الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، لَا أَنَّهَا مَدْلُولُ اللَّفْظِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْمُطْلَقَ يُفَارِقُ الْعَامَّ مِنْ وَجْهٍ، وَيُسَاوِيهِ مِنْ وَجْهٍ.
قَالَ: فَالصَّائِرُونَ إلَى أَنَّهُ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهِ تَقْيِيدٌ لَا يَبْقَى حُجَّةٌ، قَالُوا، لِأَنَّ اللَّفْظَ كَانَ عَامًّا، لِأَنَّهُ تَعَرَّضَ لِحَقِيقَةٍ يَسْتَوِي نِسْبَتُهَا إلَى الْأَعْيَانِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ فِي بَعْضِ الْأَعْيَانِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُطْلَقَةَ مَا كَانَتْ مُرَادَةً. فَيَكُونُ الْمُرَادُ الْوَاحِدَ بِالذَّاتِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَ دَالٌّ عَلَى حَقِيقَةٍ مُطْلَقَةٍ، تَسْتَوِي نِسْبَتُهَا. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِهَا. وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْحُكْمُ فِي بَعْضِ الْأَعْيَانِ لَا لِخَلَلٍ فِي الدَّلِيلِ، وَلَا لِمَعْنًى فِي الْمُتَعَلِّقِ، وَهُوَ الْحَقِيقَةُ، بَلْ لِمَعْنًى يَقَعُ مِنْ عَوَارِضِ التَّعْيِينِ، فَيَنْتَفِي الْحُكْمُ مَعَ وُجُودِ الدَّلِيلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، لِوُجُودِ مُعَارِضٍ دَافِعٍ لِلْحُكْمِ وَهُوَ لَا يُبْطِلُ دَلَالَةَ الدَّلِيلِ إلَّا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْعَامِّ يُخَصُّ. .
[خَاتِمَةٌ الْمُقَيَّدَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُطْلَقِ]
خَاتِمَتَانِ الْأَوَّلُ: الْمَعْرُوفُ أَنَّ الْمُقَيَّدَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُطْلَقِ. وَوَقَعَ فِي " الْوَسِيطِ " فِي بَابِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ حَيْثُ احْتَجَّ لِلْقَوْلِ الصَّائِرِ إلَى أَنَّهُ لَوْ تَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ. قَالَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى خَصَّصَ هَذَا بِقَوْلِهِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] ، وَأَطْلَقَ فِي آيَةِ السَّرِقَةِ، قَوْلَهُ:{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39] . انْتَهَى. وَفِي هَذَا حُمِلَ الْمُقَيَّدُ عَلَى الْمُطْلَقِ، فَإِنَّهُ حَمَلَ آيَةَ الْمُحَارَبَةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهَا التَّقْيِيدُ، عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ الْأَمْرُ مُطْلَقًا، وَهُوَ السَّرِقَةُ وَهُوَ غَرِيبٌ. ثُمَّ رَأَيْت الْأَصْحَابَ قَدْ حَمَلُوا ذَلِكَ أَيْضًا فِي مَسْحِ الْخُفِّ، فَإِنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم:«يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ»
مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ عَلَى مُقْتَضَى كَلَامِهِمْ، لِأَنَّ لَيَالِيَهُنَّ مُقَيَّدٌ بِالْإِضَافَةِ، فَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ أَحْدَثَ الْمُسَافِرُ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَا يَمْسَحُ اللَّيْلَةَ الرَّابِعَةَ. وَقَدْ قَالُوا: إنَّهُ يَمْسَحُ لَيْلَتَهُ حَمْلًا عَلَى الْمُطْلَقِ، كَمَا لَوْ تَأَخَّرَتْ لَيْلَةُ الْيَوْمِ عَنْهُ.
الثَّانِيَةُ: كَثُرَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنْ يَقُولُوا: هَذَا مُطْلَقٌ، وَالْمُطْلَقُ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ إعْمَالُهُ فِي صُورَةٍ، وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فِي كَذَا، فَلَا يَبْقَى حُجَّةٌ فِي غَيْرِهِ. وَقَدْ اسْتَعْظَمَ جَمْعٌ هَذَا السُّؤَالَ: وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِيمَا كَتَبَهُ عَلَى " فُرُوعِ ابْنِ الْحَاجِبِ " بِأَنَّهُ إنَّمَا يُكْتَفَى بِالْعَمَلِ بِهِ فِي صُورَةٍ حَيْثُ لَا يَلْزَمُ تَرْكُ مَا دَلَّ اللَّفْظُ عَلَى الْعُمُومِ فِيهِ، بَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي كُلِّ صُورَةٍ يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الْعُمُومِ فِيهَا فِي الْحَالَةِ الْمُطْلَقَةِ تَرْكُ الْعُمُومِ فِيمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْعُمُومِ، مِثَالُهُ قَوْلُ الْحَنَفِيِّ فِي جَوَابِ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ الْوُضُوءَ تَجِبُ فِيهِ النِّيَّةُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يُقَرِّبُ وُضُوءَهُ» فَيَقُول الْحَنَفِيُّ: هُوَ عَامٌّ فِي التَّوَضُّؤِ، مُطْلَقٌ فِي الْوُضُوءِ، وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فِي الْوُضُوءِ الْمَنْوِيِّ، فَلَا يَبْقَى حُجَّةٌ فِي غَيْرِهِ. وَجَوَابُهُ أَنَّ الْعُمُومَ فِي التَّوَضُّؤِ يَلْزَمُ مِنْهُ الْعُمُومُ فِي الْوُضُوءِ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْوُضُوءِ إلَّا وَفَاعِلُهُ مُتَوَضِّئٌ، فَيَنْدَرِجُ تَحْتَ الْعُمُومِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُثَابًا عَلَيْهِ نَظَرًا إلَى عُمُومِ اللَّفْظِ.
وَقَالَ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْمُطْلَقَ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِهِ مَرَّةً، فَنَقُولُ: يُكْتَفَى فِيهِ بِالْمَرَّةِ فِعْلًا أَوْ حُكْمًا؟ الْأَوَّلُ: مُسَلَّمٌ، الثَّانِي: مَمْنُوعٌ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُطْلَقَ إذَا فُعِلَ مُقْتَضَاهُ مَرَّةً، وَوُجِدَتْ الصُّورَةُ الْجُزْئِيَّةُ الَّتِي يَدْخُلُ تَحْتَهَا الْكُلِّيُّ الْمُطْلَقُ، وَفِي ذَلِكَ فِي الْعَمَلِ بِهِ، كَمَا إذَا قَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً، فَفَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً، لَا يَلْزَمُ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ أُخْرَى، لِحُصُولِ الْوَفَاءِ بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْعُمُومَ، وَكَذَا إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتْ مَرَّةً وَحَنِثَ، لَا يَحْنَثُ بِدُخُولِهَا ثَانِيًا، لِوُجُودِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ
فِعْلًا مِنْ غَيْرِ اقْتِضَاءِ الْعُمُومِ؛ أَمَّا إذَا عَمِلَ بِهِ مَرَّةً حُكْمًا، أَيْ فِي صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْمُطْلَقِ، لَا يَلْزَمُ التَّقْيِيدُ بِهَا، وَلَا يَكُونُ وَفَاءً بِالْإِطْلَاقِ، لِأَنَّ مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ بِالصُّورَةِ الْمُعَيَّنَةِ حُكْمًا أَنْ لَا يَحْصُلَ الِاكْتِفَاءُ بِغَيْرِهَا وَذَلِكَ فِيمَا خَصَّ الْإِطْلَاقَ.
مِثَالُهُ إذَا قَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً فَإِنَّ مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ أَنْ يَحْصُلَ الْإِجْزَاءُ بِكُلِّ مَا يُسَمَّى رَقَبَةً، لِوُجُودِ الْمُطْلَقِ فِي كُلِّ مُعْتَقٍ مِنْ الرِّقَابِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْإِجْزَاءَ بِهِ، فَإِذَا خَصَّصْنَا الْحُكْمَ بِالرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ مَنَعْنَا إجْزَاءَ الْكَافِرَةِ، وَمُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ إجْزَاؤُهَا إنْ وَقَعَ الْعِتْقُ لَهَا. فَاَلَّذِي فَعَلْنَاهُ خِلَافُ مُقْتَضَاهُ.