الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي دَلَائِلِ النَّسْخِ]
ِ إذَا وَرَدَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَلَمْ يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُهُمَا اُسْتُدِلَّ عَلَى نَسْخِ أَحَدِهِمَا بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: اقْتِضَاءُ اللَّفْظِ لَهُ، بِأَنْ يُعْلَمَ تَقَدُّمُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، فَيَكُونُ الْمُتَقَدِّمُ مَنْسُوخًا، وَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْمُرَادُ بِالتَّقَدُّمِ التَّقَدُّمُ فِي التَّنْزِيلِ، لَا التِّلَاوَةِ، فَإِنَّ الْعِدَّةَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ سَابِقَةٌ فِي التِّلَاوَةِ عَلَى الْعِدَّةِ بِالْحَوْلِ، مَعَ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لَهَا، وَاقْتِضَاءُ اللَّفْظِ إمَّا بِالتَّصْرِيحِ كَقَوْلِهِ:{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] فَإِنَّهُ يَقْتَضِي نَسْخَهُ لِثَبَاتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ بِقَوْلِهِ: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187] فَإِنَّهُ يَقْتَضِي نَسْخَ الْإِمْسَاكِ بَعْدَ الْفِطْرِ، وَقَوْلُهُ:{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة: 13] الْآيَةَ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي نَسْخَ الصَّدَقَةِ عِنْدَ الْمُنَاجَاةِ، وَإِمَّا بِأَنْ يُذْكَرَ لَفْظٌ يَتَضَمَّنُ التَّنْبِيهَ عَلَى النَّسْخِ، كَمَا نَسَخَ الْإِمْسَاكَ فِي الْبُيُوتِ حَدَّ الزِّنَى بِقَوْلِهِ:{أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] فَنَبَّهَ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِدَامَةِ فِي الْإِمْسَاكِ، وَلِذَلِكَ قَالَ:«خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» ، وَإِمَّا بِالِاسْتِدْلَالِ بِأَنْ تَكُونَ إحْدَى الْآيَتَيْنِ مَكِّيَّةً، وَالْأُخْرَى مَدَنِيَّةً فَعُلِمَ أَنَّ الْمُنْزَلَ بِالْمَدِينَةِ نَاسِخٌ لِلْمُنْزَلِ بِمَكَّةَ. قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَغَيْرُهُ.
الثَّانِي: بِقَوْلِهِ عليه السلام: هَذَا نَاسِخٌ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، كَقَوْلِهِ:«كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» .
الثَّالِثُ: فِعْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَرَجْمِ مَاعِزٍ، وَلَمْ يَجْلِدْهُ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ:«الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمُهُ بِالْحِجَارَةِ» مَنْسُوخٌ، ذَكَرَهُ
ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ قَالُوا: إنَّ الْفِعْلَ لَا يَنْسَخُ الْقَوْلَ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ بِالْفِعْلِ عَلَى تَقَدُّمِ النَّسْخِ بِالْقَوْلِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ مَنْسُوخًا بِمِثْلِهِ مِنْ الْقَوْلِ، لَكِنَّ فِعْلَهُ بَيَّنَ ذَلِكَ الْقَوْلَ.
