الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(3) حصائد الألسن
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره
…
أما بعد إخوة الإسلام فنختم حديثنا- في حصاد الألسن- بالحديث عن خصلتين قبيحتين، وعادتين سيئتين قل من ينجو منهما، يستصغرهما بعض الناس، وشأنهما عظيم عند الله، وطالما تصدرا حديث الناس، وأصبحتا فاكهة المجالس ولا حول ولا قوة إلا بالله. ذلك الداء العضال، والمرض الذي يفتك في الناس فتك الذئاب الجائعة في الأغنام الهائمة. بل أشد هو داء الغيبة والنميمة .. حذر منهما القرآن وزجر ولكن بعض الناس لم يزدجر، وهل بعد زواجر القرآن من مزدجر؟ ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التلبس بهما وشدد، وهو الناصح الكريم، والمرشد الأمين فافتح قلبك- يا أخا الإسلام- لآي القرآن، وأصغ سمعك لتوجيه المصطفى عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى {ولا يغتب بعضكم بعضًا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه} (2) وقال تعالى {ويل لكل همزة لمزة} (3) وقال في وصف أحد الكافرين {هماز مشاء بنميم} (4) وما أكثر ما وجه الرسول صلى الله عليه وسلم بشأنهما وشدد، ويكفيك أن تعلم أنه عليه الصلاة والسلام جمع بين الاعتداء على الدماء والأموال والأعراض في
(1) ألقيت هده الخطبة يوم الجمعة الموافق 6/ 6/ 1414 هـ.
(2)
سورة الحجرات، الآية:12.
(3)
سورة الهمزة، الآية:1.
(4)
سورة القلم، الآية:11.
حديث واحد فقال في خطبة حجة الوداع «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ » (1).
وإذا كان شأن الدماء والأموال في حسنا عظيم، فينبغي أن يعلم أن شأن الأعراض عظيم كذلك.
وهل علمت- يا من تستعيذ بالله صباح مساء من عذاب القبر أن الغيبة والنميمة من أسباب عذاب القبر، فقد جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس-رضي الله عنهما أن رسوله الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال:«إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير» ، وفي رواية البخاري «بلى إنه كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله» - وفي رواية لا يستنزه من بوله - الحديث قال العلماء: معنى: وما يعذبان في كبير: أي في كبير في زعمهما، أو في كبير تركه عليهما (2).
وإذا كانت النميمة وردت في هذا الحديث سببًا في عذاب القبر فقد جاء ذكر (الغيبة) بدلاً منها في حديث أو رواية أخرى رواها الطيالسي، وأحمد والطبراني، وابن أبي الدنيا بسند جيد (3).
وهو مؤشر إلى أن الغيبة والنميمة سببان موجبان لعذاب القبر وقانا الله وإياكم والمسلمين عذاب القبر وما بعده.
أيها المسلمون .. والذين يقعون في أعراض المسلمين ويتتبعون عوراتهم حريون بعقوبة الله العاجلة، وعليهم ألا يأمنوا الفضيحة في عقر دارهم، قال
(1) رواه البخاري ومسلم، الأذكار للنووي/ 289.
(2)
النووي، الأذكار/ 289.
(3)
الإحياء 9/ 1598.
البراء بن عازب رضي الله عنه: خطبنا رسولنا الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتهن فقال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته» (1).
يا أخا الإسلام .. وإذا كنت تستنكف من المشاهد المؤذية، وتشمئز للروائح الخبيثة- وهذا أمر طبيعي فيك- فعليك أن تترفع عن إيذاء إخوانك المسلمين وأكل لحومهم، فشأنك حين تعمل هذا في حق إخوانك المسلمين؟ كشأنك حين تأكل الميتة أو تكره الروائح المنتنة، فضع نفسك في الوضع الذي ترغبه لها، وقد سمعت الحق تبارك وتعالى يقول {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه} (2).
وخذ نموذجًا عمليًا قرره النبي صلى الله عليه وسلم مع أحد أصحابه، فحين رجم (ماعزًا) في الزنا قال رجل لصاحبه: هذا أقعص كما يقعص الكلب .. فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما معه بجيفة فقال: «انهشا منها» ، فقالا: يا رسول الله ننهش جيفة؟ فقال: «ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه» (3).
