الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ مِنْهُمْ ابْنُ حَزْمٍ إلَى وُقُوعِهِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ احْتِجَاجًا بِقِصَّةِ أَهْلِ قُبَاءَ، حَكَاهَا ابْنُ عَقِيلٍ، وَأَلْزَمَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ أَيْضًا، فَإِنَّهُ احْتَجَّ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقِصَّةِ قُبَاءَ. وَفَصَلَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ "، وَالْغَزَالِيُّ، وَأَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ، وَالْقُرْطُبِيُّ بَيْنَ زَمَانِ الرَّسُولِ وَمَا بَعْدَهُ، فَقَالَا: بِوُقُوعِهِ فِي زَمَانِهِ. وَكَذَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الثَّابِتَ قَطْعًا لَا يَنْسَخُهُ مَظْنُونٌ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِزَمَانِ الرَّسُولِ. وَكَأَنَّ الْفَارِقَ أَنَّ الْأَحْكَامَ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ فِي مَعْرِضِ التَّغَيُّرِ، وَفِيمَا بَعْدَهُ مُسْتَقِرَّةٌ، فَكَانَ لَا قَطْعَ فِي زَمَانِهِ.
[مَسْأَلَةٌ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ]
وَأَمَّا نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ السُّنَّةُ آحَادًا فَقَدْ سَبَقَ الْمَنْعُ، وَكَرَّرَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ نَقْلَ الِاتِّفَاقِ فِيهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهِ وَوُقُوعِهِ، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَابْنُ بَرْهَانٍ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ فِي " شَرْحِ مَقَالَاتِ الْأَشْعَرِيِّ ": إلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَإِلَيْهِ يَذْهَبُ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ. وَكَانَ يَقُولُ:
إنَّ ذَلِكَ وُجِدَ فِي قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِالسُّنَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:«لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . وَكَانَ يَقُولُ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا. اهـ. وَمِنْ خَطِّ ابْنِ الصَّلَاحِ نَقَلْته.
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَامَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَالَ سُلَيْمٌ: هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَقَالُوا: لَيْسَ لِأَبِي حَنِيفَةَ نَصٌّ فِيهِ، وَلَكِنْ نَصَّ عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ، وَاخْتَارَهُ. قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَسَائِرِ الْمُتَكَلِّمِينَ. قَالَ الدَّبُوسِيُّ فِي " التَّقْوِيمِ ": إنَّهُ قَوْلُ عُلَمَائِنَا، يَعْنِي الْحَنَفِيَّةَ.
قَالَ الْبَاجِيُّ: قَالَ بِهِ عَامَّةُ شُيُوخِنَا، وَحَكَاهُ أَبُو الْفَرَجِ عَنْ مَالِكٍ. قَالَ: وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ عِنْدَهُ لِلْوَارِثِ لِلْحَدِيثِ، فَهُوَ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ} [البقرة: 180] الْآيَةَ. قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا سَهْوٌ، لِأَنَّ مَالِكًا صَرَّحَ بِأَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ. [مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ]
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ بِحَالٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً، وَجَزَمَ بِهِ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَالْخَفَّافُ فِي كِتَابِ " الْخِصَالِ "، وَنَقَلَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَأَجْمَعَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْمَنْعِ، وَرَأَيْت التَّصْرِيحَ بِهِ فِي آخِرِ كِتَابِ " الْوَدَائِعِ " لِابْنِ سُرَيْجٍ.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: قَطَعَ الشَّافِعِيُّ جَوَابَهُ بِأَنَّ الْكِتَابَ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ، وَتَرَدَّدَ فِي عَكْسِهِ. قُلْت: وَسَيَأْتِي عَنْ الشَّافِعِيِّ حِكَايَةُ خِلَافٍ فِي نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، فَلْيَجِئْ هُنَا بِطَرِيقٍ أَوْلَى، أَوْ نَقْطَعُ بِالْمَنْعِ فِي الْعَكْسِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَوْلُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ الْعَقْلُ أَوْ الشَّرْعُ؟ قَالَ: وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ جَمِيعًا. وَكَذَا قَالَهُ قَبْلَهُ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَعِبَارَتُهُ: وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ شَرْعًا وَلَا عَقْلًا، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. اهـ. وَفِيمَا قَالَاهُ نَظَرٌ، بَلْ قُصَارَى كَلَامِهِ مَنْعُ الشَّرْعِ، كَيْفَ وَالْعَقْلُ عِنْدَهُ لَا يُحَكَّمُ، ثُمَّ قَالَ: وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ الشَّرْعُ دُونَ الْعَقْلِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا. فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الشَّيْخُ فِي " التَّبْصِرَةِ "، وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ ": أَنَّ الَّذِي مَنَعَ مِنْهُ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ، وَلَوْ وَرَدَ بِهِ كَانَ جَائِزًا وَهَذَا أَصَحُّ. وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ: الشَّرْعُ مَنَعَ مِنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ مُجَوِّزًا فِيهِ. اهـ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي ": صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَوَافَقَهُ أَصْحَابُهُ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ مَنَعَ مِنْهُ الْعَقْلُ أَوْ الشَّرْعُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. اهـ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: مِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ عَقْلًا، وَادَّعَى أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْعَقْلِ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِمَنْعِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ نُسِخَتْ بِسُنَّةٍ. اهـ.
