الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حرب العقائد والدرس المستفاد
(1)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، له العزة والكبرياء، يحكم ما يشاء ويختار، والذين يمارون في عزته أو يتشككون في قدرته أولئك هم الخاسرون.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بديل أممًا من الناس على أمم تارة، وقد تكون هذه الإدالة بداية النهاية.
ويمتحن آخرين فيسلط عليهم أعداءهم، وقد يجعل الله في ثنايا المحن منحًا إلهية، وقد يكون بداية النصر المؤزر على إثر الهزيمة الساحقة.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله جاهد في الله حق جهاده وناله وأصحابه من ألوان الأذى من أعدائه ما لم يستكينوا معه أو ييأسوا وما زالوا يتضرعون حتى كان النصر والفتح المبين
…
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطاهرين وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
اتقوا الله معاشر المسلمين، واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخوانًا {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرة ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا} (2).
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 15/ 3/ 1416 هـ.
(2)
سورة النساء، الآية:1.
إخوة الإسلام والمتتبع لتاريخ العلاقات ما بين الغرب وشعوب الإسلام يلاحظ حقدًا مريرًا يملأ صدور الغرب حتى درجة الجنون، يصاحب هذا الحقد خوف رهيبٌ من الإسلام والمسلمين. وهذا الحقد وذلك الخوف ليس مجرد إحساس نفسي لا ظل له ولا أثر في الوجود، وإنما من أهم العوامل التي تبني وتبلور عليها مواقف الحضارة الغربية من الشعوب المسلمة سياسيًا واقتصاديًا وإعلاميًا وسائر جوانب الحياة الأخرى.
ولم تعد هذه المقولة مجازفة يطلقها المسلمون
…
أو تهمة تلصق بالغرب ومن شايعهم وهم منها براء، كلا والواقع ينطق والحقائق تشهد، والستار الوهمي يزاح، وتشهد أرض البوسنة والهرسك اليوم أبشع جريمة، وأسوأ كارثة في التاريخ المعاصر .. تسفك فيها دماء الأبرياء، وتغتصب النساء، ويفصل بين الأبناء والآباء، ويموت الألوف محل الأطفال ويحال بينهم وبين الرضاع أو شربة الماء .. ولا تنتهي الكارثة رغم سوئها عند هذا الحد فالهوية المسلمة يراد طمسها .. والأرض الخاصة لابد من تقسيمها والملأ يأتمرون ويخططون والسادة يباركون، والمنظمات والهيئات الدولية تحمي وتشرف على المخطط الآثم وتضطلع بمسؤوليتها في الجريمة النكراء، ويلف الصمت أممًا أو دولاً أخرى لها نصيبها في المغنم أو يكفيها يوأد الإسلام المتململ، وتنهى- ولو إلى حين- هذه الصحوة الإسلامية المتجددة.
ولك الله يا شعب البوسنة والهرسك، كم تكالبت عليك الخطوب، وكم كنت هدفًا للتخطيط الماكر، والكيد الظاهر والخفي
…
لك الله وأنت باكورة ثمار التخطيط للنظام العالمي الجديد بصليبيته الظاهرة، واستعماره الملفوف، وخداعه المكشوف.
على أن حرب اليوم ليست ضد شعب البوسنة وحدهم، بل هي حرب على الإسلام أنى كان وعلى المسلمين أينما وجدوا
…
ودونك مذابح المسلمين في الشيشان والطاجيك، وبورما، وتايلند، وكشمير، والفلبين، وفلسطين وغيرها. وكأن من بنود النظام العالمي الجديد السماح لأي دولة تريد الاستقلال وتقرير حق المصير، أما الإسلام وأما المسلمون فيستثنون من هذه القاعدة ولابد من اضطهادهم والتضييق عليهم وعدم تمكينهم.
إنها حرب العقائد بكل ما تحمله الكلمة من معان ومضامين، وممارسة الاستعمار، ولكن بثوب جديد، وميدان المعركة خير دليل على المؤامرة، وبيان هوية المقاتلين، والتصريحات بعدم السماح لدولة ترفع شعار الإسلام في أوربا لم تعد خافية، والجهود لمحاصرة هذه النبتة الإسلامية مسؤولية مشتركة حتى ولو كانوا من بني جلدتهم.
