الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي وُجُوهِ النَّسْخِ فِي الْقُرْآنِ]
ِ وَقَسَمَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمْ إلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ، وَبَقِيَ رَسْمُهُ، وَثَبَتَ حُكْمُ النَّاسِخِ وَرَسْمُهُ، كَنَسْخِ آيَةِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَنَسْخِ الْعِدَّةِ حَوْلًا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ. فَالْمَنْسُوخُ ثَابِتُ التِّلَاوَةِ مَرْفُوعُ الْحُكْمِ، وَالنَّاسِخُ ثَابِتُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ. وَمَنَعَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التِّلَاوَةِ حُكْمُهَا، فَإِذَا انْتَفَى الْحُكْمُ فَلَا فَائِدَةَ فِي بَقَائِهَا. حَكَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى الْجَوَازِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: هَكَذَا مَثَّلُوا بِآيَةِ الْعِدَّةِ، وَعِنْدِي أَنَّهَا مِنْ الْمَخْصُوصِ، لِأَنَّ فِيهَا تَخْصِيصَ بَعْضِ الشُّرُوطِ بِالْإِيجَابِ وَبَعْضِهَا بِالْإِسْقَاطِ.
الثَّانِي: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَرَسْمُهُ، وَثَبَتَ حُكْمُ النَّاسِخِ وَرَسْمُهُ، كَنَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، وَصِيَامِ عَاشُورَاءَ بِرَمَضَانَ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْقِبْلَةَ مِنْ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، وَزَعَمَ
أَنَّ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالسُّنَّةِ لَا بِالْقُرْآنِ.
الثَّالِثُ: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَ رَسْمُهُ، وَرُفِعَ رَسْمُ النَّاسِخِ وَبَقِيَ حُكْمُهُ، كَقَوْلِهِ:{فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] بِقَوْلِهِ: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ) . وَقَالَ عُمَرُ: كُنَّا نَقْرَؤُهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْلَا أَنْ يُقَالَ: زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَأَثْبَتهَا، فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الرَّجْمَ ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ إنَّمَا ثَبَتَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الرَّجْمُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قُلْنَا: هَذَا مُقَرِّرٌ لِحُكْمِ تِلْكَ الْآيَةِ. وَيُعْرَفُ أَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ.
وَقَدْ يُضَعَّفُ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَمْلَ الْحَدِيثِ عَلَى التَّأْسِيسِ وَإِثْبَاتَ الرَّجْمِ ابْتِدَاءً أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى تَأْكِيدِ الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ مُبَيِّنًا لِلسَّبِيلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِآيَةِ الرَّجْمِ، بَلْ هُوَ إمَّا مُسْتَقِلٌّ بِإِثْبَاتِهِ أَوْ مُبَيِّنٌ لِلسَّبِيلِ مِنْ الْآيَةِ الْأُخْرَى.
الرَّابِعُ: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ، وَرَسْمُهُ، وَنُسِخَ رَسْمُ النَّاسِخِ وَبَقِيَ حُكْمُهُ. كَالْمَرْوِيِّ عَنْ عَائِشَةَ (كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسِ
رَضَعَاتٍ، فَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُنَّ مِمَّا يُتْلَى مِنْ الْقُرْآنِ) . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَالْعَشْرُ مِمَّا نُسِخَ رَسْمُهُ وَحُكْمُهُ، وَالْخَمْسُ مِمَّا نُسِخَ رَسْمُهُ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحَابَةَ حِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ لَمْ يُثْبِتُوهَا رَسْمًا، وَحُكْمُهَا بَاقٍ عِنْدَ هُمْ. وَقَوْلُهَا: وَهِيَ مِمَّا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: يَعْنِي أَنَّهُ يُتْلَى حُكْمُهُ دُونَ لَفْظِهِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يَعْنِي مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ نَسْخُ تِلَاوَتِهِ قُرْآنًا، فَهَذَا أَوْلَى. وَإِنَّمَا احْتَجْنَا لِهَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ الْيَوْمُ، وَأَنَّ حُكْمَهُ غَيْرُ ثَابِتٍ، فَكَانَ الْمَنْسُوخُ مَرْفُوعَ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ، وَالنَّاسِخُ بَاقِيَ التِّلَاوَةِ.
