الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حَدُّ النَّسْخِ. وَأَشْكَلَ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ النَّسْخُ، فَإِنَّهُمْ لَا يُجَوِّزُونَ النَّسْخَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَكَمْ مَوْتٍ وَقَعَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومِ الْوُقُوعِ فَجَازَ تَقْدِيمُهُ وَتَأْخِيرُهُ، وَلَوْ صَحَّ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ نَسْخًا بِالنِّسْبَةِ إلَى جُمْلَةِ الْحُكْمِ، بَلْ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ مَيِّتٍ، وَيَصِحُّ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ غَيْرَ الشَّرْعِ، وَهَذَا كُلُّهُ تَشْوِيشٌ لِلْقَوَاعِدِ.
[مَسْأَلَةٌ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ هَلْ تَكُونُ نَسْخًا لِحُكْمِ النَّسْخِ]
ِ؟ اعْلَمْ أَنَّ الزَّائِدَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ أَوْ لَا، الْأَوَّلُ الْمُسْتَقِلُّ، وَهُوَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَوَّلِ كَزِيَادَةِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّلَاةِ، فَلَيْسَ بِنَسْخٍ، لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ بِالْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ التَّنَافِي. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهِ كَزِيَادَةِ صَلَاةٍ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَلَيْسَ بِنَسْخٍ أَيْضًا عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ إلَى أَنَّهَا تَكُونُ نَسْخًا لِحُكْمِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] لِأَنَّهَا تَجْعَلُهَا غَيْرَ الْوُسْطَى. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: وَيَلْزَمُهُمْ زِيَادَةُ عِبَادَةٍ عَلَى الْعِبَادَةِ الْأَخِيرَةِ، فَإِنَّهَا تَجْعَلُهَا غَيْرَ الْأَخِيرَةِ، وَتُغَيِّرُ عَدَّهَا وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.
الثَّانِي: الَّذِي لَا يَسْتَقِلُّ كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ عَلَى الرَّكَعَاتِ، وَالتَّغْرِيبِ،
وَصِفَةُ رَقَبَةِ الْكَفَّارَةِ مِنْ الْأَيْمَانِ وَغَيْرِهَا، وَكَاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ مَعَ قَوْلِهِ:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] فَإِنَّ اشْتِرَاطَهَا يَكُونُ تَغْيِيرًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِالْمَذْكُورِ فِيهِ. فَاخْتَلَفُوا عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَا تَكُونُ نَسْخًا مُطْلَقًا، وَبِهِ قَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ كَالْجُبَّائِيِّ، وَأَبِي هَاشِمٍ، وَسَوَاءٌ اتَّصَلَتْ بِالْمَزِيدِ عَلَيْهِ أَمْ لَا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ. قَالَ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ مَانِعَةً مِنْ إجْرَاءِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرَ مَانِعَةٍ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ، وَإِلْكِيَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ: إنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَقَالَ فِي " الْمَنْخُولِ ": قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِنَسْخٍ وَإِنَّمَا هِيَ تَخْصِيصُ عُمُومٍ، يَعْنِي حَتَّى يَجُوزَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَسْخٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: وَسَوَاءٌ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي السَّبَبِ أَوْ الْحُكْمِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَأَمَّا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالُوا: إنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ تُوجِبُ النَّسْخَ، حَكَاهُ الصَّيْمَرِيُّ عَنْ أَصْحَابِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَاخْتَارَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا.
قَالَ ابْنُ فُورَكٍ، وَإِلْكِيَا: عُزِيَ إلَى الشَّافِعِيِّ أَيْضًا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ:«إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» : مَنْسُوخٌ فِي وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَإِنَّ هَذَا النَّصَّ تَضَمَّنَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا نَصُّهُ، وَهُوَ غَيْرُ مَنْسُوخٍ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا غُسْلَ فِيمَا سِوَاهُ،
وَهُوَ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ. وَإِنَّمَا صَارَ مَنْسُوخًا بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْأَصْلِ، وَحَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَجْهًا لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ «إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» إنَّمَا دَلَّ مِنْ حَيْثُ دَلِيلُ الْخِطَابِ، فَهُوَ نَسْخٌ لِلْمَفْهُومِ لَا نَسْخٌ لِلنَّصِّ مِنْ حَيْثُ الزِّيَادَةُ. انْتَهَى.