وَقَالَ فِي كِتَابِهِ " النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ ": أَجْمَعَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ مُتَكَلِّمِيهِمْ. وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي طَرِيقِ الْمَنْعِ مِنْهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُسْتَحِيلٌ مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى اسْتِحَالَتِهِ، وَبِهِ نَقُولُ. وَهُوَ أَيْضًا اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ ذَلِكَ فِي الْعَقْلِ جَائِزٌ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ وَرَدَ بِالْمَنْعِ مِنْهُ. وَهُوَ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] فَلَا تَكُونُ السُّنَّةُ خَيْرًا وَلَا مِثْلَهَا، فَلَا يَجُوزُ نَسْخُهَا بِهَا، وَلَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ لَأَجَزْنَا نَسْخَ الْآيَةِ بِالسُّنَّةِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَابْنِ سُرَيْجٍ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْعَقْلَ يُجِيزُ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِالْمَنْعِ مِنْهُ إلَّا أَنَّا لَمْ نَجِدْ فِي الْقُرْآنِ آيَةً مَنْسُوخَةً بِسُنَّةٍ. انْتَهَى. وَمِمَّنْ قَالَ بِنَفْيِ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، وَالْقَلَانِسِيُّ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَالظَّاهِرِيَّةُ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ " عَنْ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَمِمَّنْ نَفَى الْجَوَازَ السَّمْعِيَّ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ ". وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ غَلِطَ النَّاسُ فِي النَّقْلِ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ وَجْهَ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، فَنَقُولُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ ": وَأَبَانَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّهُ إنَّمَا نَسَخَ مَا نَسَخَ بِالْكِتَابِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَكُونُ نَاسِخَةً
لِلْكِتَابِ، وَإِنَّمَا هِيَ تَبَعٌ لِلْكِتَابِ بِمِثْلِ مَا نَزَلَ بِهِ نَصًّا، وَمُفَسِّرَةٌ مَعْنًى بِمَا أُنْزِلَ مِنْهُ حُكْمًا. قَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15] فَفِي قَوْلِهِ: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ} [يونس: 15] مَا وَصَفْته مِنْ أَنَّهُ لَا يَنْسَخُ كِتَابَ اللَّهِ إلَّا كِتَابُهُ، كَمَا كَانَ الْمُبْتَدِئُ بِفَرْضِهِ، فَهُوَ الْمُزِيلُ الْمُثْبَتُ لِمَا شَاءَ مِنْهُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى:{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] وَهُوَ أَشْبَهُ مَا قِيلَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي كِتَابِ اللَّهِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] .