وَمَنَعَ قَوْمٌ مِنْ نَسْخِ اللَّفْظِ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهِ، وَمِنْ نَسْخِ حُكْمِهِ مَعَ بَقَاءِ لَفْظِهِ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي أَحَدُهُمَا إلَى أَنْ يَبْقَى الدَّلِيلُ وَلَا مَدْلُولَ، وَالْآخَرُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَرْتَفِعَ الْأَصْلُ وَيَبْقَى النَّاسِخُ. وَالصَّحِيحُ هُوَ الْجَوَازُ، لِأَنَّ التِّلَاوَةَ وَالْحُكْمَ فِي الْحَقِيقَةِ شَيْئَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَجَازَ نَسْخُ أَحَدِهِمَا، وَتَبْقِيَةُ الْآخَرِ كَالْعِبَادَتَيْنِ. وَجَزَمَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ بِامْتِنَاعِ نَسْخِ التِّلَاوَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ التِّلَاوَةِ.
وَقَدْ أُورِدَ عَلَى أَثَرِ عُمَرَ السَّابِقِ كَوْنُهُ مِمَّا نُسِخَ رَسْمُهُ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِ هَذَا، فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ كَفَرَ، وَبِمِثْلِ هَذَا لَا يَكْفُرُ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ قُرْآنًا، فَكَيْفَ يُدَّعَى نَسْخُهُ؟ وَالرَّجْمُ مَا عُرِفَ بِهَذَا،
بَلْ بِحَدِيثِ مَاعِزٍ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَلَا تَثْبُتُ بِهِ تِلَاوَةُ مَا هُوَ مِنْ الْقُرْآنِ وَحُكْمُهُ مَعًا، فَإِنَّا لَا نَعْقِلُ كَوْنَهُ مَنْسُوخًا حَتَّى نَعْقِلَ كَوْنَهُ قُرْآنًا، وَكَوْنُهُ مِنْ الْقُرْآنِ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ فِي الْقِسْمَيْنِ أَعْنِي فِي مَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ وَعَكْسِهِ. وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبُ " الْمَصَادِرِ ": وَأَمَّا نَسْخُ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ فَوُجُودُهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ، لِأَنَّهُ مَنْقُولٌ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ، وَكَذَلِكَ نَسْخُهُمَا جَمِيعًا، لَا يُقَالُ: إنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا، لِقَوْلِ عُمَرَ: لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: زَادَ عُمَرُ فِي الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا. قُلْنَا: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِارْتِفَاعِ تِلَاوَتِهِ، فَلَمْ يَكْتُبْهُ لِأَنَّهُ نُسِخَ رَسْمُهُ. وَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يُقَالَ: زَادَ فِي الْقُرْآنِ الْمُثْبَتِ، لَكَتَبْت ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ:(الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ) لَمْ يَثْبُتْ بِالتَّوَاتُرِ، بَلْ بِقَوْلِ عُمَرَ، وَنَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ مُمْتَنِعٌ، سَوَاءٌ كَانَ قُرْآنًا أَوْ خَبَرًا. قُلْنَا: وَالرَّجْمُ أَيْضًا لَمْ يَثْبُتْ بِالتَّوَاتُرِ، بَلْ بِالْآحَادِ. وَغَايَتُهُ أَنَّ الرَّجْمَ ثَابِتٌ إجْمَاعًا، وَالْإِجْمَاعُ لَيْسَ بِنَاسِخٍ، وَغَايَتُهُ الْكَشْفُ عَنْ نَاسِخٍ مُتَوَاتِرٍ، وَقَدْ تَكُونُ سُنَّةً مُتَوَاتِرَةً، وَلَيْسَ كَوْنُ أَحَدِهِمَا مُتَوَاتِرًا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. وَأَجَابَ الْهِنْدِيُّ عَنْ أَصْلِ السُّؤَالِ بِأَنَّ التَّوَاتُرَ شَرْطٌ فِي الْقُرْآنِ الْمُثْبَتِ
بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ. أَمَّا الْمَنْسُوخُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِيهِ، بَلْ يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لَكِنَّ الَّذِي قَدْ ثَبَتَ ضِمْنًا بِهَا لَا يَثْبُتُ بِهِ اسْتِقْلَالًا، كَالنَّسَبِ بِشَهَادَةِ الْقَوَابِلِ، وَكَقَبُولِ قَوْلِ الرَّاوِي فِي أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَوَاتِرَيْنِ أَنَّهُ قَبْلَ الْآخَرِ عَلَى رَأْيٍ، وَإِنْ لَزِمَ نَسْخُ الْمَعْلُومِ بِقَوْلِهِ. وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ زَمَانَنَا هَذَا لَيْسَ زَمَانَ نَسْخٍ، وَفِي زَمَانِ النَّسْخِ لَمْ يَقَعْ النَّسْخُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: الْقُرْآنُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لَكِنْ يَثْبُتُ حُكْمُهُ وَالْعَهْدُ بِهِ بِقَوْلِ عَائِشَةَ: وَهِيَ مِمَّا يُتْلَى، أَيْ فِي حَقِّ الْحُكْمِ. وَضُعِّفَ هَذَا بِأَنَّ التِّلَاوَةَ لَا تَجُوزُ بِذَلِكَ.
وَأَجَابَ آخَرُونَ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] مُطْلَقٌ فِي الْإِرْضَاعِ، وَالْخَبَرُ جَاءَ لِبَيَانِ الْعَدَدِ، فَلَفْظُ الْقُرْآنِ مُجْمَلٌ فِي حَقِّ الْعَدَدِ، وَالتَّغَيُّرُ إنَّمَا يَلْحَقُ بِخَبَرِ عَائِشَةَ، فَالْآيَةُ إذَا كَانَتْ مُبَيَّنَةً بِالْخَبَرِ، وَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ كَانَ الْمَتْلُوُّ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، يَعْنِي وَهَذَا كَقَوْلِهِ:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] إذَا ثَبَتَ بِالْخَبَرِ بَيَانُ قَدْرِ الزَّكَاةِ نِصْفُ دِينَارٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْخَبَرِ، فَكَانَ قِرَاءَةُ الزَّكَاةِ فِي الْقُرْآنِ قِرَاءَةَ نِصْفِ دِينَارٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جِوَارِ نَسْخِ الْآخَرِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ، أَنَّ التِّلَاوَةَ حُكْمٌ، فَلَا يَبْعُدُ نَسْخُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ مَعَ بَقَاءِ الْآخَرِ. وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلثَّانِي.
فَرْعٌ هَلْ يَجُوزُ لِلْمُحَدِّثِ مَسُّ الْمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ قَالَ الْآمِدِيُّ: تَرَدَّدَ فِيهِ الْأُصُولِيُّونَ، وَالْأَشْبَهُ الْمَنْعُ. وَخَالَفَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَقَالَ: الْأَشْبَهُ الْجَوَازُ، وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَنَا. وَلِذَلِكَ
تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِذِكْرِهِ فِيهَا. وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي أَوَّلِ بَابِ حَدِّ الزِّنَى أَنَّ الْقَاضِيَ ابْنَ كَجٍّ حَكَى عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ وَجْهًا أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ قَارِئٌ آيَةَ الرَّجْمِ فِي الصَّلَاةِ، لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ. وَأَمَّا الْمَنْسُوخُ حُكْمُهُ دُونَ لَفْظِهِ فَلَهُ حُكْمُ مَا لَمْ يُنْسَخْ بِالْإِجْمَاعِ.
