الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُوجِبِ نَفْيِهِ عَنْهُ.
أَحَدُهُمَا: أَوْجَبَهُ لِسَانُ الْعَرَبِ لُغَةً. وَالثَّانِي: أَوْجَبَهُ دَلِيلُ الْخِطَابِ شَرْعًا. قَالَ: وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا النَّوْعِ بَيْنَ أَنْ يَقَعَ جَوَابًا أَوْ ابْتِدَاءً بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ. اهـ.
وَقَدْ قَالَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ:" إنَّمَا " لِتَحْقِيقِ الْمُتَّصِلِ، وَتَمْحِيقِ الْمُنْفَصِلِ، وَنَقَلَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ الْقَاضِي الْقَوْلَ بِهِ بَعْدَ تَرَدُّدِهِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَفْصِلُ بَيْنَ قَوْلِك: إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ، وَلَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ.
وَقَدْ سَمَّى أَهْلُ اللُّغَةِ ذَلِكَ تَمْحِيقًا وَتَحْقِيقًا، وَنَفْيًا وَإِثْبَاتًا، قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَلَعَلَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ اقْتِضَاءُ النَّفْيِ، ثُمَّ يَجُوزُ تَرْكُهُ بِدَلِيلٍ. فَمَنْ قَالَ بِالْمَفْهُومِ، قَالَ: هَذَا نَقِيضُ النَّفْيِ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ تَرَدَّدَ. وَحَكَى الْغَزَالِيُّ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْحَصْرِ، مُحْتَمَلٌ فِي التَّأْكِيدِ، وَاخْتَارَهُ. وَقَدْ سَبَقَ فِي فَصْلِ الْحُرُوفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى " إنَّمَا " بَقِيَّةُ الْمَذَاهِبِ. وَفِيهِ مَا يَتَعَيَّنُ اسْتِحْضَارُهُ هُنَا.
الثَّالِثَةُ: حَصْرُ الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ سَوَاءٌ كَانَ الْخَبَرُ مَقْرُونًا بِاللَّامِ نَحْوَ: الْعَالِمُ زَيْدٌ، أَوْ مُضَافًا نَحْوَ: صَدِيقِي زَيْدٌ، يُفِيدُ حَصْرَ الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ عِنْدَ عَدَمِ قَرِينَةِ عَهْدٍ، وَمِمَّنْ قَالَ بِإِفَادَتِهِ الْحَصْرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ، وَالْهَرَّاشِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ.
وَأَنْكَرَهَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَتَبِعَهُمْ الْآمِدِيُّ.
[مَفْهُومُ الْحَصْرِ هَلْ يُفِيدُ بِالْمَنْطُوقِ أَوْ الْمَفْهُومِ]
وَاخْتَلَفَ الْأَوَّلُونَ فِي أَنَّهُ هَلْ يُفِيدُ الْحَصْرَ بِالْمَنْطُوقِ أَوْ الْمَفْهُومِ؟ فَذَهَبَ
الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَمَنْ تَبِعَهُ إلَى الْأَوَّلِ، وَاسْتَدَلَّ فِي " الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ " عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ} [الحشر: 24] قَالَ: وَهَذَا التَّرْكِيبُ يُفِيدُ الْحَصْرَ.
وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى الثَّانِي. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَإِنَّمَا أَفَادَ الْحَصْرَ، لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ مِنْ الْخَبَر أَوْ مُسَاوِيًا، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ لُغَةً وَعَقْلًا، فَلَا يَجُوزُ: الْحَيَوَانُ إنْسَانٌ، وَلَا: الزَّوْجُ عَشَرَةٌ، بَلْ: الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ، وَالْعَشَرَةُ زَوْجٌ. وَالْعَرَبُ لَمْ تَتَّبِعْ إلَّا الصِّدْقَ، وَالْمُسَاوِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْصُورًا فِي مُسَاوِيهِ. وَالْأَخَصُّ مَحْصُورًا فِي أَعَمِّهِ. وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ أَخَصَّ، وَلَا مُسَاوِيًا. قَالُوا: فَلَوْ لَمْ تَقْتَضِ الْحَصْرَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدَأُ أَعَمَّ مِنْ الْخَبَرِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. بَيَانُهُ: أَنَّا إذَا قُلْنَا: الْعَالِمُ زَيْدٌ، فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لَيْسَتْ لِلْجِنْسِ قَطْعًا وَلَا لِلْعَهْدِ، فَتَعَيَّنَ. أَنْ تَكُونَ لِمَاهِيَّةِ الْعَالِمِ، وَتِلْكَ الْمَاهِيَّةُ إمَّا أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً فِي غَيْرِ زَيْدٍ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ انْحَصَرَتْ الْعَالِمِيَّةُ فِي زَيْدٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي غَيْرِهِ فَتَكُونُ أَعَمَّ مِنْ زَيْدٍ، وَزَيْدٌ أَخَصُّ مِنْهَا. وَقَدْ أَخْبَرْتُمْ عَنْهَا فَلَزِمَ الْإِخْبَارُ بِالْأَعَمِّ عَنْ الْأَخَصِّ، كَمَا ادَّعَيْنَا.
