الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمَا ذَكَرَهُ فِي نَسْخِهِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ "، وَأَمَّا النَّسْخُ بِهِ، فَقَالَ الشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ ": يَجُوزُ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النُّطْقِ عَلَى الْمَذْهَبِ عَلَى الصَّحِيحِ. قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهُ كَالْقِيَاسِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. اهـ. وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا ثَالِثًا، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَقْوَى الْمَفَاهِيمِ، وَهُوَ مَا قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ مَنْطُوقٌ كَالْحَصْرِ وَالشَّرْطِ، وَبَيْنَ مَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمَنْطُوقِ. وَأَمَّا نَسْخُ الْأَصْلِ بِدُونِهِ فَفِي جَوَازِهِ احْتِمَالَانِ لِلصَّفِيِّ الْهِنْدِيِّ: قَالَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْعَدَمِ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ، فَإِذَا بَطَلَ تَأْثِيرُ ذَلِكَ الْقَيْدُ بَطَلَ مَا يُبْنَى عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا نَسْخُ الْأَصْلِ نَسْخُ الْمَفْهُومِ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنْ يُرْفَعَ الْعَدَمُ، وَيَحْصُلَ الْحُكْمُ الثُّبُوتِيُّ، بَلْ الْمَعْنَى فِيهِ أَنْ يَرْتَفِعَ الْعَدَمُ الَّذِي كَانَ شَرْعِيًّا، وَيَرْجِعَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلُ. وَقَالَ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ " فِي بَابِ الْمَفْهُومِ: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ اللَّفْظُ، وَيَبْقَى دَلِيلُ الْخِطَابِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ إنَّمَا هُوَ تَابِعٌ لِلَّفْظِ، فَهُوَ تَابِعٌ لَهُ، وَفَرْعٌ عَنْهُ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَسْقُطَ الْأَصْلُ، وَيَكُونَ الْفَرْعُ بَاقِيًا. .
[نَسْخُ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ وَالنَّسْخُ بِهِ]
وَأَمَّا مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ، فَهَلْ يَجُوزُ نَسْخُهُ وَالنَّسْخُ بِهِ؟ أَمَّا كَوْنُهُ نَاسِخًا، فَجَزَمَ الْقَاضِي بِجَوَازِهِ، فِي " التَّقْرِيبِ " وَقَالَ: لَا فَرْقَ فِي جَوَازِ النَّسْخِ بِمَا اقْتَضَاهُ نَصُّ الْكِتَابِ، وَظَاهِرُهُ، وَجَوَازُهُ بِمَا اقْتَضَاهُ فَحْوَاهُ، وَلَحْنُهُ، وَمَفْهُومُهُ، وَمَا أَوْجَبَهُ الْعُمُومُ، وَدَلِيلُ الْخِطَابِ عِنْدَ مُثْبِتِهَا، لِأَنَّهُ كَالنَّصِّ أَوْ.
أَقْوَى مِنْهُ. انْتَهَى. وَكَذَا جَزَمَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، قَالَ: لِأَنَّهُ مِثْلُ النُّطْقِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ. قَالَ: لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ جَعَلَهُ قِيَاسًا، فَعَلَى قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ نَسْخُ النَّصِّ بِهِ. وَنَقَلَ الْآمِدِيُّ، وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ يُنْسَخُ بِهِ مَا يُنْسَخُ بِمَنْطُوقِهِ، وَهُوَ عَجِيبٌ. فَإِنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا، وَغَيْرِهِمْ، حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي "، وَالشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ "، وَسُلَيْمٌ، وَصَحَّحَا الْمَنْعَ. قَالَ سُلَيْمٌ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ، لِأَنَّهُ قِيَاسٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، فَلَا يَقَعُ النَّسْخُ بِهِ. وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ. قَالَ: لِأَنَّ الْقِيَاسَ فَرْعُ النَّصِّ الَّذِي هُوَ أَقْوَى، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لَهُ.
قَالَ: وَالثَّانِي، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٍ: الْجَوَازُ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَرِدَ التَّعَبُّدُ فِي فَرْعِهِ بِخِلَافِ أَصْلِهِ، صَارَ الْفَرْعُ كَالنَّصِّ، فَجَازَ بِهِ النَّسْخُ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ نَصًّا فِي الْقُرْآنِ جَازَ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ نَصًّا فِي السُّنَّةِ جَازَ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ السُّنَّةُ دُونَ الْقُرْآنِ. قَالَ: وَمِنْ هَاهُنَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 65] مَعَ قَوْلِهِ {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66] الْآيَةَ أَنَّ نَسْخَ مُصَابَرَةِ عِشْرِينَ مِئَتَيْنِ بِمُصَابَرَةِ عِشْرِينَ أَرْبَعِينَ عُلِمَ