أيها المؤمنون الأمر عظيم والخطب جسيم، والبراءة من أعراض المسلمين عزيزة والخطورة تكمن في الجهل أو التجاهل بحقيقة الغيبة، وبعض الناس يظن أنه حين يتحدث في عرض أخيه المسلم بأمر واقعي لكنه مكروه لديه أن ذلك ليس من الغيبة، وإنما الغيبة- في ظن هؤلاء- في الزيادة في الكلام في المتحدث فيه بما ليس فيه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكشف الحقيقة ويبين المسألة ويقول:
(1) الإحياء 9/ 1497.
(2)
سورة الحجرات، الآية:12.
(3)
الحديث رواه أبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة بإسناد جيد، الإحياء 9/ 1589، والقعص: أن يضرب الإنسان فيموت مكانه (النهاية 4/ 88).
ومن هنا يتبين لك حرمة الحديث في عرض أخيك المسلم بما يكره حتى ولو كان واقعًا ولمزيد من الإيضاح: قال العلماء: الغيبة ذكرك الإنسان بما فيه مما يكره، سواء كان في بدنه، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خلقه، أو خلقه أو ماله، أو ولده، أو والده، أو زوجه، أو خادمه، أو مملوكه، أو نحو ذلك وسواء ذكرته بلفظك أو كتابك، أو رمزت، أو أشرت إليه بعينيك أو يدك أو رأسك، أو نحو ذلك (2).
ألا ما أعظم هذا الدين وهو يحفظ الحرمات، ويستر العورات وما أجمل المؤمن وهو يتحلى بحلية الإيمان، ويتخلق بأخلاق الإسلام، وما أنظف المجتمع الذي يحافظ فيه كل فرد على حقوق الآخرين .. ويتداعى البنيان أو ينهار إذا تناوشته السهام من كل مكان، وما أحوجنا إلى البناء ورص الصفوف بعيدًا عن السخرية والاستهزاء، والغيبة والنميمة، تلك الجبهات الداخلية التي أشغلتنا عن الجبهات الخارجية فتسلل العدو إلى أرضنا.
أمة الإسلام .. وحتى نقلع عن هذه الظاهرة السيئة، لابد لنا من التعرف على الأسباب الداعية للغيبة، ومحاولة تجاوزها وسد أبوابها.
فمن أسباب الغيبة: شفاء الغيظ، فهو إذا هاج غضبه تشفى بذكر مساوئ من أغضبه، وربما تحول الغضب إلى حقد دفين، فصار الحقد والغضب من
(1) الحديث رواه مسلم، والترمذي وأبو داود والنسائي، الأذكار/ 289.
(2)
الأذكار/ 288.
البواعث العظيمة على الغيبة .. فجاهد نفسك على ألا تحقد ولا تغضب، واسأل الله في ذلك فهو خير معين.
السبب الثاني: موافقة الأقران ومجاملة الأصحاب، فهو يرى أنه لو أنكر عليهم- في تفكههم في الأعراض- استثقلوه ونفروا من صحبته، فيضطر لمجاراتهم، وذلك علامة الضعف في الدين، وإلا فالواجب نصرة المسلم والذب عن عرضه، وفي ذلك عظيم الأجر عند الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم «ما من امرئ يخذل امرءً مسلمًا في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلمًا في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره في موطن يحب فيه نصرته» (1).
فضعوا هذا الحديث نصب أعينكم حين تختلط الأحاديث في المجالس، وتكون أعراض المسلمين فاكهة لها، واسألوا الله العون على ذلك.
الباعث الثالث على الغيبة: أن يستشعر من إنسان أنه سيقصده بالحديث، فيسبقه إلى ذلك ويتقدمه بالغيبة، وفي هذا المقام ينبغي أن يتذكر السلم ما أعده الله للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس فيحفظ لسانه حتى وإن كان الحق له. ولا شك أن تلك منزلة تحتاج إلى صبر وطول مجاهدة للنفس وفقني الله وإياكم لبلوغها.
