ، وَمَا لَيْسَ بِنَسْخٍ.
[أَسْبَابُ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ] وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَلْتَفِتُ إلَى أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُطْلَقَ هَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِغْرَاقِ أَوْ نَصٌّ فِيهِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: ظَاهِرٌ، جَازَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي التَّخْصِيصِ بِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: نَصٌّ، فَلَا يَسُوغُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا، وَالنَّسْخُ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ. قَالَ ابْن رَحَّالٍ: وَرَأَيْت لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ. مَذْهَبًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنَّ الْمُطْلَقَ لَيْسَ بِنَصٍّ فِي الْإِطْلَاقِ، وَلَا ظَاهِرٍ فِيهِ، بَلْ هُوَ مُتَنَاوِلٌ لِلذَّاتِ غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ لِلْقَيْدِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُونُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ مِنْ بَابِ التَّأْوِيلِ، بَلْ يَكُونُ آتِيًا بِمَا لَمْ يُشْعِرْ بِهِ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ بِمَثَابَةِ إيجَابِ الزَّكَاةِ بَعْدَ إيجَابِ الصَّلَاةِ. الثَّانِي: أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ عِنْدَهُمْ، تَخْصِيصٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ،
كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ فِي " الْمَنْخُولِ " هُنَا، وَالنَّسْخُ لَا يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ، وَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ. الثَّالِثُ: الْقَوْلُ بِالْمَفْهُومِ، فَهُوَ يَدَّعِي أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ، فَلِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ: إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: قَدْ تَنَاقَضَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَقْيِيدِهِمْ رَقَبَةَ الظِّهَارِ بِاشْتِرَاطِ نُطْقِهَا، فَلَا يُجْزِئُ عِنْدَهُمْ إعْتَاقُ الْأَخْرَسِ، وَفِي تَقْيِيدِهِمْ الْقُرْبَى بِالْفُقَرَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] ثُمَّ قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُطْلَقَ كَالْعَامِّ، فَيَتَقَيَّدُ كَالتَّخْصِيصِ، وَالتَّخْصِيصُ تَارَةً يَكُونُ بِقَصْرِ اللَّفْظِ عَلَى بَعْضٍ غَيْرَ مُمَيَّزٍ بِصِفَةٍ كَحَمْلِ الْفُقَرَاءِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَتَارَةً عَلَى مُمَيَّزٍ بِصِفَةٍ، كَحَمْلِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْحَرْبِيِّينَ.
وَقَالَ فِي الْمُقْتَرَحِ: مُطْلَقُ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الِاجْتِزَاءَ بِالْمُطْلَقِ يُؤْخَذُ مِنْ مُجَرَّدِ اللَّفْظِ، أَوْ مِنْ عَدَمِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارٍ زَائِدٍ، فَإِنْ قُلْنَا: بِالثَّانِي: فَالْمُطْلَقُ لَا يُشْعِرُ بِالْمُقَيَّدِ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ التَّأْوِيلِ بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالدَّلِيلِ، وَحِينَئِذٍ فَاللَّفْظُ لَا إشْعَارَ فِيهِ بِالْمُطْلَقِ، فَضْلًا عَنْ الْمُقَيَّدِ، فَلَا يُحْمَلُ، وَإِنْ قُلْنَا: مَأْخُوذٌ مِنْ إشْعَارِ اللَّفْظِ، فَهَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي الِاسْتِغْرَاقِ أَوْ نَصٌّ فِيهِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: ظَاهِرٌ جَازَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِقِيَاسٍ عَلَى الْخِلَافِ، وَإِنْ قُلْنَا نَصٌّ فَلَا يَسُوغُ الْحَمْلُ بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا، وَالنَّسْخُ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ بِهِ.
تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الْإِبْيَارِيُّ: بَقِيَ قِسْمٌ رَابِعٌ، وَهُوَ أَنْ يَتَّحِدَ الْمُوجِبُ، وَيَخْتَلِفَ صِنْفُ الْمُوجِبِ، كَمَا إذَا قَيَّدَ الرَّقَبَةَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ بِالْإِسْلَامِ، ثُمَّ