الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين.
أيها الإخوة المسلمون ثمة ما يقضي به المسلمون أوقاتهم، ويتقربون به إلي خالقهم ألا وهو الجهاد في سبيل الله والمرابطة في ثغور المسلمين، وهذا أبو طلحة رضي الله عنه شيخ كبير، ومع ذلك يقرأ قوله تعالى {انفروا خفافا وثقالاً} فيقول: استنفرنا الله وأمرنا شيوخًا وشبابًا، جهزوني، فقال بنوه: يرحمك الله، إنك قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، ونحن نغزو عنك الآن، قال: فغزا البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فلم يتغير» (1).
ولئن عجبت من همة هذا الشيخ الكبير واستثمار عمره حتى الممات، فعجبك سيكون أعظم حين تقف على همة شيخ ضرير عذره الله وأنزل بشأنه وأمثاله قوله تعالى {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله} (2) ومع ذلك كان يغزو بعد ويقول: ادفعوا إليّ اللواء فإني أعمى لا أستطيع أن أفرّ وأقيموني بين الصفين (3). ويقال: إنه قاتل رضي الله عنه يوم القادسية، وفي رواية أخرى: شهدها ومعه الراية، ويقال: إنه استشهد يوم القادسية (4).
وإذا كانت تلك همة هؤلاء فلا تسأل عن همم من سواهم! ويكفيك أن تقف على مقولة سيف من سيوف الله أبلى في الجهاد بلاءً حسناً، وأمضى حياته بين
(1) رواه ابن سعد والحاكم بسند صحيح، السير 1/ 34.
(2)
سورة النساء، الآية:95.
(3)
أخرجه ابن سعد، السير 1/ 364.
(4)
السير 1/ 364، 365.
صليل السيوف وطعن الرماح، ومع ذلك كان يستشعر لذة هذه الحياة، ويرجو أجرها عند الله فيقول: خالد بن الوليد رضي الله عنه: (لقد طلبت القتل مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيء أرجى عندي بعد أن لا إله إلا الله من ليلة بتها وأنا متترس والسماء تهلني تمطر إلى صبح حتى نغير على الكفار)(1).
وهو القائل (ما من ليلة يهدى إليّ فيها عروس أنا لها محب أو أبشر فيها بغلام أحب إلي من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد في سرية أصبح فيها العدو)(2).
وهذا سلمان الفارسي رضي الله عنه يزور الشام فيسأل عن أبي الدرداء رضي الله عنه فيقال: يا أهل بيروت ألا أحدكم حديثًا يذهب الله به عنكم عرض الرباط، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«رباط يوم وليلة كصيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطًا أجير من فتنة القبر، وجرى له صالح عمله إلى يوم القيامة» (3) وفي رواية لمسلم: «وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجرى عليه رزق وأمن النفاق» (4).
أمة الإسلام إذا عز الجهاد في سبيل الله، أو تعذر الرباط في ثغور المسلمين فلا أقل من أن يبقى حديث النفس في الغزو والجهاد، وإنهما من خير ما تستثمر به الأوقات وتستنفد فيه الأعمار، «فالجنة تحت ظلال السيوف» (5).
(1) الإصابة 3/ 74.
(2)
كذره الهيثمي في المجمع 9/ 350، وقال: رجاله رجال الصحيح. وذكره غيره، السير 1/ 375، الإصابة 3/ 73.
(3)
إسناده حسن، السير 1/ 506.
(4)
صحيح مسلم 3/ 120 ح 1913.
(5)
رواه الحاكم بسند صحيح، صحيح الجامع 3/ 85.
ويحذر- النبي صلى الله عليه وسلم أمته من تناسي هذه الشعيرة الكبيرة ويقول: «من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» (1).
أيها المسلمون ليس الجهاد مقصورًا على جهاد الأعداء في ساحات الوغى، فالجهاد باللسان وبذل الأموال في سبل الخير والتيقظ للثغرات في الداخل، وكشف النفاق وفضح المنافقين كل ذلك ضرب من ضروب الجهاد، حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» (2) واهتم له السلف الصالح حتى ظهرت السنة، وماتت البدعة وأخمدت نيران الفتن المشتعلة وقضوا به شطرًا من أوقاتهم.
