الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عين جالوت بين جهاد الأمراء وإخلاص العلماء
(1)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين أعز الإسلام بجهود العلماء المخلصين، ونصر الدين بجهاد الأمراء والسلاطين الصادقين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، كتب العزة والغلبة لعباده المتقين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إمام المتقين، وقائد المجاهدين الصادقين، اللهم صلّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله اتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن هذه الدار خلقت لتفنى، وأن الآخرة خير وأبقى.
أيها المسلمون واستكمل الحديث عن غزو التتر لبلاد المسلمين، وأعرض لنماذج من مواقف العلماء والأمراء في غابر السنين وفي التاريخ عبرة للمعتبرين.
وقبل هذا وذاك أعرض بإجمال لواقع الأمة الإسلامية في منتصف القرن السابع الهجري، وأؤكد أن أدواء الأمة من داخلها أخطر عليها وأشد من كيد أعدائها. فالتنازع والخصام بين المسلمين لأغراض الدنيا، والولاءات والتحالفات مع الخصوم الكفرة من أعظم أسباب الذل والهوان، ولا تنتصر الأمة المسلمة إذا قطعت أوصالها، وأصبح كل حزب بما لديهم فرحون، ولم يكن للمسلمين خليفة واحد يجمع شملهم، ويوحد كلمتهم، ويظهرهم صفًا واحدًا أمام أعدائهم. وقد كان للمسلمين- في هذه الفترة- نصيب من هذا.
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 18/ 1/ 1416 هـ.
حتى قال ابن الأثير: فالسيف بين المسلمين مسلول، والفتنة قائمة على ساق (1).
يقول الحافظ ابن كثير في بيان شيء من ذلك: استهلت سنة ثمان وخمسين وليس للناس خليفة. وملك العراقين وخراسان وغيرها بلاد المشرق لهولاكو خان ملك التتار، وسلطان ديار مصر الملك المظفر وسيف الدين قطز مملوك المعزّ أيبك التركماني، وسلطان دمشق وحلب الملك الناصر بن العزيز بن الظاهر، وبلاد الكرك والشوبك للملك المغيث بن العادل بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، وهو حرب مع الناصر صاحب دمشق على المصريين، ومعهما الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري، وقد عزموا على قتال المصريين وأخذ مصر منهم، وبينما الناس على تلك الحال دخل جيش التتر- صحبة ملكهم هولاكو- وجازوا الفرات على جسور عملوها، ووصلوا إلى حلب فحاصروها سبعة أيام ثم فتحوها بالأمان لأهلها، ثم غدروا بهم، وقتلوا منهم خلقا لا يعلمه إلا الله عز وجل، ونهبوا الأموال وسبوا النساء والأطفال، وجرى عليهم قريب مما جرى على أهل بغداد، وبقيت حلب كأنها حمار أجرب (2).
إخوة الإيمان لم يصل التتر بلاد الشام إلا وقد عاثوا في الأرض فسادًا في العراق، ويكفي أن تعلم من مآسيهم في بغداد - حين أسقطوها وقتلوا الخليفة العباسي فيها (أنهم مالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش وقني الوسخ، وكمنوا كذلك أيامًا لا يظهرون، وكان الجماعة
(1) الكامل 12/ 361.
(2)
كذا نقل الحافظ ابن كثير رحمه الله (البداية والنهاية 13/ 207).
من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منها إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطح حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة) (1).
ولم ينج من هذه المذبحة الرهيبة أحد إلا أهل الذمّة من اليهود والنصارى، ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي- الذي ساهم في دخول التتر وحسن لهم القبيح وجنى على المسلمين السفه، وعلى أصحاب ملته من الرافضة، بل وعلى نفسه حيث راح في النهاية ضحية غدره وفجوره، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، والله المستعان.
أيها المسلمون لم تكن المحالفات مع الكفار -مع عظيم أمرها- الداء الوحيد والسبب الأول والأخير لهزيمة المسلمين أمام جحافل التتار، بل انضاف إلى ذلك ضعف همة ملوك الإسلام عن الجهاد، وانشغالهم باللهو واللعب، وغفلتهم عما يراد بأمتهم، حتى قيل: إن التتر حين أحاطوا بدار الخلافة (بغداد) يرشقونها بالنبال من كل جانب، أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وقد جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك، وفرع فزعًا شديدًا، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه، فإذا عليه مكتوب: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم) (2).
وهذا ابن الأثير رحمه الله ينعي على الإسلام وأهله، ويصف أحوال ملوكه قبيل وفاته بسنتين ويقول معلقًا على أحداث سنة 628 هـ (ثمان وعشرين وستمائة
(1) البداية والنهاية 13/ 192.
(2)
البداية والنهاية 13/ 190، 191.
