الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[شُرُوطُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ الْعَائِدَةِ لِلْمَذْكُورِ]
ِ] وَأَمَّا الثَّانِي فَلَهُ شُرُوطٌ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ خَارِجًا مَخْرَجَ الْغَالِبِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23] . فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ الرَّبَائِبِ كَوْنُهُنَّ فِي حُجُورِ أَزْوَاجِ أُمَّهَاتِهِنَّ، فَذَكَرَ هَذَا الْوَصْفَ لِكَوْنِهِ أَغْلَبَ لَا لِيَدُلَّ عَلَى إبَاحَةِ نِكَاحِ غَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ تَخْصِيصُ الْخُلْعِ بِحَالِ الشِّقَاقِ لَا مَفْهُومَ لَهُ، إذْ لَا يَقَعُ غَالِبًا فِي حَالِ الْمُصَافَاةِ وَالْمُوَافَقَةِ خِلَافًا لِابْنِ الْمُنْذِرِ، وَإِذَا لَاحَ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ غَيْرُ نَفْيِ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا الْمَنْطُوقَ تَطَرَّقَ الِاحْتِمَالُ إلَى الْمَنْطُوقِ، فَصَارَ مُجْمِلًا كَاللَّفْظِ الْمُجْمِلِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: تَعَارُضُ الْفَوَائِدِ فِي الْمَفْهُومِ، كَتَعَارُضِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي الْمَنْطُوقِ يُكْسِبُهُ نَعْتَ الْإِجْمَالِ، فَكَذَلِكَ تَعَارُضُ الِاحْتِمَالَاتِ فِي الْمَنْطُوقِ يُكْسِبُهُ نَعْتَ الْإِجْمَالِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ قَصَدَ بِهَذَا التَّخْصِيصِ الْمُغَايَرَةَ دُونَ اعْتِبَارِ الْفَائِدَةِ الْأُخْرَى. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا حَاجَةَ إلَى دَلِيلٍ فِي تَرْكِ هَذَا الْمَفْهُومِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ": الْمُخْتَارُ خِلَافُهُ، إذْ الشِّقَاقُ يُنَاسِبُ الْخُلْعَ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى بُعْدِ الْخِلَافِ وَتَعَذُّرِ اسْتِمْرَارِ النِّكَاحِ، فَلَا تُرْفَعُ الْفَحْوَى الْمَعْلُومَةُ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ الْعُرْفِ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ فِي الْقُوَّةِ مَبْلَغَ مَا يُشْتَرَطُ فِي تَرْكِ مَفْهُومٍ لَا يُقْصَدُ بِالْعُرْفِ، فَإِنَّهُ قَرِينَةٌ مُوهِمَةٌ. اهـ.
وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي
شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمَفْهُومِ مَنْشَؤُهُ طَلَبُ الْفَائِدَةِ فِي التَّخْصِيصِ، وَكَوْنُهُ لَا فَائِدَةَ إلَّا الْمُخَالَفَةُ فِي الْحُكْمِ، أَوْ تَكُونُ تِلْكَ الْفَائِدَةُ أَرْجَحَ الْفَوَائِدِ الْمُحْتَمَلَةِ، فَإِذَا وُجِدَ سَبَبٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ غَيْرَ الْمُخَالَفَةِ فِي الْحُكْمِ وَكَانَ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ ظَاهِرًا، ضَعُفَ الِاسْتِدْلَال بِتَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِالذِّكْرِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ، لِوُجُودِ الْمُزَاحِمِ الرَّاجِحِ بِالْعَادَةِ، فَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ. قَالَ: وَهَذَا أَحْسَنُ، إلَّا أَنَّهُ يُشْكِلُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ:(فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ) ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ بِالْمَفْهُومِ، وَأَسْقَطَ الزَّكَاةَ عَنْ الْمَعْلُوفَةِ، مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ وَالْعَادَةَ السَّوْمُ، فَمُقْتَضَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنْ لَا يَكُونَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ مَفْهُومٌ.