قِيلَ: وَهَذَا الدَّلِيلُ إنَّمَا يَتِمُّ بِجَعْلِ الْعَالِمِ مُخْبِرًا عَنْهُ. وَزَيْدٌ مُخْبِرًا بِهِ. أَمَّا لَوْ جَعَلَ الْعَالِمَ خَبَرًا مُقَدَّمًا عَلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ، فَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ: الْعَالِمُ زَيْدٌ، وَزَيْدٌ الْعَالِمُ. ثُمَّ نَقُولُ: الْعَالِمُ زَيْدٌ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَأَيْضًا لَوْ جَعَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْعَالِمِ لِلْمَعْهُودِ، وَهِيَ مَعْنَى الْكَامِلِ وَالْمُشْتَهِرِ فِي الْعَالِمِيَّةِ، فَحِينَئِذٍ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ، وَلَا يُفِيدُ الْحَصْرَ. هَذَا إذَا كَانَ الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ مَعْرِفَتَيْنِ، وَقَدْ خُيِّرْنَا فِيهِمَا، أَمَّا إذَا كَانَ الْمُبْتَدَأُ مَعْرِفَةً وَالْخَبَرُ نَكِرَةً، نَحْوُ: زَيْدٌ قَائِمٌ، فَلَا حَصْرَ فِيهَا قَطْعًا، فَإِنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ زَيْدٌ فِي الْقِيَامِ قَطْعًا.
وَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ: مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ: صَدِيقِي زَيْدٌ، فَلَيْسَ
بِصَحِيحٍ، بَلْ هُوَ جَائِزٌ، وَيَكُونُ الْمُبْتَدَأُ لَفْظًا خَاصًّا لَا عَامًّا، وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِي هَذَا الْغَلَطِ كَوْنُ الصَّدَاقَةِ لَفْظًا عَامًّا. نَعَمْ، هُوَ عَامٌّ إذَا انْفَرَدَ فَلَمْ يَقَعْ خَبَرًا وَلَا مُبْتَدَأً وَلَا صِفَةً، فَيُقَالُ:" صَدِيقِي " يَصْلُحُ لِلْخَبَرِيَّةِ عَنْ وَاحِدٍ وَعَنْ أَكْثَرَ، فَإِذَا وُصِفَ بِهِ مَوْصُوفٌ أَوْ أُخْبِرَ بِهِ عَنْ مُبْتَدَأٍ كَانَ مُفْرَدًا إذَا كَانَ الْمُبْتَدَأُ أَوْ الْمَوْصُوفُ مُفْرَدًا. فَإِنْ كَانَ الْمُبْتَدَأُ أَوْ الْمَوْصُوفُ مُثَنًّى أَوْ جَمْعًا كَانَ هُوَ كَذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ الْمُقَدَّرَةُ فِيهِ، فَإِنَّمَا تُقَدَّرُ عَلَى وَفْقِ مَنْ تَعُودُ عَلَيْهِ. مِثَالُهُ: زَيْدٌ صَدِيقِي هُوَ، وَالزَّيْدَانِ صَدِيقِي هُمَا، وَالزَّيْدُونَ صَدِيقِي هُمْ.
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ: زَعَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّك إنْ أَخَّرْت صَدِيقِي كَانَتْ الصَّدَاقَةُ غَيْرَ مَحْصُورَةٍ فِي زَيْدٍ، وَإِنْ قَدَّمْته كَانَتْ مَحْصُورَةً فِيهِ، وَكَلَامُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ خَبَرٌ فِي الْجُمْلَتَيْنِ جَمِيعًا. وَقَالَ غَيْرُهُ هَذَا الْقَوْلَ، وَزَعَمَ أَيَّهُمَا قُدِّمَ فَهُوَ الْمُبْتَدَأُ. وَقَالَ قَوْمٌ: بِاسْتِوَاءِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ.
وَوَجَّهَ قَوْمٌ قَوْلَ الْإِمَامِ: إنَّ " صَدِيقِي " مُقْتَضٍ لِلْخَبَرِيَّةِ، لِإِفَادَتِهِ النِّسْبَةَ إلَى زَيْدٍ، فَإِذَا كَانَ خَبَرًا وَأَخَّرْته لَمْ يَلْزَمْ الْحَصْرُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ أَعَمَّ، كَقَوْلِك: زَيْدٌ عَالِمٌ، فَإِذَا قَدَّمْته مَعَ كَوْنِهِ خَبَرًا فَلَمْ تُقَدِّمْهُ إلَّا لِغَرَضٍ، وَلَا غَرَضَ إلَّا قَصْدُ الْحَصْرِ.
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْرِفَتَيْنِ إذَا اجْتَمَعَا كَانَ أَسْبَقُهُمَا الْمُبْتَدَأَ، فَإِذَا قُلْت: زَيْدٌ صَدِيقِي، فَلَا حَصْرَ لِجَوَازِ عُمُومِ الْخَبَرِ، وَإِذَا قُلْت: صَدِيقِي زَيْدٌ أَفَادَ الْحَصْرَ، لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ صَدِيقِي، فَلَوْ قَدَّرْت الْخَبَرَ عَامًّا لَمْ يَسْتَقِمْ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُطَابَقَتِهِ، وَأَنْ لَا صَدِيقَ سِوَاهُ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَلَيْسَ الْقَوْلَانِ بِقَوِيَّيْنِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ: أَنَّ الْمَعْرِفَتَيْنِ إذَا اجْتَمَعَا فَالْمُقَدَّمُ هُوَ الْمُبْتَدَأُ