الْخَامِسُ: مَا بَقِيَ رَسْمُهُ وَحُكْمُهُ، وَلَا نَعْلَمُ الَّذِي نَسَخَهُ، كَالْمَرْوِيِّ أَنَّهُ كَانَ فِي الْقُرْآنِ «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، لَابْتَغَى أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَانٍ. وَلَا يَمْلَأُ فَاهُ إلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ. وَقَالَ: كَانَ هَذَا قُرْآنًا فَنُسِخَ خَطُّهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ: قِيلَ: إنَّهُ فِي سُورَةِ ص، وَفِي رِوَايَةٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: فَلَا نَدْرِي أَشَيْءٌ نَزَلَ أَمْ شَيْءٌ كَانَ يَقُولُهُ، وَكَمَا رَوَاهُ أَنَسٌ فِي أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ: إنَّهُمْ لَقُوا رَبَّهُمْ فَرَضِيَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. فَكُنَّا نَقْرَأُ: أَنْ قَدْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا، فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «أَنَّ النَّبِيَّ قَرَأَ عَلَيْهِ: لَمْ يَكُنْ، وَقَرَأَ فِيهَا: إنَّ ذَاتَ الدِّينِ عِنْدَ اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ
لَا الْيَهُودِيَّةُ وَلَا النَّصْرَانِيَّةُ، وَمَنْ تَعَجَّلَ خَيْرًا فَلَنْ يُكْفَرْ» . قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. هَكَذَا ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ هَذَا الْقِسْمَ فِي " الْحَاوِي "، وَمَثَّلَهُ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ نَظَرٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَقَالَ: هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ حَقِيقَةً وَلَا يَدْخُلُ فِي حَدِّهِ، وَعَدَّهُ غَيْرُهُ مِمَّا نُسِخَ لَفْظُهُ وَبَقِيَ مَعْنَاهُ. وَعَدَّهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّمْهِيدِ " مِمَّا نُسِخَ خَطُّهُ وَحُكْمُهُ، وَحِفْظُهُ يُنْسَى مَعَ رَفْعِ خَطِّهِ مِنْ الْمُصْحَفِ، وَلَيْسَ حِفْظُهُ عَلَى وَجْهِ التِّلَاوَةِ، وَلَا يُقْطَعُ بِصِحَّتِهِ عَنْ اللَّهِ، وَلَا يَحْكُمُ بِهِ الْيَوْمَ أَحَدٌ. قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ كَانَتْ نَحْوَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْأَعْرَافِ.
السَّادِسُ: نَاسِخٌ صَارَ مَنْسُوخًا وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا لَفْظٌ مَتْلُوٌّ، كَالْمَوَارِيثِ بِالْحَلِفِ وَالنُّصْرَةِ، نُسِخَ بِالتَّوَارُثِ بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ، ثُمَّ نُسِخَ التَّوَارُثُ بِالْهِجْرَةِ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهَذَا يَدْخُلُ فِي النَّسْخِ مِنْ وَجْهٍ، ثُمَّ قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ الْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ تَكَلُّفٌ، وَلَيْسَ يَتَحَقَّقُ فِيهِمَا النَّسْخُ. وَجَعَلَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ التَّوْرِيثَ بِالْهِجْرَةِ مِنْ قِسْمِ مَا عُلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَلَمْ يُعْلَمْ نَاسِخُهُ. قَالَ: وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] فَهُوَ مَنْسُوخٌ لَا نَدْرِي نَاسِخَهُ. وَقِيلَ نَاسِخُهُ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] . وَذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ فِي وُجُوهِ النَّسْخِ فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا أُنْسِيَ فَرُفِعَ بِلَا نَاسِخٍ يُعْرَفُ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ رَسْمٌ وَلَا حُكْمٌ، مِثْلُ مَا رُوِيَ أَنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ كَانَتْ تَعْدِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَرُفِعَتْ. قَالَ: وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ، أَمَّا نَسْخُ السُّنَّةِ فَإِنَّمَا يَقَعُ فِي الْحُكْمِ، فَأَمَّا الرَّسْمُ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ. .