انْتَهَى لَفْظُهُ. وَمَنْ صَدَّرَ هَذَا الْكَلَامَ قِيلَ عَنْهُ: إنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْكِتَابَ. وَقَدْ اسْتَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ: هَفَوَاتُ الْكِبَارِ عَلَى أَقْدَارِهِمْ، وَمَنْ عُدَّ خَطَؤُهُ عَظُمَ قَدْرُهُ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَحْمَدَ كَثِيرًا مَا يَنْصُرُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، فَلَمَّا وَصَلَ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، قَالَ: هَذَا الرَّجُلُ كَبِيرٌ، وَلَكِنَّ " الْحَقَّ " أَكْبَرُ مِنْهُ. قَالَ إلْكِيَا فِي " التَّلْوِيحِ ": لَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مَنَعَ جَوَازَ نَسْخِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَقْلًا فَضْلًا عَنْ الْمُتَوَاتِرِ، فَلَعَلَّهُ يَقُولُ دَلَّ عُرْفُ الشَّرْعِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ، وَإِذَا لَمْ يَدُلَّ قَاطِعٌ مِنْ السَّمْعِ تَوَقَّفْنَا، وَإِلَّا فَمَنْ الَّذِي يَقُولُ إنَّهُ عليه السلام لَا يُحْكَمُ بِقَوْلِهِ مِنْ نَسْخِ مَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ فِي الْعَقْلِ. قَالَ: وَالْمُغَالُونَ فِي حُبِّ الشَّافِعِيِّ لَمَّا رَأَوْا هَذَا الْقَوْلَ لَا يَلِيقُ بِعُلُوِّ قَدْرِهِ، كَيْفَ وَهُوَ الَّذِي مَهَّدَ هَذَا الْفَنَّ وَرَتَّبَهُ، وَأَوَّلُ مَنْ أَخْرَجَهُ، قَالُوا: لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ هَذَا الْعَظِيمِ مَحْمَلٌ، فَتَعَمَّقُوا فِي مَحَامِلَ ذَكَرُوهَا.
قَالَ: وَغَايَةُ الْإِمْكَانِ فِي تَوْجِيهِهِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّسُولَ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ، وَكَانَ اجْتِهَادُهُ وَاجِبَ الِاتِّبَاعِ قَطْعًا، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَيِّنَ الرَّسُولُ بِاجْتِهَادِهِ مَا يُخَالِفُ نَصَّ الْكِتَابِ، مَعَ أَنَّ اجْتِهَادَهُ مَقْطُوعٌ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُسْتَنِدٍ فِي الشَّرْعِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَلُوحَ لَهُ مِنْ وَضْعِ الشَّرْعِ مَا يَقْتَضِي نَسْخَ الْكِتَابِ، وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يَتَطَرَّقُ إلَى النَّسْخِ أَصْلًا.
الثَّانِي: لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. قَالُوا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] يَحْتَمِلُ الْكِتَابَ وَغَيْرَهُ مِمَّا هُوَ أَجْزَلُ فِي الْمَثُوبَةِ وَأَصْلَحُ فِي الدَّارَيْنِ، فَلَمَّا قَالَ بَعْدَهُ:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106] . عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ بِمَا تَقَدَّمَ مَا تَفَرَّدَ هُوَ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ. فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى الْعِلْمِ بِالْمَصَالِحِ أَوْ إنْشَائِهَا أَوْ إزَالَتِهَا عَنْ الصُّدُورِ. وَقَدْ قِيلَ:{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] بَعْدَ النَّسْخِ إذَا قَدَّمَ النَّسْخَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نَسْخُ حُكْمِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّ الْمُرَادَ خَيْرٌ مِنْهَا لَكُمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَبُو الطَّيِّبِ سَهْلِ بْنُ سُهَيْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ كِتَابًا فِي نُصْرَةِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَلِكَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَتِلْمِيذُهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، وَكَانَا مِنْ النَّاصِرِينَ لِهَذَا الرَّأْيِ، وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي كِتَابِهِ " النَّاسِخِ "، حَكَى نَصَّ الشَّافِعِيِّ بِالْمَنْعِ وَقَرَّرَهُ. وَقَالَ: قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: كُنْت أَتَأَوَّلُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله قَدِيمًا فِي الْمَنْعِ، أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ، فَلَمْ يُجَوِّزْهُ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُهُ، حَتَّى تَدَبَّرْت هَذِهِ الْآيَةَ:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] فَقِيلَ لَهُ: لِمَ لَا يَكُونُ مَعْنَى خَيْرٍ مِنْهَا: حُكْمًا لَكُمْ خَيْرٌ مِنْ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ؟