قُلْت: قَدْ ذَكَرَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ هَذَا السُّؤَالَ، وَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ اشْتِرَاطَ السَّوْمِ لَمْ يَقُلْ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ قَاعِدَةَ الشَّرْعِ الْعَفْوُ عَنْ الزَّكَاةِ فِيمَا أُعِدَّ لِلْقُنْيَةِ، وَلَمْ يُتَصَرَّفْ فِيهِ لِلتَّنْمِيَةِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ. هَذَا أَصْلُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ السَّوْمَ شَرْطٌ. لَكِنَّ الْقَفَّالَ قَصَدَ بِذَلِكَ نَفْيَ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ مُطْلَقًا، وَقَدْ سَبَقَ رَدُّهُ. عَلَى أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ " يُخَالِفُ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ: وَإِذَا قِيلَ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ كَذَا، فَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْغَنَمِ غَيْرِ السَّائِمَةِ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ كُلَّمَا قِيلَ فِي شَيْءٍ بِصِفَةٍ، وَالشَّيْءُ يَجْمَعُ صِفَتَيْنِ، يُؤْخَذُ حَقُّهُ كَذَا، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ مِنْ صِفَتَيْهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلِهَذَا قُلْنَا: لَا نَأْخُذُ مِنْ الْغَنَمِ غَيْرِ السَّائِمَةِ صَدَقَةَ الْغَنَمِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْغَنَمِ، فَهَكَذَا فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، لِأَنَّهَا الْمَاشِيَةُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الصَّدَقَةُ دُونَ مَا سِوَاهَا. اهـ. فَلَمْ يَجْعَلْ الشَّافِعِيُّ الْغَلَبَةَ إلَّا لِذَكَرِ الْغَنَمِ حَتَّى أَلْحَقَ بِهَا الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ، وَلَمْ يَجْعَلْ السَّوْمَ غَالِبًا.
وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْغَرَضُ مِنْ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ أَنْ لَا يُلْغِي الْقَيْدَ الَّذِي قَيَّدَ بِهِ الشَّارِعُ كَلَامَهُ، فَإِذَا ظَهَرَ لِلْقَيْدِ فَائِدَةٌ مَا مِثْلُ إنْ خَرَجَ عَنْ الْمُعْتَادِ الْغَالِبِ فِي الْعُرْفِ كَفَى ذَلِكَ. وَذَكَرَ فِي " الرِّسَالَةِ " كَلَامًا بَالِغًا فِي هَذَا الْبَابِ. وَقَالَ: إذَا تَرَدَّدَ التَّخْصِيصُ بَيْنَ تَقْدِيرِ نَفْيِ مَا عَدَا الْمُخَصَّصَ، وَبَيْنَ قَصْدِ إخْرَاجِ الْكَلَامِ عَلَى مَجْرَى الْعُرْفِ، فَيَصِيرُ تَرَدُّدُ التَّخْصِيصِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، كَتَرَدُّدِ اللَّفْظِ بَيْنَ جِهَتَيْنِ فِي الِاحْتِمَالِ، فَيُلْحَقُ بِالْمُحْتَمَلَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] . فَاسْتِشْهَادُ النِّسَاءِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ إشْهَادِ الرِّجَالِ خَارِجٌ عَلَى الْعُرْفِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الشُّهْرَةِ، وَهَتْكِ السِّتْرِ، وَعَسُرَ الْأَمْرُ عِنْدَ إقَامَةِ الشَّهَادَةِ، فَجَرَى التَّقْيِيدُ إجْرَاءً لِلْكَلَامِ عَلَى الْغَالِبِ، وَكَقَوْلِهِ:{إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ. وَخَالَفَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَرَأَى الْقَوْلَ بِالْمَفْهُومِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنَّ دَلِيلَ الْخِطَابِ لَمْ يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِ التَّخْصِيصِ بِالذَّكَرِ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَلَزِمَ مِثْلُهُ بِاللَّقَبِ، وَلَكِنْ إنَّمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ الْإِشْعَارِ عَلَى مُقْتَضَى حَقَائِقِهِ مِنْ كَوْنِهِ شَرْطًا، فَلَا يَصِحُّ إسْقَاطُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ بِاحْتِمَالٍ يُؤَوَّلُ إلَى الْعُرْفِ. نَعَمْ، يَظْهَرُ مَسْلَكُ التَّأْوِيلِ، وَيَخِفُّ الْأَمْرُ عَلَى الْمُؤَوِّلِ، فِي قَرِينَةِ الدَّلِيلِ الْعَاضِدِ لِلتَّأْوِيلِ. وَقَدْ وَافَقَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَزَادَ فَقَالَ: يَنْبَغِي الْعَكْسُ، أَيْ لَا يَكُونُ لَهُ مَفْهُومٌ إلَّا إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصْفَ الْغَالِبَ عَلَى الْحَقِيقَةِ تَدُلُّ الْعَادَةُ عَلَى ثُبُوتِهِ لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ، فَالْمُتَكَلِّمُ
يَكْتَفِي بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ عَلَى ثُبُوتِهِ لَهَا عَنْ ذِكْرِ اسْمِهِ، فَإِذَا أَتَى بِهَا مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ كَافِيَةٌ فِيهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا أَتَى بِهَا لِتَدُلَّ عَلَى سَلْبِ الْحُكْمِ عَمَّا يُفْهِمُ السَّامِعَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ ثَابِتَةٌ لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ.