وَلَا يُقَالُ: إنَّ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْآتِي الْقَائِلُ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ مَا نَفَاهُ الْمَفْهُومُ، وَمَا لَمْ يَنْفِهِ، لِأَنَّ الْقَائِلَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ يَجْعَلُ مَا نَفَاهُ الْمَفْهُومُ نَسْخًا لِلنَّصِّ، وَأَصْحَابُنَا لَا يَجْعَلُونَ ذَلِكَ نَسْخًا لِلنَّصِّ أَلْبَتَّةَ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَسْخٌ لِلْمَفْهُومِ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ نَسْخَ النَّصِّ. وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا يُجْعَلُ نَسْخًا لِلنَّصِّ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَّا بِذَلِكَ فِي نَسْخِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ إلَّا هَذَا الْوَجْهَ الضَّعِيفَ.
وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ الْمَزِيدُ عَلَيْهِ يَنْفِي الزِّيَادَةَ بِفَحْوَاهُ، فَإِنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ نَسْخٌ، كَقَوْلِهِ:«فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ دَلِيلُهُ نَفْيَ الزَّكَاةِ عَنْ الْمَعْلُوفَةِ، فَإِنْ زِيدَتْ الزَّكَاةُ فِي الْمَعْلُوفَةِ كَانَ نَسْخًا، وَإِنْ كَانَ ذِكْرُهَا لَا يَنْفِي تِلْكَ الزِّيَادَةَ فَوُجُودُهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا، حَكَاهُ ابْنُ بَرْهَانٍ، وَصَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ وَغَيْرُهُمَا.
وَالرَّابِعُ: إنْ غَيَّرَتْ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ تَغْيِيرًا شَرْعِيًّا حَتَّى صَارَ لَوْ فُعِلَ بَعْدَ الزِّيَادَةِ عَلَى حَدِّ مَا كَانَ يُفْعَلُ مِثْلَهَا لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ، وَيَجِبُ اسْتِئْنَافُهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا، كَزِيَادَةٍ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْمَزِيدُ عَلَيْهِ لَوْ فُعِلَ عَلَى حَدِّ مَا يَكُونُ يُفْعَلُ قَبْلَ الزِّيَادَةِ يَصِحُّ فِعْلُهُ، لَمْ يَكُنْ نَسْخًا كَزِيَادَةِ التَّغْرِيبِ عَلَى الْجَلْدِ. حَكَاهُ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ "" وَالْقَوَاطِعِ " عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ. وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ عَنْ اخْتِيَارِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ والإستراباذيِّ وَالْبَصْرِيِّ.
قُلْت: وَهُوَ ظَاهِرُ مَا رَأَيْته فِي " التَّقْرِيبِ " لِلْقَاضِي، فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِأُمُورٍ، ثُمَّ شَرَطَ الْقَاضِي لِكَوْنِهَا نَسْخًا إذَا غَيَّرَتْ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْلَمَ وُرُودُهَا بَعْدَ اسْتِمْرَارِ الْحُكْمِ بِثُبُوتِ الْغَرَضِ عَارِيًّا مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ.
وَحَكَى ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ التَّفْصِيلَ بَيْنَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ فَهُوَ نَسْخٌ، كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ رَابِعَةٍ عَلَى الثَّلَاثَةِ، وَإِنْ انْفَصَلَتْ لَمْ يَكُنْ، كَضَمِّ التَّغْرِيبِ إلَى الْجَلْدِ، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ.