الرَّابِعُ: إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، كَنَسْخِ رَمَضَانَ صَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَنَسْخِ الزَّكَاةِ سَائِرَ الْحُقُوقِ فِي الْمَالِ، ذَكَرَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ أَيْضًا، وَكَذَا حَدِيثُ:«مَنْ غَلَّ صَدَقَتَهُ، فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ» وَاتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى تَرْكِ اسْتِعْمَالِهِمْ هَذَا، فَدَلَّ عُدُولُهُمْ عَنْهُ عَلَى نَسْخِهِ. انْتَهَى. وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا، فِيمَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ، فَقَالَ: وَلَا يُسْتَدَلُّ عَلَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ إلَّا بِخَبَرٍ - عَنْ الرَّسُولِ - آخَرَ مُؤَقَّتٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ، أَوْ بِقَوْلِ مَنْ سَمِعَ الْحَدِيثَ أَوْ الْعَامَّةِ. انْتَهَى. وَجَرَى عَلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي " النَّاسِخِ " مِنْ كِتَابِهِ، وَالشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ "، وَسُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي "، وَقَالَ: يَكُونُ الْإِجْمَاعُ مُبَيِّنًا لَا نَاسِخًا. وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي: يُسْتَدَلُّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَعَهُ خَبَرًا بِهِ وَقَعَ النَّسْخُ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْسَخُ. وَلَمْ يَجْعَلْ الصَّيْرَفِيُّ
الْإِجْمَاعَ دَلِيلًا عَلَى تَعْيِينِ النَّصِّ لِلنَّسْخِ، بَلْ جَعَلَهُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ النَّسْخِ وَالْغَلَطِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ: فَإِنْ أُجْمِعَ عَلَى إبْطَالِ حُكْمِ أَحَدِهِمَا فَهُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ غَلَطٌ، وَالْأَمْرُ ثَابِتٌ. انْتَهَى.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَوْ غَلَطٌ، أَيْ مِنْ جِهَةِ بَعْضِ رُوَاتِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: إذَا رُوِيَ حَدِيثٌ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مَنْسُوخٌ أَوْ غَلَطٌ مِنْ الرَّاوِي. هَذَا لَفْظُهُ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بَعْدَ الرَّسُولِ، وَبَعْدَهُ يَرْتَفِعُ النَّسْخُ، وَإِنَّمَا النَّسْخُ يُرْفَعُ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ، وَعَلَى هَذَا يُنَزَّلُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ.
الْخَامِسُ: نَقْلُ الرَّاوِي الصَّحَابِيِّ تَقَدُّمَ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ وَتَأَخُّرَ الْآخَرِ، إذْ لَا مَدْخَلَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ، كَمَا لَوْ رُوِيَ أَنَّ أَحَدَهُمَا شُرِعَ بِمَكَّةَ، وَالْآخَرَ بِالْمَدِينَةِ، أَوْ أَحَدَهُمَا عَامَ بَدْرٍ وَالْآخَرَ عَامَ الْفَتْحِ، فَإِنْ وُجِدَ مِثَالُ هَذَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ، كَقَوْلِ جَابِرٍ:«كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» ، وَكَقَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: كَانَ «الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» رُخْصَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْغُسْلِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ إنْ كَانَ الْخَبَرَانِ غَيْرَ مُتَوَاتِرَيْنِ، أَمَّا إذَا قَالَ فِي أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَوَاتِرَيْنِ: إنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْآخَرِ، فَفِي قَوْلِهِ خِلَافٌ، وَجَزَمَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " بِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ. وَنَقَلَهُ الْهِنْدِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ نَسْخَ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: يُقْبَلُ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ الْمَظْنُونُ فِي نَسْخِ الْعُلُومِ، إذْ الشَّيْءُ يُقْبَلُ بِطَرِيقِ الضِّمْنِ وَالتَّبَعِ، وَلَا يُقْبَلُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، كَمَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ بِالْوِلَادَةِ، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ ثُبُوتَ النَّسَبِ وَإِنْ كُنَّ لَوْ شَهِدْنَ بِالنَّسَبِ ابْتِدَاءً لَمْ يُقْبَلْ.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: هَذَا يَقْتَضِي الْجَوَازَ الْعَقْلِيَّ فِي قَبُولِهِ لَا فِي وُقُوعِهِ، مَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ ثُبُوتُ الْآخَرِ، وَالْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ لَا نِزَاعَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": لَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ النَّسْخِ
بِالْمُتَأَخِّرِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ [الرَّاوِي] لِلْحَدِيثَيْنِ وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْمَعُهُمَا الِاثْنَانِ فِي وَقْتَيْنِ وَكَذَلِكَ الْوَاحِدُ، وَشَرَطَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ كَوْنَ الرَّاوِي لَهُمَا وَاحِدًا، قَالَ: فَإِنْ كَانَ رَاوِي الْمُتَقَدِّمِ غَيْرَ رَاوِي الْمُتَأَخِّرِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ الْمُتَأَخِّرُ خَبَرَ وَاحِدٍ كَانَ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ أَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرِ، لَمْ يَصِرْ مَنْسُوخًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْمُتَأَخِّرِ، وَإِنْ كَانَا مُتَوَاتِرَيْنِ أَوْ آحَادًا، فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ لِلْمُتَقَدِّمِ.