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ؟ فَقَالَ: هَذَا هَذَيَانٌ، لِأَنَّ الْآمِرَ قَدْ يَأْمُرُ بِالشَّيْءِ، ثُمَّ يَأْمُرُ بَعْدَهُ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا جَارٍ فِي قُدْرَةِ الرَّبِّ الْآمِرِ بِهِ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عز وجل عَنْ قُدْرَتِهِ الَّتِي تُعْجِزُ الْخَلْقَ عَنْ إبْدَالِ هَذَا الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ الَّذِي يَعْجِزُ الْخَلْقُ عَنْ افْتِعَالِ مِثْلِهِ، وَذَلِكَ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ، وَأَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي جَاءَ بِهِ صَادِقٌ، وَأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106] عَلَى عَجِيبِ قُدْرَتِهِ فِيمَا ذَكَرَ أَنَّهُ يَفْعَلُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي إنْزَالِ الْآيَاتِ الْمُعْجِزَاتِ بَدَلًا مِنْ الْآيِ الْمُعْجِزِ، وَإِذْ هِيَ آيَاتٌ مُعْجِزَاتٌ لِلْخَلْقِ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، وَلِذَلِكَ أَتَى بِصِفَةِ الْقُدْرَةِ. وَمَعْنَى {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] أَيْ فِي عَيْنِهَا، وَيَجُوزُ إطْلَاقُ ذَلِكَ وَالْمُرَادُ أَكْثَرُ ثَوَابًا فِي التِّلَاوَةِ، كَمَا وَرَدَ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: هَذَا كَلَامُ أَبِي الْعَبَّاسِ بَعْدَ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا كِفَايَةٌ، ثُمَّ أَخَذَ أَبُو إِسْحَاقَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَنْعِ، وَفِيهِ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ، وَهِيَ تَحْرِيرُ النَّقْلِ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ: أَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا يَذْهَبُ فِي تَأْوِيلِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ إلَى مَنْعِ الْوُقُوعِ، ثُمَّ ثَبَتَ عَلَى الِامْتِنَاعِ، فَاعْرِفْ ذَلِكَ، فَإِنَّ النَّاسَ خَلَطُوا فِي النَّقْلِ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ. وَكَذَلِكَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَنْعِ حَرَّرَهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَجِمَاعُ مَا أَقُولُهُ: أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُنْسَخْ قَطُّ بِسُنَّةٍ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُرِنَا
ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. قَالَ: وَالشَّافِعِيُّ لَمْ يُحِلْ جَوَازَ الْعِبَادَةِ أَنْ يَأْتِيَ بِرَفْعِ حُكْمِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: لَا يَجُوزُ لِلدَّلَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فَقِيَامُ الدَّلِيلِ عِنْدَهُ هُوَ الْمَانِعُ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُحْرِمِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ كَذَا بِالْخَبَرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قِيَامِ الدَّلِيلِ، فَهَذَا وَجْهُ قَوْلِهِ: يَمْتَنِعُ أَنْ تَنْسَخَ السُّنَّةُ الْقُرْآنَ. اهـ. وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى أَبُو إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ " فَقَالَ: لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَا ابْنُ بَرْهَانٍ فَقَالَ: لَا يَصِحُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنْهُ امْتِنَاعُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ ": مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَجُوزُ عَقْلًا، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ بِأَدِلَّةِ السَّمْعِ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الظَّنُّ بِالشَّافِعِيِّ مَعَ عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ فِي هَذَا الْفَنِّ. انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَمْنَعْ الْجَوَازَ الْعَقْلِيَّ، بَلْ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَلْبَتَّةَ لَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِهِ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِ قَائِلُهُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِهِ الْمُحَالُ فَبَاطِلٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْعَقْلَ يُقْتَضَى تَقْبِيحَهُ فَهُوَ قَوْلٌ مُعْتَزِلِيٌّ، وَالشَّافِعِيُّ بَرِيءٌ مِنْ الْمَقَالَتَيْنِ.
فَإِنْ قُلْت: فَمَا وَجْهُ قَوْلِ سُلَيْمٍ، وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ: إنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ جَمِيعًا؟ وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ " أَنَّ الشَّافِعِيَّ مَنَعَ مِنْهُ بِالْعَقْلِ، وَكَذَا الْبَاجِيُّ. قُلْت: مَنْ نَقَلَ عَنْهُ الْمَنْعَ الشَّرْعِيَّ فَقَطْ أَعْظَمُ وَأَكْثَرُ، فَيُرَجَّحُ عَلَى نَقْلِ هَؤُلَاءِ، وَلَوْ قَطَعْنَا النَّظَرَ عَنْ كُلٍّ مِنْ الْمَقَالَتَيْنِ لَرَجَعْنَا إلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ كَلَامَهُ فِي نَفْيِ الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا، لَا الْمَنْعِ مُطْلَقًا، وَلِهَذَا احْتَجَّ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ، وَلِهَذَا ذَهَبَ الصُّعْلُوكِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ،
وَأَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، إلَى أَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّزُ نَسْخَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ مَانِعٌ مِنْهُ فِيهِمَا جَمِيعًا.