وَالْخَامِسُ: إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُغَيِّرَةً حُكْمَ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَانَتْ نَسْخًا. وَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْ حُكْمَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَلْ كَانَتْ مُقَارِنَةً لَهُ لَمْ تَكُنْ نَسْخًا، فَزِيَادَةُ التَّغْرِيبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الْجَلْدِ نَسْخٌ، وَكَذَا لَوْ زِيدَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ عِشْرُونَ. وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الَّتِي لَا تَسْقُطُ مِنْ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ فَكَوُجُوبِ سَتْرِ الْفَخِذِ، ثُمَّ يَجِبُ سَتْرُ بَعْضِ الرُّكْبَةِ، فَلَا يَكُونُ وُجُوبُ سَتْرِ بَعْضِهَا نَسْخًا، حَكَاهُ ابْنُ فُورَكٍ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ ": وَبِهِ قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ.
وَالسَّادِسُ: أَنَّ الزِّيَادَةَ إنْ رَفَعَتْ حُكْمًا عَقْلِيًّا، أَوْ مَا ثَبَتَ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ كَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ لَمْ تَكُنْ نَسْخًا، لِأَنَّا لَا نَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ الْأَحْكَامَ، وَمَنْ يَعْتَقِدُ إيجَابَهُ لَا يَعْتَقِدُ رَفْعَهَا نَسْخًا، وَإِنْ تَضَمَّنَتْ رَفْعَ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ تَكُونُ نَسْخًا، كَقَوْلِهِ:«فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَفَحْوَاهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الزَّكَاةِ عَنْ الْمَعْلُوفَةِ، فَلَوْ وَرَدَ خَبَرٌ بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الْمَعْلُوفَةِ كَانَ نَاسِخًا لِهَذِهِ الْفَحْوَى، لِأَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ.
حَكَى هَذَا التَّفْصِيلَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " عَنْ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ: إنَّهُ الْحَقُّ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ، وَالْبَيْضَاوِيُّ، وَنَقَلَاهُ عَنْ اخْتِيَارِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، يَعْنِي فِي " الْمُعْتَمَدِ "، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ "، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ ". وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: إنَّهُ أَجْوَدُ الطُّرُقِ وَأَحْسَنُهَا. وَقَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: لَا يَتَّجِهُ عَلَى قَوْلِنَا إنَّ النَّسْخَ بَيَانٌ، وَحِينَئِذٍ لَا يَتَّجِهُ لِلْآمِدِيِّ، وَالرَّازِيِّ الْقَوْلُ بِهِ.
وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي " شَرْحِ الْكِفَايَةِ " عَنْ الْقَاضِي: إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ شَرْطًا فِي الْمَزِيدِ عَلَيْهِ كَانَتْ نَسْخًا، وَإِلَّا فَلَا. وَاَلَّذِي فِي كِتَابِ " التَّقْرِيبِ " خِلَافُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَرَّرَ مَا سَبَقَ. نَعَمْ، قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: فَيَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ زِيَادَةُ شَرْطٍ لِلْعِبَادَةِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِهَا نَسْخًا لَهَا، لِأَنَّهَا إنْ فُعِلَتْ مَعَ عَدَمِهِ لَمْ تَكُنْ عِبَادَةً، فَإِذَا فُعِلَتْ مَعَ عَدَمِهَا لَمْ تَكُنْ صَلَاةً. قَالَ: وَأَمَّا زِيَادَةُ التَّرْتِيبِ وَالنِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ فَهُوَ مِنْ بَابِ النُّقْصَانِ فِي حُكْمِ النَّصِّ لَا الزِّيَادَةِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ:{فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] الْآيَةَ الْإِجْزَاءُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ، فَإِذَا وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِإِيجَابِ النِّيَّةِ وَالتَّرْتِيبِ، جَعَلَتْ بَعْضَ مَا كَانَ مُجْزِئًا غَيْرَ مُجْزِئٍ، فَصَارَ بِمَثَابَةِ تَقْيِيدِ الرَّقَبَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي الْكَفَّارَةِ بِالْأَيْمَانِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ إطْلَاقِهَا وَإِجْزَاءِ جَمِيعِ الرَّقَبَاتِ مُؤْمِنَةً وَكَافِرَةً. فَإِنْ قُلْت: لَهَا حُكْمٌ وَإِنْ كَانَ نُقْصَانًا. قِيلَ: إذَا أُورِدَ بِالنَّصِّ كَانَ تَخْصِيصَ عُمُومٍ، وَإِلَّا فَهُوَ نَسْخٌ. انْتَهَى.