هَذَا كُلُّهُ إنْ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا مُتَأَخِّرٌ، فَإِنْ قَالَ: هَذَا نَاسِخٌ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرَ دَلِيلَهُ فَوَاضِحٌ. قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسْخُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَوْ ذَكَرَ دَلِيلَهُ، لَكِنْ يُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنْ اقْتَضَى النَّسْخَ عُمِلَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ أَرْسَلَهُ إرْسَالًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي النَّسْخِ، وَنَقَلَهُ عَنْ الْكَرْخِيِّ. قُلْت: وَاَلَّذِي فِي " الْمُعْتَمَدِ " أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ حَكَى عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ إنْ عَيَّنَهُ، فَقَالَ: هَذَا نَسْخٌ لِهَذَا، لَمْ يُرْجَعْ إلَيْهِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ قَالَهُ عَنْ اجْتِهَادٍ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ بَلْ قَالَ: هَذَا مَنْسُوخٌ قَبْلُ.
وَحَكَى الدَّبُوسِيُّ فِي " التَّقْوِيمِ " هَذَا التَّفْصِيلَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي النَّسْخِ مَا لَمْ يَذْكُرْ دَلِيلَهُ، لِجَوَازِ أَنْ يَعْتَقِدَ مَا لَيْسَ بِنَسْخٍ نَسْخًا، وَلِأَنَّ الْعُلَمَاءَ مُخْتَلِفُونَ فِي أَسْبَابِ النَّسْخِ كَالزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ، وَالنُّقْصَانِ مِنْهُ، وَكَاعْتِقَادِ آخَرِينَ أَنَّ قَوْلَهُ:«إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ» مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: «إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ مَنْ
قَالَ: إنَّ مَسْحَ الْخُفِّ نَسْخٌ بِالْكِتَابِ. وَهَذَا مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَعَلَّلَهُ بِمَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّهُ أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ، وَكَذَا صَحَّحَهُ فِي " اللُّمَعِ "، وَسُلَيْمٌ، وَصَرَّحَ ابْنُ بَرْهَانٍ بِأَنَّهُ الْمَذْهَبُ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ " الْأَوْسَطِ ": إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ هَذَا مَنْسُوخٌ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ مَذَاهِبَ النَّاسِ فِي النَّسْخِ مُخْتَلِفَةٌ، فَرُبَّ شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ نَاسِخًا، وَلَيْسَ بِنَاسِخِ، وَلِأَنَّ النَّسْخَ إسْقَاطٌ لِلْحَدِيثِ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَجَزَمَ بِهِ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى، وَإِلْكِيَا فِي " التَّلْوِيحِ " وَعَلَّلَهُ بِمَا سَبَقَ، ثُمَّ قَالَ: فَأَمَّا إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: إنْ كَذَا كَانَ حُكْمًا ثَابِتًا مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّهُ نُسِخَ الْآنَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بِهِ نُسِخَ، فَإِنَّ الْكَرْخِيّ كَانَ يُتَابِعُهُ، كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ حِينَ ذُكِرَ لَهُ فِي التَّشَهُّدِ: التَّحِيَّاتُ الزَّاكِيَاتُ. قَالَ: كَانَ هَذَا ثُمَّ نُسِخَ. وَنَحْوُهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرَّضَاعِ أَنَّهُمَا قَالَا: قَدْ كَانَ التَّوْقِيتُ، وَأَمَّا الْآنَ فَلَا.