أيها المؤمنون وإن من السذاجة والتغفيل أن نتصور حرب العقائد وليدة اليوم، وأن عدوان الغرب لنا معاشر المسلمين نبتت هذه الأيام. كلا .. فالتخطيط قديم، والنية للعداء مبيتة، والتصريحات قديمة وإن رغمت أنوف المخدوعين، وهاكم البينة وإليكم الدليل، يقول (أيو جين روستو) رئيس قسم التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية
…
ومستشار الرئيسي جونسن لشؤون الشرق الأوسط حتى عام 1967 م: (يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دولٍ أو شعوب، بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية، لقدر كان الصراع محتدمًا بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطى، وهو مستمر حتى هذه اللحظة بصور مختلفة .. إلى أن يقول: إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي، فلسفته، وعقيدته، ونظامه، وذلك يجعلها تقف معادية
للعالم الشرقي الإسلامي بفلسفته وعقيدته الممثلة بالدين الإسلامي ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية، لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها). فهل بعد هذا من صراحة؟ (1).
إذا كانت هذه سياسة أمريكا فقبلها أوربا وقد قال مسؤول في وزارة الخارجية الفرنسية عام 1952 م- وليت المسلمين يعون ما يقوله الآخرون عنهم. يقول هذا المسؤول: ليست الشيوعية خطرًا على أوربا فيما يبدو لي، إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديدًا مباشرًا وعنيفًا هو الخطر الإسلامي. فالمسلمون عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي، فهم يملكون تراثهم الخاص بهم، ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة، فهم جديرون أن يقيموا قواعد عالم جديد دون حاجة إلى إذابة شخصيتهم الحضارية والروحية في الحضارة الغربية، فإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في نطاقه الواسع- هكذا يقول الكاتب من وجهة نظره المادية، وإلا فهناك أسباب أخرى لانطلاقة المسلمين الكبرى- انطلقوا في العالم يحملون تراثهم الحضاري الثمين، وانتشروا في الأرض يزيلون منها قواعد الحضارة الغربية، ويقذفون برسالتها إلى متاحف التاريخ
…
إلى أن يقول الكاتب: إن العالم الإسلامي عملاق مقيد، عملاق لم يكتشف نفسه حتى الآن اكتشافًا تامًا، فهو حائرٌ، وهو قلقٌ، وهو كاره لانحطاطه وتخلفه، وراغب رغبة يخالطها الكسل والفوضى في مستقبل أحسن وحرية أوفر
…
إلى آخر ما قال (2).
(1) قادة الغرب يقولون .. جلال العالم ص 24/ 25.
(2)
قادة الغرب يقولون ص 40/ 41.
إخوة الإسلام هذه التصريحات الجلية بالعداوة من جانب، وبالتخوف من الإسلام القادم من جانب آخر إذا انضم إليها الواقع المشهود بتآمر الغرب ووحشيته وتآمره على الإسلام والمسلمين في أرض البوسنة والهرسك مثلاً باتت سهامًا موجعةً وضربةً قاصمةً للعلمانيين في ديار المسلمين أولئك الذين ما فتأوا ينافحون عن الغرب ومؤسساته ويوهمون أمتهم أن الدول المتحضرة لم تعد تقيم للدين وزنًا قي سياستها وبرامج تخطيطها، وينبغي- حسب نظرتهم الهزيلة- أن يبقى الدين علاقة شخصية بين الفرد وخالقه، لا علاقة له بتنظيم أمور الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية وسواها.
أجل لقد واتت الفرصة لكل مخدوع بشعار العلمنة والتغريب أن يكشف القناع عن عينيه، وأن يسمح لأذنيه بسماع ما لم يكن يسمح به من قبل، وستتكشف له الحقائق دون غموض، وهذه راعية العلمنة ومصدرة أفكارها تؤوب إلى ديانتها وإن كانت محرفةً، وتتخذ من الدين والمعتقد منطلقًا أساسيًا لسياستها، وتُبقي العلمنة شعارًا أجوف تخدع به المساكين، وتصدره بضاعةً مزجاة لمن لا زال في قلبه مرضٌ من أبناء المسلمين، وإذا سقطت العلمانيةُ وأفلس العلمانيون في ديار الغرب، فلا تسأل عن مصيرها في ديار المسلمين، وربك يحكم ما يشاء ويختار، فبالأمس سقطت الشيوعية الشرقية وأذنابها داخل يحميها، واليوم تتهاوى العلمانية الغربية ومؤسساتها وغدًا وبعد غدٍ ستتهاوى بإذن الله كل نحلة ضالة، وسينفضح كل نظام مزورٍ مهما خدع الأبصاَر برهةً من الزمن.
ويبقى دين الإسلام دين الله في الأرض منسجمًا مع نظام الكون كلِّه، ويبقى المسلمون يسبحون بحمد ربهم، ويشاركون غيرهم من مخلوقات الله تسبيحهم. ووعد الله حق، ولكن الله لا تغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأنصتوا
لعلكم ترحمون لقوله تعالى {إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور، أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله
…
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} (1).
نفعني الله وإياكم بهدي القرآن، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
(1) سورة الحج، الآية: 38 - 41.