وَقَالَ فِي الْمُقْتَرَحِ: لَمْ يُرِدْ الشَّافِعِيُّ مُطْلَقَ السُّنَّةِ، بَلْ أَرَادَ السُّنَّةَ الْمَنْقُولَةَ آحَادًا، وَاكْتَفَى بِهَذَا الْإِطْلَاقِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي السُّنَنِ الْآحَادُ. قُلْت: وَالصَّوَابُ أَنَّ مَقْصُودَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَا يُوجَدَانِ مُخْتَلِفَيْنِ إلَّا وَمَعَ أَحَدِهِمَا مِثْلُهُ نَاسِخٌ لَهُ، وَهَذَا تَعْظِيمٌ عَظِيمٌ، وَأَدَبٌ مَعَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَفَهْمٌ بِمَوْقِعِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ، وَكُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَقَعْ عَلَى مُرَادِ الشَّافِعِيِّ، بَلْ فَهِمُوا خِلَافَ مُرَادِهِ حَتَّى غَلِطُوا وَأَوَّلُوهُ، وَسَيَأْتِي مَزِيدُ بَيَانٍ فِيهِ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْدَهَا. وَقَدْ احْتَجَّ مَنْ خَالَفَ الشَّافِعِيَّ بِآيٍ مِنْ الْكِتَابِ نُسِخَتْ أَحْكَامُهَا، وَلَا نَاسِخَ لَهَا فِي الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا نَسَخَتْهَا السُّنَّةُ الَّتِي كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ اُسْتُغْنِيَ عَنْ نَقْلِهَا بِالْإِجْمَاعِ، فَصَارَتْ آحَادًا، كَوُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِقَوْلِهِ:«لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . وَأَجَابَ الصَّيْرَفِيُّ بِأَنَّ آيَةَ الْمَوَارِيثِ نَسَخَتْ، وَالرَّسُولُ بَيَّنَ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: نُسِخَ بِآيَةٍ أُخْرَى لَمْ يُنْقَلْ رَسْمُهَا وَنَظْمُهَا إلَيْنَا، كَمَا قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الممتحنة: 11] فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ الْيَوْمَ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ سُنَّةٌ نَاسِخَةٌ، فَإِنْ جَازَ لَكُمْ الْحَمْلُ عَلَى سُنَّةٍ لَمْ تَظْهَرْ، جَازَ لَنَا الْحَمْلُ عَلَى كِتَابٍ لَمْ يَظْهَرْ. انْتَهَى.
وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَلَا يُقَالُ: إنَّ الرَّجْمَ نُسِخَ بِالْجَلْدِ عَنْ الزَّانِي، لِأَنَّ الرَّجْمَ رَفْعٌ. . . لَمْ يَكُنْ الْجَلْدُ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ، فَحَظُّ السُّنَّةِ الْبَيَانُ وَالْإِخْبَارُ عَنْ الْمُرَادِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ السُّنَّةَ لِلْبَيَانِ، فَمُحَالٌ أَنْ يُنْسَخَ الشَّيْءُ بِمَا يُبَيِّنُهُ قَالَ: وَإِنَّمَا جَازَ نَسْخُ بَعْضِ الْقُرْآنِ بِبَعْضِهِ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ حُجَّةِ الْكُفَّارِ،
أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ الْمُعْجِزِ وَلَيْسَ هَذَا فِي السُّنَّةِ. انْتَهَى. فَإِنْ قِيلَ قَدْ نُسِخَ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} [الأنعام: 145] الْآيَةَ بِنَهْيِهِ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ. قُلْنَا: الْآيَةُ اجْتَمَعَ فِيهَا لَفْظَانِ مُتَعَارِضَانِ، فَيَتَعَيَّنُ صَرْفُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ، فَلَفْظُ:{أُوحِيَ} مَاضٍ، لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا حِينَ وُرُودِ الْآيَةِ. وَلَفْظُ " لَا " لِنَفْيِ الْمُسْتَقْبِلِ بِنَصِّ سِيبَوَيْهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى: 13] وَالْمُرَادُ الِاسْتِقْبَالُ ضَرُورَةً، وَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ مِنْ صَرْفِ " لَا " لِأُوحِيَ، أَوْ صَرْفِ أُوحِيَ لِلَفْظِ " لَا "، فَإِنْ صَرَفْنَا " لَا " لِلَفْظِ أُوحِيَ، فَلَا