الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ النَّسْخُ بِبَدَلٍ]
فَصْلٌ
النَّسْخُ بِبَدَلٍ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُنْسَخَ بِمِثْلِهِ فِي التَّخْفِيفِ أَوْ التَّغْلِيظِ، كَنَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالْكَعْبَةِ.
الثَّانِي: نَسْخُهُ إلَى مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ كَنَسْخِ الْعِدَّةِ حَوْلًا بِالْعِدَّةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ لَا خِلَافَ فِيهِمَا.
الثَّالِثُ: نَسْخُهُ إلَى مَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْهُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهِ كَالْعَكْسِ، وَلِوُقُوعِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ الْقِتَالَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نَسَخَهُ بِفَرْضِ الْقِتَالِ. وَنَسَخَ الْإِمْسَاكَ فِي الزِّنَا بِالْجَلْدِ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ إلَى الْمَنْعِ، وَإِلَيْهِ صَارَ ابْنُ دَاوُد، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَانِعُونَ فَقِيلَ: مَنَعَ مِنْهُ الْعَقْلُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّنْفِيرِ. وَقِيلَ: بَلْ الشَّرْعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]
، وَزَعَمَ الْهِنْدِيُّ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ قَالَ بِالْوُقُوعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ حَكَى الْقَاضِي قَوْلًا أَنَّهُ جَائِزٌ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ.
وَذَكَرَ ابْنُ بَرْهَانٍ أَنَّ بَعْضَهُمْ نَقَلَ الْمَنْعَ عَنْ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَكَذَا حَكَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ. قُلْت: كَأَنَّ مُسْتَنَدَ النَّقْلِ عَنْهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي " الرِّسَالَةِ ": إنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ أَثْبَتَهَا، وَأُخْرَى نَسَخَهَا رَحْمَةً وَتَخْفِيفًا لِعِبَادِهِ. هَذَا لَفْظُهُ، وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا كَمَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَشَارَ بِهِ إلَى أَنَّ النَّاسِخَ يَكُونُ أَخَفَّ مِنْ الْمَنْسُوخِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ النَّسْخَ رَحْمَةً وَتَخْفِيفًا، وَمَا نُسِخَ بِأَغْلَظَ مِنْهُ كَانَ تَشْدِيدًا لَا تَخْفِيفًا.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يُرِدْ بِهِ جَمِيعَ أَنْوَاعِ النَّسْخِ، بَلْ الْبَعْضَ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ مُخَرَّجٌ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَطْلَقَ اللَّفْظَ عَلَى الْأَكْثَرِ مِنْ النَّسْخِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَقَعُ فِيهِ النَّسْخُ، نَقْلٌ مِنْ تَغْلِيظٍ إلَى تَخْفِيفٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْفَرَائِضَ، وَأَرَادَ مَا لَمْ يَلْزَمْ إثْبَاتُهُ مِنْ الْفَرَائِضِ، فَأُسْقِطَ.
قُلْت: وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَوْلُ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا هُوَ الْأَشْبَهُ. وَقَدْ قَالَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ شَيْءٌ نَقْطَعُ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَشَارَ بِهِ إلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِي النَّسْخِ. وَالصَّحِيحُ: الْجَوَازُ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لِلِابْتِلَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ لِمَصْلَحَةٍ تَارَةً فِي النَّقْلِ إلَى مَا هُوَ أَخَفُّ وَتَارَةً أُشَقُّ.
الثَّالِثُ: نَسْخُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ بِتَعْيِينِ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى النَّسْخِ بِالْأَثْقَلِ، كَاَلَّذِي كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ التَّخْيِيرِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ بِالْفِدْيَةِ وَالصِّيَامِ بِقَوْلِهِ:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 184] الْآيَةَ. ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] .