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ هَذِهِ التَّفَاصِيلَ لَا حَاصِلَ لَهَا، وَلَيْسَتْ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ عِنْدَ الْكُلِّ أَنَّ مَا رَفَعَ حُكْمًا شَرْعِيًّا كَانَ نَسْخًا، لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ هُنَا فِي مَقَامِ أَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ أَوْ بَيَانٌ، وَمَا لَا فَلَيْسَ
بِنَسْخٍ. فَالْقَائِلُ: أَنَا أَفْصِلُ بَيْنَ مَا رَفَعَ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَمَا لَمْ يَرْفَعْ، كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ نَسْخًا فَهِيَ نَسْخٌ، وَإِلَّا فَلَا. وَهَذَا لَا حَاصِلَ لَهُ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ، هَلْ يَرْفَعُ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَيَكُونُ نَسْخًا، أَوْ لَا، فَلَا يَكُونُ؟ فَلَوْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا تَرْفَعُ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا تَنْسَخُ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرْفَعُ، لَوَقَعَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَسْخٍ، وَلَكِنَّ النِّزَاعَ فِي الْحَقِيقَةِ فِي أَنَّهَا: هَلْ هِيَ رَفْعٌ أَوْ لَا؟ وَهَذَا كَمَا يَقُولُ فِيمَا لَوْ لَطَّخَ ثَوْبَ الْعَبْدِ بِالْمِدَادِ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ، وَجْهَانِ، مَنْشَؤُهُمَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا هَلْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَغْرِيرًا؟ وَالْأَصَحُّ: لَا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَلْبَسُ ثَوْبَ غَيْرِهِ عَارِيَّةً، فَلَوْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهَا تَعْزِيرٌ، لَوَقَعَ عَلَى إثْبَاتِ الْخِيَارِ، أَوْ عَلَى عَدَمِهِ لَوَقَعَ عَلَى عَدَمِهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَجْعَلُوا مَذَاهِبَهُمْ مُغَايِرَةً لِلْمَذَاهِبِ السَّابِقَةِ، بَلْ عَرَضُوا الْأَمْرَ عَلَى حَقِيقَةِ النَّسْخِ لِيُعْتَبَرَ بِهِ، وَذَكَرَ السَّمَّانِيُّ فِي " الْكِفَايَةِ " أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي أَنَّ الْأَمْرَ هَلْ يَدُلُّ عَلَى الْإِجْزَاءِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: يَدُلُّ كَانَتْ نَسْخًا، وَإِلَّا فَلَا. وَاعْلَمْ أَنَّ فَائِدَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّسْخِ وَكَانَ مَقْطُوعًا بِهِ، فَلَا يُنْسَخُ إلَّا بِقَاطِعٍ كَالتَّغْرِيبِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمَّا كَانَ عِنْدَهُ نَسْخًا نَفَاهُ، لِأَنَّهُ نَسْخٌ لِلْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ نَسْخًا قَبِلُوهُ إذْ لَا مُعَارَضَةَ. وَقَدْ رَدُّوا بِذَلِكَ أَخْبَارًا صَحِيحَةً لَمَّا اقْتَضَتْ زِيَادَةً عَلَى الْقُرْآنِ، وَالزِّيَادَةُ نَسْخٌ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْآحَادِ. فَرَدُّوا أَحَادِيثَ تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَأَيْمَانِ الرَّقَبَةِ، وَاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ. وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا حَدِيثَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ نَاسِخًا لِآيَةِ الْوُضُوءِ، وَالْحَدِيثَ الْوَارِدَ بِالتَّوَضُّؤِ بِالنَّبِيذِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ، وَقَدْ رَجَعَ فِيهِ إلَى الْحَدِيثِ، وَخَالَفَ عَادَتَهُ فِي حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ، وَحَدِيثِ الْقُرْعَةِ
بَيْنَ الْعَبِيدِ لَمَّا خَالَفَ الْأُصُولَ وَالْقِيَاسَ. فَتَحَصَّلَ مِنْ مَذْهَبِهِ طَرْحُ حَدِيثٍ لَمْ يُخَالِفْهُ قِيَاسٌ، وَاسْتِعْمَالُ حَدِيثٍ جَاءَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ.
