الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين
…
العامل الرابع من عوامل الثبات .. الالتفاف حول العلماء الصالحين والدعاة الصادقين .. الذين يثبتون الناس حين الفتنة، ويؤمنونهم حين الخوف والرهبة أولئك مصابيح الدجى يحيي الله بهم قلوب العباد .. وينتشل بهم آخرين من الفساد .. ويتماسك على الطريق القويم بسببهم أمم وأقوام كادوا أن يقعوا في الهاوية، وهل نسى المسلمون دور أبي بكر رضي الله عنه في الردة أو تناسى المؤمنون موقف الإمام أحمد يوم المحنة، وهذا الإمام علي بم المديني رحمه الله يقول: أعز الله الدين بالصديق يوم الردة، وبأحمد يوم المحنة (1).
وتأمل ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله عنه دور شيخيه ابن تيميه يرحمه الله في تثبيتهم على الحق، إذ يقول: وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله عنا (2).
بل وتأمل ما في قصة الإمام أحمد يوم المحنة بخلق القرآن، وكيف توافد الصالحون على الإمام أحمد يهدأونه ويثبتونه، وهو الأمام الأشم، ومع ذلك يعترف بأثر كلامهم عليه، فقد روى الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي جعفر الأنباري قال: لما حمل أحمد إلى المأمون أخبرت، فعبرت الفرات، فإذا هو جالس في الخان، فسلمت عليه.
(1) وسير أعلام النبلاء 11/ 96.
(2)
وسائل الثبات، ص 25.
فقال: يا أبا جعفر تعنيت.
فقلت: يا هذا، أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق، وإن لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير. ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك، فإنك تموت، لابد من الموت، فاتق الله ولا تجب. فجعل أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله.
ثم قال: يا أبا جعفر، أعد ..
فأعدت عليه وهو يقول: ما شاء الله .. أ. هـ (1).
وقال الإمام أحمد في سياق رحلته إلى المأمون: «صرنا إلى الرحبة، ورحلنا منها في جوف الليل، فعرض لنا رجل فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟ .
فقيل له: هذا.
فقال للجمال: على رسلك .. ثم قال:
(يا هذا، ما عليك أن تقتل هاهنا، وتدخل الجنة.
ثم قال: أستودعك الله، ومضى.
فسألت عنه، فقيل لي، هذا رجل من العرب، من ربيعة، يعمل الصوف في البادية، يقال له: جابر بن عامر، يذكر بخير» (2).
وفي البداية والنهاية: أن الأعرابي قال للإمام أحمد:
(يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤمًا عليهم، وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه، فيجيبوا، فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله، فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل).
(1) سير أعلام النبلاء 11/ 238.
(2)
المصدر السابق 11/ 241.
قال الإمام أحمد: وكان كلامه مما قوى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع عق ذلك الذي يدعونني إليه (1).
وفي رواية أن الإمام أحمد قال: (ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق). قال: (يا أحمد إن يقتلك الحق مت شهيدًا، وإن عشت، عشت حميدًا .. فقوي قلبي)(2).
ويقول الإمام أحمد عن مرافقة الشاب (محمد بن نوح) الذي صمد معه في الفتنة.
ما رأيت أحدًا- على حداثة سنه، وقدر علمه- أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، إني لأرجو أن يكون قد ختم له بخير.
قال لي ذات يوم: (يا أبا عبد الله، الله الله، إنك لست مثلي، أنت رجل يقتدى بك، قد مد الخلق أعناقهم إليك، لما يكون منك فاتق الله، واثبت لأمر الله.
فمات وصليت عليه ودفنته. (سير أعلام النبلاء 11/ 242).
وحتى أهل السجن الذين كان يصلي بهم الإمام أحمد وهو مقيد، قد ساهموا في تثبيته.
فقد قال الإمام أحمد مرة في الحبس: (لست أبالي بالحبس- ما هو ومنزلي إلا واحد- ولا قتلاً بالسيف وإنما أخاف فتنة السوط).
فسمعه بعض أهل الحبس فقالت: (لا عليك يا أبا عبد الله، فما هو إلا سوطان، ثم لا تدري أين يقع الباقي).
(1) البداية والنهاية 1/ 332.
(2)
البداية والنهاية 1/ 332.
فكأنه سري عنه (1).
وهكذا يكون دور الأخيار في تثبيت المسلمين، فالزموا صحبتهم واطلبوا نصحهم.
إخوة الإسلام ويبقى بعد ذلك عوامل أخرى للثبات على دين الله .. منها الذكر .. وتأمل كيف قرن الله بين الذكر والثبات في آية واحدة فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون} (2).
ومنها عدم الاغترار بالباطل وكثرة المبطلين {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} (3){فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} (4).
ومنها استجماع الأخلاق المعروفة على الثبات وفي مقدمتها الصبر والتقوى {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} (5).
{والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} .
وفي الحديث الصحيح «وما أعطى أحدً عطاءً هو خير وأوسع من الصبر» (6).
(1) سير أعلام النبلاء 11/ 241.
(2)
سورة الأنفال، الآية:45.
(3)
سورة آل عمران، الآية: 196، 197.
(4)
سورة الرعد، الآية:17.
(5)
سورة آل عمران، الآية:200.
(6)
رواه الجماع (انظر: جامع الأصول 10/ 139).