قَالَ: وَاَلَّذِي رَآهُ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ لَا يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِيمَا صَرَّحَ بِهِ بِأَنَّهُ نَاسِخًا لِلْأَيَّةِ أَنْ لَا يَكُونَ نَاسِخًا لَهَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ اعْتَقَدَهُ فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ يُطْلِقَ ذَلِكَ إطْلَاقًا، وَلَا يَذْكُرُ مَا لِأَجْلِهِ النَّسْخُ، وَلَوْ ذَكَرَهُ لَكَانَ مِمَّا لَا يُنْسَخُ بِهِ. قَالَ: نَعَمْ، وَلَوْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لِأَمْرٍ لَا يَلْتَبِسُ، وَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِهِ. قَالَ: وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ مُخَالَفَةِ الرَّاوِي مَضْمُونَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ انْتَهَى. وَهَذَا تَفْصِيلٌ حَسَنٌ. وَفَصَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ نَصٌّ آخَرُ يُخَالِفُ
مَا ادَّعَى نَسْخَهُ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ النَّصُّ النَّاسِخُ، وَيَكُونُ حَاصِلُ الصَّحَابِيِّ الْإِعْلَامُ بِالْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ، وَقَوْلُهُ يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ. قَالَ: وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ أَوْمَأَ إلَى أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، لَمْ يَصِرْ إلَى قَوْلِهِ حَتَّى يُبَيِّنَ النَّاسِخَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ " إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: هَذَا مَنْسُوخٌ، فَقِيلَ: يُقْبَلُ مُطْلَقًا وَقِيلَ بِالْمَنْعِ. وَقِيلَ: إنْ أَطْلَقَ قُبِلَ. وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى نَاسِخٍ زَعَمَ أَنَّهُ الَّذِي نَسَخَهُ، نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُوجِبُ النَّسْخَ حُكِمَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ: وَلَسْت أَحْفَظُ فِي هَذَا عَنْ أَصْحَابِنَا شَيْئًا، وَلَكِنْ عِنْدِي إنْ كَانَ فِي مَعْنَى النَّسْخِ وَصِفَتِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُخَرَّجَ فِيهِ قَوْلَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ فِي صِفَةِ النَّسْخِ وَشُرُوطِهِ وَجَبَ قَبُولُهُ. انْتَهَى.
وَأَطْلَقَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ النَّسْخَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَكَذَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي مَسْأَلَةِ قَوْلِ الرَّاوِي: أُمِرْنَا، وَجَرَى عَلَيْهِ الْمُحَدِّثُونَ، وَمِنْهُمْ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ السَّابِقِ ذَكَرَهُ فِي الْإِجْمَاعِ، وَقَدْ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِ عَائِشَةَ فِي الرَّضَعَاتِ إنَّ الْعَشْرَ مِنْهَا نُسِخْنَ بِالْخَمْسِ، وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى:{لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} [الأحزاب: 50] لِأَجْلِ قَوْلِ عَائِشَةَ: «مَا مَاتَ الرَّسُولُ حَتَّى أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ النِّسَاءَ اللَّاتِي حُظِرْنَ عَلَيْهِ» . لَكِنْ أَجَابَ الْقَاضِي عَنْ هَذَا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْسَخُوا بِقَوْلِ عَائِشَةَ، بَلْ بِحُجَّتِهَا فِي النَّسْخِ، فَلِأَجَلْ الْآيَةِ وَالتَّأَوُّلِ لَهَا قَالُوا وَقَالَتْ ذَلِكَ.
وَوَرَاءَ ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ الصَّحَابِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَسَخْتُ عَنْكُمْ كَذَا. قَالَ الْقَاضِي: وَيَجِبُ قَبُولُهُ إذَا كَانَ الْمَنْسُوخُ مِنْ غَيْرِ الْآحَادِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُوجِبُ الْعِلْمَ، لَمْ يَرْفَعْ مِثْلَ هَذَا، إلَّا أَنْ يَنْضَمَّ مَا يُوجِبُ الْقَطْعَ.
الثَّانِي: هَذَا كُلُّهُ إذَا صَرَّحَ بِالنَّسْخِ قِيَاسًا، وَأَمَّا إذَا قَالَ قَوْلًا يُخَالِفُ الْحَدِيثَ، فَلَا يَقْتَضِي نَسْخَ النَّصِّ سَوَاءٌ انْتَشَرَ أَمْ لَا. قَالَهُ الْقَاضِي أَيْضًا. قَالَ: وَمَنْ جَعَلَ قَوْلَهُ حُجَّةً إذَا انْتَشَرَ، وَلَمْ يُحْفَظْ لَهُ مُخَالِفٌ تُرِكَ بِهِ حُكْمُ النَّصِّ، وَتَبَيَّنَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، لِأَنَّهُ إجْمَاعٌ.