وَإِنَّمَا قَصَرْنَا حَدِيثَ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ بِالْأَمْوَالِ دُونَ غَيْرِهَا لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ مَعَنَا قَائِلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَرْكُهُ أَصْلًا كَالْحَنَفِيَّةِ. وَالثَّانِي: الْقَوْلُ بِهِ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً كَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ. وَإِذَا قَالَتْ الْأُمَّةُ فِي مَسْأَلَةٍ بِقَوْلَيْنِ لَمْ يَجُزْ إحْدَاثُ ثَالِثٍ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَقَدْ تَمَسَّكَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فِي سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِالْحَاجَةِ، لِأَنَّهُ سَهْمٌ مِنْ الْخُمُسِ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَقَّ بِالْحَاجَةِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ السِّهَامِ. فَقُلْت لَهُ: لَا يَصِحُّ هَذَا الْقِيَاسُ، لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ:{وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] وَلَا يُنْسَخُ الْقُرْآنُ بِالْقِيَاسِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ جَوَابٌ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ: وَمَنْ زَادَ الْخَلْوَةَ عَلَى الْآيَتَيْنِ الْوَارِدَتَيْنِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ فِي إيجَابِ الْعِدَّةِ، وَتَكْمِيلِ الْمَهْرِ بِخَبَرِ عُمَرَ مَعَ مُخَالَفَةِ غَيْرِهِ، وَامْتَنَعَ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ بِخَبَرٍ صَحِيحٍ، كَانَ حَاكِمًا فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِرَأْيِهِ. وَنَقَضَ عَلَيْهِمْ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ أَيْضًا، فَإِنَّ زِيَادَةَ التَّغْرِيبِ إنْ كَانَتْ نَسْخًا لَزِمَكُمْ أَنْ يَكُونَ إدْخَالُ نَبِيذِ التَّمْرِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ نَسْخًا لِآيَتَيْ الْوُضُوءِ
وَالتَّيَمُّمِ، فَهُوَ مُسَاوٍ لِزِيَادَةِ التَّغْرِيبِ وَإِنْظَارِهِ بِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ انْفَصَلُوا عَنْ هَذَا بِأَنَّ نَبِيذَ التَّمْرِ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْمَاءِ لِقَوْلِهِ:«ثَمَرَةٌ طَيِّبَةٌ، وَمَاءٌ طَهُورٌ» قِيلَ لَهُمْ: فَيَكُونُ حِينَئِذٍ رَافِعًا لِإِطْلَاقِ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ عِنْدَ وُجُودِ غَيْرِهِ مِنْ الْمِيَاهِ، وَتَقْيِيدُ مَدْلُولِ النَّصِّ الْمُطْلَقِ نَسْخٌ لِلنَّصِّ عِنْدَهُمْ.
وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: فَائِدَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ جَوَازُ الزِّيَادَةِ بِالْقِيَاسِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ بَعْدَمَا جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ جَازَتْ الزِّيَادَةُ بِهِ. وَفَصَلَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ "، فَقَالَ: الْمَزِيدُ عَلَيْهِ إنْ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَازَ إثْبَاتُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَصْلُ مِمَّا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ بِهِ. قَالَ: وَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَقِدُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُقْبَلُ إذَا وَرَدَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَيَعْتَبِرُ لِلْعَمَلِ بِهِ شَرَائِطَ، وَالشَّافِعِيُّ لَا يَلْتَفِتُ إلَى ذَلِكَ.
تَنْبِيهٌ
أَطْلَقَ النَّصَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا يَسْتَمِرُّ إذَا سَمَّيْنَا الظَّوَاهِرَ نُصُوصًا، فَإِنْ قُلْنَا: الظَّاهِرُ لَا يُسَمَّى نَصًّا، فَهَذِهِ الْعِبَارَةُ مُسْتَدْرَكَةٌ، لِأَنَّ تَغْيِيرَ النُّصُوصِ الَّتِي لَا احْتِمَالَ فِيهَا نَسْخٌ لَا مَحَالَةَ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الْمَازِرِيُّ فِي غَيْرِ هَذَا الْبَابِ.
فُرُوعٌ
الْأَوَّلُ: لَوْ أَوْجَبَ الشَّارِعُ الزَّكَاةَ فِي مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ، فَهَلْ يَكُونُ نَسْخًا لِوُجُوبِهَا فِي السَّائِمَةِ؟ لِأَنَّ مَفْهُومَهُ نَفْيُ إيجَابِهَا فِي الْمَعْلُوفَةِ، فَلَوْ وَجَبَتْ فِيهَا لَكَانَتْ زِيَادَةً نَفَاهَا الْمَفْهُومُ، فَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِالْمَفْهُومِ لَا يَكُونُ نَسْخًا، لِأَنَّهُ
لَمْ يَرْفَعْ شَيْئًا مِنْ مَدْلُولِهِ، وَإِنَّمَا رَفَعَ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ. وَمَنْ قَالَ بِهِ كَانَ نَسْخًا لَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مُرَادٌ مِنْ الْكِتَابِ.
الثَّانِي: لَوْ زِيدَتْ رَكْعَةٌ فِي الصُّبْحِ بِحَيْثُ صَارَتْ ثَلَاثًا، قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: لَيْسَ بِنَسْخٍ لِحُكْمِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ الصُّبْحِ، لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ وَلَا بِإِجْزَائِهَا، لِأَنَّهُمَا يَجْزِيَانِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: نَسْخُ تَحْرِيمِ الزِّيَادَةِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ وَالتَّحْرِيمُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَقَدْ ارْتَفَعَ بِالزِّيَادَةِ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: هَذَا لَيْسَ بِحَقٍّ. لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالرَّكْعَتَيْنِ مُقْتَضِيًا لِلنَّهْيِ عَنْ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يُمْكِنُ اسْتِفَادَتُهُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ. فَزِيَادَةُ الرَّكْعَةِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِحُكْمِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ الرَّكْعَتَيْنِ. انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّ كَلَامَنَا فِي أَنَّ الزِّيَادَةَ هَلْ هِيَ نَسْخٌ لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ، لَا فِي كَوْنِهَا نَسْخًا لِأَمْرٍ آخَرَ. وَقَالَ فِي " الْمَحْصُولِ ": إنَّهُ نَسْخٌ، كَوُجُوبِ التَّشَهُّدِ عَقِيبَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَوَافَقَهُ الْآمِدِيُّ لِلرَّدِّ بِهِ عَلَى أَبِي الْحُسَيْنِ، وَنَازَعَهُ الْهِنْدِيُّ.