بِالْقِيَاسِ أَوْ بِاللَّفْظِ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عُلِمَ بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمِ الْعِشْرِينَ، وَإِنَّمَا قِسْنَاهُ عَلَى حُكْمِ الْمِئَتَيْنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عُلِمَ بِاللَّفْظِ. اهـ. وَمُنْشَأُ الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ أَوْ لَا: أَنَّ دَلَالَتَهُ لَفْظِيَّةٌ أَوْ عَقْلِيَّةٌ الْتِزَامِيَّةٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَفْظِيَّةٌ جَازَ نَسْخُهَا، وَالنَّسْخُ بِهَا كَالْمَنْطُوقِ، وَإِنْ كَانَتْ عَقْلِيَّةً، كَانَتْ قِيَاسًا جَلِيًّا، وَالْقِيَاسُ لَا يُنْسَخُ، وَلَا يُنْسَخُ بِهِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ مَنْسُوخًا، فَتَارَةً يَتَوَجَّهُ النَّسْخُ إلَيْهِ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِ اللَّفْظِ، وَتَارَةً يَتَوَجَّهُ إلَى اللَّفْظِ، فَإِنْ تَوَجَّهَ إلَى اللَّفْظِ فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ، وَيَكُونُ نَسْخًا لِلْفَحْوَى عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي، وَإِنْ تَوَجَّهَ إلَى الْفَحْوَى فَقَطْ، وَحُكْمُ اللَّفْظِ بَاقٍ، فَاخْتَلَفَ فِيهِ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى قَوْلَيْنِ، حَكَاهُمَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ: أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ، وَنَقَلَهُ عَنْ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ، كَالنَّصَّيْنِ، يَجُوزُ نَسْخُ أَحَدِهِمَا مَعَ بَقَاءِ الْآخَرِ. وَنَقَلَهُ سُلَيْمٌ عَنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، قَالَ: بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنْ اللَّفْظِ، فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ لَفْظَيْنِ، فَجَازَ نَسْخُ أَحَدِهِمَا مَعَ بَقَاءِ حُكْمِ الْآخَرِ. اهـ. وَجَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ، قَالَ: لِأَنَّهُمَا فِي الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعُمُومُ مِنْ الْمُشْتَبِهَاتِ، وَنَسْخُ بَعْضِ ذَلِكَ مَعَ بَقَاءِ بَعْضٍ سَائِغٌ. قَالَ: وَيُفَارِقُ الْقِيَاسُ حَيْثُ يَمْتَنِعُ نَسْخُهُ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ، لِأَنَّ صِحَّةَ الْأَصْلِ صِحَّةُ الْفَرْعِ، فَمَا دَامَ الْأَصْلُ بَاقِيًا وَجَبَتْ صِحَّتُهُ.
وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، وَصَحَّحَهُ سُلَيْمٌ، وَجَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّ ثُبُوتَ نُطْقِهِ مُوجِبٌ لِفَحْوَاهُ وَمَفْهُومِهِ، فَلَمْ يَجُزْ نَسْخُ الْفَحْوَى مَعَ بَقَاءِ مُوجِبِهِ كَمَا لَا يُنْسَخُ الْقِيَاسُ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": فَأَمَّا نَسْخُ الْفَحْوَى مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ.
فَجَوَّزَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي " الْعُمَدِ ". وَقَالَ فِي شَرْحِهِ: يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَقْضًا لِلْغَرَضِ، وَمَنَعَ مِنْهُ فِي الدَّرْسِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَا يَرْتَفِعُ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ إلَّا وَقَدْ انْتَقَضَ الْغَرَضُ، لِأَنَّهُ إذَا حُرِّمَ التَّأْفِيفُ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْظَامِ لِلْأَبَوَيْنِ كَانَتْ إبَاحَةُ مَضَرَّتِهِمَا نَقْضًا لِلْغَرَضِ. وَفَصَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْمَنْطُوقِ لَا تَحْتَمِلُ التَّغَيُّرَ، كَإِكْرَامِ الْوَالِدِ بِالنَّهْيِ عَنْ تَأْفِيفِهِ، فَيَمْتَنِعُ نَسْخُ الْفَحْوَى لَتَنَاقُضِ الْمَقْصُودِ. وَإِنْ احْتَمَلَتْ النَّقْضَ جَازَ، لِاحْتِمَالِ الِانْتِقَالِ مِنْ عِلَّةٍ إلَى عِلَّةٍ، كَمَا لَوْ قَالَ لِغُلَامِهِ: لَا تُعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا، يَقْصِدُ بِذَلِكَ حِرْمَانَهُ لِغَضَبِهِ، فَفَحْوَاهُ أَنْ لَا يُعْطِيَهُ أَكْثَرَ مِنْهُ. فَإِذَا نَسَخَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: أَعْطِهِ أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ، وَلَا تُعْطِهِ دِرْهَمًا جَازَ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ عِلَّةِ حِرْمَانِهِ إلَى عِلَّةِ مُوَاسَاتِهِ. وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْجَوَازِ، فَفِي اسْتِتْبَاعِ نَسْخِ أَحَدِهِمَا نَسْخَ الْآخَرِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّ نَسْخَ كُلٍّ مِنْهُمَا يَسْتَلْزِمُ نَسْخَ الْآخَرِ، وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، لِتَلَازُمِهِمَا.
وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُ مِنْ نَسْخِ أَحَدِهِمَا نَسْخُ الْآخَرِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ نَسْخَ الْأَصْلِ يَسْتَلْزِمُ نَسْخَ الْفَحْوَى، لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ، وَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ التَّابِعِ بِدُونِ مَتْبُوعِهِ، وَنَسْخُ الْمَفْهُومِ لَا يَتَضَمَّنُ نَسْخَ الْأَصْلِ، وَجَعَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " الْمَذْهَبَ، وَنُقِلَ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ نَسْخَ الْمَنْصُوصِ لَا يَتَضَمَّنُ نَسْخَ الْمَفْهُومِ، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى النَّسْخِ بِالْقِيَاسِ. قَالَ: وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ إذَا نُسِخَ كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ انْتِسَاخُ الْمَفْهُومِ، لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ التَّابِعِ مَعَ فَقْدِ الْأَصْلِ. وَوَجَّهَ غَيْرُهُ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ أَوْلَى بِالثُّبُوتِ مِنْ النَّصِّ، فَلَا يَكُونُ رَفْعُ الْأَصْلِ مُسْتَلْزِمًا لِرَفْعِهِ.