نَسْخَ لِعَدَمِ التَّنَاقُضِ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ، وَإِنْ عَكَسْنَا كَانَ تَخْصِيصًا لَا نَسْخًا، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ. وَمِمَّا عَارَضَ بِهِ الْخُصُومُ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ عَمِلَ بِأَحَادِيثِ الدِّبَاغِ مَعَ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] فَنَسَخَ الْكِتَابَ بِالسُّنَّةِ، وَلَنَا أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ لَا النَّسْخِ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي حَدِيثِ شَاةِ مَيْمُونَةَ، وَقَوْلُهُ:«هَلَّا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا؟ فَقَالَتْ مَيْمُونَةُ: نَأْخُذُ مَسْكَ شَاةٍ مَيْتَةٍ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ: إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] وَإِنَّكُمْ لَا تَطْعَمُونَهُ حِينَئِذٍ» . فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145] تَحْرِيمُ الْأَكْلِ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَكْلِهِ وَهُوَ اللَّحْمُ، فَلَمْ تَتَنَاوَلْ الْآيَةُ الْجِلْدَ، وَهَذَا جَوَابٌ آخَرُ.
تَنْبِيهَاتٌ
الْأَوَّلُ: إذَا قُلْنَا بِامْتِنَاعِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَمَاذَا يُفْعَلُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا، حَكَاهُمَا أَبُو الْحُسَيْنِ السُّهَيْلِيُّ فِي كِتَابِهِ " أَدَبِ الْجَدَلِ ": أَحَدُهُمَا: يَجِبُ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْآيَةِ وَتَرْكُ الْخَبَرِ، إذْ لَمْ يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُهُ، وَلَا يَنْسَخُ الْآيَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهَا نُسِخَتْ بِمِثْلِهَا أَوْ بِمَا يَجُوزُ نَسْخُهَا بِهِ بِدَلِيلِ الْخَبَرِ الصَّحِيحِ بَعْدَهُ بِخِلَافِهِ. قَالَ: فَأَمَّا إذَا كَانَ الْخَبَرُ مُتَوَاتِرًا، وَقُلْنَا بِالْمَنْعِ، فَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ. [نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْمُسْتَفِيضِ مِنْ السُّنَّةِ]
الثَّانِي: أَنَّهُمْ تَعَرَّضُوا لِلْآحَادِ وَالتَّوَاتُرِ وَسَكَتُوا عَنْ الْمُسْتَفِيضِ، لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ حُكْمُهُ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَقَدْ تَوَقَّفَ فِيهِ النَّقْشَوَانِيُّ. وَقَالَ: قَدْ جَوَّزُوا التَّخْصِيصَ بِهِ، وَالِاحْتِيَاطُ فِي النَّسْخِ آكَدُ، وَقَدْ تَعَرَّضَ لَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " فِي بَابِ الْأَخْبَارِ. وَحَكَى عَنْ بَعْضِهِمْ جَوَازَ نَسْخِ الْكِتَابِ بِهِ. قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ، وَجَوَّزَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْكِتَابِ بِهِ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِنَسْخٍ. انْتَهَى. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ فِي " الْحَاوِي " أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْتَفِيضِ وَالْمُتَوَاتِرِ، فَإِنَّهُ حَكَى الْخِلَافَ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ ثُمَّ قَالَ: وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ، كَمَا نُسِخَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ بِحَدِيثِ:(لَا وَصِيَّةَ) . قَالَ: وَهَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّهُ إنَّمَا نَسَخَهَا آيَةُ الْمَوَارِيثِ، وَكَانَتْ السُّنَّةُ بَيَانًا. الثَّالِثُ: فِي الْمَسْأَلَةِ حَدِيثٌ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ: «كَلَامِي