الثَّالِثُ: زِيَادَةُ التَّغْرِيبِ عَلَى الْجَلْدِ لَا يُزِيلُ نَفْيَ وُجُوبِ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ، وَهَذَا النَّفْيُ غَيْرُ مَعْلُومٍ بِالشَّرْعِ، لِأَنَّ إيجَابَ الْمِائَةِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ إيجَابِهَا مَعَ نَفْيِ الزَّائِدِ وَثُبُوتِهِ، وَمَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ لَا إشْعَارَ لَهُ بِمَا بِهِ الِامْتِيَازُ، لَكِنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ، وَرَفْعُ الثَّابِتِ بِالْعَقْلِ لَيْسَ بِنَسْخٍ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: هُوَ نَسْخٌ، فَقَالَ: زِيَادَةُ التَّغْرِيبِ نَسْخٌ لِتَحْرِيمِهِ، إذْ كَانَ يَحْرُمُ التَّغْرِيبُ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ لَيْسَ كَلَامَنَا، إلَّا فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ نَسْخٌ لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ الْجَلْدُ لَا غَيْرُهُ.
الرَّابِعُ: إذَا أَوْجَبَ اللَّهُ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ عَيْنًا، ثُمَّ خَيَّرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ، أَوْ أَخْبَرَ بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ، ثُمَّ زَادَ ثَالِثًا وَهُوَ الْعِتْقُ، فَهَلْ يَكُونُ نَسْخًا لِوُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ؟ قَالَ الْإِمَامُ، وَالْآمِدِيَّ: لَيْسَ بِنَسْخٍ، لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِ الْكُلِّ وَاجِبًا عَلَى التَّعْيِينِ وُجُوبُهُ، وَأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَوُجُوبُهُ لَمْ يَرْتَفِعْ، وَإِنَّمَا الْمُرْتَفِعُ عَدَمُ قِيَامِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ، وَإِنَّمَا يُنْتَقَضُ النَّفْيُ الْأَصْلِيُّ، فَلَا يَكُونُ رَفْعُهُ نَسْخًا. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: إنَّهُ نَسْخٌ، لِأَنَّ التَّخْيِيرَ وَالتَّعْيِينَ حُكْمَانِ شَرْعِيَّانِ، وَقَدْ رُفِعَ الْأَوَّلُ لَا الثَّانِي وَهُوَ الصَّوَابُ.
الْخَامِسُ: إذَا زِيدَ فِي الطَّهَارَةِ اشْتِرَاطُ غَسْلِ عُضْوٍ زَائِدٍ عَلَى الْأَعْضَاءِ السِّتَّةِ، فَلَا يَكُونُ نَسْخًا لِوُجُوبِ غَسْلِهَا، إذْ هِيَ وَاجِبَةٌ مَعَ وُجُوبِ غَسْلِ الْعُضْوِ الزَّائِدِ، وَلَا لِإِجْزَائِهَا.
السَّادِسُ: قَبِلَ أَصْحَابُنَا خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَرَدَّهُ الْحَنَفِيَّةُ، لِأَنَّهُ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] قَالُوا: فَإِنَّ الْأَمْرَ كَانَ دَائِرًا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَزِيدَ ثَالِثٌ، وَالزِّيَادَةُ نَسْخٌ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يَنْسَخُ الْكِتَابَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ وَالْآيَةَ لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي الْآيَةِ فِي الِاسْتِشْهَادِ، وَالْحَدِيثَ فِي الْحُكْمِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَالِاسْتِشْهَادُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَلَا تَعَلُّقَ لِأَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَهُوَ حَسَنٌ. لَا يُقَالُ: مَفْهُومُ الْآيَةِ يَقْتَضِي الْحَصْرَ، وَيَمْنَعُ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ، لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا يَمْتَنِعُ اسْتِشْهَادُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَنَحْنُ قَائِلُونَ بِذَلِكَ، إذْ يَمْتَنِعُ الْإِرْشَادُ فِي الِاسْتِشْهَادِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَنَحْنُ قَائِلُونَ بِهِ.