الثَّالِثُ: إذَا كَانَ رَاوِي أَحَدِهِمَا مُتَقَدِّمَ الصُّحْبَةِ، وَالْآخَرُ مُتَأَخِّرًا، فَقَسَمَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ إلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ تَنْقَطِعَ صُحْبَةُ الْأَوَّلِ عِنْدَ صُحْبَةِ الثَّانِي، فَيَكُونُ الْحُكْمُ الَّذِي رَوَاهُ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا لِلَّذِي رَوَاهُ الْأَوَّلُ كَرِوَايَةِ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي مَسِّ الذَّكَرِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا تَنْقَطِعَ صُحْبَةُ الْمُتَقَدِّمِ عِنْدَ صُحْبَةِ الْمُتَأَخِّرِ، فَلَا تَكُونُ رِوَايَةُ الْمُتَأَخِّرِ الصُّحْبَةِ نَاسِخَةً لِرِوَايَةِ الْمُتَقَدِّمِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ رَاوِيًا لِمَا تَأَخَّرَ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَاوِيًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَإِثْبَاتُ النَّسْخِ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ مُمْتَنِعٌ، كَرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ فِي التَّشَهُّدِ، فَلَا تَكُونُ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ نَاسِخَةً لِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَكِنْ يَطْلُبُ التَّرْجِيحَ مِنْ خَارِجٍ. اهـ. وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ ذَكَرَهُ إلْكِيَا، وَصَاحِبُ " الْمَصَادِرِ " وَمَثَّلَا بِهِ، وَجَزَمَا
بِهِ، لَكِنَّ الْقَاضِيَ خَالَفَهُمْ. قَالَ فِي " الْمَصَادِرِ ": وَشَرَطَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي صَحِبَهُ آخِرًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا قَبْلَ صُحْبَتِهِ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَرَاهُ أَوَّلًا وَيَسْمَعَ مِنْهُ، وَهُوَ مُصَاحِبٌ لَهُ، ثُمَّ رَآهُ ثَانِيًا وَيَخْتَصُّ بِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ "، وَجَزَمَ بِعَدَمِ النَّسْخِ، وَكَذَا الْهِنْدِيُّ، قَالَ: وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسْخُ بِكَوْنِ رَاوِي أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ مِنْ أَحْدَاثِ الصَّحَابَةِ، أَوْ يَكُونُ إسْلَامُهُ مُتَأَخِّرًا عَنْ إسْلَامِ رَاوِي الْآخَرِ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ". وَأَطْلَقَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَابْنُ بَرْهَانٍ أَنَّ رِوَايَةَ الْمُتَأَخِّرِ صُحْبَةً نَاسِخَةٌ لِرِوَايَةِ الْمُتَقَدِّمِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي لِأَحَدِهِمَا أَسْلَمَ بَعْدَ مَوْتِ الْآخَرِ، أَوْ بَعْدَ قِصَّتِهِ، وَفِيهِ احْتِمَالَانِ لِلشَّيْخِ فِي " اللُّمَعِ "، وَجَزَمَ سُلَيْمٌ فِي صُورَةِ الْمَوْتِ بِأَنَّ رِوَايَةَ الْمُتَأَخِّرِ نَاسِخَةٌ.
الْخَامِسُ: مَعْرِفَةُ التَّارِيخِ لِلْوَاقِعَتَيْنِ، كَحَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ قَالَ:«أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» . قَالَ الشَّاشِيُّ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ إنَّمَا صَحِبَهُ مُحْرِمًا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ شَدَّادٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي زَمَنِ الْفَتْحِ، وَذَلِكَ سَنَةَ ثَمَانٍ.
السَّادِسُ: كَوْنُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ شَرْعِيًّا، وَالْآخَرِ مُوَافِقًا لِلْعَادَةِ، فَيَكُونُ