وهذا العالم الفطن والصحابي النجيب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول (جاهدوا المنافقين بأيديكم، فإن لم تستطيعوا فبألسنتكم، فإن لم تستطيعوا إلا أن تكفهروا في وجوههم فافعلوا)(3) وإذا كانت ساحة المعركة في الخارج مكشوفة لكل أحد، فإن ميدان المعركة في الداخل، وإفساد المنافقين الذين إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون لا يخفى على الواحد الأحد.
إخوة الإيمان استثمر السلف الصالح جزءًا من أوقاتهم في تفقد أحوال إخوانهم المسلمين، وقضاء حوائج المحتاجين، ولله درها من نفوس لم يلهها الغنى عن استشعار من يبيتون على الطوى، وتذكر من يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، يفزعون في النائبة ويطعمون المسكين والأرملة، وهاكم نموذجًا لهؤلاء، فأهل المدينة - كما تقول الروايات .. كانوا عيالاً على
(1) رواه أحمد ومسلم وغيرهما، صحيح الجامع 5/ 358.
(2)
حديث صحيح رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم، صحيح الجامع 3/ 79.
(3)
السير 1/ 497.
عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ثلث يقرشهم واله، وثلث يقضي دينهم، ويصل ثلثًا» (1).
ومع ذلك كان يخشى الهلكة على نفسه، فيأتي أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها ويقول: يا أم المؤمنين إني أخشى أن أكون قد هلكت، إني من أكثر قريش مالاً بعت أرضًا لي بأربعين ألف دينار، فتوصيه بالنفقة (2).
ترون معاشر المسلمين ماذا سيكون موقفنا إذا سألنا عن أرملة من أرامل المسلمين تهدهد أطفالها وليس عندها ما تطعمهم؟ أو عن مغيبة طال ليلها وحيل بينها وبين زوجها، أو عن أسر فقيرة معدمة لا يسألون الناس إلحافًا، وعن مدين أقلق الدائنون مضجعه ولا يجد لديونهم سدادًا. ألا وإن تفقد أحوال المسلمين وقضاء حاجات المحتاجين من سمات هذا الدين ومن أخلاق المؤمنين، ومما تستثمر به الأوقات، والدال على الخير كفاعله، ومن فرج عن مسلم كربة من كوب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب الآخرة.
هذه معاشر الأحبة إطلالة يسيرة على جوانب من استثمار الوقت عند السلف الصالحين وهي كما ترون- صلاة وصيام وتلاوة واعية للقرآن علم وتعليم وعمارة للمساجد بذكر الله، دعوة للخير وجهاد في سبيل الله والمال والنفس واللسان ومرابطة في ثغور المسلمين دفاعًا عن حياض الإسلام وحرمات المسلمين وتلمس واع لحاجات المسلمين والتقفي لأحوال المحتاجين فأين الشعور بالفراغ لمن يستثمر وقته في هذه الأعمال الجليلة أو مثلها وأي مكان في مجتمع المسلمين لمن يهلكون أوقاتهم في أماكن الخنا (3) والزنا وأين من
(1) سير أعلام النبلاء 1/ 88.
(2)
السير 1/ 82.
(3)
الخنا: الفحش (مختار الصحاح ص 192).
ينتظرون نصرة هذا الدين وهم بعد لأوقاتهم مضيعون، ولأهوائهم وشهواتهم مستسلمون.
إن الأمة محتاجة لكل طاقة، وإن الدعوة لا تستغني عن أي وسيلة مباحة فليسد كل واحد من المسلمين الثغرة التي يحسنها، لنتق الله في أوقاتنا ولنقدم خيرًا لأنفسنا، اللهم إنا نعوذ بك من العجز والكسل، اللهم ألهمنا رشدنا، ويسر أمورنا، واختم بالصالحات أعمالنا.
هذا وصلوا.