وَقَدْ أَجَابَ الْقَرَافِيُّ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْوَصْفَ إذَا كَانَ غَالِبًا كَانَ لَازِمًا لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ بِسَبَبِ الشُّهْرَةِ وَالْغَلَبَةِ، فَذِكْرُهُ إيَّاهُ مَعَ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهَا لِغَلَبَةِ حُضُورِهِ فِي الذِّهْنِ لَا لِتَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِهِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ غَالِبًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُذْكَرُ مَعَ الْحَقِيقَةِ إلَّا لِتَقْيِيدِ الْحُكْمِ بِهِ، لِعَدَمِ مُقَارَنَتِهِ لِلْحَقِيقَةِ فِي الذِّهْنِ حِينَئِذٍ، فَاسْتِحْضَارُهُ مَعَهُ وَاسْتِجْلَابُهُ لِذِكْرِهِ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَكُونُ لِفَائِدَةٍ، وَالْفَرْضُ عَدَمُ ظُهُورِ فَائِدَةٍ أُخْرَى، فَيَتَعَيَّنُ التَّخْصِيصُ. وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الشَّرْطِ أَيْضًا، وَاعْتَرَضَ بِالِاسْتِفْسَارِ.
فَقَالَ: مَا تُرِيدُونَ بِالْغَالِبِ؟ أَعَادَةُ الْفِعْلِ أَمْ عَادَةُ التَّخَاطُبِ؟ فَإِنْ أُرِيدَ عَادَةُ الْفِعْلِ فَلَا نُسَلِّمُ إلَّا إذَا صَحِبَهَا عَادَةُ التَّخَاطُبِ، وَدَعْوَى أَنَّ عَادَةَ الْفِعْلِ مُسْتَلْزِمَةٌ عَادَةَ التَّخَاطُبِ ضَعِيفَةٌ بِمَنْعِ تَسْلِيمِ اللُّزُومِ. وَلِأَنَّهُ إثْبَاتُ اللُّغَةِ لِغَلَبَتِهَا، وَهُوَ وَاهٍ جِدًّا. وَإِنْ أُرِيدَ عَادَةُ التَّخَاطُبِ فَإِثْبَاتُهَا فِي مَوْضِعِ الدَّعْوَى عَسِيرٌ.
الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ عَهْدٌ، وَإِلَّا فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، وَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ اللَّقَبِ مِنْ إيقَاعِ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ، إيقَاعُ الْعِلْمِ عَلَى مُسَمَّاهُ. وَهَذَا الشَّرْطُ يُؤْخَذُ مِنْ تَعْلِيلِهِمْ إثْبَاتَ مَفْهُومِ الصِّفَةِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْصِدْ نَفْيَ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ. وَقَوْلُهُمْ فِي مَفْهُومِ الِاسْمِ إنَّهُ إنَّمَا ذُكِرَ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ الْإِخْبَارُ عَنْ الْمُسَمَّى فَلَا يَكُونُ حُجَّةً.
الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَذْكُورُ قُصِدَ بِهِ زِيَادَةُ الِامْتِنَانِ عَلَى الْمَسْكُوتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] فَلَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الْقَدِيدِ.
الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَنْطُوقُ خَرَجَ لِسُؤَالٍ عَنْ حُكْمِ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ، وَلَا حَادِثَةَ خَاصَّةٌ بِالْمَذْكُورِ. وَلَك أَنْ تَقُولَ: كَيْفَ جَعَلُوا هُنَا السَّبَبَ قَرِينَةً صَارِفَةً عَنْ إعْمَالِ الْمَفْهُومِ، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ صَارِفًا عَنْ إعْمَالِ الْعَامِّ، بَلْ قَدَّمُوا مُقْتَضَى اللَّفْظِ عَلَى السَّبَبِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالُوهُ، فَهَلَّا جَرَى فِيهِ خِلَافٌ: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ أَوْ بِخُصُوصِ السَّبَبِ؟ لَا سِيَّمَا إذَا قُلْنَا: إنَّ الْمَفْهُومَ عَامٌّ. ثُمَّ رَأَيْت صَاحِبَ " الْمُسَوَّدَةِ " حَكَى عَنْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنْ أَصْحَابِهِمْ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ ضَعِيفَةٌ تَسْقُطُ بِأَدْنَى قَرِينَةٌ، بِخِلَافِ اللَّفْظِ الْعَامِّ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْله تَعَالَى:{لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] فَلَا مَفْهُومَ لِلْأَضْعَافِ إلَّا عَنْ النَّهْيِ عَمَّا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ بِسَبَبِ الْآجَالِ، كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إذَا حَلَّ دَيْنُهُ يَقُولُ لَهُ: إمَّا أَنْ تُعْطِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ، فَيُضَاعَفُ بِذَلِكَ أَصْلُ دَيْنِهِ مِرَارًا كَثِيرَةً، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ.
الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَذْكُورُ قُصِدَ بِهِ التَّفْخِيمُ وَتَأْكِيدُ الْحَالِ، كَقَوْلِهِ:(لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ) فَإِنَّ التَّقْيِيدَ بِالْإِيمَانِ لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِتَفْخِيمِ الْأَمْرِ لَا الْمُخَالَفَةِ، وَكَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«الْحَجُّ عَرَفَةَ» . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ: (إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ) إذْ كَانَ أَصْلُ الرِّبَا عِنْدَهُمْ وَمُعْظَمُهُ إنَّمَا هُوَ النَّسِيئَةُ.
السَّادِسُ: أَنْ يُذْكَرَ مُسْتَقِلًّا، فَلَوْ ذُكِرَ عَلَى جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ لِشَيْءٍ آخَرَ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]
فَإِنَّ قَوْلَهُ: " فِي الْمَسَاجِدِ " لَا مَفْهُومَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْعِ الْمُبَاشَرَةِ، فَإِنَّ الْمُعْتَكِفَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْمُبَاشَرَةُ مُطْلَقًا.
السَّابِعُ: أَنْ لَا يَظْهَرَ مِنْ السِّيَاقِ قَصْدُ التَّعْمِيمِ، فَإِنْ ظَهَرَ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الْمَعْدُومِ الْمُمْكِنِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِقَوْلِهِ:" كُلِّ شَيْءٍ " التَّعْمِيمُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُمْكِنَةِ لَا قَصْرُ الْحُكْمِ.
الثَّامِنُ: أَنْ لَا يَعُودَ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي هُوَ الْمَنْطُوقُ بِالْإِبْطَالِ، فَلَا يُحْتَجُّ عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ الْغَائِبِ الَّذِي عِنْدَ الْبَائِعِ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ:«لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» إذْ لَوْ صَحَّ، لَصَحَّ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ الَّذِي نَطَقَ الْحَدِيثُ بِمَنْعِهِ، لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا.
وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ أَنْ يَكُونَ الْمَنْطُوقُ مَعْنَاهُ خَاصًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] إلَى قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] فَتَقْيِيدُ التَّيَمُّمِ بِالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ شَرْطٌ فِي إبَاحَتِهِ، فَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ عَامًّا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَفْهُومٌ، وَسَقَطَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ، كَتَقْيِيدِ الْفِطْرِ بِالْخَوْفِ، وَالْكَفَّارَةِ بِقَتْلِ الْعَمْدِ.
وَقَالَا: عَمَّمَ دَاوُد وَأَهْلُ الظَّاهِرِ الْحُكْمَ فِي الْمُقَيَّدِ اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ، لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى النُّصُوصِ دُونَ الْمَعَانِي عِنْدَهُمْ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] وَلَا يُسْتَبَاحُ قَتْلُهُمْ مَعَ أَمْنِ إمْلَاقٍ. وَقَالَ: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]
وَلَا يَجُوزُ الْإِكْرَاهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدْنَ التَّحَصُّنَ، فَلَمَّا سَقَطَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ فِي هَذَا، وَلَمْ يَصِرْ نَسْخًا، جَازَ أَنْ يَسْقُطَ غَيْرُهُ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا سَقَطَ التَّقْيِيدُ كَانَ مُقَيَّدًا؟ قُلْنَا: يَحْتَمِلُ ذِكْرُ التَّقْيِيدِ مَعَ سُقُوطِ حُكْمِهِ أُمُورًا: مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مَأْخُوذًا مِنْ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ، لِيَسْتَعْمِلَهُ الْمُجْتَهِدُ فِيمَا إذَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا، فَإِنَّ الْحَوَادِثَ غَيْرُ مُنْقَرِضَةٍ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] فَنَبَّهَ بِالْقِنْطَارِ عَلَى الْكَثِيرِ، وَبِالدِّينَارِ عَلَى الْقَلِيلِ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ سَوَاءً. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ هُوَ الْأَغْلَبُ مِنْ أَحْوَالِ مَا قُيِّدَ بِهِ، فَيَذْكُرُهُ لِغَلَبَتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] الْآيَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُفَادَاةُ الزَّوْجَيْنِ تَجُوزُ مَعَ وُجُودِ الْحَدِّ وَعَدَمِهِ. وَإِنْ احْتَمَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ وَغَيْرَهَا وَجَبَ النَّظَرُ فِي كُلِّ مُقَيَّدٍ، فَإِنْ ظَهَرَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَأْثِيرِهِ سَقَطَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ، وَصَارَ فِي عُمُومِ حُكْمِهِ كَالْمُطْلَقِ، وَإِنْ عُدِمَ الدَّلِيلُ وَجَبَ حُكْمُهُ عَلَى تَقْيِيدٍ، وَجُعِلَ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ.