الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المرض الوافد
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره
إخوة الإيمان ويقول الله وهو أصدق القائلين: {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} ويقول {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} .
وفي صحيح السنة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز
…
» (2).
وفي الحديث الآخر: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» في مأثور الحكم قيل: دع القلق وابدأ الحياة.
وبين هدي القرآن وتوجيهات السنة واستثمار مأثور الحكم سيكون الحديثُ عن موضوع من الأهمية بمكان، يُفترض أن بيئته التي ينمو فيها غيرُ بلاد المسلمين، ولا شك أن المصابين به من غير المسلمين أكثر، فإذا سرت عدواه إلى بلاد المسلمين، أو بدأت نذر خطره تهدد بعض المسلمين كان ذلك داعيًا للحديث عنه وتحذير الناس منه .. إنه المرض الوافد، القلق المؤذي، أو ما يسمى بالمرض النفسي داءٌ من أدواء هذا العصر، خفيُ العلة، ليس بالضرورة أن يكون الفقراءُ والمعوزون هم المرضى، وليس يسلم أصحابُ الثرى وأهلُ النعمةِ من الإصابة به، وتتجاوز عدواه الرجال إلى النساء، يمكن توصيف المرض بأنه
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 23/ 7/ 1416 هـ.
(2)
رواه مسلم (جامع الأصول 10/ 120).
تراكمُ هموم خيالية لا مبرر لها، وأسوأهُ ما قطع عن الجمع والجماعات، وأفضى إلى ترك الواجبات وفعل الحرمات وتوارد أحزانٍ وخواطر لا حقيقة لوجودها، هو ذبولٌ عن الحياة وانقطاعٌ عن الأحياء لا مسوغ له، هو ضعف بعد القوة، وعزلةٌ بعد الصحبة، وشكوك مستحكمة، وخوف وقلق وبغضاء وأثرةٌ، وعجز عن الملائمة في حياته مع الآخرين، ويبلغ بالمرضُ ذروتَه حين يصاب صاحبهُ بالوسوسة، أو يغلب الشكُّ على المريض أفعلَ الشيءَ أم لم يفعلْه، وربما استدرج الشيطان بالإنسان فزين له فراق الأهل والأحبة، وتعد به عن العَمل أو الفصلِ من الوظيفة، أو الانقطاع عن الدراسة، أو حرم الشاب عن استثمارِ طاقته، ولم يستفد من شبابه أو عمره.
إخوة الإسلام ولا شك أن هذا المرضَ ينتشرُ كلما جارت الحياةُ الماديةُ على حساب القيم المعنوية، ويتَفاقمُ كلما غابت عن الوجود شريعةُ السماء بهداها وعدلِها، واستحكمت قوانين البشر. بجورها وظلمها وشقوتها، وها كم شهادة مجربٍ خبير درس المرض وألف فيه، وكان كتابه «دع القلق وابدأ الحياة» خلاصة تجاربه ومرئياته عن بني قومه، يقول «دايل كارنيجي» عشتُ في «نيويورك» أكثر من سبع وثلاثين سنة فلم يحدث أن طرق أحدٌ بابي ليحذرني من مرض يدعى «القلق» هذا المرض الذي سبب في الأعوام السبعة الثلاثين الماضية من الخسائر أكثر مما سببه الجدري بعشرة آلاف ضعف. نعم لم يطرق أحدٌ بابي ليحذرني أن شخصًا من كل عشرة أشخاصٍ من سكان أمريكا معرضٌ للإصابة بانهيار عصبي مرجعُه في أغلبِ الأحوال إلى القلق
…
ثم يقول: كارنيجي: ويقرر الأطباءُ أن واحدًا من كل عشرين أمريكيًا سوف يقضي جانبًا من حياته في مصح للأمراض العقلية، ومن الحقائق المريرة أن واحدًا من كل
ستة شبابٍ تقدموا للالتحاق بالخدمة العسكرية في خلال الحرب العالمية الأخيرة رد على أعقابه لأنه يعاني مرضًا جسميًا أو نقصًا عقليًا (1).
هذه معاشر المسلمين صيحةُ محزنةٌ قديمة، ووراء الإحصاءات الحديثة أدهى وأمر. وإذا كانت تلك البيئاتُ الفاسدةُ موطن هذا المرضِ وأمثالهِ، فلا يعني براءةَ بلاد المسلمين منه، ولا عصمةَ المنتسبين للإسلام من آثاره.
وإذا كان الله قد حكم على هذه الدار بالفناء، وكتب على ابن آدم حظه فيها من الكبد والنكد والشقاوة أو السعادة، فذلك يعني أن نصوص الشريعة جاءت على ذكر الهم والحزن وما يتبعهما من غم وقلق، وضيق وغضب وتعرض للسراء والضراء، لكن ميزة هذه النصوص أنها موجهةٌ وهادفة. فالخوف أساسًا ينبغي أن يكون من الله، والخشية الحقيقية من عذابه وعقابه {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} . {والذين هم من عذاب ربهم مشفقون} (2) والغضب يتبعه الرضا والمغفرة {وإذا ما غضبوا هم يغفرون} (3) ولا داعي للقلقِ والتحسر على ما مضى، أو زيادة الفرح على ما أوتي وأعطي {ولكيلا لا تألسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} والصبر حين تحل الضراء والشكر حين تكون السراء، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن كما صح الخبر، والهموم ينبغي أن تقصر ولا تشعب، وفي الحديث «من جعل الهم همًا واحدًا، هم المعاد كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أودية الدنيا هلك» (4) والدعاء سبب لإزالة الهم والقلق، وقد أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار في المسجد قد ركبته الديونُ
(1) انظر: جدد حياتك. محمد الغزالي 37، 38.
(2)
سورة المعارج، الآية:27.
(3)
سورة الشورى، الآية:37.
(4)
رواه ابن ماجه بسند حسن (صحيح الجامع الصغير 5/ 279).
ولزمته الهموم فأرشده أن يقول إذا أصبح وإذا أمسى: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال» . قال أبو أمامة رضي الله عنه: ففعلت ذلك فأذهب الله همي وقضى ديني، وبالجملة فأهل الإيمان لا مكان لهذا المرض عندهم {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (1).
أيها المؤمنون تكاد تنحصر دواعي القلبي وكثرة الهموم والأحزان في التحسر على ماضٍ عمله الإنسان وهو عليه نادم، أو إشغال الفكر بمستقبل لا يدري ما الله صانع فيه. وهو منه متخوف وجل، أو مواجهة لواقع نازل لا يدري كيف الخلاص منه (2).
أما القلق من المستقبل فقد قيل: إن من أخطاء الإنسان أن ينوء في حاضره بأعباء مستقبله، واستعجال الضوائق التي لم يحن موعدها ولا يدري ما في غيب الله منها. حمق كبير، وإفساد الحاضر السعيد بشؤون المستقبل المتقوقع خطأ صرف، وإساءة الظن وتشاؤم مبكر لا يليق بالمسلم الذي علمه الإسلام حسن الفأل وتوقع الخير، والرضاء بالقضاء والقدر وأما التحسر على الماضي الفاشل، والبكاء المجهد على ما وقع فيه من آلام وهزائم فذلك التحسر السلبي الذي يزيد الألم ألمًا وينكأ الجرح الذي أوشك على الشفاء، ويجر النفس إلى الوراء كلما رامت التقدم إلى الأمام ذاك في نظر العقلاء.
وهو في نظر الشرع تسخط على أقدار الله الواقعة لا ينبغي للمؤمن أن يقع فريسة له، ولا أن يثلم عقيدته بكثرة الأسى لفوات مرغوب أو عدم الحصول على
(1) سورة الرعد، الآية:28.
(2)
الغزالي: جدد حياتك: ص 23، 24.
محبوب قد يكون الخير في منعه وهو لا يدري
…
وقد يكون خيرًا له وهو يظن شرًا ووبالاً عليه إنها حسرات القلب دونما فائدة
…
وأقدار الله جارية لا محالة كذلك وجه المسلمون وأربوا، وعوتب غيرهم وبالحسرة أخذوا {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزىً لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير} (1).
أما النوازل الواقعة والشدائد الداهمة، فالعقلاء هم الذين يثبتون لها. والمؤمنون هم الذين يعتقدون أنها بإذن أدبه فيصبرون عليها، أما الضعفاءُ أما قليلو الإيمان فربما هدم الروح أفئدتهم، وربما رمت بهم العواصف الهائجة في مكان سحيق، والإسلام يرشد أن الصبر عند الصدمة الأولى. والحكماء يوصون بالتجلد للمصائب، والشجاعة في المواقف، ويقول الشاعر
أقول لها وقد طارت شعاعًا
…
من الأبطال ويحك لن تُراعي
فإنك لو طلبت بقاء يومٍ
…
على الأجل الذي لك لن تطاعي
ويقول الآخر:
وتجلدي للشامتين أريهم
…
أني لريب الدهرِ لا أتضعضع
إخوة الإيمان: وهناك فرق بين الاهتمام بالمستقبل والاعتمام به، وبين الاستعداد له والاستغراق فيه، وبين التيقظ في استثمار اليوم الحاضر وبين التوجس المربك المحير، مما قد يفد به الغد، والتوسط في ذلك بدأ تستقبل الدنيا برضى ويقين وشجاعة، يصور ذلك أبو الحسن علي رضي الله عنه حين يقول:
أي يومي من الموت أفر
…
يوم لا يقدر أو يوم قدر
(1) سورة آل عمران، الآية:156.
يوم لا تقدر لا أحذره
…
ومن المقدور لا ينجي الحذر (1)
أيها المسلمون وطالما أهم بعض الناس معاشه في هذه الدار، وربما كان شبحُ الفقر همًّا ملازمًا أورث صاحبه الفقر وإن كان غنيًا، وأضحت حياتهُ نكدًا وإن كان مثلهُ سعيدًا، وقد قيل: والناس من خوف الفقر في فقر ومن خوف الذل في ذل (2).
أين الثقة بالله، وأين التوكلُ عليه، {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} (3).
أما الموت فهو شبح مخيف ودافعٌ للقلق عند قوم، ولئن صح ذلك عند غير المسلمين الذين يظنون الحياة الدنيا مبدأهم ومنتهاهم، والمحطة الأولى والأخيرة لملذاتهم وشهواتهم
…
فليس الأمر كذلك بالنسبة للمسلمين. فالموت لا يخيف، والحياة بعده لمن وفقه الله أسعد وأكرم، وأطول وأنعم. إن الموت في حس المسلم مرحلة لحياةٍ أخرى تعد حيائنا هذه لهوًا وعبثًا إلى جانبها، ولذلك يعبر القرآن عنها بلفظ أكبر في مبناه وأوسع في معناه فيقول {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون} (4).
فلا معنى ولا داعي لقلق المسلم من الموت لذاته، والخوف مما بعد الموت لا يقود للهم السلبي والقلق المؤذي والمرض النفسي، بل يقود النفس إلى عمل الصالحات بانشراح صدر، ويقودها إلى توقي السيئات بوعي وتعقل.
(1) جدد حياتك: 26، 75.
(2)
جدد حياتك، الغزالي ص 30.
(3)
سورة هود، الآية:6.
(4)
سورة العنكبوت، الآية:64.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون، والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} (1).
نفعني الله وإياكم.
(1) سورة المؤمنون، الآيات: 57 - 61.