الباعث الرابع: أن ينسب إلى شيء فيريد أن يتبرأ منه فيذكر الذي فعله، وكان من حقه أن يبرئ نفسه ولا يذكر الذي فعل.
الباعث الخامس: إرادة التصنع والمباهاة، وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره،
(1) الحديث رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن، صحيح الجامع الصغير 5/ 160.
كأن يقول: فلان جاهل، وفهمه ركيك، وكلامه ضعيف، وهو إنما يريد إثبات الفضل لنفسه.
الباعث السادس للغيبة: الحسد وهو أنه ربما يحسد من يثني الناس عليه ويحبونه، فيريد زوال تلك النعمة عنه، فلا يجد سبيلاً إلى ذلك إلا بالقدح فيه لإسقاطه عند الآخرين، وذلك عين الحسد، وهو غير الحقد والغضب الذي يستدعي جناية من المغضوب عليه، أما الحسد فقد يكون مع الصديق المحسن والرفيق الموافق، نسأل الله السلامة من الحسد.
الباعث السابع: اللعب والهزل والمطايبة وتزكية الوقت بالضحك، فيذكر عيوب غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة، ومنشؤه التكبر والعجب.
الباعث الثامن: السخرية والاستهزاء استحقارًا له، فإن ذلك قد يجري في الحضور، ويجري في الغيبة، ومنشؤه التكبر واستصغار المستهزأ به (1).
إخوة الإيمان ثمة مدخل خفي للغيبة جدير بالناس عمومًا أن يعلموه، وأهل الدين والصلاح خصوصًا أن يفقهوه .. ذلك هو ما سمي بغيبة القلب أو سوء الظن الذي ينعقد به القلب ويصدقه ثم ينطق به اللسان، لا مجرد الخواطر وحديث النفس، فهذا إذا لم يستقر ويستمر عليه صاحبه فمعفو عنه باتفاق العلماء، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما ثبت في الصحيحين:«إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل» (2).
أما ما نحن بصدده من غيبة القلب التي ينعقد عليها فقد حرره العلماء وضبطوه، بكلام نفيس، فقالوا: إذا وقع في قلبك ظن السوء فهو من وسوسة
(1) انظرها كاملة في الإحياء 9/ 1604 - 1606.
(2)
متفق عليه.
الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تكذبه، فإنه أفسق الفساق، وقد قال الله تعالى {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا .. } فلا يجوز تصديق إبليس، فإن كان هناك قرينة تدل على فساد واحتمل خلافه لم تجز إساءة الظن، ومن علامة إساءة الظن أن يتغير قلبك فيه عما كان عليه، فتنفر منه، وتستثقله وتفتر عن مراعاته وإكرامه والاغتمام بسيئته، فإن الشيطان قد يقرب إلى القلب بأدنى خيال مساوئ الناس ويلقي إليه إن هذا من فطنتك وذكائك وسرعة تنبهك، وأن المؤمن ينظر بنور الله، وإنما هو على التحقيق ناطق بغرور الشيطان وظلمته، وإن أخبرك عدل بذلك فلا تصدقه ولا تكذبه، لئلا تسيء الظن بأحدهما، ومهما خطر لك سوء في مسلم فزد في مراعاته وإكرامه، فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك، فلا يلقى إليك مثله خيفة من اشتغالك بالدعاء له، ومهما عرفت هفوة مسلم بحجة لا شك فيها فانصحه في السر، ولا يخدعنك الشيطان فيدعوك إلى اغتيابه، وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور باطلاعك على نقصه، فينظر إليك بعين التعظم وتنظر إليه بالاستصغار، ولكن أقصد تخليصه من الإثم وأنت حزين كما تحزن على نفسك إذا دخلك نقص، وينبغي أن يكون تركه لذلك النقص بغير وعظك أحب إليك من تركه بوعظك .. ) (1).
هذه كلمات تفيض منها النور والبهاء .. تلك مقامات الأوفياء النجباء جعلنا الله منهم بمنه وكرمه.
(1) الأذكار / 196، الإحياء 9/ 1612.