هجرية) ما نصه: (فالله تعالى ينصر الإسلام نصرًا من عنده، فما نرى في ملوك الإسلام من له رغبة في الجهاد، ولا في نصرة الدين، بل كل منهم مقبل على لهوه ولعبه وظلم رعيته، وهذا أخوف عندي من العدو، قال تعالى: {واتقوا لمدة لا تصيبن الذي ظلموا منكم خاصة} (1).
وفي محاولة من المؤرخين لتلمس أسباب نهاية الدولة العباسية يقول ابن كثير: ولم تكن أيدي بني العباس حاكمة على جميع البلاد كما كانت بنو أمية إلى أن يقول: حتى لم يبق مع الخليفة العباسي إلا بغداد وبعض بلاد العراق، وذلك لضعف خلافتهم واشتغالهم بالشهوات وجمع الأموال في أكثر الأوقات (2).
معاشر المسلمين لم تكن آثار هذا الضعف والهوان لتقف عند حدود بغداد أو حلب، بل قصد التتر دمشق بعد إسقاطهم عددًا من المدن قبلها وصاحب دمشق وحلب (الناصر) هو أكثر الأمراء الأيوبيين قوة واقتدارًا (3)، ومع ذلك سقطت دمشق دون مقاومة تذكر للتتر، وفي ظل التحالف والتآلف بين التتر والنصارى فقد عاث النصارى فسادًا في بلاد المسلمين، وطافوا ومعهم صليب محمول على رؤوس الناس، وهم ينادون بشعارهم ويقولون:«ظهر الدين الصحيح دين المسيح» ويذمون الإسلام وأهله، بل وفوق ذلك وزيادة في النكاية بالمسلمين كانوا يحصلون أواني الخمر لا يمرون على باب مسجد إلا رشوا عنده خمرًا، ومعهم قماقم ملأى بالخمر يرشون منها على وجوه الناس وثيابهم، ويأمرون كل من يجتازون به في الأزقة والأسواق أن يقوم لصليبهم وغضبًا لدين الله وغيرةً
(1) الكامل 12/ 361، 497.
(2)
البداية والنهاية 13/ 195.
(3)
الخالدي، العالم الإسلامي والغزو المغولي ص 95.
على محارمه، ومع شدة التتر وقسوتهم وضعف المسلمين ومسكنتهم اجتمع قضاة المسلمين والشهود والفقهاء فدخلوا القلعة وشكوه إلى متسلمها من قبل التتر (أبل سيان) وكان معظمًا لدين النصارى- وما كان متوقع من هذا وأمثاله خيرًا، وقد كان، فقد طرد هؤلاء وأهانهم- لكنهم أدوا ما عليهم (1).
وبإزاء هذه الظروف الصعبة، وفي مقابل هذا الهوان والذل المستشري من معظم ملوك الإسلام- في تلك الفترة- ينتصب الملك المظفر قطز يرحمه الله- للمهمة، ويعلن راية الجهاد خفاقة، ويستعين بالله، ويستشير العلماء ويدنيهم، وينصح للأمراء المتخاذلين ويحذرهم، ويحملهم مسؤولية حرمات المسلمين ويقول:(يا أمراء المسلمين لكم زمان وأنتم تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين)(2).
وقطز هذا موصوف بالفروسية والشجاعة، وحسن السياسة ومتانة الديانة، محببًا للرعية كما يقول الذهبي (سير أعلام النبلاء 23/ 200) ويقول عنه ابن كثير: وكان رجلاً صالحًا كثير الصلاة في الجماعة ولا يتعاطى المسكر ولا شيئًا مما يتعاطاه الملوك (3).
وقال في موضع آخر: وقد كان قطز شجاعًا بطلًا كثير الخير ناصحًا للإسلام وأهله، وكان الناس يحبونه ويدعون له كثيرًا (4).
(1) البداية والنهاية 13/ 208، 209.
(2)
الخالدي، العالم الإسلامي والغزو المغولي/ 99.
(3)
البداية 13/ 211.
(4)
المصدر السابق 13/ 214.
نعم إخوة الإسلام بالصلاح والتقى، والنصح للإسلام بالجهر والخفاء والقيام بحقوق الرعية ظاهرًا وباطنًا، تحب الرعية الراعي، ويسود المجتمع الودّ والصفاء، وذلكم خيار الأمراء، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم:«خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم» (1).
اللهم أصلح رعايا المسلمين ورعاتهم وألف بين قلوبهم، واجمع على الحق كلمتهم، اللهم أبطل كيد الكافرين، واهتك ستار المنافقين، وانصر عبادك الصالحين، أقول هذا وأستغفر الله
…
(1) الحديث رواه مسلم في صحيحه، انظر صحيح الجامع الصغير 3/ 118.